اعمال الرسل 13 - تفسير سفر أعمال الرسل
رحلة بولس الرسول التبشيرية الأولى الجزء(1)للقمص تادرس يعقوب ملطي
1. من أنطاكية سوريا إلى سلوكية، ميناء في سوريا (13: 1-4).
2. أبحر ومن معه إلى سلاميس في جزيرة قبرص (13: 4).
3. ذهبوا إلى بافوس في جزيرة قبرص (13: 5-12)، وتغير اسمه إلى بولس.
4. إلى برجة بمفيلية بآسيا الصغرى (13: 13): عودة يوحنا مرقس إلى أورشليم.
5. إلى إنطاكية بسيدية (13: 14): إلقاء عظة سُجلت في السفر (13: 16-41).
6. إلى أيقونية عاصمة ليكأونية (13: 50-51).
7. إلى لسترة بليكأونية (14: 5-6)، حيث رُجم بولس (14: 8-19).
8. إلى دربة بليكأونية (14: 20).
9. العودة عن طريق لسترة (14: 21)، أيقونية، أنطاكية بسيدية (14: 21)، وبرجة ببمفيلية حيث سبق أن أسس كنائس هناك (14: 21-23).
10.إلى أتالية ببمفيلية (14: 25).
11. إلى أنطاكية سوريا (14: 26-28).
رحلة بولس الرسول التبشيريّة الأولى
إذ نمت الكنيسة في أنطاكية صارت مركزًا لخدمة القدّيسين بولس وبرنابا ومن معهما، حيث بدأت الكنيسة تنطلق إلى العالم تشهد للسيّد المسيح. في ذلك الحين صارت أنطاكية أشبه بأمٍ لخدمة كنيسة الأمم في دولٍ كثيرة، إن صح التعبير.
1. أنطاكية مركز للعمل
1.
2. فرز برنابا وشاول للكرازة
2-3.
3. بدء الرحلة الأولى
4-5.
4. مقاومة باربشوع للكرازة
6-12.
5. خطاب في أنطاكية بيسيديّة
13-41.
6. التوجّه إلى الأمم
42-49.
7. مقاومة اليهود للرسولين
50-52.
من وحي أع 13
1. أنطاكية مركز للعمل
"وكان في إنطاكية في الكنيسة هناك أنبياء ومعلّمون،
برنابا وسمعان الذي يدعى نيجر ولوكيوس القيرواني
ومناين الذي تربّى مع هيرودس رئيس الربع وشاول". [1]
من بركات الاضطهاد الذي أثاره اليهود على الكنيسة في أورشليم بعد رجم القدّيس استفانوس أن انطلق كثيرون إلى أنطاكية. وكان الذين من أصل يهودي لا يكرزون بالكلمة هناك إلا اليهود وحدهم (أع 11: 19). غير أن الذين لهم ثقافة هيلينيّة أو الذين كانوا قبروسيّين أو قيروانيّين فصاروا يركزون بين اليونانيّين هناك. "وكانت يد الرب معهم، فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب" (أع 11: 21). واستمرت خدمة الرسولين برنابا وشاول الطرسوسي هناك لمدة عام وقد ألهبت قلوب الكثيرين للخدمة. صارت الكنيسة هناك ملتهبة بالروح، لهذا استراحت نفس بولس (شاول الطرسوسي) أن يجعل أنطاكية مركز خدمته، يبدأ منها رحلاته، وإليها يرجع.
يذكر القديس لوقا البشير أنّه "دُعي التلاميذ مسيحيّين في أنطاكية أولًا" (أع 11: 26). فمع أن الكنيسة قد ضمّت من هم من أهل الختان وأيضًا من هم من أهل الغُرلة، لكن لنموّها أدرك غير المؤمنين أنّه لم تعد الكنيسة شيعة من شيع اليهود، ولا فرقة، بل هي ديانة مستقلّة، حتى وإن اعتمدت على نبوّات العهد القديم وتمسّكت بأسفار التوراة، وحسبت آباء اليهود ووعود الله وعهوده أنّهم آباؤهم وأنبياؤهم والوعود الإلهية هي لهم وعهود الله معهم؛ أنُهم مسيحيّون! من هنا بدأ العالم يدرك ذلك، لذا يقول أغريباس الملك للقدّيس بولس: "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًّا" (أع 26: 28).
