يوحنا الاولى 2 - تفسير رسالة يوحنا الأولى إيماننا بالإله المتجسد والحب للَّه ولإخوتنا الجزء(2)للقمص تادرس يعقوب ملطي
3. حبنا للَّه
أ. إمكانياتنا كأبناء محبين للَّه:
"أكتب إليكم أيها الأولاد،
لأنه قد غفرت لكم خطاياكم من أجل اسمه" [12].
يقول القديس أغسطينوس:
[لقد دُعينا أولادًا بالمعمودية ونلنا غفران الخطايا من أجل اسم المسيح. لأننا لم نعتمد باسم بولس ولا باسم بطرس ولا باسم آخر غير الثالوث القدوس.
تدعو المحبة أولادها الذين من أحشائها منتحبة عليهم من أجل الانقسام والانشقاق في الإيمان، مذكرة إيانا أننا قد اعتمدنا جميعًا وغفرت لنا خطايانا من أجل اسم المسيح الواحد.
"أكتب إليكم أيها الآباء،
لأنكم قد عرفتم الذي من البدء" [13].
لقد صار للآباء الكهنة الأبوة إذ عرفوا اللَّه الأبدي الذي وحده له الأبوة الحقيقية نحو البشرية جميعًا. أما هم فيستمدون أبوتهم منه.
"أكتب إليكم أيها الأولاد... أيها الآباء...
أيها الأحداث لأنكم قد غلبتم الشرير".
لقد حدث الأولاد عن الأبوة الغافرة للخطايا، والآباء عن الأبوة التي لهم من عند الآب السماوي الذي من البدء، والأحداث الذين وهبوا قوة للغلبة. فإن الشرير يحاربنا، لكنه لا يقدر أن يغلبنا، لأننا أقوياء بالمسيح يسوع، "لأنه إن كان قد صلب عن ضعف، لكنه حي بقوة اللَّه" (٢ كو 13: 4).
يعود الرسول فيؤكد ما سبق أن قاله:
"أكتب إليكم أيها الأولاد، لأنكم قد عرفتم الآب.
"كتبت إليكم أيها الآباء، لأنكم قد عرفتم الذي من البدء" [13-14].
يحذرنا الرسول لئلا ننسى الذي من البدء، فنفقد الأبوة الروحية. ويؤكد أيضًا للأحداث أنه يليق بهم أن يقاوموا حتى يغلبوا فيكللوا، وأن يمتلئوا بالرجاء في قتالهم، إذ يقول لهم: "كتبت إليكم أيها الأحداث، لأنكم أقوياء، وكلمة اللَّه ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير" [14].
وصيته للأولاد، "قد عرفتم الآب"، وللآباء: "قد عرفتم الذي من البدء". فهو يوصي بالمعرفة، لكن ليست المعرفة التي تنفخ بل المملوءة حبًا فتبني (١كو 8: 1). فمن كانت له معرفة بغير حب يكون كالشياطين التي تعرف ابن اللَّه وتعترف به (مت 8: 29) لكن الرب انتهرها. أما المعرفة المطلوبة فهي المملوءة بحب اللَّه الذي يضاد محبة العالم. فإن تفرغت قلوبنا من المحبة الأرضية تشبع من الحب الإلهي، ويدخل اللَّه في قلوبنا كزارع في حقل يقتلع ما يجده من حطب، وينظفها ويهيئها ليغرس فيها شجرة "الحب"، أما الحطب الذي يقتلعه فهو محبة العالم.]
ب. رفضنا محبة العالم:
"لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم.
إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب" [15].
يقول القديس أغسطينوس:
[نلنا الميلاد الجديد بالمعمودية منذ سنوات، فيجدر بنا ألا نحب العالم، حتى لا تتحول الأقداس التي فينا إلى لعنة بدلًا من أن تكون للقوة والخلاص.
