اعمال الرسل 7 - تفسير سفر أعمال الرسل
خطاب استفانوس الجزء(2)للقمص تادرس يعقوب ملطي
عاش الإسرائيليون 215 عامًا في مصر، فمات كل أبناء يعقوب قبل خروج إسرائيل من مصر، منطلقين نحو أرض كنعان.
"ونقلوا إلى شكيم،
ووضعوا في القبر الذي اشتراه إبراهيم بثمن فضة،
من بني حَمور أبي شكيم". [16]
دُفن يعقوب في حقل مكفيلة بواسطة يوسف وإخوته. أما عظام يوسف فحملها الإسرائيليون إلى أرض كنعان حسب وصيته، ودُفن في شكيم (يش24: 32؛ تك 50: 25). لم يشر العهد القديم قط إلى نقل عظام أي أب آخر غير يوسف، لكن الاحتمال وارد وكبير أن الإسرائيليين حملوا عظام آبائهم. فكما حمل نسل يوسف عظام أبيهم، يحتمل أن قام نسل الآباء الآخرين بذات العمل.
يقول المؤرخ يوسيفوس[304] أن أبناء هؤلاء الرجال (إخوة يوسف) ونسلهم، حملوا أجسادهم بعد حين ودفنوها في حبرون، أما عظام يوسف فحملوها بعد ذلك إلي أرض كنعان. عندما خرج اليهود من مصر. أخذ بهذا الرأي كثير من الكتَّاب اليهود، أن الآباء رؤساء الأسباط قد دُفنوا في حبرون، غير أن بعض اليهود يعتقدون أنهم دفنوا في شكيم. على أي الأحوال فإن العهد القديم لم يُشر إلى ما يخالف قول القديس استفانوس. كانت شكيم في أيام القديس استفانوس تحت أيدي السامريين، ولعله لهذا السبب أشار كثير من الكتَّاب اليهود إلى أن عظام آبائهم في حبرون، حتى لا يعتز السامريون بأنها تحت أيديهم. مع هذا لم يعترض السامعون على كلمات القديس استفانوس.
شكيم: مدينة أو قرية بالقرب من السامرة، كانت تُدعى سوخار (يو 4: 5)، شيخيم Shechem وسيكيم Sychem. الآن تُدعى نابولس Napolose أو نابلس Naplous، تبعد حوالي عشرة أميال من شيلوه Shiloh و40 ميلًا من أورشليم ناحية الشمال.
كل ما ناله إبراهيم أب الآباء أو يعقوب (إسرائيل) أب الأسباط قطعة أرَض صغيرة كمدفن، ولم يرتبط قلب أحدهما بميراث الأرض المتّسعة الخصبة.
من الذي اشترى الأرض التي في شكيم؟
جاء في تك 33: 19، ويش 24: 32 أن يعقوب وليس إبراهيم هو الذي اشترى هذه الأرض من بنى حمور أولاد شكيم، أما إبراهيم فاشترى الأرض التي في مكفيلة من بنى حث في حبرون (تك 23). يرى البعض أن الأصل هو "اشتراه أبونا"، وفي النساخة ظن النساخ أنه يقصد بأبينا "إبراهيم"، فكتبوا إبراهيم عوض كلمة "أبونا".
"وكما كان يقرب وقت الموعد الذي أقسم اللَّه عليه لإبراهيم،
كان ينمو الشعب،
ويكثر في مصر". [17]
إذ حلّ وقت الخلاص سمح اللَّه لشعبه أن ينشأ وينمو وسط الضيق في مصر. فلم تكن تلك السنوات وقتًا ضائعًا، ولا عقبة في تحقيق الوعد الإلهي، بل كان الضيق هو الجو اللائق للخروج، والتمتّع بالوعد الإلهي. هكذا يرتبط تحقيق الوعود بأزمنة الضيق. هنا يعلن القدّيس استفانوس عن نظرته الكتابيّة الصادقة أن ما تعانيه كنيسة العهد الجديد من اليهود إنّما هو الجو الصحّي لنموّها وازدهارها روحيًا وعدديًّا.
