كتاب قانون الإيمان لقداسة البابا شنودة الثالث الجزء(9)
27- و صعد إلى السموات
المقصود طبعًا أنه صعد بالجسد.
ذلك لأن اللاهوت لا يصعد ولا ينزل. اللاهوت موجود فوق وتحت، وما بين الفوق والتحت. موجود في السماء وعلي الأرض وما بينهما. لذلك فهو لا يصعد ولا ينزل، لأنه مالئ الكل، وهو في كل مكان. إنما السيد المسيح صعد إلي السماء جسديًا، حسبما نقول له في القداس الغريغورى:
"وعند صعودك إلي السماء جسديًا"..
لقد رآه التلاميذ صاعدًا بالجسد إلي فوق "ارتفع وهم ينظرون، وأخذته سحابه عن أعينهم" (أع 1: 9). وطبعًا رأوه صاعدًا بالجسد، لأنهم لا يمكن أن يروا اللاهوت.
وكان صعود السيد إلي السماء بالجسد الروحاني الممجد.
هذا الجسد الروحاني الذي سنقوم به أيضًا حسبما قال الرسول في رسالته إلي أهل كورنثوس عن قيامة جسدنا " يزرع جسمًا حيوانيًا. ويقام جسمًا روحانيًا.. كما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضًا صورة السماوي" (1كو 15: 44، 49). وهذا الجسد الروحاني السماوي الذي سنقوم به، هو علي شبه جسد الرب يسوع في قيامته، "الذي سيغير شكل جسد تواضعنا، ليكون علي صورة جسد مجده" (في 3: 21).. وكما قلت من قبل:
أن معجزة الصعود ليست تحديًا للجاذبية الأرضية:
بل هي معجزة الجسد الروحاني الممجد، الذي لا يدخل في نطاق الجاذبية الأرضية.
إنما يخضع للجاذبية الأرضية الجسد المادي. أما صعود الرب إلي السماء، فكان بجسد روحاني سماوي ممجد، لا علاقة له بجاذبية الأرض. إذن فلم يكن هناك أي تحد لجاذبية الأرض.. وهكذا نحن في القيامة العامة، حينما "نخطف جميعًا في السحب لملاقاة الرب في الهواء، ونكون كل حين مع الرب" (1 تس 4: 17)، سوف لا يكون اختطافنا في السحب تحديًا للجاذبية الأرضية.
لا تكون ملاقتنا للرب في الهواء تحديًا للجاذبية الأرضية. لأن الأجسام الروحانية السماوية التي نقوم بها، لا تدخل في نطاق هذه الجاذبية ولا سلطان للجاذبية الأرضية عليها. كم بالأكثر صعود السيد المسيح بعد قيامته.
وعبارة صعد إلي السماوات تعني سماء السموات.
سماء السموات هذه التي لم يصعد إليها أحد من قبل. لا إيليا ولا أخنوخ ولا أحد آخر كما قال الرب لنيقوديموس "ليس أحد صعد إلي السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء (يو 3: 13).
عبارة (سماء السموات) وردت في صلاة سليمان يوم تدشين الهيكل، حينما قال للرب "هوذا السموات وسماء السموات لا تسعك. فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت" (1مل 8: 27). وردت أيضًا من قبل ذلك في سفر المزامير، إذ يقول المرتل: "سبحوا الرب من السموات، سبحوه في الأعالي. سبحيه يا سماء السموات.. " (مز 148: 1، 4).
سماء السموات هي أعلي علو. أي لو اعتبرت كل السموات كأنها أرض، لكانت هذه سماءها.. هي الخاصة بعرش الله ومجده (مت 5: 34).
*********************
28- و جلس عن يمين أبيه
جلوس المسيح عن يمين الآب وارد في مواضع عديدة من العهد الجديد، مع نبوءة في المزامير:
· قيل في (مر 16: 19) "ثم أن الرب بعدما كلمهم، ارتفع إلي السماء وجلس عن يمين الله". وفي (عب 8: 1) "وأما رأس الكلام فهو أنه لنا رئيس كهنة مثل هذا، قد جلس في يمين عرش العظمة في السموات" وقيل عنه في نفس الرسالة أيضًا "بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرا أعظم من الملائكة" (عب 1: 3). وأيضا من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله" (عب 12: 2).