كيف تتأسس المحبة في قلب مولع بمحبة العالم؟ لابد من انتزاع الحطب، وغرس البذور السمائية ولا نترك الشوك يخنق الزرع.
"لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة.
"والعالم يمضي وشهوته.
أما الذي يصنع مشيئة اللَّه، فيثبت إلى الأبد" [16-17].
يجرفنا نهر العالم مع أمواجه، لكن ربنا يسوع المسيح كشجرة مغروسة على مجاري المياه (مز١ :٣) تجسد ومات وقام وصعد إلى السماوات. هكذا بإرادته زرع ذاته بجوار المياه الجارفة حتى متى جرفتنا الأمواج نسرع ونمسك به. وإن استحوزت دوامة الأمور الزمنية حبنا، نسرع إلى ربنا يسوع ونمسك به، ذاك الذي من أجلنا أخذ الجسد الزمني لنصير نحن أبديين. ومع أنه أخذ ما هو زمني إلاَ أنه يبقى أبديًا.
لكن كيف لا نحب الأشياء التي في العالم؟
إن قدم عريس خاتمًا لعروسه فهل تحب الخاتم أكثر منه؟! فلتحب الخاتم كيفما تشاء، لكن هل يحق لها أن تكتفي بالخاتم قائلة: لا أريد أن أرى وجه العريس؟! هكذا من يحب الخليقة دون خالقها. فإن هذا الحب يُحسب زنًا.
ولقد جرب العدو "الشيطان" ربنا يسوع في هذه الأمور الثلاثة:
1. شهوة الجسد:
إذ قال له: "إن كنت ابن اللَّه فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا". قال له هذا وهو جائع بعد صومٍ دام أربعين يومًا.
2. شهوة العيون:
وذلك من جهة اشتهاء صنع المعجزات (لينال كرامة بشرية) إذ قال له: "اطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك فعلى أيديهم يحملونك، لكي لا يصطدم بحجر رجلك". لكن ربنا لم يكن يصنع المعجزات حبًا في الظهور، بل بدافع الحنان والترفق.
3. تعظم المعيشة:
إذ أخذه إبليس إلى جبل عالٍ جدًا وأراه ممالك العالم ومجدها، وقال له: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي". فقد أراد أن يجرب ملك العالم كله بمجد العالم الباطل.]
ج. رفضنا للبدع المنشقة على اللَّه وكنيسته:
"أيها الأولاد هي الساعة الأخيرة،
وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي،
وقد صار أضداد للمسيح كثيرون.
من هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة" [18].
"هي الساعة الأخيرة"، إنها اللحظات الأخيرة للمعركة بين اللَّه والشيطان. يمد اللَّه أولاده بذاته ليعطيهم النصرة، والشيطان أيضًا إذ يرى أيامه قد اقتربت يصارع باثًا روحه في أضداد المسيح لكي يفسدوا إيمان أولاد اللَّه وحياتهم.
لكن أولاد اللَّه يحبون أباهم، مستتفهين الحياة الزمنية. يرون أيام غربتهم مهما امتدت هي "ساعة أخيرة" تنتهي حتمًا، ليحيوا في الفردوس، إلى أن يُكللوا في الأبدية. بهذا يطمئن الرسول أولاده ألا يخافوا من المقاومين لهم.
يقول القديس أغسطينوس:
["منا خرجوا": لا نحزن يا إخوتي لأنهم "لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا" [19].
كثيرون منهم نالوا معنا سرّ المعمودية، وكانوا يشتركون معنا في المقدسات، شركة قدس الأقداس، ومع ذلك فهم ليسوا منا...
أما الذين خرجوا منا لكنهم يعودون تائبين، فهؤلاء ليسوا أضداد المسيح، لأنهم لم يستطيعوا الحياة بدونه.
أضداد المسيح هم الذين خرجوا مصرين على خروجهم "ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا".
هم لم يكونوا منا، لكنهم لم يكونوا ظاهرين هكذا.
