متى 8 - تفسير انجيل متى أعماله الملوكية (أ) الجزء (2)للقمص تادرس يعقوب ملطي
4. دعوته للكنيسة
قدّم لنا معلّمنا متّى البشير أمثلة للدعوة. المثال الأول هو أن السيّد إذ رأى الجموع الكثيرة تلتف حوله أمر بالذهاب إلى العبر، فتقدّم إليه كاتب يقول له: "يا معلّم أتبعك أينما تمضي". فقال له يسوع: "للثعالب أوْجرة ولطيور السماء أوكار، أمّا ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" [18-20].
ما هي هذه الجموع الكثيرة التي التفَّت حوله إلا الطغمات السمائيّة التي تتعبّد له وتخدمه... لكنّه أمر بالذهاب إلى العبر، وكأنه قد حمل سفينة طبيعتنا البشريّة وترك سمواته ليأتي إلى أرضنا، فنلتقي به بعد العداوة التي حلّت بيننا وبينه بسبب خطايانا. لقد جاء إلينا وحلّ بيننا، فتقدّم إليه الكاتب اليهودي ممثِّلًا الأمة اليهوديّة كلها يسأله أن يتبعه، ظانًا أنه مَلكًا أرضيًا. لقد التصق به اليهود أولًا بفكرهم المادي حاسبين أنه يخلّصهم من الاستعمار الروماني ويسيطر بهم على العالم.. وبفكرهم المادي هذا وجدت الثعالب الماكرة لها أوْجرة في داخلهم، وطيور السماء المتشامخة في قلوبهم أوكارًا. سلكوا بخبث الثعالب وبكبرياء الطيور، فلم يكن ممكنًا أن يجد السيّد المسيح البسيط والمتواضع موضعًا في داخلهم يسند فيه رأسه. إن كان الآب هو رأس المسيح، فإن السيّد المسيح وهو يشتهي أن يستريح في كل قلب ليدخل بالآب فيه خلال الصليب لا يجد موضعًا للمصالحة مع الخبيث المتعالي.
ليهبنا الله قلوبًا متواضعة بسيطة فلا تجد الثعالب لها فينا أوْجرة ولا الطيور المتشامخة أوكارًا، إنّما يسند السيّد المسيح رأسه فيها، مقدّسا إيّاها هيكلًا مقدّسًا وسماءً ثانية، ومنزلًا له ولأبيه.
يقول القدّيس أغسطينوس: [لقد رفض رب المجد إنسانًا متكبّرا من تلمذته، هذا الذي أراد أن يتبعه... لقد قال له ما معناه: إن فيك خداعًا كالثعالب وكبرياء كطيور السماء، أمّا ابن الإنسان البسيط غير المخادع والمتواضع بلا كبرياء فليس له فيك أين يسند رأسه... إنه يسند رأسه ولا يرفعها، قاصدًا التواضع[411].]
يقول القدّيس جيروم: [إن هذا الكاتب قد رفضه (الرب) لأنه شهد المعجزات العظيمة وأراد أن يتبع المخلّص لينتفع من المعجزات. كان يتمنّى ما تمنّاه سيمون الساحر عندما أراد شراء الموهبة من بطرس، لهذا أدان المسيح إيمان هذا الكاتب وقال له: لماذا تريد أن تتبعني؟ هل من أجل الغنى والمكسب؟ إنّني فقير جدًا ليس لي مأوى أو حتى سقف يظلّلني![412]]
ويكتب القدّيس جيروم في إحدى رسائله موضّحًا كيف نقيم الموضع الذي فيه يسند السيّد رأسه، قائلًا: [ابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه، فهل تخطط أنت لإقامة مبانٍ شاهقة وقاعات فسيحة؟! إن كنت تنظر أن ترث خيرات هذا العالم فإنك لا تستطيع أن تكون شريكًا مع المسيح في الميراث (رو8: 17)[413].]
المثال الثاني: "وقال له آخر من تلاميذه: "يا سيّد ائذن لي أن أمضي أولًا وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم" [21-22].
إن كان الكاتب الأول قد تقدّم ليتبع السيّد وبسبب تمسكه بفكره المادي ورياء قلبه حُرم من التمتّع بالتلمذة له، فإن هذا الكاتب الآخر كان يمثّل الأمم الذين مات آباؤهم في عبادة الأوثان، وفي شعور بالعوز والاحتياج تقدّموا يطلبون التلمذة له. لقد قبلهم السيّد من أجل عطشهم وجوعهم للبرّ، سائلًا إيّاهم أن يتركوا الموتى أي يتركوا آباءهم الذين فقدوا حياتهم الروحيّة وعاشوا كأموات.
