الرسالة إلى أهل رومية 6 - تفسير رسالة رومية
بنوّة المؤمنين لله للقمص تادرس يعقوب ملطي
فنّد الرسول بولس حجة اليهود من جهة بنوّتهم لإبراهيم الحرّ جسديًا، موضحًا أن إبراهيم قد تبرّر وهو في الغُرْلة بالإيمان، كما تبرّر بذات الإيمان وهو في الخِتان، لذا فهو أب أهل الغُرْلة كما هو أب أهل الخِتان، هو أب الجميع. فإن أردنا البنوّة لإبراهيم نلتزم أن نتبرّر معه بالإيمان. الآن يرفعنا الرسول من البنوّة لإبراهيم إلى البنوّة لله نفسه في مياه المعموديّة التي يتمتّع بها الأممي المتنصر كما اليهودي المتنصر، ليعيش الكل كأبناء الله في جدّة الحياة، يمارسون حياة المسيح المُقامة، مقدّمين أجسادهم آلات برّ لله، بعد أن كانت آلات إثم للخطية. هذا هو مفهوم الحرّية الجديد: ليس الانتساب جسديًا لإبراهيم، وإنما ممارسة الحياة المقدّسة بالنعمة الإلهية بروح البنوّة.
1. الحياة الجديدة بالمعموديّة
1-14.
2. الحرّية في المسيح يسوع
15-23.
1. الحياة الجديدة بالمعموديّة
سبق أن تحدث في الأصحاح السابق عن فيض نعمة الله المجّانية التي لا تقف عند غسلنا من الخطيّة ومحو آثارها، أي الموت، إنما تفيض فينا بغنى عطايا إلهية بلا حصر. إذ تهبنا برّ الله، وتقدّم لنا الحياة أبديًا بشركة أمجاد إلهية وميراث سماوي فائق. بهذا أكدّ الرسول ليس فقط تفَّوق آثار النعمة على أثر الخطيّة، وإنما أكدّ التزامنا ونحن نتمسك بالنعمة أن نحيا كما يليق بمن نالها، مقدّسين في الرب. هذا ما عاد ليؤكّده بأكثر وضوح في هذا الأصحاح مبرزًا بنوّتنا لله التي ننالها خلال نعمة المعموديّة، إذ يقول:
"فماذا نقول؟ أنبقى في الخطيّة لكي تكثر النعمة؟ حاشا!
نحن الذين مُتنا عن الخطيّة، كيف نعيش بعد فيها؟
أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟
فدفنا معه بالمعموديّة للموت،
حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب،
هكذا نسلك نحن أيضًا بجدة الحياة" [1-4].
إن كان الله بكثرة رحمته أفاض بنعمته علينا لينزع عنّا كل أثر للخطية، فتمجّد فينا نحن الخطاة، هذا لا يدفعنا للاستهتار بالخطيّة أو التهاون في الجهاد ضدّها، إنما يليق بنا أن نتركها سالكين كما يليق بنا كأولاد لله، نلنا بنعمته البنوّة له. هكذا يضع الرسول بولس "المعموديّة" أمامنا لندرك مركزنا الجديد خلال النعمة فنحيا في جدة الحياة كأولاد لله.
هذا هو عمل الكنيسة تجاه المؤمنين، كأم نحو أولادها، تأكيد نعمة الله المجّانية كباعثٍ حقيقي للجهاد بلا انقطاع، وتذكير الكل بمركزهم الجديد خلال مياه المعموديّة، ليعيشوا كل زمان غربتهم سالكين بقوّة القيامة كأولاد لله، في جهادٍ غير منقطعٍ.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[143] أن المعموديّة قد أماتت الخطيّة فينا، ولكي تظلّ الخطيّة ميّتة يليق بنا أن نجاهد بلا انقطاع، فلا نُطيع الخطيّة بالمرّة، بل نقف أمامها جامدين كالموتى.
