يوحنا 12 - تفسير إنجيل يوحنا
عشاء في بيت لحم الجزء(4)للقمص تادرس يعقوب ملطي
4. تمجيد السماء ليسوع
"الآن نفسي قد اضطربت،
وماذا أقول؟أيها الآب نجني من هذه الساعة،
ولكن لأجل هذاأتيت إلى هذه الساعة". [27]
إذ تحدث عن ضرورة آلامه وموته، كابن الإنسان رفع قلبه للآب وهو يقول: "الآن نفسي قد اضطربت" [٢٧].حقًا إنها كلمات غريبة ينطق بها يسوع المسيح، خاصة وأن التلاميذ رأوا أناسًا من الأمم يطلبون أن يروه، وسمعوه يقول: "لقد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان". لكنه إذ صار إنسانًا حقيقيًا كان لابد لنفسه أن تضطرب أمام سحابة الآلام التي تحيط به. ولعله رأى خلال هذه السحابة خطايا البشرية كلها قد ظهرت أمامه لكي يحملها على كتفيه، مقدمًا نفسه ذبيحة عن خطايانا.
بينما يقول لتلاميذه: "لا تضطرب قلوبكم" (يو ١٤: ١). يقول: "الآن نفسي قد اضطربت" [27]. اضطراب نفسه ينزع اضطراب نفوسنا؛ آلامه هي سرّ راحتنا الأبدية. لقد انطلق السيد المسيح بإرادته ومسرته ليحمل خطايانا، وكان لزامًا وسط مسرته أن تضطرب نفسه بسبب هول خطايانا. لقد حمل ضعفاتنا فيه ليهبنا روح القوة.
اضطراب نفسه هو حزن مقدس يولد فرحًا في قلوب البشرية المؤمنة، ومسرة للآب من أجل مصالحته مع البشرية، وتهليلًا للسمائيين. اضطربت نفسه وهو يدخل طريق الصليب الضيق حتى نشاركه آلامه وندخل معه إلى أمجاده السماوية. آلامه هي مجرد ساعة قد حلت وستعبر، لتحتل الأبدية التي لا يحدها زمن ما. يرى البعض أن الفعل هنا في اليونانية يحمل معنى الاضطراب أكثر منه الخوف[1284].
جاء حديثه مع الآب يكشف عن مسرته بالصليب، إذ يقول: "لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة"[٢٧]، ولكي يحملنا إلى حياة التسليم والتواضع يصرخ: "أيها الآب نجني من هذه الساعة"[٢٧].
* هذه ليست أقوال لاهوته لكنها أقوال طبيعته الإنسانية التي لا تشاء أن تموت، وتتمسك بهذه الحياة الحاضرة، موضحًا بذلك أنه لم يكن خارج الآلام الإنسانية، لأنه كما أن الجوع ليس زللًا ولا النوم، فكذلك ولا الارتياح إلى الحياة الحاضرة زلل، وللسيد المسيح جسد نقي من الخطايا، وليس جسد متخلص من الضرورات الطبيعية، لذا اقتضت الحكمة أن يكون له جسد.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لقد أخذ ضعف الإنسان لكي يعلمه عندما يكون في حزنٍ أو اضطرابٍ، فيقول: "يا أبتاه ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (مت ٢٦: ٣٩). فإنه هكذا يتحول الإنسان مما هو بشري إلى ما هو إلهي حينما يفضل إرادة الله عن إرادته هو[1285].
القديس أغسطينوس
"أيها الآب مجد اسمك.
فجاء صوت من السماء:
مجدت وأمجد أيضًا". [28]
إذ يخضع الابن المتجسد لإرادة الآب ويقدم نفسه ذبيحة، فإن الإعلان عن قبولها بالقيامة هو مجد لاسم الآب أيضًا. هنا يربط السيد المسيح بين الموت والمجد (القيامة)، فإن كانت نفسه قد اضطربت فهو لا يطلب إعفاءه من الموت، بل عبوره إلى القيامة التي تحمل مجدًا متبادلًا، مجد الابن ومجد الآب.
