متى 13 - تفسير انجيل متى الجزء(1)
أمثلة الملكوت للقمص تادرس يعقوب ملطي
إذ قدّم السيّد المسيح مفاهيم جديدة للملكوت، من جهة العبادة والسلوك والجهاد والخلاص والاتّحاد مع الله، قدّم لنا أمثلة خاصة بهذا الملكوت السماوي المسيحاني، تكشف لنا عن أسراره من جوانب متعدّدة.
1. مثل الزارع
1-9.
هوذا الزارع قد خرج
البذار
الأرض
أولًا: الطريق
ثانيًا: الأماكن المحجرة
ثالثًا: الأرض المملوءة أشواكًا
رابعًا: الأرض الجيّدة
درجات الثمر
2. الحاجة إلى الأمثال
10-17.
3. تفسير المثل
18-23.
4. مثل الزوان
24-30.
ما هو الزوان؟
ظهور الزوان وانتظار وقت الحصاد
هل يُترك الفساد (الزوان)
5. مثل حبّة الخردل
31-32.
6. مثل الخميرة
33-35.
7. تفسير مثل الزوان
36-43.
8. مثل الكنز المُخفى
44.
9. مثل اللؤلؤة
45-46.
10. مثل الشبكة
47-50.
11. الكاتب المتعلّم
51-53.
12. موقف أهل وطنه
54-58.
*****************************
1. مثل الزارع
التقى السيّد المسيح بالجموع خارج البيت، إذ يقول الإنجيلي: "في ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس عند البحر. فاجتمع إليه جموع كثيرة حتى أنه دخل السفينة وجلس، والجمع كلّه وقف على الشاطئ" [1-2]. أمّا عند تفسيره المثل للتلاميذ، فكان معهم داخل البيت بعدما صرف الجموع [36]، فماذا يقصد بالبيت؟
أولًا: ربّما قصد بالبيت "الكنيسة المقدّسة كجماعة المؤمنين" فقد خرج السيّد المسيح خارج ليلتقي مع جماهير غير المؤمنين، الذين لم يدخلوا بعد في العضويّة الكنسيّة، ولا وُلدوا كأبناء لله... يخرج إليهم ليلتقي معهم خلال محبّته بكلمة الكرازة، ويجلس عند البحر، الذي يُشير إلى العالم المملوء اضطرابًا، لكي يدخل بهم إلى كنيسته، بدخوله هو إلى سفينة إنسانيّتنا وحديثه معهم عن ملكوت السماوات خلال الأمثال.
بحبّه يتحدّث مع الجميع، لكنّه لا يأتمن أحدًا على أسرار الملكوت وتذوّق الأمجاد الأبديّة خارج البيت. إنه يصرف الجماهير ليلتقي مع تلاميذه وحدهم داخل البيت، ويحدّثهم في أمورٍ لا ينطق بها ومجيدة.
يقول العلامة أوريجينوس: [عندما يكون يسوع مع الجموع يكون خارج بيته، لأن الجموع خارج البيت. هذا العمل ينبع عن حبّه للبشر، إذ يترك البيت ويذهب بعيدًا إلى أولئك الذين يعجزون عن الحضور إليه.]
ثانيًا: يُشير البيت أيضًا إلى السماء بكونها هيكل الله. فإذ عجزت البشريّة عن الارتفاع إلى السماء لتلتقي بخاِلقها نزل هو إليها. إنه كمن يخرج من البيت ليلتقي بالبشريّة خلال إنسانيّتهم، حتى بدخوله إليهم لا يهابونه كديّان، فيهربون منه، بل يسمعون صوته خلال السفينة الخشبيّة، أي خلال الصليب ليجتذبهم بالحب إلى السمويّات "بيته"، ويكشف لهم أسراره كعريس يناجي عروسه في حجاله الأبدي. لا يحدّثها عن أسراره علانيّة بين الجماهير، بل خلال علاقة الحب الشخصي في لقائهما معًا تحت سقف واحد!
ليتنا بالحق لا نكتفي بالوقوف مع الجماهير عند الشاطئ لنسمع الأمثال، إنّما ندخل به وفيه إلى بيته، ننعم بالعضويّة الروحيّة في كنيسته والدخول إلى سماواته، فنرتمي في أحضانه الإلهيّة ليحدّثنا حديث حُبّه السرّي الفائق.
