يوحنا 3 - تفسير إنجيل يوحنا
نيقوديموس والميلاد الجديد
المعلم واهب الميلاد الجديد!الجزء(4)للقمص تادرس يعقوب ملطي
. الاستنارة والإيمان
"الذي يؤمن به لا يدان،
والذي لا يؤمن قد دين،
لأنه لم يؤمن باسم ابن اللَّه الوحيد". [18]
الإيمان بالسيد المسيح ليس عقيدة نظرية مجردة، بل اتحاد عملي معه وشركة، فمن يختفي فيه ويثبت حتمًا يُعتق من دائرة الدينونة. "إذا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" (رو 8: 1). وقد أكد السيد مرة أخري: "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة" (يو 5: 24).
* لعللك تقول: إن كان المسيح ما جاء بهذا الغرض أن يدين العالم، فكيف حكم على من لا يؤمن به مقدمًا إن كان وقت المحاكمة لم يأتِ بعد؟ نجيبك: لعل المسيح يتقدم فيذيع ما سيكون مستقبلًا. فكما أن القاتل وإن كان لا يُحكم عليه بطبيعة القاضي، فإنه يُحكم عليه بطبيعة فعله، كذلك من لا يكون مؤمنًا يُحكم عليه بطبيعة إنكاره وكفره. فقد مات آدم في اليوم الذي أكل فيه من الشجرة، لأن القضية قضت عليه هذا الحكم: "وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت" (تك 2: 17). على أن آدم عاش فكيف مات؟ نقول: إنه مات بالقضية الحاكمة عليه وبطبيعة ممارسته للمعصية، لأن من قد جعل ذاته مُطالبًا بالعقوبة فهو تحت العقوبة وإن لم يُعاقب بالفعل سريعًا لكنه قد عوقب بالقضية.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وهذه هي الدينونة:
أن النور قد جاء إلى العالم،
وأحب الناس الظلمةأكثر من النور،
لأن أعمالهم كانت شريرة". [19]
هنا يشير إلى اللصوص وقطاع الطرق، غالبًا ما يمارسوا شرهم في الظلام بالليل. فقد وهب الله الإنسان الشمس لكي تنير، فيعمل الإنسان نهارًا ويستريح ليلًا. أما الذي يختار أن ينام نهارًا لكي يمارس شره ليلًا، فإنه مستحق للعقوبة ككاسرٍ لناموس إلهي.
إنجيل المسيح نور، إذ جاء إلى العالم، أشرق عليه ليعطي البشرية بهجة للعمل لحساب ملكوت الله. وفي نفس الوقت أوجب القضاء العادل على السالكين في الظلمة، مبغضي النور الحقيقي. بمعنى آخر تجسد الكلمة، وحلول النور الحقيقي بيننا فرز محبي النور من عاشقي الظلمة، وبدأ روح القضاء يعمل. لذلك قيل: "رئيس هذا العالم قد دين" (يو16: 11)، " الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجا" (يو 12: 31).
"لأن أعمالهم شريرة"، إذ يصممون علي السلوك في الظلمة والالتصاق بإبليس ورفض "النور" مخلص العالم.
* كأن المسيح يقول: لو كنت جئت إلى العالم لأعاقب، مطالبًا بحجج عن الأعمال التي عملها الناس، لكان لهم أن يقولوا إننا لهذا السبب ابتعدنا عنه هاربين. لكنني جئت لأريحهم من الظلام، ولهذا السبب يُعاقبون، لأنهم لم يريدوا أن يتركوا الظلام ويأتوا إلى النور، هذا يبعدهم عن تقديم أي عذر.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور،
ولا يأتي إلى النور،
لئلا تُوبخ أعماله". [20]
يحب الأشرار الظلمة، لأنها أفضل لممارسة شرهم، ويبغضون النور لأنه يفضحهم. الإنجيل مرعب بالنسبة للعالم الشرير، الذي يتطلع إليه كعدوٍ يفضحه ويبكته.من يمارس العادات السيئة لا يطيق النور فيرتمي في الظلمة عوض أن يعترف بها ويطلب النور. "لأن الأمور الحادثة منهم سرًا ذكرها أيضًا قبيح، ولكن الكل إذا توبخ يظهر بالنور، لأن كل ما أظهر فهو نور. لذلك يقول استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح" (أف 5: 12-14).
يوجد اختلاف بين الذين يدركون اللوغوس (كلمةاللَّه)، فالبعض يدركه مصباحًا والآخرون يدركونه نورًا... العذارى الجاهلات كان لهن مصابيح منطفئة (مت 2:25)، "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور، لئلا توبخ أعماله" (يو 20:3). كذلك يوبخ يسوع الذين لا ينتفعون دائمًا من النور، الذي معهم إلى ساعة أو لحظة (يو 35:5) عند استخدامهم هذا السراج. يقول ربنا يسوع: "كان هو السراج الموقد المنير، وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة" (يو 35:5).