لعلّ هذا الكاتب كان مشتاقًا أن يتبع السيّد، وكأن العائق هو أباه الذي في سن الشيخوخة، فطلب السيّد منه أن يأذن له أن يبقى مع والده حتى يموت وعندئذ يكرِّس حياته له. طلب السيّد منه أن يترك الأموات حسب الروح أن يدفنوا من يموت حسب الجسد، أمّا هو فيتفرّغ للخدمة. وكأن السيّد أراد أن يميّز بين الأموات حسب الجسد والأموات حسب الروح. خدمة دفن الأموات حسب الجسد أمر سهل يمكن للجميع أن يقوموا به، أمّا ما هو أهم، فهو دفن الأموات حسب الروح مع السيّد المسيح ليقوموا معه، أي خدمة الكرازة بالمسيح المصلوب القائم من الأموات حتى ينعم الأموات بالروح بالقيامة الروحيّة. بمعنى آخر يسأله السيّد ألا يبكي على الميّت حسب الجسد، حتى وإن كان والده، إنّما يبكي على الميّت حسب الروح، وإن كان ليس قريبًا له حسب الدم أو الجنس!
* فلتبكِ بالأحرى على الذين يتركون الكنيسة بسبب جرائمهم وخطاياهم، الذين يسقطون تحت الدينونة بسبب أخطائهم[414].
القدّيس جيروم
* كان هناك ميّت يحتاج إلى دفن، ووجد أموات أيضًا يدفنون الميّت. واحد ميّت بالجسد والآخرون أموات بالروح.
* كيف يحدث موت للنفس؟ عندما لا يوجد إيمان! كيف يحدث موت للجسد؟ عندما لا توجد النفس! إذن فنفس النفس هو الإيمان. يقول المسيح: من آمن بي، وإن كان ميّتًا بالجسد، فإنه يحيا في الروح، حتى يقوم الجسد أيضًا ولا يموت بعد[415].
القدّيس أغسطينوس
* كما أن الجسد يموت بفقده النفس التي هي حياته، هكذا تموت النفس بفقدها الله الذي هو حياتها.
* يريدنا أن نموت لكي نعيش، فإنّنا نعيش لكي نموت!
القدّيس أغسطينوس[416]
5. تهدئة الأمواج
"ولما دخل السفينة تبعه تلاميذه،
وإذا اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطّت الأمواج السفينة،
وكان هو نائمًا.
فتقدّم تلاميذه وأيقظوه، قائلين: يا سيّد نجّنا فإنّنا نهلك.
فقال لهم: ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟
ثم قام وانتهر الرياح والبحر فصار هدوء عظيم.
فتعجّب الناس، قائلين: أي إنسان هذا،
فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه" [23-27].
دخل السيّد السفينة وتبعه تلاميذه، وفجأة حدث اضطراب عظيم، فقد عُرف بحر الجليل بالعواصف العنيفة المفاجئة، وهو بحيرة صغيرة طولها ثلاثة عشر ميلًا وأكبر أجزاء عرضها ثمانية أميال.
ما حدث إنّما يقدّم لنا صورة حيّة للكنيسة في جهادها في بحر هذا العالم، فإنها تُهاجَم بعواصف شديدة يثيرها الشيطان ضدّها، إذ لا يطيق المسيح الحالّ فيها رأسًا لها، فيظن حتى التلاميذ أحيانًا أنهم يهلكون. لكن يتجلّى مسيحها الحيّ ليعطيها سلامه. وما أقوله عن الكنيسة إنّما أكرّره بخصوص المؤمن كعضو في الكنيسة المقدّسة الذي ينعم بهذه العضويّة خلال مياه المعموديّة، فيتمتّع بسكنى السيّد المسيح فيه، ويصير ملكوتًا سماويًا وهيكلًا لله. هذا لا يعني توقُّف التجارب عن مهاجمته، بل بالعكس يزداد هجومها بالأكثر من أجل السيّد المسيح الساكن فيه. لكنها تعجز عن أن تهلكه مادام المؤمن في يدّ عريسه، في سهر روحي ويقظة بلا نوم.
