تيطس 3 - تفسير رسالة تيطس
العلاقات بالآخرين الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
بعدما تحدث عن التعاليم التي يوجهها الراعي لشعبه عاد ليوضح له بعض الأسس اللازمة في علاقة شعبه بالغير، خاصة بالنسبة للرئاسات والسلطات الحاكمة، وذلك على ضوء نعمة الله.
1. الخضوع للهيئات الحاكمة
1.
أولًا: الخضوع
ثانيًا: طاعتهم
ثالثًا: استعدادهم لكل عمل صالح
2. محبة الجميع
2.
أولًا: الجانب السلبي
1. ولا يطعنوا في واحد
2. ويكونوا غير مخاصمين
ثانيًا: الجانب الإيجابي
كيف نقدر أن نحب؟
3-8.
أولًا: لتنظر إلى إنساننا العتيق
ثانيًا: لنتجاوب مع عمل النعمة
موقف الإنسان من عمل النعمة
3. تجنب المقاومين
9-11.
4. وصايا ختامية خاصة
12-15.
1. الخضوع للهيئات الحاكمة
"ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين، ويطيعوا،
ويكونوا مستعدين لكل عمل صالح" [1].
أولًا: الخضوع
يبدأ الرسول حديثه بقوله: "ذكرهم"، وكأن ما جاء بالرسالة هنا هو ليس بالأمر الجديد. والسبب في هذا أن عدو الخير كان يثير اليهود والوثنيين ضد الكنيسة الذين كانوا يشعلون غضب الولاة ضدها خلال الدعوى بأن الكنيسة تقيم من نفسها دولة مستقلة، ومجتمعًا خاصًا له قوانينه ومبادئه، فيعصون الدولة وقوانينها وأنظمتها ويحتقرون الإمبراطور والولاة ولا يبالون بهم.
إنه ذات الاتهام الذي وُجه للسيد المسيح نفسه، إذ صرخ اليهود في وجه بيلاطس حين أراد أن يطلقه يتهمونه أنه لا يحب قيصر، لأنه يطلق من يدعى أنه ملك! وفي غباوة ظن بعض الأباطرة أن المسيح منافس له، والكنيسة منافسة لدولته. من أجل هذا دفع الرب الجزية علانية، وأعلن جهارًا "أعطِ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
وناقشت الكنيسة منذ العصر الرسولي الأول هذه الأمور، وفندت بكل قوة هذه الاتهامات الباطلة في كتب كثيرة تدافع عن المسيحية أُرسلت إلى الولاة، فقد عالجت كل تهمة موجهة إلى المسيحيين منها:
1. الادعاء بأن المسيحية تؤلف جماعة سرية على مستوى عالمي لتكوين مملكة ذات غرض سري مجهول.
2. عدم الولاء للإمبراطور والولاة والسلاطين.
3. أنهم غير نافعين للدولة، مواطنون غير صالحين.
وقد قام العلامة ترتليان والعلامة أوريجينوس والقديس إكليمنضس السكندري، وأثيناغورس الفيلسوف وبنتينوس واربنيدوس وكثيرون يدافعون ضد هذه الاتهامات الباطلة. وقد ترجم نيافة الأنبا يؤانس وأيضًا نيافة الأنبا غريغوريوس أسقف عام معهد الدراسات القبطية مقتطفات منها.
ثانيًا: طاعتهم
ربما يظن البعض أن الخضوع الذي نادى به الرسول هو من قبيل المداهنة والممالقة. هذا لن يكون! إنه يأمر هنا بالطاعة، أي الامتثال لأوامرهم برضا وسرور، لا عن تذمرٍ أو ضجرٍ، وذلك من أجل الرب وفي الرب.
ثالثًا: استعدادهم لكل عمل صالح
الخضوع والطاعة للرؤساء والسلاطين في نظر الرب والكنيسة هما عمل صالح. فحين يخضع المؤمن، إنما يفرح ويبتهج لأنه عمل أمرًا صالحًا.
