"المُتَوَكلونَ علَى الرَّب مِثلُ جَبَلِ صِهيَوْنَ، الذي لا يتزَعزَعُ، بل يَسكُنُ إلَى الدَّهرِ"
(مز125: 1)
في حياتنا اليومية وفي جهادنا الروحي يجب أن يكون اتكالنا على الله هو الأساس الذي ننطلق منه.. "اِذبَحوا ذَبائحَ البِر، وتوَكَّلوا علَى الرَّب" (مز4: 5).
فمهما عملنا من بر، ومهما عملنا من أداء صالح لمهامنا الرسمية، يجب ألاَّ نثق في قدراتنا بمعزل عن معونة الله لنا.. "لا نَكونَ مُتَّكِلينَ علَى أنفُسِنا بل علَى اللهِ الذي يُقيمُ الأمواتَ" (2كو1: 9).
لذلك ينصحنا سليمان الحكيم: "توَكَّلْ علَى الربِّ بكُلِّ قَلبِكَ، وعلَى فهمِكَ لا تعتَمِدْ. في كُلِّ طُرُقِكَ اعرِفهُ، وهو يُقَوِّمُ سُبُلكَ" (أم3: 5-6).
(1) ما هو الاتكال على الله؟
هو الثقة في قدرة الله ومحبته، فالله قادر على كل شيء وهو ضابط الكل، ويمكن أن يتدخل في حياتنا إن دعوناه.. "هأنذا واقِفٌ علَى البابِ وأقرَعُ. إنْ سمِعَ أحَدٌ صوتي وفَتَحَ البابَ، أدخُلُ إليهِ وأتَعَشَّى معهُ وهو مَعي" (رؤ3: 20).
يتدخل في حياتي ليشاركني بكل اتضاع وحب، وليساعدني في تدبير دفة حياتي، ولينقذني من كل ضيق ..
& "ادعُني في يومِ الضيقِ أُنقِذكَ فتُمَجدَني" (مز50: 15).
& "في الضيقِ دَعَوْتَ فنَجَّيتُكَ" (مز81: 7).
(2) "طوبَى لأُناسٍ عِزُّهُمْ بكَ" (مز84: 5)
"طوبَى للرَّجُلِ المُتَوَكلِ علَيهِ ... لأنَّهُ ليس عَوَزٌ لمُتَّقيهِ. الأشبالُ احتاجَتْ وجاعَتْ، وأمّا طالِبو الرَّب فلا يُعوِزُهُمْ شَيءٌ مِنَ الخَيرِ" (مز84: 8-10).
فالرب أعظم سند لمُحبيه، وهو لا يتركهم في زمان الضيق .. "ذو الرّأيِ المُمَكَّنِ تحفَظُهُ سالِمًا سالِمًا، لأنَّهُ علَيكَ مُتَوَكلٌ" (إش26: 3).
كثيرون من الناس يعتمدون على آلهة أخرى غير الرب، ولكنها آلهة مزيفة تضر مَنْ يعتمد عليها ولا تنفعهم .. "إنَّكَ قد اتَّكلتَ علَى عُكّازِ هذِهِ القَصَبَةِ المَرضوضَةِ، علَى مِصرَ، التي إذا توَكّأَ أحَدٌ علَيها دَخَلَتْ في كفهِ وثَقَبَتها" (إش36: 6).
? هذه القصبة المرضوضة قد تكون:
أ- الأموال:
& "مَنْ يتَّكِلْ علَى غِناهُ يَسقُطْ" (أم11: 28).
& "الذينَ يتَّكِلونَ علَى ثَروَتِهِمْ، وبكَثرَةِ غِناهُمْ يَفتَخِرونَ" (مز49: 6).
& "أوصِ الأغنياءَ في الدَّهرِ الحاضِرِ أنْ لا يَستَكبِروا، ولا يُلقوا رَجاءَهُمْ علَى غَيرِ يَقينيَّةِ الغِنَى، بل علَى اللهِ الحَي الذي يَمنَحُنا كُلَّ شَيءٍ بغِنًى للتَّمَتُّعِ" (1تي6: 17).
وهذا ما حاجج به أيوب الصديق الله، مستنكرًا أن يكون قد اتكل على الأموال والمقتنيات: "إنْ كُنتُ قد جَعَلتُ الذَّهَبَ عَمدَتي، أو قُلتُ للإبريزِ: أنتَ مُتَّكلي. إنْ كُنتُ قد فرِحتُ إذ كثُرَتْ ثَروَتي ولأنَّ يَدي وجَدَتْ كثيرًا .... أكونُ قد جَحَدتُ اللهَ مِنْ فوقُ" (أي31: 24-28).
ب- الرؤساء والمعارف:
كثيرون يلقون كل رجائهم على معارفهم من المسئولين والكبار والرؤساء ..
& "لا تتَّكِلوا علَى الرّؤَساءِ، ولا علَى ابنِ آدَمَ حَيثُ لا خَلاصَ عِندَهُ. تخرُجُ روحُهُ فيَعودُ إلَى تُرابِه ... طوبَى لمَنْ إلهُ يعقوبَ مُعينُهُ، ورَجاؤُهُ علَى الرَّب إلهِهِ" (مز146: 3-5).
& "الاِحتِماءُ بالرَّب خَيرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ علَى إنسانٍ. الاِحتِماءُ بالرَّب خَيرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ علَى الرّؤَساءِ" (مز118: 8-9).