يعلّل القدّيس يوحنا الذهبي الفم حدوث ذلك قائلًا:
[لقد نام لكي يعطي فرصة لظهور خوفهم، ولكي يجعل فهمهم لما يحدث أكثر وضوحًا... لكنه لم يفعل هذا في حضرة الجماهير حتى لا يُدانوا على قلّة إيمانهم، وإنما انفرد بهم وأصلح من شأنهم، وقبل أن يُهدئ عاصفة المياه أنهى أولًا عاصفة نفوسهم موبّخا إيّاهم: لماذا شككتم يا قليلي الإيمان؟ معلّمًا إيّاهم أيضًا أن الخوف سببه ليس اقتراب التجارب إنّما ضعف ذهنهم[417].]
هكذا يظهر السيّد المسيح معلّمًا مُحبًا وأبًا مترفّقا، يريد أن يكشف جراحاتهم ويظهر لهم ضعفهم دون أن يجرح مشاعرهم، إذ سحبّهم من وسط الجماهير ليعلّمهم عمليًا ما في قلوبهم وأذهانهم من ضعفات. إنه يقدّم لنا المثال الحق للأبوة الحانية التي لا تتساهل مع الخطيّة والخطأ، لكنها لا تشهِّر بالابن الخاطئ. تفضحه أمام نفسه لا أمام الآخرين، مرّة ومرّات، وأخيرًا إن احتاج الأمر يستخدم التأديب العلني كتوبيخه للكتبة والفرّيسيّين.
في أبوّته قدّم السيّد العلاج الأصيل مُظهرًا أن سرّ التعب الحقيقي ليست الرياح الخارجيّة والعواصف الظاهرة إنّما رياح النفس غير المستقرة وأمواجها الداخليّة بسبب عدم إيمانها، لهذا هدّأ نفوسهم في الداخل وعندئذ أسكت الخارج!
لقد نام السيّد في السفينة، الأمر الذي يحدث فينا حين نتعلّق بالخطايا ونتفاعل معها، ولا نترك ربّنا يسوع يعمل فينا ويقود سفينة حياتنا، لذلك يرى القدّيس جيروم أننا نوقظ السيّد بالتوبة عن خطايانا، إذ يقول: [إن كان بسبب خطايانا ينام فلنقل: "استيقظ لماذا تتغافى يا رب؟!" (مز 44: 23). وإذ تلطم الأمواج سفينتنا فلنوقظه قائلين: "يا سيّد نجّنا فإنّنا نهلك" (مت8: 25، لو8: 24)[418].]
ويرى القدّيس أغسطينوس[419]أن نوم السيّد المسيح إنّما هو تجاهلنا الإيمان له ونسياننا إياه، فيكون المسيح الذي يحلّ بالإيمان في قلوبنا (أف 3: 17) كمن هو نائم في قلوبنا. لهذا يلزمنا أن نوقظهk أي نستدعي إيماننا به. بالإيمان الحيّ نلتقي بعريسنا القادر وحده أن يهدّئ الأمواج الثائرة ضدّنا في الداخل كما في الخارج.
ويُعلّق أيضًا القدّيس أغسطينوس على هذه المعجزة سائلًا إيّانا أن نوقظ السيّد المسيح فينا بتذكُّرنا كلماته التي لها فاعليّتها فينا، إذ يقول:
[البحارة هم النفوس التي تعبر هذا العالم في السفينة التي هي رمز الكنيسة. في الحقيقة كل إنسان هو هيكل الله، وقلبه هو السفينة التي تبحر ولا تغرق إن كانت أفكاره صالحة.
لقد سمعتَ إهانة، فهي ريح! لقد غضبتَ، فهذه موجه! إذ تهب الرياح (الإهانات) وتعلو الأمواج (الغضب) تصبح السفينة في خطر، ويصير القلب في تهلكة يترنّح هنا وهناك.
عندما تسمع إهانة تشتاق إلى الانتقام، وتُسر بضرر الآخرين فتهلَك. لماذا يحدث هذا؟ لأن المسيح نائم فيك... إنك نسيت المسيح! أيقظه فيك، أي تذَكِّره. نبِّهه إلى اشتياقاتك بأنك تريد أن تنتقم... تذَكِّره، بتذكُّر كلماته، وبتذكُّر وصاياه...
ما قلته عن الغضب ينطبق على أية تجربة أخرى. فإنه إذ تهاجمك التجربة يكون ذلك ريحًا، وإذ تضطرب يكون أمواجًا. لتوقظ المسيح! دعه يتكلّم فيك... "أي إنسان هذا فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه"؟ [27] [420].]