* ماذا يعني"اعتمدنا لموته"؟ يقصد موتنا نحن كما مات هو. فالمعموديّة هي الصليب، وما كان الصليب والدفن بالنسبة للمسيح تكون المعموديّة بالنسبة لنا، ولو أن التطابق ليس تمامًا. لأنه هو مات ودُفن بالجسد، أمّا نحن فنمارس الاثنين (الموت والدفن) بالنسبة للخطية.
لم يقل "متّحدين معه بموته" وإنما قال "بشبه موته" [5]، فإن هذا وذاك هما موت، لكن موضوع الموت مختلف، المسيح مات بالجسد، أمّا نحن فنموت عن الخطيّة التي من عندياتنا[144].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* واضح أن من يعتمد يُصلب فيه ابن الله، فإن جسدنا لا يقدر أن يطرد الخطيّة ما لم يصلب مع يسوع المسيح[145].
القديس أمبروسيوس
* لندفن مع المسيح بالمعموديّة لنقوم معه!
لننزل معه لكي نرتفع أيضًا معه!
لنصعد معه، فنتمجّد أيضًا معه![146]
القديس غريغوريوس النزينزي
* الآن إن كنّا نتمثل بموته، فالخطيّة التي فينا تكون بالتأكيد جثمانًا ميتًا، تُجرح برمح المعموديّة كما ضرب فينحاس الغيور الزاني بالرمح[147] (عد25: 6-15).
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
ويلاحظ في حديثه عن تمتّعنا بالحياة الجديدة في مياه المعموديّة الآتي:
أولًا: يربط الرسول بين الصلب والدفن والقيامة، أو بين الموت مع السيد المسيح والحياة معه بقوّة قيامته. فإن كانت المعموديّة هي دفن، فهي في نفس الوقت قيامة، بهذا نفهم طريق المسيح كطريق كرْب، وفي نفس الوقت طريق مُبهج، لأنه طريق الألم مع المسيح والقيامة معه. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تمتّعنا بقيامته ليس أمرًا مستقبليًا فحسب، إنما هي حياة حاضرة نعيشها في حياتنا اليومية.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ يلمح هنا عن التزامنا بالسلوك المدقق يُشير إلى موضوع القيامة... فإنه يقصد بكلماته هكذا: أتؤمن أن المسيح مات وقام؟ آمن بهذا من جهة نفسك، فالقيامة كالصلب والدفن هي خاصة بك. إن كنت تشترك في الموت والدفن فبالأولي أن تشترك في القيامة والحياة. إن كانت الخطيّة، الأمر الأصعب، قد أُزيلت فبلا شك يُنزع الموت الأمر الأقل (فتنال القيامة) الآن. إذ يقدّم لنا القيامة فإنه يسألنا أمرًا آخر هو تغيير (تجديد) عاداتنا هنا (بكونها قيامة عاملة فينا). فعندما يصير الزاني عفيفًا والطماع رحيمًا والعنيف مطيعًا، بهذا تكون القيامة عاملة هنا كعربون للقيامة الأخرى. كيف يُحسب هذا قيامة؟ لأن الخطيّة تموت والبرّ يقوم، الإنسان القديم ينتهي، والجديد الملائكي يعيش[148].]