يقصد باسم الله هنا الله نفسه وأيضًا سماته، إذ يتمجد الآب نفسه، كما تتمجد حكمته ومراحمه وحبه وقداسته وبره الخ.، هذا كله يتحقق بعمل السيد المسيح الخلاصي.
جاء صوت الآب معلنًا: "مجدت، وأمجد أيضًا"[٢٨]. كأنه يقول: "لقد حققت خطتي بك. أرسلتك كفارة عن خطايا العالم، وتممت عدلي الذي لن يفارق حبي ومراحمي. أتممت عملي. هكذا أنت تقدم دمك على الصليب، وأنا أقبله ذبيحة حب. موتك وقيامتك يمجداني ويتممان رسالتي نحو محبوبي، الإنسان. لقد مجدتك وسأمجدك في لحظات موتك وقيامتك".
لقد تمجد السيد المسيح بتعاليمه وأعمال محبته من عجائب وآيات، كما تمجد في التجربة في البرية حيث جاءت الملائكة تخدمه، وتمجد في عماده حيث سُمع صوت الآب الذي يشهد له (مر ٩: ٧) والروح القدس الذي ظهر على شكل حمامة، وتمجد في تجليه حيث تكلم معه موسى وإيليا عن الخروج المزمع أن يكمله في أورشليم (لو ٩: ٣١). كما يتمجد بالأحداث المذهلة التي تتم أثناء القبض عليه ومحاكمته وصلبه، ويتمجد بقيامته، وبصعوده إلى السماء وبإرسال الروح القدس على تلاميذه، ونجاح الكرازة بهم، وانتشار إنجيله في العالم كله.
* قول السيد المسيح أيها الآب مجد اسمك! أبان بذلك أنه من أجل الحق يموت إذ سمى فعله مجدًا لله.
وقول الآب: "مجدت، وأمجد أيضًا"؛ فإن سألت وأين مجده؟ أجبتك: قد مجده في الأزمان الكائنة قبل هذه، وسيمجده بعد الصليب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* مع أنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا نعمة الحق، إلا أنهم اعترفوا لا إراديًا، وفي جهلهم نطقوا بأسرارٍ، فحدثت شهادة عظيمة من الآب للابن. وقد جاء في سفر أيوب أيضًا: "ومن يعرف عندما يضع قوة رعده؟" (أي14:26LXX) [1286].
القديس أمبروسيوس
* "وأمجد أيضًا" [٢٨]، عندما يقوم من الأموات، عندما لا يكون للموت أي سلطان بعد عليه، وعندما يرتفع فوق السماوات بكونه الله، ويكون مجده فوق كل الأرض[1287].
القديس أغسطينوس
"فالجمع الذي كان واقفًا وسمع قال:
قد حدث رعد.
وآخرون قالوا:
قد كلمه ملاك". [29]
يرى البعض أن الصوت كان باللغة التي يفهمها اليهود والتي لم يفهمها اليونانيون، لذلك قال الأولون إن ملاكًا كلمه، بينما ظن الآخرون أن رعدًا قد حدث. فقد شُبه صوت أحد المخلوقات الحية بالرعد (رؤ ٦: ١).
* لأن سألت: ومن أين حلّ بهم هذا الظن؟ أجبتك: لعل الصوت لم يكن واضح الدلالة، لكنه مرّ عليهم بسرعة، إذ كان بعضهم جسدانيين متوانين، والبعض الآخر منهم عرف أن الصوت كان واضحًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"أجاب يسوع وقال:
ليس منأجلي صار هذا الصوت،
بل منأجلكم". [30]
لم يكن السيد المسيح محتاجًا إلى صوتٍ من السماء ليشجعه، إنما جاء هذا الصوت من أجل الحاضرين لكي يؤمنوا أن الآب أرسله، لكي لا يتعثر فيه التلاميذ أثناء آلامه، بل يجدوا فيها راحتهم، كما يجد هو فيها مسرته.
لعل هذا الصوت كان من أجل اليونانيين الذين أرادوا أن يروه. فإنهم لم يشاهدوا آياته وعجائبه، وإنما سمعوا عنها، لذلك جاء الصوت من السماء يشهد له أمامهم.