2. محبة الجميع
بعدما تحدث عن علاقة المؤمنين بالسلطات الحاكمة والرؤساء عاد ليتحدث عن علاقتهم بالناس عامة. هذه العلاقة تتلخص في وصية "الحب" من كلا جانبيها، السلبي والإيجابي.
أولًا: الجانب السلبي:
1. "ولا يطعنوا في واحد".
ليس عملنا البحث عن أخطاء الغير والطعن فيهم، إنما الحب يستر أخطاء الغير، ويزّين حياتهم في نظرهم. أولاد الله يرون في كل إنسان شيئًا صالحًا، حتى ولو كان الذي أمامه مجرمًا أو قاتلًا أو متعجرفًا، لأن عينه البسيطة ترى ما هو صالح، وقلبه المحب يترفق ويحنو طالبًا خلاص الكل.
وكما يقول القديس مقاريوس الكبير: ]يجب على المسيحيين أن يجتهدوا ألا يدينوا أحدًا حتى ولا كانوا قليلي التدبير، بل يراعوا كل جنس البشر بسذاجة النية وعين النقاوة، لكي يصبح الإنسان من طبيعته وأساسه ألا يستخف بأحدٍ، ولا يدين أحدًا أو يكره أحدًا[40]. [
2. "ويكونوا غير مخاصمين".
إذ لا تحتمل أيام غربتنا القليلة إضاعتها في الخصام، بل الأيام مقصرة وشريرة، وكما يقول الأنبا افراطس: ]يليق بالمتقدمين إلى الله أن ينظروا إليه وحده، ويلتجئوا إليه بتورعٍ هكذا حتى لا يعيروا الشتيمة التفاتا، حتى ولو كانوا مظلومين ربوات من المرات[41].]
ثانيًا: الجانب الإيجابي:
"حلماء، مظهرين كل وداعة لجميع الناس". [2]
كأبناء الله الطويل الأناة يليق بنا أن نُظهر الحلم وكل وداعة للجميع، ليس من أجل الناس، بل من أجل ما صرنا عليه حسب الإنسان الجديد. فالحب بكل آثاره هو سمة المسيحي الحقيقي بغض النظر عن شر الناس المحيطين به، مسيحيين كانوا أم غير مسيحيين، فهو يحبهم ويترفق بهم كابن الله.
كيف نقدر أن نحب؟
في كل عصر يلتقي المؤمن بأناس أشرار، حتى من المسيحيين أنفسهم، فكيف يقدر أن يكون محبًا حليمًا مُظهرًا كل وداعة لجميع الناس؟ هنا ينقلنا الرسول لنرى إنساننا العتيق وحياتنا خارج دائرة النعمة الإلهية. عندئذ نتحقق أن كل البشرية لها ذات الضعف لولا عناية الله ونعمته الحانية.
أولًا: لتنظر إلى إنساننا العتيق
إن كان الله قد سترنا بعمل نعمته، فلنزحف ونتسلل لندرك ما كنا عليه خارج نعمته وما نكون عليه لو تخلت عنا، إذ يقول الرسول:
"لأننا كنا نحن أيضًا قبلًا أغبياء،
غير طائعين، ضالين، مُستعبدين لشهوات ولذات مختلفة،
عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا". [3]
بحسب إنساننا العتيق نصير أشر المجرمين وأشدهم غباوة وأدنس الشهوانيين، ويمتلئ القلب خبثًا وحسدًا وبغضه. أقول الحق يا أخي أن ما يرتكبه أخوك هو ليس بغريبٍ عنك، ولو أنك أفلت من يدي الله لإنزلفت واستسلمت إلى ما يصنعه في صورة أشد وأعنف. لهذا حين كان يرى القديس الأنبا يحنس القصير أخًا يخطئ كان يبكي بمرارة وعندما سُئل أجاب [اليوم أخطأ هذا الأخ، وغدًا أخطئ أنا، وربما يسمح الله لهذا فيتوب، وقد لا يسمح لي أنا[42].]