* اجروا يا اخوتي لئلا تمسك بكم الظلمة. تيقظوا لخلاصكم، تيقظوا ما دام يوجد وقت... تيقظوا مادام الوقت نهار، النهار يشرق، المسيح هو النهار. إنه مستعد أن يغفر الخطايا، ولكن للذين يعرفونها. إنه مستعد أن يعاقب المدافعين عن أنفسهم والمفتخرين بأنهم أبرار، الذين يظنون أنهم شيء وهم لا شيء[416].
القديس أغسطينوس
* إذ جاء المسيح، لا لينقض الناموس والأنبياء، بل ليكمله (مت 17:5)، أرانا ما هو الفصح الحقيقي، "العبور" الحقيقي من مصر. جاء في العبارة أنه يكون بداية الشهور، عندما يحل الشهر الذي حدث فيه العبور. كما أنه أيضا بداية ميلاد آخر. إذ تبدأ طريقة حياة جديدة بالنسبة لمن يترك خلفه الظلام، ويأتي إلى النور (يو 3: 20-21)، متكلمين بأسلوب يليق بالسرّ المقدس، من خلال الماء المُعطى لأولئك الذين لهم رجاء في المسيح، المسمى "بغسل التجديد" (تي 5:3) فماذا يعني الميلاد الثاني، إن لم يكن بدءً لميلادٍ آخر؟[417]
العلامة أوريجينوس
"وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور،
لكي تظهر أعماله أنها باللَّه معمولة". [21]
جاء "من يفعل الحق" مقابل من يعمل السيئات و"أعمالهم شريرة". الحق بصيغة المفرد لأنه حياة واحدة في المسيح، التصاق بشخصه، أما السيئات والأعمال فبصيغة الجمع حيث الدخول في سلسلة لا تنقطع من أعمال الظلمة. والعجيب أن من يفعل الحق، أي يلتصق بالمسيح، يقبل إلى النور الذي هو شخص المسيح، وكأن كل التصاق عملي بالرب يلهب القلب بالأكثر مشتاقًا إلى دخول عملي واتحاد أقوى مع السيد. فيبقى المؤمن منجذبًا يومًا فيومًا لعله يبلغ إلى "قياس قامة ملء المسيح" (أف 4: 13).
من يمارس الحق يُُقبل إلى نور لكي تظهر أن أعماله تتم في حضرة الرب وبعونه ونعمته. هذه هي خاتمة حديث السيد المسيح مع نيقوديموس، إنه يليق بالمؤمن إذ يتمتع بالبنوة لله أن ينعم بإمكانيات الله عامة به وفيه.
نور الحق الذي يفرح قلب المؤمن هو بعينه يبغضه الشرير ولا يطيقه، بل يحسبه كعدوٍ مقاومٍ له.
أما قوله: " بالله معمولة"، فيؤكد السيد المسيح أن برّ المؤمن يقوم على عمل الله فيه، "الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" ( في 2: 13)
* إنك تُدعى إنسانًا فهذا من عمل اللَّه، وأن تُدعى خاطئًا فهو من عمل الإنسان ذاته.
أمحِ ما تفعله أنت لكي يخَّلص اللَّه ما قد فعله.
يليق بك أن تكره عملك الذاتي فيك، وتحب عمل اللَّه فيك.
عندما لا تسرك أعمالك الذاتية، في هذا تبدأ أعمال الله الصالحة، إذ تجد خطأ في أعمالك الشريرة.
الاعتراف بالأعمال الشريرة بداية الأعمال الصالحة.
إنك تعمل الحق وتأتي إلى النور. كيف تعمل الحق؟ إنك لا تدلل نفسك ولا تهادنها ولا تتملقها، ولا تقول: "إني بار"، بينما أنت غير بار؛ هكذا تبدأ تفعل الحق.
إنك تأتي إلى النور لكي ما تعلن أعمالك أنها باللَّه معمولة، لأن خطيتك، الأمر ذاته الذي تكرهه، لا يمكنك أن تبغضه ما لم يشرق اللَّه فيك ويظهره الحق لك.
أما من يحب خطاياه حتى بعد نصحه، فهو يبغض النور الذي ينصحه ويهرب منه، فالأعمال التي يحبها لا تظهر له أنها شريرة. من يفعل الحق يتهم أعماله الشريرة فيه ولا يبرر نفسه، ولا يصفح عن نفسه حتى يغفر له اللَّه.