"أما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء" [20].
هذه المسحة هي الروح القدس الذي فيكم، وهو الذي يكشف أسرار اللَّه في القلب ويعلمنا ويذوقنا حلاوة العشرة معه، ويفتح أذهاننا فنتعلم كل شيء.]
"لم أكتب إليكم لأنكم لستم تعلمون الحق، بل لأنكم تعلمونه.
وإن كل كذب ليس من الحق" [21].
لا نحتاج إلى تعاليم جديدة، بل إلى عمل الروح القدس الذي يذكرنا بالحق. ويهبنا تمييزًا لرفض كل تعليم غريب.
"من هو الكذاب، إلاَ الذي ينكر أن يسوع هو المسيح؟
هذا هو ضد المسيح، الذي ينكر الآب والابن.
كل من ينكر الابن، ليس له الآب أيضًا.
ومن يعترف بالابن، فله الآب أيضًا" [22-23].
الكذاب هو الذي يرفض الحق منكرًا أن يسوع هو المسيح. أي يرفض ربنا كمخلصٍ له، منكرًا تأنسه، أو يرفض عمل المسيح في حياته، فيسلك بروح الضلال رغم دعوته مسيحيًا، هؤلاء يعترفون أنهم يعرفون اللَّه لكنهم بالأعمال يفرضونه (تي 1: 16).
ومن يرفض المسيح لا يتمتع بالآب والابن، لأنه "لا أحد يعرف الآب إلاَ الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت ١١: ٢8).
د. ثباتنا في اللَّه:
"وأما أنتم فما سمعتموه من البدء، فليثبت إذا فيكم.
إن ثبت فيكم ما سمعتموه من البدء، فأنتم أيضًا تثبتون في الابن وفي الآب.
وهذا الوعد الذي وعدنا به، هو الحياة الأبدية" [24-25].
بالنسبة لنا نحن الذين لم ننشق عن الكنيسة، فلنثبت فيما سمعناه من البدء وتسلمناه جيلًا بعد جيل. وبثباتنا في الإيمان المستقيم والحياة نثبت في الابن وفي الآب، متطلعين إلى الوعد الذي نشتهيه، أي "الحياة الأبدية".
"كتبت إليكم هذا عن الذين يضلونكم" [26].
فغاية كتابته توجيه أنظار المؤمنين حتى لا يضلهم المبتدعون بأساليبهم المخادعة.
"وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم،
ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد،
كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء" [27].
وأما أنتم، أي المؤمنون؛ ففينا مسحة القدوس ثابتة، ولسنا محتاجين إلى تعاليم غريبة جديدة تلك الذي بلغت أحيانًا ما يقرب من ٦٠٠ طائفة جديدة. أما نحن فلنثبت على ما سلمه لنا الروح القدس، روح الحق الذي ليس فيه خداع "وهي حق وليست كذبًا"، حيث يختفي جميع المعلمين فلا يخدموا من عندهم، بل في المعلم الواحد وهو المسيح (مت 23: 10). إذًا لنثبت في هذا التعليم "كما علمتكم تبنون".
4. محبو اللَّه وبنوتهم له
"والآن أيها الأولاد اثبتوا فيه،
حتى إذا أظهر يكون لنا ثقة،
ولا نخجل منه في مجيئه.
"إن علمتم أنه بار،
فاعلموا أن كل من يصنع البرّ مولود منه" [28-29].
إذ يثبت محبو اللَّه في كلامه بالمسحة الثابتة فيهم عندئذ:
أ. يصير لهم رجاء وشوق نحو مجيئه، كعروس تنتظر عريسها، لتعيش في حضنه، وتراه وجهًا لوجه في الأبدية.
ب. إذ يعلمون أنه بار فكأولاد له لا يقبلوا إلاَ أن يكونوا على مثال أبيهم، فيجاهدوا مثابرين لعمل البرّ بقوة المسحة التي فيهم.