ثانيًا: لنتجاوب مع عمل النعمة:
لا نقف عند التأمل في ضعف إنساننا، بل بالأحرى نتأمل في إمكانية النعمة القادرة أن تهب حبًا. فبالمعمودية دُفنا مع المسيح، وقمنا متجددين، وصارت لنا إمكانية الحياة الجديدة النامية كل يوم بالروح القدس المنعش للنفس.
هكذا يقول الرسول:
"ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه،
لا بأعمال في برِّ عملناها نحن،
بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس.
الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا.
حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية". [4-7]
فإن ما فيَّ من خير وأعمال صالحة هو بفضل النعمة الإلهية. ومن جانب آخر ليس لي أن أحتج بضعفي، لأن النعمة قادرة أن تهبني الحب وكل فضيلة سماوية.
لهذا يحدثنا القديس أغسطينوس في كتابه عن "النعمة والإرادة الحرة[43]" أن نتعلق بالنعمة الإلهية قائلًا: ]هكذا يلزم للإنسان لا أن يتبرر بنعمة الله وهو شرير فحسب (أي قبل توبته أو عماده)، بل يلزمه حتى عندما يتبررّ بالأعمال أن ترافقه النعمة الطريق، وأن يحافظ عليها لئلا يسقط![
على هذا الأساس كُتب عن الكنيسة في سفر نشيد الأناشيد: "من هذه الطالعة من البرية في ثوب أبيض مستندة على حبيبها" (راجع 8: 5). إذ تصير بيضاء هذه التي لا تقدر على هذا بمفردها. فبواسطة من تصير بيضاء إلا بذاك الذي يقول: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج" (يو 15: 5)؟
كيف إذن نحتج بضعفنا إن كنا غير قادرين على أن نحب؟ وإن أخذنا الحب كيف نفتخر بالحب كأنه من طبعنا الذاتي وهو هبة النعمة العاملة في المجاهدين؟ هذه النعمة كما سبق أن رأيناها هي "ابن الله" ذاته واهب كل عطية، إذ جعل من نفسه عطية لنقبله في حياتنا فنكون واحدًا معه لنا إمكانياته فينا. وهي أيضًا روحه القدوس الذي أرسله لنا من عند الأب فيسكن فينا ويرافقنا ويسندنا ويهيئنا للعرس السماوي، إذ يقول الرسول: "تجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا، حتى إذ تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية".
ويعلق القديس أمبروسيوس على هذا القول قائلًا:
]الروح القدس هو الذي يخلصنا من دنس الأمم!
سامية هي هذه النعمة التي تغير غضب الوحوش إلى بساطة الروح[44].]
[من هو هذا الذي يُولد من الروح ويصير روحًا (روحانيًا) إلا الذي يتجدد بالروح في ذهنه". (أف 4: 23)! هذا هو بالتأكيد ذاك الذي يولد بواسطة الماء والروح حيث ننال رجاء الحياة الأبدية خلال جرن الميلاد الذي للروح القدس[45].[
ويعلق القديس أغسطينوس قائلًا:
]في المعمودية غُسلت كل الخطايا السابقة. وخلالها يكون عون الروح الذي به يشتهي ضد الجسد فلا ننهزم في حربنا، (الروحية). وخلالها تكون للصلاة الربانية فاعليتها حين نقول "اغفر لنا ذنوبنا". هكذا يُعطى لنا التجديد، ونُعان في صراعنا، وتسكب الصلاة، ويكون قلبنا غير مشوب. وبهذا نكون بلا لوم[46].[
وقد لاحظ القديس أغسطينوس أن قوله "خلصنا" جاءت في عبارة الرسول عوض"اعتمدنا"، فعلق قائلًا بأنه لا يمكن التمتع بالخلاص خارج المعمودية، إذ كلمة "العماد" وكلمة "الخلاص" متفقتان في الهدف ومتلازمتان فهما في العمل[47].