ويرى القدّيس كيرلّس الكبير أن إيقاظ المسيح إنّما يعني الصراخ إليه وسط الضيقات والآلام والاتّكال عليه، إذ يقول: [المسيح حال وسط مختاريه، وإذ يسمح لهم بحكمته المقدّسة أن يعانوا من الاضطهاد يبدو نائمًا. ولكن إذ تبلغ العاصفة عنفها، والذين في صحن السفينة لا يقدرون أن يحتملوا، يلزمهم أن يصرخوا: "قم لماذا تتغافى يا رب" (مز 44: 23). فإنه يقوم وينزع كل خوف بلا تأخير. إنه ينتهر الذين يحزنوننا (أي عواصف الضيق، سواء كانت في الداخل أو الخارج، إن كانت حربًا من الشيطان أو تعبًا جسدانيًا أو مشاكل)، ويحوّل حزننا إلى فرح، ويكشف لنا سماءً مضيئة بلا اضطرابات، إذ لا يحوِّل وجهه عن الذين يتّكلون عليه.]
ويُعلّق القدّيس أغسطينوس أيضًا على خضوع الطبيعة له، قائلًا:
[لتمتثل بالرياح والبحر! أطع الخالق! لقد أصغى البحر للمسيح وأنت ألا تنصت له؟ سمع البحر وهدأت الرياح وأنت أفلا تهدأ؟ إنّني أقول وانصح بأن ما هذا إلا عدم هدوء وعدم رغبة في طاعة كلمة المسيح... لا تدع الأمواج تسيطر على قلبك فيضطرب. فإنّنا إن كنّا بشرًا لا نيأس متى هبّت الرياح وثارت عواصف أرواحنا، إذ نوقظ المسيح فنبحر في بحر هادئ ونصل إلى موطننا[421].]
وللعلامة أوريجينوس تعليق على هذا الحدث "تهدئة الأمواج" نقتطف منه الآتي:
[لم تثر العاصفة من ذاتها بل طاعة لسلطانه: "المُصعِد السحاب من خزائنه" (مز 135: 7)، "الذي وضع الرمل تُخومًا للبحر" (إر 5: 22)... فبأمره وكوصيّته ارتفعت العاصفة في البحر... لكن قدر ما تعظُم الأمواج الثائرة ضدّ القارب الصغير، يصعد خوف التلاميذ، فتزداد رغبتهم في الخلاص بأعاجيب المخلّص. لكن المخلّص كان نائمًا، يا له من أمر عظيم وعجيب!
هل الذي لا ينام ينام الآن؟! الذي يدبّر السماء والأرض، هل ينام؟...
نعم إنه ينام بجسده البشري، لكنّه ساهر بلاهوته... لقد أظهر أنه حملَ جسدًا بشريًّا حقيقيًا...
لقد نام في جسده، وبلاهوته جعل البحر يضطرب كما أعاد إليه هدوءه، نام في جسده لكي يوقظ تلاميذه ويجعلهم ساهرين.
هكذا نحن أيضًا إذ لا ننام في نفوسنا ولا في فهمنا ولا في الحكمة بل نكون ساهرين على الدوام، نمجِّد الرب ونطلب منه خلاصنا بشغف...
حقًا إن كثيرين يبحرون مع الرب في قارب الإيمان، في صحن سفينة الكنيسة المقدّسة، وسط حياة مملوءة بالعواصف، إنه نائم في هدوء مقدّس يرقب صبركم واحتمالكم، متطلّعا إلى توبة الخطاة ورجوعهم إليه.
إذن، تعالوا إليه بشغف في صلاة دائمة، قائلين مع النبي: "استيقظ لماذا تتغافى يا رب؟ انتبه، لا ترفض إلى الأبد... قم عونًا واِفدنا من أجل اسمك" (مز 44: 23، 26).
إذ يقوم يأمر الرياح، أي الأرواح الشيطانيّة الساكنة في الهواء والمثيرة لعواصف البحر، والتي تسبب الأمواج الشرّيرة القاتلة... وتثير اضطهادات ضدّ القدّيسين وتسقط عذابات على المؤمنين في المسيح، لكن الرب يأمر الكل، وينتهر كل الأشياء، فيلتزم كل شيء بما عليه يدبّر كل الأمور ويهب النفس والجسد سلامًا، ويرد للكنيسة سلامها ويُعيد للعالم الطمأنينة...
إنه يأمر البحر فلا يعصاه، ويحدّث الرياح والعواصف فتطيعه!