· وكان هذا أيضًا ضمن كلام الرب أمام مجمع السنهدريم. إذ قال لهم "من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا علي سحاب السماء" (مت 26: 64).
· وهذا ما رآه القديس اسطفانوس في وقت استشهاده. " إذ شخص إلي السماء -وهو ممتلئ من الروح القدس- فرأي مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين الله" ((أع 7: 55) "فقال: هأنذا أنظر السموات مفتوحة، وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله" (أع 7: 56).
وورد في سفر المزامير "قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موضعًا لقدميك" (مز 110: 1).
ما معني عبارة "جلس عن يمين أبيه"؟
أولًا نقول أن الله ليس فيه يمين ولا شمال. لأن الكائن المحدود هو الذي له يمين يحده من ناحية. وله شمال يحده من ناحية أخري. أما الله فغير محدود، لا نقول إن له يمينًا أو شمالًا. كذلك لا يوجد فراغ عن يمينه لكي يجلس فيه كائن أخر. وأيضًا لو جلس الابن عن يمينه بهذا المعني المكاني، فلا يمكن حينئذ أن ينطبق قوله "أنا في الآب. والآب في" (يو 14: 11)، بل يكون هناك مجرد خط تلامس كأي جالسين إلي جوار بعضهما البعض.. إذن ما معني كلمة يمين؟
كلمة يمين -في الاصطلاح الكتابي- تعني أحيانًا القوة أو البر أو الكرامة:
كما يقول المرتل في المزمور "يمين الرب صنعت قوة، يمين الرب رفعتني. يمين الرب صنعت قوة، فلن أموت بعد بل أحيا." (مز 118: 15- 17).
وأيضًا " يمينك يا رب تحطم العدو" (خر 15: 6) كما في تسبحة موسى، أي قوتك. وأيضًا " خلص بيمينك" (مز 60: 5) (مز 108: 6). في مباركة أبني يوسف (أفرايم ومنسي)، كان وضع اليد اليمني يعني كرامة أفضل ( تك 48: 17- 19). ونفس معني الكرامة يقصده المزمور " قامت الملكة عن يمينك أيها الملك" (مز 45: 9). وبالرمز يعني الكرامة المعطاة للقديسة العذراء. وبنفس المعني قول المزمور " الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكًا (مز 110: 5). نلاحظ في يوم الدينونة، جعل الرب الأبرار عن يمينه، والأشرار عن يساره. وهنا يرمز اليمين إلي البر وإلي الكرامة، ونحن بنفس المعني نسمي اللص الذي أخذ وعدًا بالفردوس وهو علي الصليب (اللص اليمين).. من هنا كان جميلًا أن الملاك الذي بشر زكريا الكاهن بميلاد يوحنا، ظهر له واقفًا عن يمين مذبح البخور (لو 1: 11).
إذن عبارة (عن يمين الله) تعني في قوته وبره وكرامته أو مجده. وعبارة (جلس) تعني استقر.
أي أن السيد المسيح عندما صعد إلي السماء، استقر في القوة والمجد والكرامة. كما استقر في البدء، بمعني أن هذا الذي اتهموه ظلمًا وحسدًا، قائلين عنه هذا المضل (مت 27: 62) كاسر السبت (يو 9: 16) الذي ببعلزبول يخرج الشياطين (مت 12: 42) الذي أهانوه قائلين "ألسنا نقول حسنًا أنك سامري وبك شيطان!" (يو 8: 48).. كل هذه الاتهامات والإهانات وأمثالها زالت بصعوده إلي السماء، بجلوسه عن يمين الآب.
عبارة "جلس عن يمين أبيه عن يمين أبيه" تعني انتهاء فترة إخلائه لذاته.