فمن يرغب في أن يغفر له اللَّه هو نفسه يعرف خطاياه ويأتي إلى النور، حيث يشكر على إظهار ما يلزمه أن يبغضه في نفسه. إنه يقول للَّه: "ردّ وجهك عن خطاياي". ولكن بأي وجه يقول هذا ما لم يضف "لأني أنا عارف بآثامي، وخطيتي أمامي في كل حين" (مز51: 11)؟
لتكن آثامك أمامك يا من لا تريدها أن تكون أمام اللَّه.
لكن إن وضعت خطاياك خلفك، فسيدفعها اللَّه ليجعلها أمام عينيك، يحدث هذا في الوقت الذي لا يعود يوجد فيه ثمر للتوبة[418].
القديس أغسطينوس
* قال المسيح هذه الأقوال في وصف الذين اختاروا أن يظلوا في رذيلتهم كل حين، لأن المسيح لهذا الغرض جاء ليصفح عن الخطايا السابقة، ويصون من الجرائم القادمة، وإذ قد يوجد أناس مسترخون منحلون مبتعدون عن الفضيلة حتى أنهم يريدون أن يثبتوا إلى أنفاسهم الأخيرة في شرهم ولا يبتعدوا عنه في وقت من أوقاتهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
4. موقف المعمدان من معمودية المسيح
"وبعد هذا جاء يسوع وتلاميذه إلى أرض اليهودية،
ومكث معهم هناك وكان يعمد". [22]
ترك السيد المسيح أورشليم "في أرض اليهودية" حيث تم فيها الحوار مع نيقوديموس، وانطلق إلى مناطق أخرى في اليهودية. كثيرًا ما يميز الكتاب بين أورشليم واليهودية (أع ١: ٨؛ ١٠: ٣٠؛ ١ مك ٣: ٣٤؛ ٢ مك ١: ١، ١٠).
لم يكن السيد المسيح بنفسه يعمد بل تلاميذه (يو ٤: ٢) بسلطانه وأمره، لذلك حُسب كأنه هو الذي يعمد.
* صعد المسيح إلى المدينة في الأعياد حتى يقدم تعاليمه في وسطهم وللانتفاع من آياته، وبعد انتهاء الأعياد كان يأتي في أكثر الأوقات إلى الأردن، إذ كان أناس كثيرون يبادرون إلى هناك، كان يتوجه دائمًا إلى المواضع التي تضم جموع كثيرة، لا لإظهار ذاته، ولا رغبة في التكريم، لكن لكي يقدم للكثيرين المنفعة الكامنة فيه. غير أن يوحنا البشير إذ أمعن في كلامه قال: "مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه" (يو 4: 2).
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إذ اعتمد صار يعمد (خلال تلاميذه)، ليس بالمعمودية التي اعتمد بها... اعتمد الرب بواسطة خادم، فصار يعمد مظهرًا طريق التواضع، وقائدًا إلى معمودية الرب التي هي معموديته، بتقديم مثالٍ للتواضع حيث لم يرفض المعمودية من خادمٍ[419].
القديس أغسطينوس
"وكان يوحنا أيضًا يعمد في عين نون بقرب ساليم،
لأنه كان هناك مياه كثيرة،
وكانوا يأتون ويعتمدون". [23]
يبدأ السيد المسيح يعمد بواسطة تلاميذه قبل إلقاء يوحنا المعمدان في السجن، حتى يسحب تلاميذ يوحنا إليه، فلا يتشتتوا بعد استشهاده. ومن جهة أخرى لكي لا تتوقف عجلة العمل باستشهاد يوحنا. وقد بقي يوحنا يكرز ويعمل في توافق تام وتهيئة جادة لملكوت المسيح حتى النفس الأخير.
عين نون: تبعد حوالي ثمانية أميال جنوبScythopolis ما بين ساليم والأردن.
واضح أن معمودية يوحنا كانت دائمًا بالتغطيس، إذ قيل: "لأنه كان هناك مياه كثيرة، وكانوا يأتون ويعتمدون" [٢٣].
* لم يكن يسوع يعمد بل تلاميذه، لماذا؟ قال المعمدان: "سيعمد بالروح القدس ونار" (مت 3: 11؛ لو 3: 16). الآن لم يكن بعد قد أعطى الروح، ولهذا بسبب صالح لم يعمد. أما تلاميذه ففعلوا هذا، إذ رغبوا في أن يجلبوا كثيرين إلى التعاليم المخلصة... لماذا إذن لم يكف يوحنا عن العماد حتى يترك تلاميذ المسيح يظهروا في أكثر مهابة؟ حتى لا يثير تلاميذه إلى منافسة أقوى مما يثير الخصام... بجانب هذا وهو يعمد لم يكف عن أن يحثهم بالأكثر على عظمة أعمال يسوع ومهابتها...