********* هوذا الزارع قد خرج
غاية الله فينا هو "الخروج exodus"، ينطلق بنا كما مع بني إسرائيل من أرض العبوديّة إلى خيرات أرض الموعد. إنه يشتهي أن يخرج بنا من عبوديّة الخطيّة إلى حرّية مجد أولاد الله. ولما كان الخروج بالنسبة لنا مستحيلًا خرج هو أولًا كما من أمجاده، حتى يخرج بنا نحن أيضًا من طبيعتنا الفاسدة، فنلتقي معه وفيه، متمتّعين بالطبيعة الجديدة التي على صورته.
***** يتحدّث القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا الخروج الإلهي هكذا: [خرج ذاك الذي هو كائن في كل مكان، لكنّه غير محدود بمكان؛ جاءنا في ثوب جسدنا. يتحدّث المسيح بحق عن اقترابه إلينا كخروج. لأننا قد طُردنا خارج الله كمن هم مدينين وثائرين مطرودين من حضرة الملك. لكن ذاك الذي يرغب في مصالحتهم مع الملك يخرج إليهم، ويتحدّث معهم خارج المملكة، ومتى تأهّلوا يحضرهم إلى الحضرة الإلهيّة. هذا هو ما فعله المسيح[558].] كما يقول: [لم يخرج إلى موضع إنّما يُعلن عن حياة وتدبير يخصّان خلاصنا، إذ صار قريبًا لنا بالتحافه جسدنا. فإذ لم نستطع نحن أن ندخل بسبب خطايانا خرج هو إلينا. ولماذا خرج؟ هل لكي يُهلك الأرض التي أنتجت أشواكًا...؟ لا، إنّما خرج ليهتمّ بالأرض ويبذر كلمة الحنو. إذ يدعو تعاليمه هنا بذارًا، ونفوس البشر حقلًا مفلحًا، ويدعو نفسه بالباذر[559].]
السيّد المسيح هو الزارع الذي يخرج دومًا ليلقي ببذار حبّه فينا لكي تثمر في قلبنا شجرة حب يشتهي الله أن يقطف ثمارها، قائلًا: "قد دخلتِ جنتي يا أختي العروس، قطفتِ مرِّي مع طيبي، أكلتِ شهدي مع عسلي، شربتِ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحبّاء" (نش 5: 1). ألقى الله بذاره في الفردوس، لكن أبوينا الأولين قبِلا الزوان عِوض بذار الرب، فخرجا يحملان ثمار المرارة والعصيان. عاد الله وخرج إلى شعبه خلال موسى لينطلق بهم من أرض العبوديّة، مقدّمًا لهم الشريعة كبذارٍ إلهيّة، لكن القلب الذي ارتبط بعبادة الأوثان المصريّة، خاصة عِجل أبيس الذهبي، رفض البذار الإلهيّة مثمِرًا شجرة تذمُّر مستمر. وفي ملء الزمان خرج كلمة الله بنفسه إلينا متجسّدًا، وحلّ وسطنا، لنتقبّله حالاًّ فينا، فنثمر ثمار روحه القدّوس. وقد تمّ كمال خروجه بانطلاقه خارج أورشليم حاملًا عار الصليب، حتى نخرج نحن أيضًا بالصليب خارج "الأنا"، أي خارج ذواتنا المتعجرفة، فنلتقي به عند صليبه ونتقبّل ينبوع دمه الطاهر بذار حب تعمل فينا؛ الأمر الذي أوضحه الرسول بقوله "لذلك يسوع أيضًا لكي يقدّس الشعب بدم نفسه تألّم خارج الباب؛ فلنخرج إذًا إليه خارج المحلّة، حاملين عاره" (عب 13: 12-13).
****** البذار
ما هي البذار التي يلقيها السيّد المسيح في حياتنا كما في الأرض؟ قديمًا كان موسى والأنبياء يتقبّلون الكلمة من الله، أي يستعيرونها لكي ينعمون بها في حياتهم ويقدّمونها للشعب، إنها عارية! أمّا السيّد المسيح فهو بعينه الكلمة الإلهي، يوَد أن يُدفن في قلب المؤمن، لكي يُعلن ذاته شجرة حياة في داخله. إنه لا يقدّم شيئًا خارجًا عنه استعارة، إنّما يقدّم حياته سرّ حياة لنا، وقيامته علّة قيامتنا، ونصرته بكر نصرتنا، وأمجاده سرّ تمجيدنا! إنه الباذر والبذرة في نفس الوقت.