يقول أيضًا عن أهمية العماد لخلاص الأطفال: ]إذن من يقدر أن يتجاسر فيثبت أنه بدون التجديد الذي يتكلم عنه الرسول يمكن للأطفال أن ينالوا الخلاص الأبدي كما لو كان المسيح لم يمت من أجله؟[48] [
غير أننا لا نفهم من قوله " خلصنا " بصيغة الماضي أن الإنسان يقول: "إنني خلصت فعلًا كأننا قد نلنا كل شيء، فتستكين نفوسنا، ظانين استحالة سقوطنا أو انحرافنا. لكن الحقيقة هي أننا سالكون في طريق الخلاص حتى النفس الأخير وإنما بالرجاء خلصنا.
يقول القديس أغسطينوس: ]من الواضح أننا نحصل في غسل التجديد لا على الخلاص ذاته بل الرجاء فيه " وذلك إلى أن نعبر الأبدية فيتم الخلاص[49]. [
ولما كان هذا الرجاء أكيدًا نقول: "نحن خلصنا" كما لو كان الخلاص قد مُنح فعلًا.
ففي موضع آخر يقول: "نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا، نحن بالرجاء خلصنا ولكن الرجاء المنظور ليس رجاءً ، لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا؟ ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر" (رو 8: 23-25). إنه لم يقل "نحن نخلص" بل قال "خلصنا" أي بالرجاء، مع إنه لم يتم فعلًا حتى الآن.
وبنفس الطريقة فإنه بالرجاء- وليس تم فعلًا- إذ نحن إلى الآن لا نعرف إنسانًا حسب الجسد قد خلص تمامًا، إنما رجاؤنا هو في المسيح، إذ فيه نترجى أن ما قد وعدنا به قد تحقق فعلًا (تحقق فيه فصار متحققًا لنا).
ويقول القديس ذاته أيضًا: ]لكن إن سأل أحد عما إذا كان بنفس الغسل قد أُنقذنا فعلًا بالتمام في كل طريق، فإنني أجيب أنه ليس كذلك إذ يقول الرسول: "بالرجاء خلصنا"..فيحدث خلاص الإنسان في المعمودية إذ يخلص من أي خطية قد حلت به من والديه وأيضًا كل ما أخطأ به قبل عماده، لكن خلاصه سيكون فيما بعد حينما يأتي الوقت الذي فيه لن يخطئ قط تمامًا (في الأبدية)[50]. [
موقف الإنسان من عمل النعمة
خشي الرسول أن يُفهم من خلال حديثه عن لطف الله وإحسانه ونعمته لخلاصنا أنه يمحو كل جهاد أو عمل من جانبنا في طريق خلاصنا، لذلك أكمل القول هكذا:
"أريد أن تقرر هذه الأمور
لكي يهتم الذين أمنوا بالله أن يمارسوا أعمالًا حسنة،
فإن هذه الأمور هي الحسنة والنافعة للناس". [8]
وكأنه يكتب قائلًا إنني إذ أقرر هذا لا أثبط هممكم في الجهاد وممارسة الأعمال الحسنة، فإن هذا يناقض غايتي، بل بالأحرى أدفعكم إلى المثابرة والجهاد في كل عملٍ صالحٍ، عالمين أننا لسنا نعمل بقوتنا البشرية الواهنة بل مستندين على النعمة القوية القادرة.
إن تركيزه على النعمة غايته تشجيع المؤمن لا على التواكل والتراخي بل على العمل والجهاد بثقة في الذي يعمل فيهم وبهم، وفي نفس الوقت يحطم كل كبرياء يمكن أن يتسلل في قلب المؤمن بسبب ما يصنعه أو يصل إليه من حياة تقوية فاضلة.