هل كانت معمودية التلاميذ أفضل من معمودية يوحنا؟ لا ليس في شيء ما، كلاهما كانا دون موهبة الروح، كانتا متشابهتين، لهما ذات الهدف، وهي أن تقود الذين يعتمدون إلى المسيح[420].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"لأنه لم يكن يوحنا قدألقي بعد في السجن". [24]
"وحدثت مباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير". [25]
* كان تلاميذ يوحنا دائمًا يحسدون المسيح نفسه وتلاميذه، إذ لاحظوا أنهم يعمدون.
بدأوا يتحاورون مع الذين اعتمدوا كما لو أن عمادهم أفضل من معمودية تلاميذ المسيح. أخذوا واحدًا من المعمدين وسعوا إلى أن يقنعوه بهذا فلم يستطيعوا. اسمعوا كيف جعلنا الإنجيلي نفهم أنهم بدأوا أولًا بمهاجمة (يسوع)... لم يقل أن يهوديًا سألهم بل هم أثاروا التساؤل، صدر التساؤل من تلاميذ يوحنا إلى يهودي[421].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كان يوحنا يعمد، وكان المسيح يعمد. كان تلاميذ يوحنا يتحركون، يجرون نحو المسيح... الذين جاءوا إلى يوحنا أسلمهم إلى المسيح ليعتمدوا، وأما الذين جاءوا إلى المسيح فلم يُرسلوا إلى يوحنا.
انزعج تلاميذه يوحنا، وبدأوا يتباحثون مع اليهود كما يحدث عادة.
لتفهم أن اليهود أعلنوا بأن المسيح أعظم، وأن الشعب يلزم أن يتجه إلى معموديته. لقد فهم أيضًا تلاميذ يوحنا ذلك، ومع هذا فقد دافعوا عن معمودية يوحنا. جاءوا إلى يوحنا نفسه لكي يحل السؤال.
لتفهموا أيها الأحباء. هنا أعطي لنا أن نرى استخدام التواضع، وعندما يخطئ الشعب في موضوع المباحثة يظهر إن كان يوحنا يطلب مجد نفسه...
لقد عرف حسنًا أمام من يتواضع، أمام ذاك الذي يعرف أنه جاء بعده بالميلاد، وقد اعترف باختياره بأسبقيته معترفًا به. لقد فهم أن خلاصه هو في المسيح. لقد سبق فقال قبلًا: "ونحن جميعًا من ملئه أخذنا". بهذا يعترف أنه هو اللَّه. إذ كيف يمكن لكل البشر أن يقبلوا ملئه لو لم يكن هو اللَّه...؟
إنه الينبوع، وهم الشاربون منه. الذين يشربون من ينبوع يعطشون ويشربون، أما الينبوع فلن يعطش قط، ولا يحتاج إلى ذاته، بل يحتاج البشر إلى الينبوع. بالمعدة العطشى والشفاه الجافة يجرون إلى الينبوع ليرتوون، والينبوع يفيض لكي ينعش؛ هكذا يفعل الرب يسوع[422].
القديس أغسطينوس
"فجاءوا إلى يوحنا وقالوا له:
يا معلم، هوذا الذي كان معك في عبر الأردن،
الذي أنت قد شهدت له هو يعمد،
والجميع يأتون إليه". [26]
تقدم بعض تلاميذ يوحنا الذين في محبتهم لمعلمهم وغيرتهم إليه أساءوا إليه إذ كرموه عندما تحدثوا بكل احترام "يا معلمRabbi" بينما لم يذكروا حتى اسم يسوع المسيح، بل في استخفاف قالوا: "الذي كان معك". حسبوا أن ما يفعله يسوع فيه جحود لذاك الذي عمده وشهد له. ولم يدركوا أنه لم يكن محتاجًا إلى شهادة يوحنا، ولا إلى تكريم بشر، فإن الآب نفسه شهد له، والروح القدس ظهر مستقرًا عليه. ظنوا أن ممارسة تلاميذ المسيح للمعمودية إهانة لمعمودية يوحنا، كما لو وجدت منافسة بين الفريقين.
* "هوذا الذي كان معك في عبر الأردن، الذي أنت قد شهدت" بمعنى "ذاك الذي كان في رتبة تلميذ، الذي لم يكن أكثر مما كنا نحن عليه، هذا الإنسان عزل نفسه ويعمد". لقد ظنوا أنهم يجعلونه حاسدًا، ليس فقط بهذا، وإنما أيضا بتأكيد أن شهرتهم بدأت تنقص، إذ يقولون: "والجميع يأتون إليه"[26]. من هذا واضح أنهم لم يكونوا أفضل من اليهود الذين حاورهم؛ لكنهم نطقوا بهذا الكلمات لأنهم كانوا ناقصين في نزعاتهم، ولم يكونوا قد تخلصوا من الشعور بالمنافسة[423].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"أجاب يوحنا وقال:
لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا،
إن لم يكن قد أُعطي من السماء". [27]
لم يرتبك يوحنا ولا اضطرب، بل بروح الفرح والتهليل أعلن أن ما يمارسه يسوع المسيح إنما هو من السماء. لقد وجد الفرصة سانحة لتأكيد وتوضيح شهادته للسيد المسيح مرة أخرى.