ج- الاتكال على الذات:
كثيرون يثقون في قدراتهم وذكائهم ومهاراتهم، وينسون الله في حياتهم، ويتصرفون كأنهم يملكون هذه الإمكانيات من ذواتهم وليست من الله الذي يعطي الجميع .. "قاسِمًا لكُل واحِدٍ بمُفرَدِهِ، كما يَشاءُ" (1كو12: 11) من المواهب والإمكانيات، لذلك فنحن "ليس أنَّنا كُفاةٌ مِنْ أنفُسِنا أنْ نَفتَكِرَ شَيئًا كأنَّهُ مِنْ أنفُسِنا، بل كِفايَتُنا مِنَ اللهِ، الذي جَعَلَنا كُفاةً" (2كو3: 5-6).
فلا ينبغي للإنسان أن يتكل على ذاته بل على الله:
& "لا نَكونَ مُتَّكِلينَ علَى أنفُسِنا بل علَى اللهِ الذي يُقيمُ الأمواتَ" (2كو1: 9).
& "بكَ نَنطَحُ مُضايِقينا. باسمِكَ نَدوسُ القائمينَ علَينا. لأني علَى قَوْسي لا أتَّكِلُ، وسيفي لا يُخَلصُني .... باللهِ نَفتَخِرُ اليومَ كُلَّهُ" (مز44: 5-8).
(3) انحراف الاتكال إلى التواكل:
بالرغم من القيمة العظيمة التي يبرزها الفكر المسيحي للاتكال على الله، ولكنه يرفض التواكل. والتواكل معناه إلغاء دور الإنسان، فيتكل على الله دون أي نية في العمل الإيجابي باعتبار أن الله سيقوم بكل الدور وحده.
التواكل هو الكسل والتراخي بادعاء أن الله مسئول عن حياتي، وتدخله فيها يلغي دوري.
هناك حكمة جميلة تعتبر مقياسًا لصحة الاتكال وعدم انحرافه تقول: "علامة التسليم الكامل لله أن ترضى بأي نتيجة بعد بذل أقصى مجهود بروح الصلاة والاعتماد على الله".
إن كان الإنسان لا يرضى بالنتيجة فهو متذمر.
وإن لم يبذل أقصى مجهود فهو متواكل.
وإن لم يكن بروح الصلاة فهو معتمد على ذاته.
اللاهوت الأرثوذكسي يؤمن باتحاد الطبيعتين اتحادًا كاملاً في شخص السيد المسيح، فاللاهوت لم يلاشِ الناسوت (كما ادعى أوطاخي الهرطوقي)، وكذلك لم يستغن اللاهوت عن الناسوت ليتمم الخلاص بموت الجسد.
وهذا له انعكاس رائع في مفاهيمنا الروحية، فالله في حياتك لا يلاشيك ولا يلغي دورك، بل أنت مدعو أن تكون شريكًا ومشاركًا.
& "الرَّخاوَةُ لا تمسِكُ صَيدًا، أمّا ثَروَةُ الإنسانِ الكَريمَةُ فهي الاِجتِهادُ" (أم12: 27).
& "العامِلُ بيَدٍ رَخوَةٍ يَفتَقِرُ، أمّا يَدُ المُجتَهِدينَ فتُغني" (أم10: 4).
& "أرأيتَ رَجُلاً مُجتَهِدًا في عَمَلِهِ؟ أمامَ المُلوكِ يَقِفُ. لايَقِفُ أمامَ الرَّعاعِ!" (أم22: 29).
وليس هذا الاجتهاد في الأمور الزمانية فقط، بل نحن أيضًا مطالبون بالاجتهاد في طريق خلاصنا ..
& "إنْ كانَ البارُّ بالجَهدِ يَخلُصُ" (1بط4: 18).
& "ألستُمْ تعلَمونَ أنَّ الذينَ يَركُضونَ في المَيدانِ جميعُهُمْ يَركُضونَ، ولكن واحِدًا يأخُذُ الجَعالَةَ؟ هكذا اركُضوا لكَيْ تنالوا. وكُلُّ مَنْ يُجاهِدُ يَضبُطُ نَفسَهُ في كُل شَيءٍ.... بل أقمَعُ جَسَدي وأستَعبِدُهُ، حتَّى بَعدَ ما كرَزتُ للآخَرينَ لا أصيرُ أنا نَفسي مَرفوضًا" (1كو9: 24-27).
فالجهاد قائم ومطلوب، ولكن النصرة من عند الرب .. "الفَرَسُ مُعَدٌّ ليومِ الحَربِ، أمّا النُّصرَةُ فمِنَ الربِّ" (أم21: 31).
فليس سر النصرة أن الفرس مهيأ.. بل الرب، ولكن ليس لأن الرب ينصرنا فلا ينبغي أن نعد الفرس.. نعمل هذا ولا نترك تلك.
فهناك موسى الذي يصلي، ويشوع الذي يقود المركبة، قلب يصلي ويد تجتهد بالاتكال على الله.
ليس الاتكال على الله معناه أن نتراخى ولا تتم أعمالنا، وليس أيضًا معناه أن نلغي تفكيرنا وإبداعاتنا، وليس أيضًا معناه أن نسلك بالمكر والحيلة والرشوة والدهاء والاتكال على المعارف والمال والذكاء.. بل فنكن متكلين على الله بالإيمان والصلاة والرجاء والثقة، ثم نبذل قصارى جهدنا في كل عمل وفي كل مشكلة وعند اتخاذ القرار