ما هي وصية الآب للابن؟ تقديم الحياة الأبدية للبشرية، الأمر الذي لا يمكن لخليقةٍ ما في السماء أو على الأرض أن تقدمه.
* كأنه يقول: لم يصر هذا الصوت لأعرف أنا منه شيئًا كنت جاهلًا به، لأنني أعرف خفيات أبي كلها، لكنه صار لأجلكم. وقد اقتادهم السيد المسيح إلى أن يسألوه ما هو الذي قيل، إلا أنهم كانوا مندهشين ولم يخبروه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كما أن ذاك الصوت الذي نطق به الله لم يكن من أجله بل من أجل الآخرين، اضطربت نفسه ليس من أجله بل بإرادته من أجل الآخرين[1288].
القديس أغسطينوس
"الآن دينونة هذا العالم،
الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا". [31]
إنه صوت الآب الذي يعرفه الابن ويدرك أعماقه، فقد جاء الصوت ليعلن دينونة هذا العالم الشرير، وهزيمة الشيطان "رئيس هذا العالم"، وطرده خارجًا بلا سلطان. يفقد إبليس دائرة نفوذه حيث يعلن المؤمنون غلبتهم في حلبة المصارعة، ويخرج إبليس في ضعفٍ شديدٍ وهزيمةٍ منكرة، بعد كسب جولات كثيرة سابقة. هكذا يخسر إبليس جولته مع السيد المسيح، وتستمر هذه الهزيمة في صراعه مع المؤمنين، أعضاء جسد المسيح الغالب.
في يقين الإيمان يوجه الإنجيلي يوحنا حديثه للأحداث قائلًا: "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير" (١ يو ٢: ١٤). كما كتب: "لأنه كل من وُلد من الله يغلب العالم، وهذه الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا" (١يو ٥: ٤). كما يترنم المتمتعون بعمل الله الخلاصي قائلين: "الآن صار خلاص إلهنا وقوته وملكه وسلطان مسيحه. لأنه قد طُرح المشتكي على اخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهارًا وليلًا. وهم غلبوه بدم الخروف، وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت" (رؤ ١٢: ١٠-١١).
ماَ يخططه البشر من قتل للسيد المسيح، وما يمارسه إبليس من محاولة الخلاص من السيد، هذا كله يؤول إلى هزيمة الشر وتحطيم سلطان إبليس بالصليب، إذ لا يستطيع رئيس هذا العالم الشرير أن يقف أمام رئيس الحياة. وكما يقول الرسول: "أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يُوهب لكم رجل قاتل، ورئيس الحياة قتلتموه، الذي أقامه الله من الأموات، ونحن شهود لذلك" (أع ٣: ١٤، ١٥). كما يقول الرسول بولس عن السيد المسيح: "لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس" (عب ٢: ١٤).
يتحدث السيد الَمسيح بيقين النصرة حيث بموته يرد نفوس كثيرة إلى المعرفة ويحررهم من قيود إبليس.
لم تذكر كلمة "دينونة" بأداة تعريف، فهو لا يشير هنا إلى الدينونة النهائية، بل هي دينونة تبدأ بعمل المسيح الخلاصي، وذلك كقول سليمان الشيخ بروح النبوة: "ها إنه قد وُضع لسقوط كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تُقاوم" (لو ٢: ٣٤).
* إن سألت ما هو معني هذا المجد؟ أجبتك: هو قول السيد المسيح: "الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا".
* ما هي "دينونة العالم"؟ إنها كما يقول: "ستكون محاكمة ونقمة". كيف وبأية وسيلة؟ ذبح إبليس الإنسان الأول، إذ جعله مجرمًا بالخطية، أما فيّ فلا يوجد ذلك. فلماذا أسلمني الموت؟ لماذا وضع في نفس يهوذا أن يحطمني...؟ كيف إذن يُدان العالم فيّ؟ سيقال كما في محكمة العدالة المقاومة للشيطان: "حسنًا، لقد قتلت كل البشر، إذ وجدتهم جميعًا مسئولين عن الخطية، ولكن لماذا قتلت المسيح؟ أليس من أجل أنك قد أخطأت في ذلك؟ لذلك فيه يًنتقم للعالم كله[1289].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لمثل تلك الدينونات ينطق الرب هنا: "الآن دينونة هذا العالم"، بينما تبقى الدينونة النهائية محفوظة، عندما يُدان الأحياء والأموات.