يكمل القديس يوحنا الذهبي الفم حديثه عن الموت مع المسيح والقيامة معه في جرن المعموديّة، مبرزًا دورنا الإيجابي في "الإماتة". فإن كان السيد المسيح يهبنا أن نموت معه في المعموديّة، إنما ليقدّم لنا إمكانية السلوك والجهاد كل أيام غربتنا بلا توقف، حتى لا نفقد نعمة المعموديّة أو ثمرها فينا، أي حتى لا نفقد تمتّعنا بالموت مع المسيح. يقول القدّيس الذهبي الفم:
[يتحدّث الرسول عن نوعين من الإماتة والموت، الأولي هي عمل المسيح (فينا) في المعموديّة، والثاني نمارسه بشغف بعد المعموديّة؛ فدفن خطايانا السابقة هو هبة منه، لكن أن نبقى أمواتًا عن الخطيّة بعد المعموديّة، فيلزم أن يكون موضع شغفنا لنجد الله نفسه معينًا لنا. فإن سلطان المعموديّة لا يقف عند محو معاصينا السالفة، إنما تهبنا أمانًا من جهة المعاصي اللاحقة. بالنسبة للخطايا السابقة نساهم نحن بالإيمان لكي تُمحى، وهكذا أيضًا بالنسبة للخطايا اللاحقة يلزمك إظهار تغيير نيّتك مؤكدًا أنك لا تدنّس نفسك بعد. هذا هو ما يُشير به عليك الرسول بقوله: "إن كنّا قد اتحدنا (زرعنا) معه في شبه موته نصير أيضًا بقيامته" [5]. ألا تلاحظ كيف يستثير سامعه ليقوده إلى سيده محتملًا آلامًا كثيرة ليصير على شبهه؟ لهذا لم يقل: "اتّحدنا (زُرعنا) معه في موته" لئلاّ تعارضه بل قال: "في شبه موته". لأن جوهرنا لا يموت بل "إنسان الخطيّة" أي "الشرّ" هو الذي يموت.
"إن كنّا قد زرعنا معه"؛ فبإشارته للزرع هنا يلمح إلى الثمر الذي ينتج عنه، فكما أن جسد (المسيح) بدفنه في الأرض قدّم لنا ثمر الخلاص للعالم، هكذا نحن أيضًا إذ ندفن في المعموديّة نحمل ثمر البرّ والتقديس والتبنّي وبركات بلا حصر، كما نحمل بعد ذلك عطيّة القيامة.
نحن دفنا في المياه، أمّا هو ففي الأرض. نحن دُفنا عن الخطيّة، أمّا هو فمن جهة الجسد، لذلك لم يقل: "زُرعنا معه في موته" وإنما "في شبه موته"... لكنه لم يقل: "نصير أيضًا في شبه قيامته" بل "بقيامته" ذاتها[149].]
ثانيًا: غاية المعموديّة إننا إذ نُصلب مع السيد المسيح ننعم بالحياة المُقامة الجديدة، فنعيش هنا بفكر سماوي متمتعين بعربون الميراث الأبدي.
* الغنوسي (صاحب المعرفة الروحيّة الحقيقية) لن يضع غايته الرئيسية في الحياة (الزمنيّة) إنما يبقي على الدوام سعيدًا ومطوّبًا وصديقًا ملوكيًا لله[150].
القدّيس إكليمنضس السكندري
* يتقبل المعمدون الميراث، هؤلاء الذين يعتمدون بموت المسيح ويدفنون معه ليقوموا معه. لذا فهم ورثة الله ووارثون مع المسيح (رو8: 17)، ورثة الله لأن نعمة المسيح توهب لهم؛ وورثة مع المسيح، لأنهم يتجدّدون بحياته، وهم أيضًا ورثة المسيح إذ وهبهم الميراث بموته، كما لو كانوا ورثة للموصي[151]
القديس أمبروسيوس
ثالثًا: إذ أراد الرسول تأكيد حقيقة القيامة لم يقل "نصير أيضًا بشبه قيامته" بل "بقيامته" عينها، قدّم لنا عربون هذه القيامة المقبلة خلال حياتنا الزمنيّة، قائلًا: "عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه، ليبطل جسد الخطيّة، كي لا نعود نُستعبد أيضًا للخطية، لأن الذي مات قد تبرّأ من الخطيّة، فإن كنّا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه" [6-8]. لنمت هنا عن الخطيّة فنحيا للبرّ. هذه هي القيامة الأولى التي يدعوها الرسول "جدّة الحياة" [4]، عربون القيامة الأخيرة.
"جسد الخطيّة": الذي يبطل هو شرور الإنسان وآثامه التي عاشت فيه فمات روحيًا. بالمعموديّة يموت الإنسان القديم بهذا الجسد، أي "الآثام"، ليُمارس قوّة القيامة كحياة جديدة، بفكرٍ جديدٍ وتسبحةٍ جديدة.