بقي رعاة الماشية في أرض جاسان شرق الدلتا، لأن مراعيها كانت جيدة، ومعروف أن فروع نهر النيل في هذه المنطقة كانت متعددة جدًا. أما بقية شعب إسرائيل فانتشروا في مصر كلها، واختلطوا بكل مراكز الأعمال والمهن، وأتقنوا كل صنعة وشربوا أسرارها. عاشوا أربعة قرون في وسط أعلى حضارات العالم آنذاك، بل وربما لا تدانيها حضارة اليوم. درسوا العلوم والآداب والحكمة والاقتصاد والطب والفلك والهندسة واللغة الخ.
لقد نموا جدًا وازدادوا حتى حسبوا مصرَ وطنًا لهم. وحتى عندما إستعبدهم فرعون رفضوا الخروج من مصر تحت قيادة موسى. وبعد الخروج حاولوا الرجوع إليها عدة مرات. وفي أيام ارميا النبي حملوه قسرًا معهم وذهبوا إلى مصر.
أظهر القديس استفانوس عمل الله العجيب الذي حوّل في فترة صغيرة الأسرة المكونة من 75 نسمة إلى أمة عظيمة هذا تعدادها. في فترة 215 سنة صار عدد رجال الحرب 600 الف محارب، فقد حقق الله وعده لإبراهيم.
"إلى أن قام ملك آخر،
لم يكن يعرف يوسف". [18]
إذ تزايد عدد الإسرائيليون جدًا وقووا، لم يفكروا في الخروج من مصر، بل كانوا يشعرون بالاستقرار فيها، لهذا سمح الله بظهور ملك آخر في مصر لم يسِر على منهج الملوك سلفائه، هؤلاء الذين كانوا يحسنون التعامل معهم. سمح به الله لكي لا يشعروا بالاستقرار، بل يخرجوا إلى الأرض التي وعد الله بها إبراهيم أن يرثها نسله. وقد حان وقت إتمام الوعد الإلهي.
يرى البعض أن فرعون هذا هو رمسيس، الملك الخامس من الأسرة الثامنة عشر، وأن هذا تم حوالي عام 1559 ق.م. يظن م. شامبليون [305] M. Champollion أن اسم الملك هو ماندوني Mandonei الذى بدأ ملكه عام 1585 ق.م حتى 1565 ق.م. ويرى ج ولكنسون [306] G. Wilkinson أنه أول ملك في الأسرة الثامنة عشر ويُدعى عموسيس Amosis أو عامس Ames ويرى هاكت Prof. Hackett أن معرفتنا بتاريخ مصر القديمة إلى الآن ليست دقيقة تمامًا، لذا يصعب تحديد الزمن بدقة[307].
"فاحتال هذا على جنسنا،
وأساء إلى آبائنا،
حتى جعلوا أطفالهم منبوذين لكي لا يعيشوا". [19]
سمح الله بقيام ملك آخر (رمسيس الثاني 1292-1225 ق.م.) الذي اضطهد العبرانيين لكي يحرمهم من قدور اللحوم وملذات مصر وأطاييبها، إذ كانوا قد بدأوا ينهبون خيرات مصر، وكان الله يعد لهم الخلاص والتمتع بأرض الموعد. وقد تم الخروج في عهد فرعون ممبتاح Memoptah (1225-1215 ق.م).
إذ لاحظ المصريون تزايد عددهم كانوا يضيفون عليهم الأثقال، حيث يلاحظ القديس استفانوس هنا ثلاثة أمور:
1. جحودهم الدنىء، إذ لم يراعِ الملك الجديد خدمات يوسف لهذه الأمة.
2. سياستهم الشيطانية وفكرهم الجهنمي "فاحتال على بني جنسنا". لم يسلكوا بحكمة لنفع أنفسهم، بل ما كان يشغلهم هو الاحتيال والسلوك بعنفٍ في غير رحمةٍ بإخوتهم.
3. تصرفهم معهم على مستوي مؤلم، حيث خططوا لقتل كل الأطفال الذكور الصغار.