اسمع ما قاله يوحنا المعمدان لتلاميذه، لأنه لم يوبخهم توبيخًا شديدًا خشية أن ينفصلوا عنه ويعملوا عملًا آخر رديئًا، بل قال لهم: "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطى من السماء"... أراد أن يضربهم إلى حين بالخوف والرعب، وأن يظهر لهم أنهم إنما يحاربون الله وحده، عندما يحاربون المسيح. هنا أسس هذه الحقيقة بطريقة خفية، هذه التي أكدها غمالائيل:" إن كان من الله فلا تقدرون أن تنقضوه، لئلا توجدوا محاربين الله أيضًا" (أع 5: 39). فإن القول: "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أعطى من السماء" ليست إلا أعلانًا عن أنهم يحاولون المستحيلات، ويوجدون محاربين الله.. لاحظوا أيضًا كيف أنهم إذ قالوا: "قد شهدت له"‘[26] انقلب ضدهم إذ ظنوا أنهم يحطون من قدر المسيح، وأبكمهم مظهرًا أن مجد المسيح لم يقم على شهادته. إذ يقول: "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئا إن لم يكن قد أعطى من السماء"[27]. "إن كنتم تتمسكون بشهادتي وتحسبونها صادقة، فلتعلموا بهذه الشهادة. يلزمكم ألا تفضلوني عنه، بل تفضلونه عني. لأنه بماذا شهدت له؟ إني أدعوكم أنتم شهودا لذلك[28][424].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يرى القديس أغسطينوس أن يوحنا المعمدان يتحدث عن نفسه أنه كإنسانٍ ينال من السماء، وأنه ليس المسيح. [كأنه يقول: لماذا تخدعون أنفسكم؟ انظروا كيف تضعون هذا السؤال أمامي، ماذا تقولون لي...؟ لأني قد نلت شيئًا من السماء لكي أصير شيئًا، أتريدون مني أن أفرغ نفسي منه بأن أنطق بما هو ضد الحق...؟ إني المذيع، وهو الديّان[425].]
"أنتم أنفسكم تشهدون ليإني قلت:
لست أنا المسيح،
بلإني مرسل أمامه". [28]
كأن يوحنا المعمدان يقول هنا: "أنا خادم أقوال مرسلي". جاء تعبير "مرسل أمامه" في اليونانية يحمل استمرارية العمل والثمر لعمله.
* إن تمسكتم بشهادتي... فإنه لم ينقص بشهادتي له، بل بالأحرى أنا ازداد بها، هذا بجانب أن الشهادة ليس من عندي، بل هي شهادة الله. إن كنت أحسب أهل ثقة عندكم، فقد قلت بين ما قلت: "إني مرسل أمامه"[28]. ألا ترون كيف يظهر قليلًا أن هذا الصوت إلهي؟ فإن ما قاله هو هكذا: " أنا عبد، وأنطق بكلمات من أرسلني، ليس تملقًا للمسيح لأجل نفع بشري، بل خدمة لأبيه الذي أرسلني. لست أقدم الشهادة كعطية من عندي، بل أنطق بما أرسلت لأتكلم به. فلا تظنوا بهذا إنني عظيم، بل هو عظيم، هو رب كل الأشياء"[426].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"من له العروس فهو العريس،
وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه،
فيفرح فرحًا منأجل صوت العريس.
إذًا فرحي هذا قد كمل". [29]
صديق العريس عند اليهود يُدعى showshabiyn وعند اليونانيين paranymphos. كان عادة يوجد صديق للعريس وآخر للعروس. غالبًا ما يكون الأخ هو صديق أخيه العريس.
أحيانًا لا يوجد شخص معين كصديقٍ للعريس أو للعروس، أما في حفلات الزواج الخاصة بالملوك والأمراء وأصحاب المراكز الكبرى كان لابد من وجود صديق للعريس. يرى اليهود أن هذه العادة أسسها الله، إذ كان هو نفسه صديق العريس shashobin لآدم في زواجه. لكن جاء في Bereshith Rabba كان آدم له صديقان في عرسه هما ميخائيل وجبرائيل.
كان دور صديق العريس هامًا لا يمكن الاستغناء عنه، وكان يُعفى من بعض الالتزامات الدينية ليتفرغ لمساعدة المتزوجين حديثًا خاصة في السبعة أيام الأولى للزواج. أما عمله قبل الزواج فهو أن يهتم بالمخطوبة ويحرسها ويقدم شهادة للعريس عنها؛ كما يقوم بحلقة الصلة بينهما، فيحمل رسائل كل منهما للآخر، حيث لم يكن يسمح للمخطوبة أن تفارق البيت.