يقول الكتاب إنه أخلي ذاته، وأخذ شكل العبد، وصار في الهيئة كإنسان" (في 2: 7). وبهذا الإخلاء احتمل ضعف الطبيعة البشرية، فكان يجوع ويعطش ويتعب وينام. كل هذا انتهي بجلوسه في قوته عن يمين الآب. الضعف الذي به قبضوا عليه وأهانوه وجلده وصلبوه، وكل هذا انتهي..
وهكذا في مجيئه الثاني سيأتي في قوة ومجد. وهنا يقول قانون الإيمان.
***************
29- وأيضًا يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات
يأتي في مجد طبيعته الإلهية، وليس في مجد جديد يمنح له. بل في المجد الذي كان له قبل كون العالم (يو 17: 5). المجد الذي أخلي ذاته منه حينما تجسد كإنسان وولد في مزود. ثم عاد فأسترده حينما صعد إلي السماء وجلس عن يمين الآب. لذلك قال
".. ابن الإنسان متي جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القديسين" (لو 9: 26).
عجيبة جدًا عبارة "يأتي في مجد الآب". إنها مكررة أيضًا في قوله "إن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته. وحينئذ يجازي كل واحد بحسب عمله" (مت 16: 27). يقول (في مجد أبيه) لأن مجد أبيه هو مجده، ومجده هو مجد أبيه. لأنهما واحد في مجد اللاهوت.
وواضح هنا أن مجيئه الثاني هو مجيء للدينونة.
"يأتي ليجازي كل واحد بحسب عمله". وهذا ما يقوله أيضًا في (مت 25): يقول "ومتي جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس علي كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب. فيميز بعضهم من بعض. كما يميز الراعي الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره.." (مت 25: 31- 46).. وتبدأ الدينونة. ومجيئه للدينونة واضح في أخر إصحاح من سفر الرؤيا، إذ يقول: " ها أنا أتي سريعًا وأجرتي معي، لأجازي كل واحد كما يكون عمله" (رؤ 22: 12).
ومجيئه هذا للدينونة سيكون في انقضاء العالم.
كما يقول في مثل الزارع عن الحصاد: "الحصاد هو انقضاء العالم، والحصادون هم الملائكة. فكما يجمع الزوان ويحرق بالنار هكذا يكون في انقضاء العالم. يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون النار.. حينئذ يضئ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت 13: 39- 43)
وفي مجيئه للدينونة، يكون القيامة العامة:
"يسمع جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلي قيامة الحياة، والذين فعلوا السيئات إلي قيامة الدينونة" (يو 5: 28، 29).
إذن مجيء المسيح الثاني، تصحبه القيامة العامة والدينونة، وانقضاء العالم.
وفي الدينونة يدين الأحياء و الأموات. أي الذين كانوا أحياء علي الأرض أثناء مجيئه. والذين كانوا أمواتًا فقاموا من الموت، سواء الذين فعلوا الصالحات أو الذين عملوا السيئات. وعن الدينونة يقول الرسول أيضًا "لأنه لابد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي المسيح، لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع: خيرًا كان أم شرًا" (2كو 5: 10). وبالدينونة يدخل المسيح في ملكوته الأبدي. وهنا يقول قانون الإيمان:
*******************30- الذي ليس لمُلكه انقضاء
وفي ذلك تقول نبوءة دانيال النبي "سلطانه سلطان أبدى ما لن يزول. وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 14). وعن هذا الملكوت الذي ليس له انقضاء، قال الملاك جبرائيل حينما بشر القديسة العذراء بميلاده "يملك علي بيت يعقوب إلي الأبد. ولا يكون لملكه نهاية" (لو 1: 33).
ملكوته روحي، وليس ملكوتًا أرضيًا محددًا بزمن!!
إنه الملكوت الذي اشتهاه اللص اليمين قائلًا "اذكرني يا رب متي جئت في ملكوتك" (لو 23: 42). ولأن ذلك الملكوت كان بعيدًا لابد أن تمضي أجيال حتى يجئ: لذلك قال له الرب "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43).
لأن الفردوس هو عربون الملكوت. الذي يدخل الفردوس سيدخل الملكوت.
بهذا ينتهي ما يخص الابن في قانون الإيمان. وبعده الجزء الخاص بالروح القدس