في هذا كله يود القديس استفانوس أن يبرز لهم أن دخولهم أرض الموعد لا فضل لهم أو لآبائهم فيه، إنما هو عطية مجانية، وهبة من الله صانع المستحيلات، الذي عمل حسب غنى نعمته، وليس حسب استحقاقهم. ولعله أراد أن يوضح لهم أن التاريخ يعيد نفسه، فما فعله بهم المصريون، وما خططوا لتدميرهم فشل تمامًا، وتمتع إسرائيل بالحرية وورث أرض الموعد. الآن ها هم أنفسهم يمارسون ما فعله المصريون وبذات الروح، ويظنوا أنهم قادرون على تحطيم كنيسة المسيح، لكن يبقى الله، إله المستحيلات، عاملًا في وسط المؤمنين ليهبهم الميراث الأبدي، كنعان السماوية.
3. تربية موسى في قصر فرعون
"وفي ذلك الوقت وُلد موسى،
وكان جميلًا جدًا،
فرُبّيَ هذا ثلاثة أشهر في بيت أبيه". [20]
إذ بلغ الاضطهاد ذروته وُلد موسى، وكان هو نفسه في خطرٍ، معرضًا لقتله وهو بعد حديث الولادة؛ أرسله الله مخلصًا عندما بلغت الظلمة الذروة، وصارت الكارثة كما بلا حل. وُلد وسط هذه الظلمة الدامسة، وإذا بوجهه الجميل جدًا يشرق كما بنورٍ. لقد قدسه الله وهو بعد في الرحم، فوُلد جميلًا جدًا في عيني الله، بل وحتى في عينى ابنة فرعون.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم عجز الإنسان عن العمل، حتى وإن كان أبًا أو أمًا للشخص. لقد احتفظ الوالدان بموسى، ولكن إلى ثلاثة أشهر فقط، وألقياه في النهر.
* إذ صار عون الإنسان ميئوسًا منه فألقياه، عندئذ أشرق إحسان الله في روعةٍ[308].
* هذا هو العجب، أن ذاك الذي يكون لهم نصيرًا وُلد وسط العاصفة، لا قبل ولا بعد ذلك الوقت[309].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"ولما نُبذ اتخذته ابنة فرعون،
وربّته لنفسها ابنًا". [21]
نجحت خطة فرعون، فقد اعتادت الأمهات المملوءات حنوُا على أطفالهن أن يلقين بهم إلى الموت، كما فعلت والدة موسى النبي.
تعهده الله وهو في رحم أمه فوهبه جمالًا رائعًا، وتعهده وهو رضيع برعاية والديه لمدة ثلاثة اشهر، وإذ توقفت أذرع الوالدين، تعهده في بيت فرعون نفسه المقاوم لله ولشعبه.
"وكان جميلًا جدًا"، وبحسب الأصل اليوناني "جميلًا أمام الله" أو "جميلًا بالله". وهو تعبير عبراني يعني أنه هيئته لها مسحة إلهية سرية جعلت أبويه لا يخشيان أمر الملك (عب 11: 23). يصفه المؤرخ يوسيفوس: "كان طفلًا شكله إلهيًا[310]". ووصفه فيلون: "لما وُلد الصبي للوقت ظهر بوجه أكثر جمالًا من عامة الناس[311]"، وبسبب جماله إذ التقطته ابنة فرعون من الماء اتخذته ابنًا لها.
* إذ كانت كل هذه العناية الإلهية ترافق (الطفل موسى) لم تُذكر كلمة "هيكل" ولا "ذبيحة"، بل تربى في بيت بربري[312].
القديس يوحنا الذهبي الفم
في كتابه "حياة موسى" يقدّم لنا القديس غريغوريوس أسقف نيصص شخصيّة موسى النبي وحياته وأعماله كرمز لعمل السيّد المسيح في النفس البشريَّة وتمتّعها بخلاصه العجيب.
يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص في ابنة فرعون المتعلّمة الوثنيّة والعاقر رمزًا للفلسفات الزمنيّة والفلاسفة الذين يبذلون جهدًا عظيمًا كمن هم في حالة طلق، لكنهم يحبلون ريحًا ولا ينجبون قط، إنّهم كالأميرة العاقر! إنّها دومًا تجهض، فلا تنجب نور معرفة اللَّه. تربّى موسى في قصر فرعون كابن لابنة فرعون، لكنّه رضع اللبن من أمّه، أي من لبن الكنيسة [بهذا تنتعش النفس وتنضج وتتمتّع بالوسائط للصعود إلى الأعالي[313].]
