القديس إيلاريون الكبير
(أنطونيوس غزة والشام)
كثيرون يتحدثون عن القديس إيلاريون أو هيلاريون Hilarion بكونه تلميذ القديس أنبا أنطونيوس الذي نجح في تأسيس الحركة الرهبانية في كل فلسطين. أما القديس جيروم الذي سجل لنا سيرته فقال: "إن كثيرين عظموا فيه نسكياته وغيرهم دهشوا أمام العجائب التي أجراها الله على يديه، وآخرون بهتوا من الحكمة التي تزين بها، وآخرون أُعجبوا بسائر فضائله، أما أنا فلا أعجب من شئ من كل هذا كما أعجب منه كيف كان يحتقر المجد الزمني رغم ما كان يحيط به من التمجيد والإكرام في كل وقت وفي كل موضع. كان الأساقفة والكهنة والرهبان والحكام والقضاة والولاة وأكابر الشعب يذهبون إليه، يطلبون إرشاده وبركة ودعاء، أما هو فكان يعمل ما بوسعه ليختفي ويتواري عن الأبصار. ولهذا هرب من بلاد المشرق إلى بلاد المغرب، مختبئًا تارة في مكان، وتارة في غيره، حتى في الأماكن الجرداء الصخرية التي لا يأوي إليها إنسان".
نشأته:
"إيلاريون" معناها "بهيج".
ولد في قرية طاباتا جنوب غزة حوالي عام 292 م.، من والدين وثنيين، أرسلاه إلى الإسكندرية لينهل من المعرفة الفلسفية والعملية، فإذا به يلتقي بعلماء أغلبهم من المسيحيين، فقاده روح الله إلى الإيمان بالسيد المسيح واعتمد في الخامسة عشرة من عمره تقريبًا.
كان إيلاريون محبًا للصلاة والعبادة في شئ من النسك، وإذ سمع عن القديس أنبا أنطونيوس وضع في قلبه أن يتبرك منه ويسمع تعاليمه. وبالفعل التقى به فرآه كملاك الله، وتتلمذ على يديه. لكن كانت الوفود تتقاطر على القديس أنبا أنطونيوس، فاستأذنه إيلاريون أن يترك مصر ويذهب إلى فلسطين ليعيش في جو من الخلوة بعيدًا عن الأنظار.
إيلاريون الناسك:
وجد إيلاريون أبويه قد تنيحا وتركا له ميراثًا ضخمًا، فأعطى منه جزءًا لاخوته ووزع الباقي على الفقراء، وذهب إلى قفر في نواحي مايوما Majuma وأقام هناك وهو بعد شاب. كان يلبس قميصًا من المسوح فوقه ثوب خشن، والإسكيم الجلدي الذي أعطاه إياه أنبا أنطونيوس، وكان يأكل مرة واحدة كل يوم بعد الغروب. يقوم بفلاحة الأرض وعمل السلال كما تعلم في مصر حتى لا يحتاج أن يعوله أحد، بنى قلاية له كانت لأقرب إلى المقبرة منه إلى بيت، كانت قائمة في أيام القديس جيروم.
داهمه اللصوص يومًا حاملين أسلحتهم، فوجدوه راكعًا يصلي، لا يعطهم اهتمامًا. سألوه: "ألا تخاف بطشنا؟"، أجابهم: "من لا يملك شيئًا لا يخاف بأسًا. قالوا: "نقتلك"، أجاب: "إني لا أخاف الموت فإني مستعد له.." وإذ تلامسوا مع إيمانه الحق امتلأوا خوفًا وتابوا على يديه.
هاجمه عدو الخير تارة على شكل نساء ليفسد طهارة فكره وأخرى على شكل وحوش مفترسة ليرعبه لكنه كان يتسلح بالصلاة ورسم علامة الصليب ليحيا في سلام الله.
عجائب الله على يديه:
في مدينة الفتروبوليس (بيت جيران بجوار حبرون) وُجدت امرأة شريفة عاقر، جاءت إليه تسأله الصلاة من أجلها ليهبها الله ابنًا، وإذ أخذ يجري تاركًا إياها لحقته وهي تبكي بدموع مرة، فتحنن عليها وباركها، قائلًا لها: ثقٍ يا ابنتي إن الله قد استجاب طلبتك. وفي السنة التالية جاءته تحمل رضيعها، فذاع هذا الخبر في تلك الأرض.
تكررت أعمال الله الفائقة معه، فتحولت الجماهير إليه تطلب صلواته، بل وعلى يديه آمن كثيرون من الوثنيين، وبدأ بعض المؤمنين التتلمذ على يديه.
أب الرهبان:
تكاثر عدد الرهبان حوله فبنى لهم أديرة، وكان أبًا للجميع يفتقد كل دير مرة في السنة يرشد الرهبان ويثبتهم، فتزايدت الأعباء عليه، خاصة وأن الجماهير ازدحمت حوله.
شعر القديس إيلاريون بالروح بنياحة أبيه أنبا أنطونيوس، وكان عمره في ذلك الوقت حوالي 65 عامًا.