يقول القديس جيروم: [حتى التسبحة التي نتغنًى بها جديدة (رؤ14: 3) إذ نخلع الإنسان القديم (أف4: 22)، فلا نسير في عتق الحرف بل في جدة الروح (رو7: 6)... أنه لا يسعفني الوقت لأحاول تقديم كل عبارات الكتب المقدّسة الخاصة بفاعلية المعموديّة شارحًا لك التعاليم السرية الخاصة بهذا الميلاد الجديد الذي هو ميلاد ثانِ لكنه يُحسب الأول في المسيح[152].]
حاول كثير من الآباء تأكيد أن الذي يموت في المعموديّة ليس "الجسد" إنما "جسد الخطيّة"، مظهرين خطأ بعض الأفكار الغنوسية التي تنظر إلى الجسد (الجسم) كعنصر ظلمة يجب الخلاص منه ومقاومته. فإننا نؤمن بأن الله لم يخلق فينا عنصر ظلمة، ولا شرًا، وأن الجسد بأحاسيسه وعواطفه وقدراته هو من صنع الله الصالح. إنما نحن أفسدناه بانحراف الأحاسيس والعواطف عن غايتها وانحراف الحب إلى الشهوة والدنس. وكما يقول العلامة ترتليان في مقاله عن "قيامة الجسد": [الجسد ليس مضادًا للخلاص بل أعمال الجسد (المنحرفة). عندما تُنزع عنه هذه الأعمال المسببة للموت يظهر الجسد في آمان ويتحرّر من كل علّة الموت[153].] ويكمل حديثه بإفاضة[154] مؤكدًا أن الذي يصلب مع المسيح ليس هيكل الجسد ولا كيانه الذاتي، إنما سلوكه الأخلاقي (أو الطبيعة الفاسدة) وأحاسيس الخطيّة التي طرأت عليه، مدلّلا على ذلك بأن الرسول لم يقل: "كي لا نعود نستعبد أيضًا للجسد" بل قال: "للخطية" [6]. وأيضًا لم يقل: "احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الجسد" وإنما قال: "عن الخطيّة" [11]. وقد سبق لي معالجة هذا الموضوع في مقدّمة كتاب "العفة" للقديس أغسطينوس الذي سبق لي ترجمته ونشره.
رابعًا: إن كنّا نقبل أن نبقي في حالة "موت عن الخطيّة" فما هي المكافأة؟ "فإن كنّا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه" [8]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه إذ يطلب الرسول منّا أن نقوم بهذا الدور البطولي أن نموت عن الخطيّة، فنصير بالنسبة لها كمن هو مُلقي جامدًا بلا حراك، فلا نشوّه عطيّة الله التي وُهبت لنا في المعموديّة يقدّم لنا الأكاليل: "الحياة مع المسيح"، قائلًا "سنحيا أيضًا معه". [حقًا حتى قبل نوالنا الإكليل، فإن الشرّكة مع سيدنا هي في ذاتها أعظم إكليل[155].]
خامسًا: لئلاّ يستثقل المؤمن هذا الطريق: "الموت مع المسيح"، خاصة وأنه يطالبنا به كل أيام غربتنا بعد تمتّعنا بالدفن معه في المعموديّة، أوضح الرسول جانبين: الأول أن هذا الموت هو "مع المسيح"، يرافقنا الطريق بكونه الحياة والقيامة، فلا يستطيع الموت أن يحطمنا، والثاني أن المسيح مات مرة واحدة عن خطايانا وقام، فلا يعود يموت ثانية، هكذا يهبنا قوّة القيامة والغلبة على الخطيّة. بهذا لا يكون موتنا عن الخطيّة حرمانًا أو خسارة، بل ممارسة لقوّة الغلبة والنصرة التي لنا بالمسيح غالب الخطيّة والموت. هذا هو ما قصده الرسول بقوله: "عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضًا، لا يسود عليه الموت بعد، لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله، كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيّة، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا" [9-11].