"فتهذّب موسى بكل حكمة المصريين،
وكان مقتدرًا في الأقوال والأعمال". [22]
كان تعليم المصريين يركز على علم الفلك وتفسير الأحلام والطب والرياضيات والعلوم الدينية. كان العالم القديم ينهل من معرفة قدماء المصريين وحكمتهم وفلسفتهم. فمن المعروف أن العلم انتقل من مصر إلى فينيقية ثم إلى اليونان، وقد جاء عدد ليس بقليلٍ من الفلاسفة اليونان إلى مصر من أجل المعرفة[314].
"مقتدرًا في الأقوال": يعترف موسى النبي أمام الله أنه ثقيل اللسان، وبطيء في الحديث". لهذا فإن اقتداره في الأقوال تعني قدرته على الاتصال بفرعون. هذا واضح عندما كان هرون يود أن يبلغ فرعون رسالة كان يقدمها خلال أخيه موسى (خر4: 11-16).
لم ترد عبارة "مقتدرًا في الأقوال" في أسفار العهد القديم، اقتبسها استفانوس عن التقليد اليهودي، وهي تعبر عما تمتع به موسى في قصر فرعون طوال 40 عامًا. وكأن الله قد هيأه للقيادة بروح المعرفة والعلم، وربما خلال هذه المعرفة العلمية استطاع أن يكون له دوره الفعال في إنشاء خيمة الاجتماع بما تحمله من إبداع. هذا وقد تزينت معرفته بعمل الله في حياته ليكون "حليمًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 3). وقاده الرب إلى البرية ليتعلم روح الرعاية الحانية في وسط القفر. خلال حكمة المصريين تعلم الكتابة، فسجل الأسفار الخمسة كما تعلم حفظ الورق أو المخطوطات من التلف. يؤكد علماء كثيرون أن موسى النبي هو الذي اخترع الخط العبري بقواعده. ويرى البعض من جهة اقتداره في العمل أنه قاد حملة مصرية ضد أثيوبيا، ونال نصرة باهرة وعاد بالأسرى، وقد صار أغنية بين أبطال الحرب والسلم.
لم ينسَ موسى إله آبائه إذ، لذلك وقد صار دارسًا عظيمًا لم ينقد إلى سحر مصر، بل أدرك خداع لشيطان للسحرة، وخداعهم للآخرين.
"مقتدرًا في الأقوال والأعمال": ربما تعني أنه صار أشبه برئيس وزراء مصر، يتكلم بسلطانٍ وينفذ ما يقوله.
ولعله كان في ذهن القديس استفانوس أن ما تمتع به موسى هو بتخطيطٍ إلهيٍ، فصار بالله قادرًا، صاحب سلطان. هكذا استفانوس نفسه، إذ يتمتع بالروح القدس الساكن فيه يشعر أنه صاحب سلطان.
* تربّى في غنى الملوك وبهائهم ومجدهم، وتعلّم "بكل حكمة المصريّين" [22]. ولما بلغ سن الرجولة، وصار عظيمًا، رفض كل تلك الأشياء، مفضّلًا بالأحرى شدائد المسيح وعاره، كما يقول الرسول: "على أن يكون له تمتّع وقتي بالخطيّة" (عب 11: 25) [315].
القديس مقاريوس الكبير
* عندما بلغ (موسى) السن المناسب علّموه الحساب والهندسة والشعر والتوافق الموسيقي، بالإضافة إلى الطب والموسيقى، على أيدي المعلّمين النابغين في هذا العلوم والفنون من المصريّين. كذلك تعلّم الفلسفة، تلك التي تدل عليها الرموز في اللغة الهيروغليفية، كذلك قام اليونانيّون بتعليمه المواد الدراسيّة، وتنشئته كطفلٍ ملكي، وذلك حسبما ذكر فيلون في سرده لحياة موسى. درس موسى إلى جانب ذلك آداب المصريّين، وعلم الأجرام السماويّة على أيدي الكلدانيّين والمصريّين، كما يذكر إيبوليموسEupolemus في كتابه عن ملوك اليهوديّة. كان موسى أول الرجال الحكماء، وأول من علّم اليهود علم النحو والصرف، وهو ما تلقّاه الفينيقيّون من اليهود فيما بعد، ثم أخذه اليونانيّون عن الفينيقيّين[316].