******** الأرض
الأرض التي تستقبل السيّد المسيح نفسه كبذرة لها أن تقبله أو ترفضه، وقد قدّم لنا السيّد المسيح أربعة أنواع من التربة: الطريق، والأرض المحجرة، والأرض المملوءة أشواكًا، والأرض الجيّدة. حقًا إن الزارع واحد، والبذار واحدة، لكن الثمر أو عدمه يتوقّف على الأرض التي تستقبل البذار. وقد استغلّ البعض هذا المثل للمناداة بوجود طبائع مختلفة لا يمكن تغييرها، فالشرّير إنّما يصنع الشرّ بسبب طبيعته، والصالح بسبب صلاح طبيعته، وكأن الإنسان ملتزم بتصرّفات لا يمكنه إلا أن يفعلها، وكأنه لا يحمل حرّية إرادة. هذه البدعة تصدّى لها كثير من الآباء، لكنّني هنا أود تأكيد أن هذا المفهوم لا يمكن استنباطه من المثل، فلو أن الله يُعلّم هذا، فلماذا ضرب لنا المثل؟ إنه يقول: "من له أذنان للسمع فليسمع" [9]، وكأنه يأمرنا أن ننصت لكلماته فنطلب تغيير طبيعتنا إلى الأرض الجيّدة.
* عند سماعكم هذا لا تبتدئوا تفتكروا في طبائع مختلفة كبعض الهراطقة، الذين يذكرون أن للواحد طبيعة شرّيرة وللآخر صالحة، وأن البعض تقودهم إرادتهم خلال تكوينهم إلى ما هو صالح أو شرير. أضف إلى هذا أن الكلمات "قد أُعطى لكم"، تعني أنه لكم إرادة[560].
الأب غريغوريوس (الكبير)
* (عن إمكانيّة التحوّل إلى تربة صالحة)
اقلبوا التربة الصالحة بالمحراث، أزيلوا الحجارة من الحقل، انزعوا الأشواك عنها.
احترزوا من أن تحتفظوا بذلك القلب القاسي الذي سرعان ما تعبر عنه كلمة الرب ويفقدها.
احذروا من أن تكون لكم تربة خفيفة فلا تتمكن جذور المحبّة من التعمق فيها.
احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زُرعت فيكم خلال جهادي، وذلك بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم.
كونوا الأرض الجيّدة، وليأتِ الواحد بمائة والآخر بستين وآخر ثلاثين[561].
القديس أغسطينوس
ماذا يقصد بقوله: "من له أذنان للسمع فليسمع"؟ يُعلّق القديس جيروم على هذه العبارة هكذا: [يقول إشعياء "أعطاني الرب أذنًا" (إش 50: 4). لتفهم ماذا يقول؟ لقد أعطاني الرب أذنًا، إذ تكون لي أذن القلب؛ وهبني الأذن التي تسمع رسالة الله فما يسمعه النبي إنّما يسمعه في قلبه. وذلك كما نصرخ نحن أيضًا في قلوبنا قائلين: أيها الأب أبّا، وهي صرخة صامتة، لكن الرب يسمع الصمت هكذا بنفس الكيفية يحدّث الرب قلوبنا التي تصرخ: "أيها الأب أبّا".]
********* أولًا: الطريق
"وفيما هو يزرع، سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته" [4]. هذا الطريق هو القلب المتعجرف الذي على مستوى مرتفع عن الأراضي الزراعيّة، إنه مطمع للطيور المرتفعة، أي لشيّاطين الكبرياء التي تعوق تلاقينا الحقيقي مع الله الكلمة! والطريق دائمًا مفتوح، ليس له سور يحفظه من المارة، كالإنسان صاحب الحواس المفتوحة لكل غريب، ليس من رقيب يحفظها! ما أحوج هذا الإنسان إلى الصراخ لله مع المرتّل، قائلًا: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيَّ"، فينعم بالروح القدس نفسه كسورٍ ناريٍ يحيط به، لا يقدر الشرّ أن يقترب إليه.
يتحدّث القديس كيرلس الكبير عن الطريق، قائلًا: [الطريق دائمًا صلب، تَطَأه أقدام كل العابرين على الدوام، لهذا لا تبذر فيه بذار. هكذا من كانت لهم الأفكار العنيفة وغير الخاضعة، لا تَدخل الكلمة الإلهيّة المقدّسة فيهم، ولا تسندهم، لكي يتمتّعوا بثمر الفضيلة المفرح. مثل هؤلاء يكونون كالطريق الذي تطأه الأرواح الدنسة ويدوسه الشيطان نفسه، فلا يأتون بثمرٍ مقدّسٍ بسبب قلوبهم المجدبة العقيمة.]
***********