يأمر كل خليقته فلا تتعدّى ما يأمر به، إنّما جنس البشر وحدهم هؤلاء الذين نالوا كرامة الخلقة على مثاله ووُهِب لهم النطق والفهم، هؤلاء يقاومونه ولا يطيعونه. هم وحدهم يزدرون به! لذلك فإنهم يُدانون ويعاقَبون بعدله! بهذا صاروا أقل من الحيوانات العجماوات والأشياء الجامدة التي في العالم بلا إحساس ولا مشاعر!]
6. مجنونا كورة الجرجسيّين
يذكر معلّمنا متّى البشير أن السيّد المسيح بعد عبوره إلى البرّ شفى مجنونين بكورة الجرجسيّين، بينما يذكر معلّمنا مرقس (5: 1) ومعلّمنا لوقا (8: 26) أنه شفى مجنونًا بكورة الجدريّين، فهل هما حدث واحد أم أكثر؟
إذ يكتب معلّمنا متّى لليهود ذكر "كورة الجرجسيّين" محدّدًا المدينة وهي "جرجسة"، التي تقع على الشاطئ الشرقي لبحر الجليل، وهي لا تزال خرائب تعرف باسم "كرسة" مقابل مجدلة على مسافة خمسة أميال من دخول الأردن إلى البحيرة. وهناك بين وادي سمك ووادي فيق حيث تقترب الهضاب إلى البحر ممّا يسهل لقطيع الخنازير أن يندفع مهرولًا إلى البحر. أمّا القدّيسان مرقس ولوقا فإذ هما يكتبان للأمم لم يهتمّا بالبلدة وإنما باسم المقاطعة كلها "كورة الجدريّين".
ويبدو أن أحد المجنونين كان شخصيّة معروفة هناك، وأن جنونه كان شديدًا بطريقة واضحة فاهتم به القدّيسان لوقا ومرقس متجاهلين المجنون الآخر.
يروي لنا الإنجيلي متّى هذه المعجزة هكذا:
"ولما جاء إلى العبر إلى كورة الجرجيسيّين استقبله مجنونان،
خارجان من القبور، هائجان جدًا،
حتى لم يكن أحد يقدر أن يجتاز من تلك الطريق.
وإذ هما قد صرخا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع ابن الله،
أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟" [28-29]
بعد معجزة تهدئة الأمواج وإنقاذ السفينة التي هي الكنيسة قام السيّد بإنقاذ هذين المجنونين، وهما يشيران إلى عنف سطوة الشيطان على الإنسان، روحًا وجسدًا. كان المجنونان الخارجان من القبور يشيران إلى الروح والجسد، وقد خضعا لحالة من الموت بسبب الخطيّة، فقط ملك الشيطان على الروح، ففقدت شركتها مع الله، أي فقدت سرّ حياتها. وملك الشيطان على الجسد، ففقد سلامه مع الروح، وانحلّ بعيدًا عن غايته، فصارت دوافعه وأحاسيسه منصبّة نحو الذات، يطلب المتعة الوقتيّة. هذا هو فعل الخطيّة، أنها تدفن الروح والجسد كما في القبور، ويصير الإنسان كما في حالة هياج شديد لا يعرف السلام له موضع فيه، بل ولا يترك الآخرين يعبرون الطريق الملوكي. يتعثّر الآخرين، فلا ينعم بالحياة الحقيقية ويحرم الآخرين منها.
مجرّد عبور السيّد في الطريق فضح ضعف الخطيّة وأذل الشيطان الذي صرخ على لسان المجنونين: "مالنا لك يا يسوع ابن الله، أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟" هذا هو طريق خلاصنا من سلطان إبليس أن يعبّر بنا المسيّا المخلّص، الذي وحده يقيمنا من قبورنا ويحرّرنا من سلطان الخطيّة.
يقول القدّيس جيروم: [إذ رأت الشيّاطين المسيح على الأرض ظنّوا أنه جاء يحاكمهم! وجود المخلّص في ذاته هو عذاب للشيّاطين[422].]
"وكان بعيدًا منهم قطيع خنازير كثيرة ترعى،
فالشيّاطين طلبوا إليه قائلين:
إن كنت تخرجنا فأذَن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير.
فقال لهم: امضوا. فخرجوا ومضوا إلى قطيع الخنازير،
وإذا قطيع الخنازير كلّه قد اندفع من على الجرف إلى البحر ومات في المياه.
أمّا الرعاة فهربوا ومضوا إلى المدينة،
وأخبروا عن كل شيء، وعن أمر المجنونين،
فإذا كل المدينة قد خرجت لملاقاة يسوع،
ولما أبصروه طلبوا أن ينصرف عن تخومهم" [30-34].