القديس إكليمنضس السكندري
* تعلم موسى كل حكمة المصريين... وإذ تركها بحث عن الله بكل رغبة قلبه، وهكذا رأى الله وسأله وسمع له عندما تكلم (خر 3: 4)[317].
القديس أمبروسيوس
* يلزمنا أن نتعلم منالله ما نفكر فيه عن الله، فليس لنا مصدر للمعرفة سواه. قد تتدرب بكل حذاقة كما تشاء في الفلسفة العلمانية، ربما تسلك حياة بارة. هذا كله يساهم في الشبع الفكري، لكنه لا يعينك على معرفة الله. لقد تبنت ابنة فرعون موسى، فتعلم كل حكمة المصريين، بالإضافة إلى ذلك كان له ولاؤه لجنسه، فانتقم لما أصاب العبراني بقتل المصري، ومع هذا فلم يعرف الله الذي بارك آبائه[318].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
"ولمّا كمُلت له مدة أربعين سنة،
خطر على باله أن يفتقد إخوته بني إسرائيل". [23]
لم يُذكر عمره في العهد القديم حين فكر موسى في انقاذ اخوته، لكن القديس استفانوس اقتبس هذا عن التقليد اليهودي.
شبّ موسى مقتدرًا في الكلام والعمل، وظن أن بقدراته ومواهبه يستطيع أن يفتقد اخوته في مذلتهم. وربما كان في ذهنه أن يقود حملة عسكرية لمقاومة مضطهدي شعبه، ولتثبيت حقوقهم بالقوة. لكن هل كان يظن أنه قادر أن يثبت وجود شعبه بالسيف داخل أرض مصر، أم انه يقود الشعب إلى فلسطين؟
يرى البعض إن فرعون طلب أن يقتل موسى ليس لمجرد قتله للمصري، وإنما جاء هذا الحدث لتأكيد في ذهن فرعون أن موسى قد بدأ حركة تنظيم سري لحساب العبرانيين، فشعر بخطورته. فإبلاغ فرعون بحدث قتل مصري وهو أمر يُحسب تافهًا بالنسبة لفرعون، إنما يكشف أن شكًا قد سرى في أوساط القصر الملكي بتخطيط خفي لموسى ضد المصريين.
عاش موسى في قصر فرعون كمصري في بيت فرعون، ولم يكن له اتصال بشعبه، لكن قلبه وفكره وكل أعماقه كانت مرتبطة بشعبه، يئن مع أنينهم، ويشتهي أن يراهم في كمال الحرية.
"وإذ رأى واحدًا مظلومًا،
حامى عنه وأنصف المغلوب،
إذ قتل المصري". [24]
الظلم الذي حل على اليهودي من المصري هو أنه كان يضربه بعنفٍ يمكن أن يؤدي إلى قتله.
يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص في المصري الوثني رمزًا للتعاليم الفلسفيّة الفاسدة واليهودي المتديّن رمزًا لتعاليم الآباء، حيث توجد خصومة بينهما. يقول أيضًا: [حرب المصري ضدّ العبراني تشبه حرب الوثنيّة ضدّ الدين الحقيقي، والخلاعة ضدّ البرّ، والعجرفة ضدّ التواضع، وكل شيء ضدّ ما هو عكسه. يعلّمنا موسى بمثاله أن نقف في صف الفضيلة كما في صف قريب لنا، وأن نقتل عدوّ الفضيلة (الشرّ). فنصرة الابن الحقيقي هو موت للوثنيّة ودمار لها. وهكذا البرّ يقتل الظلم، والتواضع يذبح التشامخ[319].]
"فظن أن إخوته يفهمون أن اللَّه على يده يعطيهم نجاة،
وأمّا هم فلم يفهموا". [25]
لم يرد هذا في أسفار العهد القديم. لكن ما ذكره القديس استفانوس هو أمر مقبول. عندما وقف موسى في صف العبراني وكان يقاوم المصري بمفرده، حسب أن ما قد فعله هو بتوجيه الله نفسه لكي يخلص شعبه، وظن أنه كان يليق بالشعب أن يفهم ذلك، مدركًا أنه وإن تربى في قصر فرعون لكنه إسرائيلي.