أما بعد الزواج فيقوم بتعزيز شخصية العروس، ينام في شقة مجاورة لمسكن العروسين ليمنع حدوث أية أذية للعروس. وألا يسمح لأحد الطرفين أن يخدع الآخر، كما كان من واجبه فحص طهارة العروس، فمتى تأكد من ذلك تهلل وفرح. ولعل هذا ما قصده القديس يوحنا بقوله: "إذا فرحي هذا قد كمل" [٢٩]. يقوم بتقديم الهدايا القادمة للعروسين، وأخيرًا يساهم في الاحتفال المبهج للزواج لمدة سبعة أيام.
بعد هذا الاحتفال الممتد لمدة أسبوع يصير صديق العريس أشبه بالمدافع عن العروس (٢ كو ١١: ٢)، ويقوم بحل أية مشاكل زوجية تقوم بينهما ومصالحتهما.
يحتفظ صديق العريس بعقد الزواج، فإذا وجد العروس غير أمينة يقوم بتمزيقه، فيُحسب الزواج قد انحل. أما إن تركها العريس وطلقها فيقوم الصديق بدور الأخ الشرعي (أخ زوجها)[427].
يعلن القديس يوحنا المعمدان فرحه بمجيء العريس الإلهي، وهو في هذا يعَّبر عن مشاعر رجال الله في العهد القديم نحو العرس. يعبر القديس غريغوريوس أسقف نيصص في تفسيره نشيد الأناشيد عن هذه الحقيقة، فيقول:
[إن الذين يخدمون الخطيبة البكر ويلازمونها هم البطاركة والأنبياء ومعلمي الناموس. إنهم يقدمون للعروس هدايا العرس، كما كانت. (من أمثلة هذه الهدايا: غفران المعاصي، نسيان الأعمال الشريرة، غسل الخطايا، تغيير الطبيعة، أي تصير الطبيعة الفاسدة طاهرة، التمتع بالفردوس، وكرامة ملكوت اللّه، والفرح اللانهائي.)
عندما تتقبل العروس كل هذه الهدايا من النبلاء الحاملين لها والذين يقدمونها خلال تعاليمهم النبوية حينئذ تعترف باشتياقاتها، ثم تسرع لتتمتع بامتياز جمال الواحد طالما اشتاقت إليه.
يصغي خدام البتول ومرافقوها إليها ويحثونها بالأكثر لاشتياق متزايد. ثم يصل العريس قائدًا جوقة من المغنين فيما بينهم أصدقاؤه والذين يترجون خيره. هؤلاء يمثلون الأرواح الخادمة التي تنقذ الإنسان أو الأنبياء الأطهار.
عند سماع صوت العريس يفرحون (يو 29:3)، إذ يتحقق الاتحاد الطاهر وتصير النفس الملتصقة بالرب روحًا واحدًا معه كما يقول الرسول (1 كو 17:6)[428].]
* يقف هؤلاء الذين يتوقعون رجوع السيد المسيح باشتياق وانتباه على أبواب السماء عند ما يدخل ملك المجد إلى نعمته التي تفوق كل تصور، كما جاء في مز 6:18. "ومثل العروس الخارج من حجله".
بالرغم من خطأنا وعبادتنا للأصنام، وقد طردنا اللّه، حظينا بالميلاد الجديد وصرنا أبكارًا بعد غسل كل فساد فينا. لذلك تمت كل احتفالات الزواج، وارتبط كلمة اللّه بالكنيسة. وكما يقول القديس يوحنا: "من له العروس فهو العريس" (يو 29:3).
واُستقبلت الكنيسة العروس في حجرة العرس المقدسة، وتوقعت الملائكة رجوع الملك أثناء قيادته للكنيسة كالعروس، وجعل طبيعتها مستعدة للنعمة. فقال أن حياتنا يجب أن تكون خالية من الشر والخداع، حتى نكون مستعدين لاستقبال الرب عند مجيئه الثاني.
وعندما نحرس أبواب مساكننا فإننا نُجهز أنفسنا لوصول العريس، عندما ينادينا ويقرع على الباب. "طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين" (لو 37:12). لأنه مبارك ذاك الذي يطيع ذاك الذي يقرع.
إن النفس تتطلع إلى هذه البركة بأن تستقبل عريسها الواقف على الباب.