لذلك فإن الشيطان قد اقتنى الجنس البشري، وأمسك به بالصك المكتوب بخطاياهم كمجرمين مذعنين للعقوبة. إنه يملك على قلوب غير المؤمنين، يخدعهم ويستعبدهم، يغويهم كي يتركوا الخالق ويعبدوا المخلوق. ولكن بالإيمان بالمسيح الذي تثبت بموته وقيامته، وبدمه الذي سفكه لغفران الخطايا ألوف من المؤمنين قد خلصوا من سلطان الشيطان، واتحدوا في جسد المسيح، وقد صاروا تحت قيادة الرأس.
هذا ما عناه عندما دعاه "دينونة"، هذا الفصل الصادق، هذا الترحيل للذين له، الذين خلصوا من الشيطان[1290].
* الآن يخبرنا الرب مقدمًا ما يعرفه أنه بعد آلامه وتمجيده سيصير كثير من الأمم في العالم كله الذين يسكن الشيطان في قلوبهم مؤمنين، ويطرد منها الشيطان الذي يجحدونه بالإيمان[1291].
القديس أغسطينوس
"وأنا إن ارتفعت عن الأرضأجذب اليّ الجميع". [32]
يُطرح إبليس خارجًا، إلى الجحيم حيث يفقد مملكته التي أقامها بين البشر على الأرض، بينما يرتفع السيد المسيح عن الأرض. بالصليب ينحدر العدو، وبه يرتفع السيد ليرفع معه مؤمنيه إلى السماء.
سبق وقرأنا أن الإنجيلي يوحنا يتطلع إلى الصليب كرفعٍ (٣: ١٤؛ ٨: ٢٨)، بكونه مجدًا له.
هنا ينسب إلى نفسه العمل "جذب النفس إليه"، وفي موضع آخر ينسبه إلى الآب (يو ٦: ٤٤). إنه يجتذب النفس ليس إلزامًا ولا بالعنف، وإنما بالحب الجذَّاب. وكما يقول في هوشع: "كنت أجذبهم بحبال البشر، بربط المحبة، وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم، ومددت إليه مطعمًا إياه" (هو ١١: ٤).
النفس التي كانت بعيدة عنه لا تحتمل اللقاء معه بسبب ظلمتها الآن تتمتع بنوره وتنجذب إليه. إنه سيصعد إلى السماء ويسحب معه قلوب محبيه لتتمتع بالسماويات.
بقوله "الجميع" ليؤكد فاعلية الصليب في جذب السمائيين والأرضيين ليصيروا واحدًا. يُصالح به الكل لنفسه، عاملًا الصلح بدم صليبه، بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السماوات" (كو ١: ٢٠) ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السماوات وما على الأرض، في ذلك" (أف ١: ١٠). كما يؤكد جاذبيته لكل البشرية سواء كانوا من اليهود أو الأمم، لكنه لن يجتذب أحد قهرًا بغير إرادته.
* معني ذلك أنه يجتذب حتى الذين يؤمنون من الأمم... يقول: "أجذبهم"، كمن هم محتجزين بواسطة طاغية، وغير قادرين بأنفسهم أن يقتربوا إلى (السيد المسيح)، ويهربوا من يدي الطاغية الذي يمسك بهم، في موضع آخر يدعوهم مسبيين، "كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي، وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولًا؟" (مت ١٢: ٢٩). قال هذا ليؤكد السيد قوته، ومن يدعوهم مسبيين يدعوهم هنا منجذبين إليه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إن كان المسيح صار لعنة من أجلنا لكي يخلصنا من لعنة الناموس، فهل تتعجب أنه من أجلنا يخضع للآب ليجعلنا نحن أيضًا خاضعين له، كما جاء في الإنجيل: "لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي" (يو 6:14)، "وأنا إن ارتفعت أجذب إليّ الجميع". فالمسيح إذن يخضع للآب في المؤمنين، إذ كل المؤمنين بل كل الجنس البشري يُحسب أعضاء جسمه. لكنه في غير المؤمنين، يُقال أنه لم يخضع، لأن هذه الأعضاء لجسده لا تخضع للإيمان[1292].