"وفي اليوم الثاني ظهر لهم وهم يتخاصمون،
فساقهم إلى السلامة، قائلًا:
أيها الرجال أنتم إخوة، لماذا تظلمون بعضكم بعضًا". [26]
ظهر في اليوم التالي (خر 2: 13) فجأة وبطريقة غير متوقعة لإثنين عبرانيين يتخاصمان، وقد حثهما على المصالحة وإيجاد سلام بينهما. وجه حديثه نحو الشخص المخطئ مؤكدا أن الذي يصارع ضده هو أخوه.
"فالذي كان يظلم قريبه دفعه، قائلًا:
من أقامك رئيسًا وقاضيًا علينا؟" [27]
إذ طلب موسى من الظالم أن يضع في اعتباره أخوة أخيه له رفض المصالحة، بل وهدد موسى، فإنه ما أصعب على المخطئ الجاهل أن يراجع نفسه في هدوء ويعترف بخطأه. هذا ما دفع الله نفسه أن يبادر بالحب ويتمم الخلاص ببذل ابنه الوحيد لعل الخطاة يتلامسوا مع الحب الإلهي. فإنهم من جانبهم لا يطلبون المصالحة مع الله.
ليس عجيبًا أن يقاوم الظالم موسى، قائلًا: "من أقامك رئيسًا وقاضيًا علينا؟" هذه هي التحية الطبيعية التي تصدر عن قلب الإنسان الشرير وفكره نحو من يحثه على المصالحة والسلام.
"أتريد أن تقتلني كما قتلت أمس المصري؟" [28]
من أخبره بما حدث في اليوم السابق. غالبًا ما أخبر الإنسان الذي أنقذه موسى أقرباءه بما فعله. وعوض تقديم كلمة شكر أو تشجيع لمن يطلب خلاصهم، وجد موسى مقاومة وتهديدًا.
ليته لا يترقب أحد كلمة مديح أو تشجيع ممن يخدمهم، بل يعمل لحساب ملكوت الله دون ترقب أية مكافأة زمنية كبرت أو صغرت.
* يظهر كيف كان (آباؤهم) جاحدين للمحسنين إليهم، كما في المثال السابق، فقد خلصوا بواسطة يوسف الذي ألحقوا به ضررًا، هكذا مرة أخرى خلصوا بشخصٍ آخرٍ ناله ضرر، أعني موسى... بالنية قتلوه كما فعل الآخرون في المثل السابق.
إنهم باعوا من لهم في أرض غريبة، وهنا طردوا شخصًا من أرضٍ غريبة (مصر) إلى أرض أخرى غريبة (البرية).
في المثال السابق قدم لهم الشخص (يوسف) طعامًا، وهنا يقدم لهم (موسى) مشورة صالحة..!
انظروا كيف تحولت الخطط التي للمقاومة مصادر خلاص للذين يدبرون الخطط ضدهم.
كان الشعب الذي يخطط ضد نفسه والذي كان الغير يخططون ضدهم ومع هذا كله خلصوا. لم تهلكهم المجاعة، لم يحدث هذا قط، إذ خلصهم ذات الشخص الذين أرادوا هلاكه بطريقهم.
القرار الملكي (لفرعون) لم يبددهم، بل بالأحرى كانوا ينمون بالأكثر عندما مات ذاك الذي عرفهم. لقد أرادوا قتل مخلصهم، وهم بلا سلطان أن يفعلوا ذلك. ألا ترون كيف أنه بذات الوسائل التي أراد الشيطان أن يبطل وعد الله تحقق الوعد[320].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فهرب موسى بسبب هذه الكلمة،
وصار غريبًا في أرض مديان حيث ولد ابنين". [29]
ما توقعه موسى لم يكن غير حقيقي، فقد توقع أن الخبر يبلغ إلى مسامع فرعون فيطلب رأسه. وقد حدث، إذ صار فرعون يطلب قتله. هرب موسى في أرض مديان، وهي منطقة صحراوية في شمال غرب العربية. هناك تزوج صفورة ابنة راعوئيل (خر2: 18) أو يثرون (عد 10: 29؛ خر 3: 1)، كاهن مديان. انجبت صفورة ابنين هما جرشوم واليعازر (خر 18: 3-4).