يقدّم لنا الإنجيلي لوقا صورة حيّة لنشاط الكنيسة وازدهارها في أنطاكية. وُجد أنبياء ومعلّمون يقومون بخدمة الكنيسة هناك، وذكر قائمة بخمسة أسماء، وجاء برنابا على رأس القائمة، ربّما لأنّه كان أقدمهم عهدًا بالإيمان، وكان له غيرة متّقدة حتى جذب شاول الطرسوسي للعمل معه الذي كان إلى ذلك الحين مرافقًا لبرنابا وشريكًا معه في الخدمة[597].
كان الأنبياء الذين انحدروا من أورشليم إلى أنطاكية (أع ١١: ٢٧) بمثابة زائرين يجولون لخدمة اسم الرب، أما المذكورون هنا فهم أعضاء ثابتون في الكنيسة. كان دور النبي في العهد الجديد هو النطق بالروح القدس، أما المعلم فكان يفسر ما قيل بالروح القدس في الكتاب المقدس، وما ينطقبه النبي بالروح. وكان غاية الاثنين هو تمتع المؤمنين بحضرة السيد المسيح المعلم، الحال في كنيسته على الدوام لتعيش به، وهو يحيا فيها.
سمعان الذي يُدعى نيجر: "سمعان" اسم يهودي، واللقب "نيجر" لاتيني، ربما لأنه كان أسمر اللون. غالبًا ما كان هو سمعان القيرواني والد ألكسندر وروفس (مر ١٥: ٢١).
لوكيوس القيرواني، وقد سبق لنا الحديث عنه (أع ١١: ٢٠)، وهو بخلاف الوارد في رومية ١٦: ٢١. كان أحد اليونانيين المتنصرين الذين لهم دور فعّال في الكنيسة بأنطاكية مع الرجال القادمين من قبرص. ظن البعض أن لوكيوس ولوقا شخص واحد، لأن الصيغة اللاتينيّة لكلمة لوقا اليونانيّة هي لوكيوس، لكن رفض كثير من الباحثين هذا الافتراض، خاصة وأن اسم لوقا كان شائعًا، فلم يكن ما يدعو الإنجيلي إلى عدم ذكره بالصيغة اليونانيّة.
"مناين الذي تربى مع هيرودس رئيس الربع". مناين هو النطق المخفف للاسم العبري مناحم Menahem، ومعناه "المعزي". أما هيرودس فهو أنتيباس بن هيرودس الكبير الذي أرسل بيلاطس إليه السيد المسيح لمحاكمته، والذي تولى على الجليل وبيريه كرئيس ربع سنة ٤ ق.م. حتى سنة ٣٩ م.
مناين نبي أنطاكية التقِى على ما يُظن أنه كان من الأسينيين العارفين بالروح. تربى مناين في قصر هيرودس الكبير مع ابنه انتيباس. وقد تنبأ لهيرودس الكبير بأنه سيصير ملكًا كما كتب يوسيفوس[598]، وكان هيرودس الكبير يوقره. وإليه تُعزى معرفة القديس لوقا بهيرودس وعائلته، وبهذه الجماعة من الأنبياء والمعلمين وأحبار الكنيسة في أنطاكية. والعجيب أن ابن هيرودس وهو قاتل القديس يوحنا المعمدان، كان زميل تربية وتعليم ونشأة مع مناحم النبي التقِي والمعلم.
يذكر شاول في آخر جماعة الأنبياء والمعلمين، لأنه لم يكن بعد قد بلغ قامة هؤلاء الأنبياء ودرجتهم، وذلك حسب الأقدمية في الكنيسة.
2. فرز برنابا وشاول للكرازة
"وبينما هم يخدمون الرب ويصومون،
قال الروح القدس:
افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه". [2]
بدأت رحلات بولس الرسول التبشيرية بإعلان الروح القدس لا لشاول ولا لبرنابا، بل للكنيسة المجتمعة بروح الصلاة والصوم. وقد جاءت كلمة "يخدمون" في اليونانية بمعنى يحتفلون بالليتورجيا (ليتورجوتون)، أي يمارسون ليتورجيا الإفخارستيا.