تألم القديس إيلاريون بسبب ازدحام الناس حوله، إذ قال: "لقد عدت إلى العالم، ونلت مكافأتي في هذه الحياة. كل فلسطين نحوي، وصار لي حقل ومقتنيات تحت ستار احتياجات الأخوة!"، لذلك قرر أن يترك الموضع، وإذ حاول الكل منعه صام سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب فتركوه ليأخذ بعض تلاميذه وسار معهم في القفر وهو صائم حتى الغروب. جاء إلى مصر، وذهب إلى جبل أنبا أنطونيوس، وسأل عن موضع دفنه، لكن يبدو أنه لم يستطع معرفته إذ كان الأمر مشددًا من قبل الأنبا أنطونيوس ألا يعرف أحد موضعه، حتى لا يسرقه غني ويبني عليه كنيسة.
عاد الأنبا إيلاريون إلى أفروديتبوليس (أتفاح Atfiah)، وعاش في البرية هناك في سكون وهدوء، لكن اشتم الكثيرون فيه رائحة المسيح الذكية، وجاءت الجموع تطلب صلواته وإرشاداته. عندئذ عزم أن يهرب إلى موضع لا يعرفون فيه لغته، فركب البحر مع تلميذ له، وانطلق إلى جزيرة صقلية. قدم إنجيله الذي كان قد نسخه لربان المركب إذ لم يكن معه الأجرة، لكن الربان تركه له لما رأى فقره وقداسة حياته.
في صقلية:
عاش هناك في غابة يجمع حطبًا مع تلميذه ليبيعه ويعيشان من الثمن، لكن "الحياة المقدسة في الرب" لا يمكن أن تختفي، فحمل الناس مرضاهم وجاءوا إليه يطلبون صلواته، بل وجاء الأساقفة والكهنة يسألونه الصلاة عنهم، فخاف على نفسه وركب سفينة وانطلق إلى قبرص مع تلميذه إيزيكوس.
هناك ذاع صيته وتجمع الناس حوله، وكان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، فاضطر أن يبحث عن مكان هادئ، وإذ أرشده الله إلى صخرة كبيرة يصعب الصعود إليها، صعد وانفرد هناك فوجد تعزية كبرى.
جاءه صاحب الأرض يحمل إليه ابنه المقعد فشفاه باسم السيد المسيح، فجاءت إليه الجماهير، وإذ كان يصعب صعودهم بالمرضى كانوا يقدمون لهم زيتًا قد صلى عليه.
بقى حوالي خمس سنوات على هذه الصخرة حتى بلغ الثمانين، وإذ اعترته حمى شديدة أخذ يصلي ويقرع صدره حتى أسلم روحه الطاهرة في يدي الرب، في 24 بابة.
***************
نياحة انبا ايلاريون الكبير الراهب سنة 188 للشهداء (24 بابة)
في مثل هذا اليوم من سنة 472 ميلادية تنيح الأب البار المجاهد القديس إيلاريون الراهب المتوحد. كان من أهل غزة. ابنا لأبوين وثنيين وقد أدباه بالعلوم اليونانية، ولما بلغ فيها وفاق أقرانه اشتاق إلى إتقانها، ولم يكن هناك من يوصله إلى غايته. فقصد مدينة الإسكندرية ودخل مدرستها، فحصل منها علي علوم كثيرة، وحركته الغيرة الإلهية إن يدرس علوم المسيحية أيضًا، فطلبها وقراها. وكان الاب ألكسندروس يشرح له ما عسر عليه فهمه، فلم يلبث إن آمن بالسيد المسيح له المجد فعمده الآب البطريرك ونال النعمة الإلهية، وأقام عنده زمانا قليلا، ثم قصد القديس العظيم أنطونيوس، فلما رآه دهش من عظيم هيبته، وحسن طلعته المشرقة بنعمة الروح القدس. فتخشع قلبه ومال إلى التمسك بسيرة الرهبانية فخلع الثياب العالمية وارتدي ثوب الرهبنة وابتدأ يزاول أعمالها بحرارة زائدة، مقتديا في ذلك بالقديس أنطونيوس معلمه، وبعد زمن يسير بلغه خبر موت والديه فعاد إلى بلده واخذ ما تركاه ووزعه علي الفقراء والمحتاجين. ثم دخل أحد أديرة الشام، وهناك سلك في كل باب من النسك مسلكا عظيما. وكان يصوم الأسبوع كاملًا، ويتغذى بالبقول والحشائش. فاستنار عقله وأعطاه الرب نعمة النبوة وعمل الآيات. وبعد مدة من الزمان ترهب القديس أبيفانيوس في هذا الدير، فسلمه رئيسه للقديس إيلاريون. فأدبه بآداب الرهبنة وعلمه علوم الكنيسة، وتنبأ عنه انه سيصير أسقفا علي قبرص. وبلغ هذا الآب من العمر ثمانين سنة منها عشر سنين في منزل والده. وسبع سنين في مدينة الإسكندرية. وثلاث وستون سنة في العبادة. ثم تنيح بشيخوخة صالحة مرضية لله، وقد مدحه القديس يوحنا ذهبي الفم في بعض مقالاته وذكره القديس باسيليوس في بعض نسكياته. صلاته تكون معنا آمين.