القديس جيروم
"قال هذا مشيرا إلىأية ميتة كان مزمعًا أن يموت". [33]
ارتفع بالصليب فصار منظرًا للعالم معلقًا بين السماء والأرض، كمن هو مستحق لهذه أو تلك.
لقد سمعت الجماهير عظاته وشاهدت آلاف من العجائب، لكن قلة التصقت به وثبتت في التلمذة له. أما وقد صُلب فجذب العالم إليه، وآمن كثيرون به، وثبتوا في محبته.
"فأجابه الجمع:
نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد،
فكيف تقول أنتأنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان؟
من هو هذا ابن الإنسان؟" [34]
كان الشعب يتوقع خلاف ما أعلنه، فمع سماعهم الصوت الذي من السماء وكلمات النعمة الخارجة من فمه لم يصدقوا أنه يرتفع أي يموت مع أن العهد القديم قد تنبأ عن موته، فهو كاهن إلى الأبد (مز ١١٠: ٤)، وملك أبدي (مز ٨٩: ٢٩). جاء عنه في سفر دانيال: "فأُعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة؛ سلطانه سلطان أبدي ما لا يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا ٧: ١٣، ١٤). وفي سفر حزقيال: "عبدي داود رئيس عليهم إلى الأبد" (حز ٣٧: ٢٥). تذكروا النبوات الخاصة بخلوده، ولم يتذكروا النبوات الخاصة بموته وأنه يسكب نفسه للموت (إش ٥٣: ١٢)، وأن يديه ورجليه تثقب.
"من هو هذا الإنسان؟" [34] لم يسألوه لكي يتعرفوا على شخصه، وإنما لأنهم كانوا يظنون أنه المسيا الكاهن والملك إلى الأبد، وفوجئوا بأنه يجب أن يموت. لقد تشككوا في أمره بسبب إعلانه عن ضرورة موته.
* لقد عرفوا أن المسيح خالد وفيه حياة لا تنتهي. ألم يعرفوا ما قيل في مواضع كثيرة من الكتاب عن آلامه وقيامته في ذات الموضع؟
هكذا وضع إشعياء النبي الأمرين معًا، إذ قال: "ظُلم، أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاةٍ تُساق إلى الذبح وكنعجةٍ صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إش ٥٣: ٧). وداود أيضًا في المزمور الثاني ومواضع أخرى كثيرة ربط بين الأمرين. وأب الآباء (يعقوب) أيضًا بعد قوله: "ربض كأسدٍ وكلبوةٍ من ينهضه؟" (تك ٤٩: ٩) أظهر الآلام والقيامة في نفس الوقت. إلاَّ أن هؤلاء إذ ظنوا أنهم يسكتوه ويبينوا أنه ليس المسيح مستخدمين نفس هذه الظروف وهي أن المسيح يبقى إلى الأبد.
لاحظوا كيف عالجوا الأمر بمكرٍ، لأنهم لم يقولوا: "سمعنا أن المسيح لا يتألم ولا يُصلب" بل قالوا: "يبقى إلى الأبد". ومع هذا فإن ما قالوه لا يمثل اعتراضًا حقيقيًا، فإن الآلام ليست عائقًا لخلوده. لهذا فإننا نرى أنهم فهموا أمورًا كثيرة مشكوك فيها، وقد سلكوا فيها خطأ عن عمدٍ. فقد سبق فحدثهم عن الموت. عندئذ قالوا: "من هو ابن الإنسان؟" قالوا هذا بخبثٍ. كأنهم يقولون: "نسألك ألا تظن أننا نقول هذا عنك، ولا تجزم أننا نعارضك في عداوة ضدك. وإنما نحن لسنا نعرف عمن تتكلم، ومع هذا فنحن نقول رأينا"[1293].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فقال لهم يسوع:
النور معكم زمانا قليلًابعد،
فسيروا مادام لكم النور،
لئلا يدرككم الظلام،
والذي يسير في الظلام لا يعلم إلى أين يذهب". [35]
* قول السيد المسيح: "النور معكم زمانًا قليلًا بعد" يوضح أن موته مؤقت، لأن نور الشمس لا يبطل، لكنه يتوارى قليلًا ثم يظهر. وقوله لليهود: "فسيروا مادام لكم النور، لئلا يدرككم الظلام" قال هذا ليحثهم على الإيمان به.