الكلمة اليونانية المترجمة "يخدمون" (ليتورجونتون) تفيد الخدمة العامة غير المدفوعة الأجر كرامة للملك؛ هنا تشير إلى خدمة الصلاة في الكنيسة بتقديم الشكر والتسبيح في الاحتفال بالذبيحة الإلهية.
"قال الروح"، غالبًا على لسان أحد الأنبياء المجتمعين للصلاة والصوم، وقد كرسوا قلوبهم في جدية للخدمة والشهادة.
"افرزوا"، تعني التخصص لعمل الروح القدس، قائد حركة الشهادة ليسوع المسيح. والعجيب أن الروح قال: "افرزوا لي" وليس "للرب يسوع"، لأنه هو والابن الوحيد الجنس واحد في الجوهر، لهما ذات السلطان والقوة، والكرازة هي لحساب الثالوث القدوس.
جاءت الدعوة بالاسم شخصيًا لفتح أول طريق نحو الكرازة في العالم الأممي.
* أما الروح القدس فلا ينطق بلسان، إنما هو روح حي يهب الحكمة في الكلام، متحدثًا وواعظًا بنفسه... أنظروا كيف يفرز الروح الحي ويدعو ويرسل بسلطان[599].
القديس كيرلس الأورشليمي
في عظة للقديس يوحنا الذهبي الفم على 1 تي1: 1 يوضح أن الروح القدس هو الذي قال: "افرزوا لي برنابا وشاول" (أع 13: 1)، وفي نفس الوقت فإن السيد المسيح هو الذي دعاه وأرسله "اذهب فإني سأرسلك إلى الأمم بعيدًا " (أع 22: 21)، كما يقول في موضع آخر: "ينبغي لك أن تقف أمام قيصر" (أع 27: 24). وفي نفس الوقت يحسب الرسول أن كل الأوامر صادرة من عند الآب... هنا يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم وحدة العمل للثالوث القدوس[600].
لاحظنا في المقدّمة دور الروح القدس في حياة الكنيسة، بكونه القائد الحقيقي، الذي يقدّم لها ذاته، ويهبها الإمكانيّات الإلهية لتصير أيقونة عريسها السماوي، السيّد المسيح.
* إنّه الروح الذي يعرف كل شيء (1 كو 2: 10)، الذي يعلّم (يو 14: 26)، الذي يهِّب حيث يريد وبقدر ما يريد (يو 3: 8)، يرشد (مز 142: 10)، ويتكلّم (أع 13: 2) ويُرسل (أع 13: 4)، ويفرز (أع 13: 2)... ويوحي (يو 16: 3)، وينير (يو 14: 26)، ويحيي (يو 6: 63)، أو بالأحرى الذي هو نفسه نور وحياة، ويجعلنا هيكله (1 كو 3: 16)، ويؤلّهنا[601] (1 كو 3: 16)، ويقودنا إلى الكمال (يو 16: 13)، بحيث إنّه يسبق المعموديّة (أع 10: 47)، ويُطلب بعد المعموديّة... يوزّع المواهب الروحيّة (1 كو 12: 11)، يصنع الرسل والأنبياء والمبشّرين والرعاة والمعلّمين (أف 4: 11)[602].
القديس غريغوريوس النزينزي
"فصاموا حينئذ وصلّوا،
ووضعوا عليهما الأيادي، ثم أطلقوهما". [3]
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن شاول سيم في إنطاكية حيث كان يخدم[603].
يقدم لنا القديس لوقا أول طقس سيامة كنسية، فقد جاءت الدعوة أولًا من الروح القدس بعد صوم وصلاة وشوق حقيقي لنمو الخدمة والشهادة للسيد المسيح. قام الروح القدس بتعيين الأسماء لأنه هو العارف القلوب، وجاء وضع الأيادي يتناغم مع إرادة الروح القدس، فدور الكنيسة هو تحقيق هذه الإرادة ليعيش الكل في شركة الروح ووحدتها. هنا صورة حية للسيامة بوضع الأيدي بعد دعوة الروح القدس الأشخاص للعمل الكرازي خلال ليتورجيا الإفخارستيا وممارسة صوم خاص.