إنها تراقب باب بيتها بيقظة قائلة: "صوت حبيبي قارعًا" (نش 2:5). كيف نفي العروس حقها إذ قد ارتفعت إلى ما هو أكثر قداسة؟[429]
القديس غريغوريوس النيسي
* كأن يوحنا المعمدان قال: إنني كنت أتألم كثيرًا لو لم يكن قد صار هذا. لو كانت العروس لم تتقدم إلى عريسها، لكنت حينئذ قد توجعت وغمني ذلك، لكنني لست أغتم الآن إذ كملت آمالي، وقد تحقق كل ما تمنيناه، وقد عرفت العروس عريسها، وأنتم شهدتم بذلك، وإذ رأيت هذا المطلب قد تحقق لذلك أسرّ وأبتهج.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* اسمعوا ما هو أقوى بكثير، شهادة أكثر وضوحًا. انظروا أي أمر تعالجونه، فإن من يحب شخصًا ما ويضعه موضع المسيح فهذا زنا... "من له العروس فهو العريس"... كونوا عفيفين، حبوا العريس...
الآن أرى زناة كثيرين يرغبون أن يقتنوا العروس التي اُشتريت بثمنٍ عظيمٍ هكذا، صارت محبوبة حين كانت مشوّهة، وذلك لكي تصير جميلة، أُشتريت ونالت خلاصًا وتزينت بذاك الواحد.
وأما هؤلاء الزناة فيصارعون بكلماتهم لكي يُحبوا عوض العريس...
لنسمع صديق العريس لا للزناة ضد العريس.
لنسمع لذاك الغيور، ولكن ليس لحساب نفسه[430].
* يقول إني أفرح، ليس من أجل صوتي، وإنما من أجل صوت العريس. أنا في مركز المستمع، هو في موقف المتكلم. أنا كشخص يلزم أن يستنير، أما هو فالنور. أنا مثل الأذن، وهو الكلمة. لذلك صديق العريس يقف ويسمعه.
لماذا يقف؟ لأنه لا يسقط.
كيف لا يسقط؟ لأنه متواضع.
انظروا فإنه يقف على أرض صلبة: "أنا لست أهلًا أن أحل سيور حذائه". حسنًا تفعل إذ تتواضع، فتتأهل لعدم السقوط، تتأهل للوقوف، وتسمعه وتفرح جدًا بصوت العريس[431].
* بطرس عين في الجسم، وهذا الشخص هو إصبع، لكنه هو عضو في ذات الجسم الذي فيه بطرس عضو. وإن كان الإصبع له سلطان أقل من العين، لكنه لا يُبتر من الجسم.
من الأفضل أن تكون إصبعًا في الجسم، من أن تكون عينًا ومبتورًا من الجسم.
لذلك لا يخدعكم أحد يا اخوتي، لا يغرّكم أحد. حبّوا سلام المسيح الذي صلب عنكم وهو اللَّه. يقول بولس: "ليس الغارس شيئًا، ولا الساقي، بل اللَّه الذي ينمّي" (1 كو 4: 7)...
لتحب الأعضاء بعضها البعض، وليحيا الكل تحت الرأس.
في حزنٍ يا اخوتي التزمت أن أتحدث معكم كثيرًا، ومع هذا فإنني تكلمت قليلًا، فإنني غير قادر على التوقف في الحديث[432].
* ما هو فرحه؟ أن يفرح بصوت العريس.
هذا قد كمل فيّ، لقد صارت لي نعمتي، إنني لا انتحل لنفسي ما هو ليس لي، لئلا أفقد ما أنا عليه...
ليفهم الإنسان أنه لا يفرح بحكمته الذاتية، بل بالحكمة التي ينالها من اللَّه.
لا يطلب أحد أمرًا أكثر (مما عليه) فلا يفقد ما قد وجده. فإن كثيرين إذ يؤكدون أنهم حكماء يصيرون أغبياء. يوبّخهم الرسول قائلًا لهم: "إذ معرفة اللَّه ظاهرة فيهم، لأن اللَّه أظهرها لهم" (رو 1: 19)...
يلزمهم ألا ينسبوا لأنفسهم ما لم ينالونه من أنفسهم، بل ينسبوه لهذا وهو ما وهبه اللَّه مجانًا يأخذه من الجاحدين. لم يرد يوحنا أن يكون هكذا، بل أراد أن يكون شاكرًا. لقد اعترف أنه نال، وأعلن أنه قد فرح بصوت العريس، قائلًا: "إذًا فرحي هذا قد كمل" [29][433].