وقوله: "والذي يسير في الظلام لا يعلم إلى أين يذهب"، فكم من أعمالٍ عملها اليهود الآن ولم يعرفوا ما عملوه، لكنهم كانوا كسالكين في الظلام، لأنهم ظنوا أنهم سائرون في الطريق القويمة، وهم يسلكون في الطريق المضادة، يحفظون سبوتًا ويصونون الشريعة، ويحترسون من الأطعمة، ولا يعرفون أين يمشون[1294].
* "آمنوا بالنور، مادام لكم نور"،ولكن عن أي وقت يتحدث هنا؟ هل عن كل الحياة الحاضرة، أم عن الوقت ما قبل الصليب؟أظن أنه عن كليهما. فإنه من أجل محبته للبشر التي لا توصف كثيرون آمنوا حتى بعد الصليب. ينطق بهذه الأمور ليحث على الإيمان[1295].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لتصيروا أبناء النور.
تكلم يسوع بهذا،
ثم مضى واختفى عنهم". [36]
إذ هو منشغل بخلاصهم طلب منهم أن يهتموا بأعماقهم فيسلكوا في النور ما دام لهم النور حتى لا يصيروا أبناء الظلمة. لم يدخل معهم في حوارات جافة، بل وجههم إلى ما هو لخلاصهم وبنيانهم. طلب منهم أن يتمتعوا بنوره مادام قد تجسد وحلّ بينهم، حتى يحملهم إلى النور السماوي الأبدي.
حياتنا هي فرص قليلة، ربما لا تتكرر، لذا لاق بنا أن ننتفع بكل فرصة لأجل شركتنا مع الله. إنجيلنا هو سراج للنفس ينيرها. من لا يقبل نوره يسقط في الظلمة، وأما من يتمتع به فيصير ابنًا للنور (لو ١٦: ٨؛ أف ٥: ٨)، وابنًا للنهار (١ تس ٥: ٥).
إنه يحذرهم بأنهم سيشتهون أن يروا يومًا من أيام ابن الإنسان ولا يروا (لو ١٧ : ٢٢)؛ وأن ملكوت الله يُنزع منهم ويُعطى للأمم (مت ٢١ : ٤٣).
* "لتصيروا أبناء النور" بمعنى تصيروا "أبنائي". مع أن الإنجيلي في البدء يقول: "الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، بل من الله" (يو ١: ١٣)، أي وُلدوا من الآب. بينما يُقال هنا أنه هو ولدهم، وذلك لكي تدركوا أن عمل الآب والابن هو واحد[1296].
* يقول يوحنا الرسول عن السيد المسيح: "ثم مضى واختفي عنهم"؛ فإن سألت: وما غرض السيد المسيح من أن يختفي؟ لأنهم لم يحملوا حجارة ليقتلوه، ولا جدفوا عليه مثلما فعلوا فيما سبق، فلِمَ اختفي؟! أجبتك: إذ يعرف السيد ما في قلوبهم من تذمرٍ مملوء بالغضب، لم ينتظر حتى يخرج هذا الغضب إلى حيز التنفيذ، لكنه اختفي ليهدئ من شرهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
أخيرًا إذ قدم لهم نصيحة أبوية أن ينتهزوا فرصة وجوده لكي يشرق بنوره عليهم فيبدد ظلمتهم، موضحًا أن الوقت مقصر، والزمان الذي بقي قليلًا ليتركهم، في الحال مضى واختفى عنهم، حتى لا يدخلوا في جدالٍ، بل يفكروا في جدية من جهة موقفهم منه.