تمت السيامة وهم صائمون، فقد احتل الصوم مركزًا خاصًا في حياة الكنيسة الأولى بكونه علامة حيَّة تشير إلى انشغال الكنيسة بالمائدة السماوية، وأنها في ممارستها للحياة اليومية من أكلٍ وشربٍ ونومٍ، إنما من أجل الضرورة، وليس لأية لذة أو متعة جسدية.
* لنطلب الطعام لكي نقتات به لا ليحطمنا. نطلب الطعام كقوتٍ لنا، لا كمجال للأمراض، أمراض النفس والجسد. نطلب الطعام الذي يعطي راحة لا ترفًا حيث يكون مملوء إزعاجًا[604].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. بدء الرحلة الأولى
"فهذان إذ أُرسلا من الروح القدس،
انحدرا إلى سلوكية،
ومن هناك سافرا في البحر إلى قبرس". [4]
هنا تبدأ أول رحلة كرازية للقديس بولس الرسول:
سلوكية: على شاطيء فينيقية مقابل قبرص، وهي ميناء أنطاكية المشهور وتُدعى أيضًا بيرية Pieria الواقعة على بعد ١٦ ميلًا شرق أنطاكية وخمسة أميال شمال مصب نهر الأورنتس. أسسها سلوكيوس نيكاتور أول ملوك السلوقيين سنة ٣٠١ ق.م. ولما نزلوا في قبرص نزلوا في المدينة المقابلة على الساحل الشرقي، وهي مدينة سلاميس.
يا للعجب كان شاول الفرّيسي حتمًا يتحاشى الذهاب إلى قبرص، الذي تغنّى الشعراء بفسادها وانحلالها، بكونها الجزيرة العزيزة على الإلهة فينوس. وها هو الآن شاول المسيحي قد دُعي للانطلاق إليها ليُقاوم كل انحلال فيها، ويُقيم مع شعبها هيكلًا لروح الله القدّوس.
* كمن يطير سافر (القديس بولس) على البر وفي البحر، في اليونان وكل مناطق البرابرة، وباختصار سافر في كل الدول تحت السماء. لم تكن رحلاته باطلة، فإنه حيثما سافر كان ينزع أشواك الخطية، ويزرع بذور التقوى في كل موضع، يزيل الخطأ، ويقدم الحق للشعب، يحول البشر إلى كائنات سماوية، وما هو بالأكثر، أقامهم من شياطين إلى ملائكة[605].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذ انحدرا إلى سلوكية لم يبقيا فيها لأنها يعلمان أن أهل سلوكية قد انتفعوا كثيرا من الخدمة في إنطاكية حيث بقي القديسين بولس وبرنابا سنة كاملة.
"ولما صارا في سلاميس
ناديا بكلمة الله في مجامع اليهود
وكان معهما يوحنا خادمًا". [5]
سلاميس: مدينة يونانية على الساحل الشرقي القبرصي، كانت العاصمة ومركز التجارة الأول في قبرص الشرق وقاعدة الحكم لنصفها الشرقي. بينما باغوس هي عاصمة الغرب وأكثر منها أهمية. كانت سلاميس مقصد اليهود بها أكثر من مجمع. وكانت مجامع اليهود هي المقصد الأول للقديس بولس في كرازته ورحلاته حيث وضع في قلبه أن يبدأ بهم دومًا في الكرازة بإنجيل المسيح، لكن عينيه كانت دائمًا مركزة على المترددين من الأمم داخل المجامع، وكانوا معروفين بخائفي الرب أو الأتقياء.
"وكان يوحنا معهما خادمًا": يرى البعض أن تعبير "خادم" هنا بحسب التقليد الكنسي تعني قيامة بعماد المؤمنين، ويرى آخرون أنها تشير إلى خدمة تعليم الموعوظين.
مرافقة القديس مرقس يوحنا لهما كانت مصدرًا خصبًا للمعلومات الدقيقة التي وردت في سفر أعمال الرسل، إذ كانت اجتماعات الكنيسة الأولى في أورشليم تتم في العلية التي لبيت والدته (أع ١٢: ١٢).