يركز القديس استفانوس على "الغربة"، فذكرها عندما تحدث عن إبراهيم وقيل أن نسله يكون متغربًا. وهنا يعيش موسى متغربًا في أرض مديان، وقد أثر ذلك على نفسه، فدعى ابنه جرشوم "لأنه قال كنت نزيلًا في أرض غريبة" (خر 2: 21-22).
كان شعور الغربة ملازمًا موسى كل أيام حياته، وُلد في مصر غريبًا عن وطنه الأصلي "كنعان"، وتربى في قصر فرعون غريبًا عن والديه، وهرب إلى مديان لتتضاعف غربته، وأخيرًا انطلق إلى البرية بالشعب متغربًا، ولم يدخل أرض الموعد.
4. العليقة والأرض المقدسة
"ولما كملت أربعون سنة،
في لهيب نار عُلِّيقة". [30]
الآن تبدأ قصة الخروج وموسى في أضعف حالاته كغريبٍ هاربٍ من وجه فرعون. هنا أعلنت السماء تحركها للخلاص، فقد ظهر يهوه على شكل نارٍ متقدة في عليقه، ينزل ليقدس الأرض، ويقود شعبه إلى كنعان. إنها قصة التجسد الإلهي حيث تحمل العذراء مريم في أحشائها جمر اللاهوت، ويقود السيد المسيح البشرية إلى كنعان السماوية، محررًا إياهم من عبودية إبليس.
هنا للمرة الثانية يوضح استفانوس أن ظهور الله لمؤمنيه غير مرتبطٍ بأورشليم؛ ظهر لإبراهيم فيما بين النهرين، وظهر لموسى النبي على جبل سيناء
تقدست الأرض بحلول الله، ليس في هيكل سليمان ولا في قدس الأقداس، وإنما على جبل سيناء... بهذا يدفع استفانوس السامعين إلى عدم التعصب لأرض الموعد ومدينة أورشليم والهيكل، فإن الله يود أن يقدس العالم كله!
* قطن موسى في البرية؛ فبعد أن أكمل 40 عامًا من عمره هرب من مصر، ولمدة أربعين عامًا رعى قطعان يثرون، أما يوحنا فجاء إلى البرية منذ ولادته. "الأعظم بين مواليد النساء" (مت 11: 11)، كان بالحق مستحقًا أن يتمتع بتربيةٍ أعظم. يقول النبي عنه: "ها أنا أرسل ملاكي أمام وجهك" (ملا 3: 1؛ مت 11: 10)[321].
العلامة أوريجينوس
* أزال عنه كرامة الملوكيّة بإرادته (إذ ترك قصر فرعون) كأنّها تراب ينفضه بإزالته من قدميه (عب 11: 24-26). عزل نفسه عن المجتمع البشري لمدّة أربعين عامًا، وعاش منفردًا مركّزًا نظره بثبات على العزلة والتأمّل في غير المنظورات (عب 11: 27). بعد هذا استنار بنورٍ لا يعبّر عنه، وحرّر الأجزاء السفليّة التي لنفسه من الثوب الميّت المصنوع من الجلد[322].
القدّيس غريغوريوس النيسي
يرى القدّيس غريغوريوس النيسي في انطلاق موسى النبي إلى البرّيّة ليعيش فيها أربعين عامًا راعيًا للغنم، رمزًا لانطلاق النفس إلى حياة السكون، ترعى حركاتها الداخليَّة كقطيع، كما كان موسى يرعى الغنم هناك. [بنفس الطريقة سنحيا حياة توحد، فلا نعود نسقط في أشراك أعداء ولا أن نوجد في وسطهم، بل سنحيا بين الذين هم مثلنا في ميولنا وفكرنا التي نقوتها، فترعى كل حركات نفوسنا مثل غنم وتتغذّى على الإرادة التي للفكر المُهتدى[323].]
"فلما رأى موسى ذلك تعجب من المنظر،
وفيما هو يتقدم ليتطلع،
صار إليه صوت الرب". [31]