5. شهادة الأنبياء لمجده
"ومعأنه كان قد صنعأمامهمآيات هذا عددها لم يؤمنوا به". [37]
يقدم لنا يوحنا الإنجيلي شهادة إشعياء النبي لمجد السيد المسيح ورفض اليهود له، لأنهم "أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله"[٤٣].
من جهة كثرة معجزاته فيقول "هذا عددها"[٣٧]، مع ذلك لم تحثهم على الإيمان به، بل على حسده ومقاومته. لم يسمعوا عنها فقط، وإنما صنعها "أمامهم"، لأنه لم يصنعها خفية بل علانية بشهود كثيرين. مع هذا لم يؤمنوا به، إذ أصيبت أعين قلوبهم بالعمى بشهواتهم التي قست قلوبهم وأفسدتها.
"ليتم قول إشعياء النبي الذي قاله:
يا رب من صدق خبرنا،
ولمنأستعلنت ذراع الرب". [38]
تحققت نبوة إشعياء بأنهم لن يصدقوا الشهادات النبوية والإعلانات الإلهية، ولم يقبلوا ذراع الرب الذي هو قوته وسلطانه وعجائبه.
"خبرنا" هنا تشير إلى الإنجيل الذي تنبأ عنه إشعياء وغيره من الأنبياء.
* كما أنك بذراعك تعمل، هكذا كلمة الله يمثل ذراعه[1297].
القديس أغسطينوس
"لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا،
لأنإشعياء قال أيضًا". [39]
يكشف القديس يوحنا الإنجيلي عن حال اليهود الذين اتسموا بالعناد والمقاومة لله ولأنبيائه، منذ نشأتهم في مصر، وعند خروجهم حيث قاوموا موسى وهرون، وفي البرية، فلم ينجُ منهم نبي. وكما قال إيليا النبي: "قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها" (١ مل ١٩: ١٠). ويقول الشهيد استفانوس: "يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائما تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجئ البار، الذي أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه، الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه" (أع ٧: ٥١-٥٣).
سلسلة لا تنقطع من مقاومة عمل الله واضطهاد مستمر للأنبياء، أعمت أعينهم الداخلية عن الرؤيا، وقسَّت قلوبهم، فصاروا عاجزين عن التمتع بالإيمان!
* مرة أخرى لاحظوا هنا أن "لأن" و "قال" لا تشيران إلى علة عدم إيمانهم، إنما تشيران إلى الحدث ذاته. فإنه ليس لأن إشعياء قال هم لم يؤمنوا، وإنما إذ لم يريدوا أن يؤمنوا هو قال: فلماذا لم يعبر الإنجيلي هكذا بدلًا من جعل عدم الإيمان صادر عن النبوة وليست النبوة صدرت عن عدم الإيمان؟ لقد وضع هذا الأمر بطريقة إيجابية قائلًا: "لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا، لأن إشعياء قال" [٣٩]. إنه يرغب في تثبيت عدم خطأ الحق الكتابي بطرق كثيرة، وأن ما سبق فقاله إشعياء لم يسقط بل حدث ما قاله[1298].
* "لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا"،وضعت عوض "لم يكونوا يريدون أن يؤمنوا". لا تتعجب... إنه لم يقل أن صُنع الفضيلة مستحيل بالنسبة لهم، بل لأنهم لم يريدوا، على هذا الأساس لا يستطيعون[1299].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لا يتجاسر أحد في دفاعه عن حرية الإرادة بطريقة بها يحاول أن يحرمنا من الصلاة القائلة: "لا تدخلنا في تجربة". ومن الجانب الآخر لا ينكر أحد الإرادة ويتجاسر فيجد عذرًا للخطية. لنلتفت إلى الرب في تقديمه الوصية، وفي تقديمه عونه، ففي كليهما يخبرنا عن التزامنا بالواجب، وعن مساندتنا في تنفيذه. فإن البعض يرتفعون إلى الكبرياء خلال ثقتهم المبالغ فيها في إرادتهم الذاتية، بينما يسقط آخرون في عدم المبالاة خلال المبالغة في عدم الثقة.