القديس أغسطينوس
* "إذًا فرحي هذا قد كمل"[29]. بمعنى إن العمل الذي كان يلزمني أن أفعله قد تم، فلا أستطيع أن أفعل أكثر من هذا في المستقبل". فلكي يمنع زيادة المشاعر الجسدية ليس فقط في ذلك الحين، بل وفي المستقبل يخبرهم بما يلزم أن يحدث، مؤكدًا أن ما يحدث هو حسب ما سبق أن قاله وفعله[434].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"ينبغي أن ذلك يزيد،
وإني أناأنقص". [30]
يدرك القديس يوحنا المعمدان أن ذاك يزيد وهو ينقص هذا ظهر بكل قوة في موتهما. الأول استشهد وهو في السجن خفية، ولم يدرك أمره غير قليلين، أما السيد المسيح فمات علانية على الصليب، ورفع رأسه نحو السماء، وبسط يديه ليحتضن بحبه الإلهي كل البشرية. الأول مات ودفن مقطوع الرأس، والثاني مات ودفن وقام ليقيم معه الأموات.
كلمات القديس يوحنا المعمدان تمس حياة كل مؤمن صادق ونامٍ في شركته مع السيد المسيح. فمع كل لحظة من لحظات عمره يتخلى عما هو مادي فيه، بل ويشعر كأنه يتخلى عما هو بشري، لا ليعيش بلا إرادةٍ بشرية أو عواطفٍ بشرية أو فكرٍ بشري، وإنما تتجلى إرادة المسيح فيه، وتتقدس عواطفه فيه، ويحمل فكر المسيح. هكذا يجد المؤمن عذوبة في نقصه، لكي يزيد المسيح فيه.
نجاح السيد المسيح في خدمته هو بدء لنشر برّه المجيد وسلامه والحق الذي له بين البشر.
يُسر القديس يوحنا حين ينقص عدد القادمين إلى معموديته، حيث يتوجهون إلى يسوع المسيح، فيحققون ما تهدف إليه خدمته ومعموديته.
* "ينبغي أن ذلك يزيد، وإني أنا أنقص"[30]. ما هذا: يلزم أن يتمجد هو وأنا أن أتواضع؟
كيف يزيد يسوع؟ كيف يزيد اللَّه؟ اللَّه لا يزيد ولا ينقص. لأنه إن كان يزيد فهو ليس بكاملٍ، وإن كان ينقص فهو ليس اللَّه...
هل كان بحالته كإنسان حيث تنازل وصار إنسانًا؟ كان طفلًا، ومع أنه حكمة اللَّه رقد في المذود كرضيعٍ. ومع أنه خالق أمه، رضع لبن الطفولة منها، ثم نما يسوع في الجسد، ولعلّه لهذا قيل: "ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقص". ولكن لماذا هذا؟ إذ هما من جهة الجسد كانا في ذات العمر، الفارق بينهما ستة أشهر، وقد نميا معًا... إذن ما هو معنى "ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص"؟
هذا سرّ عظيم!
قبل مجيء الرب يسوع كان البشر يمجدون أنفسهم.
جاء كإنسانٍ ليقلل من مجد الإنسان، ويزيد مجد اللَّه. الآن جاء بغير خطية، ووجد كل البشر في الخطية. إن كان هكذا قد جاء لينزع الخطية، فاللَّه يعطي مجانًا والإنسان يعترف. اعتراف الإنسان هو نزول به، حنو اللَّه هو ارتفاع.
لذلك إذ جاء ليغفر خطايا الإنسان، فليعترف الإنسان بانحطاطه، وليظهر اللَّه حنوه.
"ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقص"، أي ينبغي أن يعطي وأنا أن استلم، هو يتمجد، وأنا اعترف. ليعرف الإنسان حاله، ويعترف للَّه. لتسمع ما يقوله الرسول للإنسان المتكبر المتشامخ الذي يُفخم نفسه: "وأي شيء لك لم تأخذ؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟" (1 كو 4: 7)[435].
* ليت اللَّه الذي هو دائمًا كامل ينمو، وينمو فيك. فبقدر ما تفهمه يبدو ناميًا فيك، أما في ذاته فهو لا يزيد بكونه كاملًا أبديًا... هكذا أيضًا بالنسبة للإنسان الداخلي. إنه ينمو حقًا في اللَّه، ويبدو اللَّه متزايدًا فيه. لكن الإنسان نفسه يبدو كأنه ينقص حيث يسقط من مجد ذاته، ويقيم مجد اللَّه[436].
القديس أغسطينوس
* معنى هذا أن أفعالنا نحن قد توقفت وكفت، أما أفعال المسيح فينبغي أن تنمو، لأن ما تخشونه لا يحدث الآن فقط بل بالأكثر فيما بعد. وهذا على وجه الخصوص يجعل أحوالي أكثر بهاءً. لهذا الهدف أنا جئت؛ وإنني أفرح بأن أحواله قد صارت في تقدم عظيم، وان هذا يتم خلال ما فعلته. ألا ترون كيف أنه في رقة وبحكمة عظيمة هدأ من آلامهم، وأطفأ حسدهم، وأظهر أنهم كانوا يتحدثون في أمور مستحيلة، وأنه يجب ضبط الشر؟[437]
القديس يوحنا الذهبي الفم