ربّما يتساءل البعض: لماذا سمح الله للشيّاطين أن تذهب إلى قطيع الخنازير؟ ما ذنب هذه الخليقة؟ وما ذنب أصحابها؟
أولًا: لم تحتمل الخنازير دخول الشيّاطين بل سقط القطيع كلّه مندفعًا إلى البحر ومات في الحال، وكأن السيّد أراد أن يوضّح عنف الشيّاطين، فما حدث للمجنونين كان أقل بكثير ممّا حدث للخنازير... معلنًا أن الله لم يسمح للشيّاطين أن تؤذي المجنونين إلا في حدود معيّنة.
يُعلن القدّيس يوحنا الذهبي الفم على ما حدث للخنازير عندما دخلتها الشيّاطين، قائلًا: [هكذا تفعل الشيّاطين عندما تسيطر! هذا مع أن الخنازير بالنسبة للشيّاطين ليست ذات أهمّية، أمّا نحن فبالنسبة لهم توجد بيننا وبينهم حرب بلا هوادة، ومعركة بلا حدود، وكراهيّة بلا نهاية. فإن كان بالنسبة للخنازير التي ليس بينهم وبينها شيء هكذا لم تحتمل الشيّاطين أن تتركها ولا واحدة منها، فكم بالأكثر تصنع بنا ونحن أعداء لهم... ماذا يصنعون بنا لو كنّا تحت سيطرتهم؟! أيِّ مضارٍ شديدة لا يحدقوننا بها!! لهذا سمح الرب لهم أن يدخلوا قطيع الخنازير حتى نتعلّم عن شرّهم بما فعلوه بأجساد الحيوانات غير العاقلة، ونعرف ما يحدث لمن تمتلكهم الشيّاطين... إنه يحدث لهم ما حدث مع الخنازير[423].]
ثانيًا: أعلن السيّد بتصرّفه هذا تقييمه للنفس البشريّة، فهو مستعد أن يترك قطيع الخنازير يهلك من أجل إنقاذ شخصين!
وكما يقول القدّيس جيروم: [ليخز ماني القائل بأن أرواح الناس والبهائم واحدة من نفس العنصر... إذ كيف يكون خلاص رجل واحد على حساب غرق ألفين من الخنازير![424]]
ثالثًا: أظهر الرب عنايته بخليقته فإنه لن تستطيع الأرواح الشرّيرة أن تدخل حتى في الخنازير بدون استئذانه. يقول القدّيس سيرينوس: [إن كان ليس لديهم سلطانًا أن يدخلوا الحيوانات النجسة العجم إلا بسماح من الله، فكم بالأحرى يعجزون عن الدخول في الإنسان المخلوق على صورة الله[425]!]
ويقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إننا نستطيع من أمر إخراج الشيّاطين أن نُدرك كِلا الأمرين: حنوّ الله، وشرّ الشيّاطين. شرّ الشيّاطين بإقلاقهم نفسي المجنونين، وحنوّ الله عندما صدّ عنهما الشيّاطين القاسية ومنعهم. فالشيطان الذي وجد له مسكنًا في المجنون، رغب أن يؤذيه بكل قوّته، لكن الله لم يسمح له أن يستخدم كل قوّته بكاملها... بل ألزمه بالفضيحة بقوّة بعودة الإنسان إلى حواسه، وظهور الشرّ بما حدث في أمر الخنازير[426].]
رابعًا: ربّما سمح الله بذلك تأديبًا لأصحاب الخنازير، إذ كانت تربيتها ممنوعة حسب الناموس.
أما ثمرة هذا العمل الإلهي هو إنقاذ المجنونين، ولكن للأسف لم يحتمل أهل الكورة الخسارة الماديّة، فطردوا رب المجد من كورتهم. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم [إن اللذين سقطا تحت سلطان الأرواح الشرّيرة أمكن خلاصهما منها بسهولة، أمّا الطامعون (أصحاب الخنازير) فلم يقدروا أن يحتملوا السيّد ولا أطاعوا وصيّته. الساقطون تحت سيطرة الأرواح الشرّيرة يستحقّون عطفنا ودموعنا، أمّا الساقطون تحت الطمع فهم أكثر منهم مرارة!]
وإن كانالقدّيس جيروم[427]يرى في تصرّف أهل الكورة تواضعًا إذ حسبوا أرضهم ليست أهلًا لوجود السيّد عليها، ذلك كما طلب بطرس الرسول من السيّد أن يخرج من سفينته.