أكد الرسول أن السيد المسيح لم يمت عن ضعف خاص به، إنما "للخطية"، لكي يحطم خطايانا ويبدّد قوّتها، لهذا لم يعد لها سلطان علينا مادمنا في اتحاد معه. حقًا الخطيّة خاطئة جدًا وعنيفة، بسببها مات المسيح عنّا مرة واحدة، لكنه بموته هدم سلطانها، فلا نخاف من السير معه في هذا الطريق.
لقد مات المسيح مرة واحدة بلا تكرار، لأنه لم يمت عن ضعف بل عن قوّة الحب الباذل، لكي إذ لا يموت مرة أخرى يهبنا أن نشترك معه في موته وأن نشاركه قيامته التي لا يغلبها الموت.
* هذه هي نعمة الله، وهذه هي طرق الله في إصلاح بني البشر، فإنه تألم ليحرّر الذين يتألّمون فيه،
نزل لكي يرفعنا،
قبل أن يولد حتى نحب ذلك الذي هو ليس (بإنسان مولود عادي)،
نزل إلى حيث (الموت) ليهبنا عدم الموت،
صار ضعيفًا لأجلنا حتى ننال قوة...
أخيرًا صار إنسانًا حتى نقوم مرة أخرى نحن الذين نموت كبشر، ولا يعود يملك الموت علينا، إذ تعلن الكلمات الرسولية قائلة: "لا يسود علينا الموت بعد[156]" [راجع9، 14].
القدّيس البابا أثناسيوس الرسولي
لقد أكد الرسول أن المسيح مات مرة واحدة عن الخطيّة، لهذا ففي سرّ الإفخارستيا نقبل السيد المسيح الذي مات مرة على الصليب، فنقبل ذات عمل الصليب الذي لا يتكرّر، إنما هو ممتدّ في حياة الكنيسة كسرّ غلْبتها على الخطيّة والموت، ويبقى سرّ تسبيحها الذي لا ينقطع حتى في الأبدية.
مات السيد المسيح مرة واحدة عن الخطيّة، مقدمًا ذبيحة الحب باسمنا، هذه التي يشتهي أن يقدّمها في حياة شعبه وخدامه. يروي لنا القديس أمبروسيوس[157] قصة لقاء السيد المسيح مع القدّيس بطرس عند أبواب روما وهو خارج تحت ضغط المؤمنين ليهرب من الاستشهاد، فرأى السيد حاملًا صليبه، فعرف أنه يريد أن يُصلب في شخص خادمه، لهذا عاد إلى روما، وقدم نفسه للموت من أجل المسيح، وتمجّد ربنا يسوع بصلبه.
سادسًا: إن كان المسيح قد مات "للخطية" كي لا يكون لها سلطان علينا، فإنه لا يليق بنا إلا أن نسلِّم القلب عرشًا له، بعد أن ملَكت عليه الخطيّة زمانًا. لنمت عن الخطيّة، فلا تملك علينا بعد. ولنحيا لله بالمسيح يسوع ربنا الذي يملك فينا، ويقيم مملكته داخل قلوبنا، مقدّمين كل أعضاء جسدنا وطاقاتنا وعواطفنا لحساب ملكوته، كآلات برّ لله بعد أن كانت خاضعة للشهوات كآلات إثم للخطية.
هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: "كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيّة ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا. إذن لا تملكنّ الخطيّة في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته، ولا تقدّموا أعضائكم آلات إثم للخطية، بل قدّموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات، وأعضاءكم آلات برّ لله، فإن الخطيّة لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" [11-14].
يوضّح الرسول أن المسيح يسوع ربنا هو الذي يهبنا الموت عن الخطيّة والحياة للآب كأبناء له؛ وهو الذي يحطم الشهوة الشرّيرة لا الجسد ذاته، محوِّلًا أعضاء الجسد من آلات إثم للخطية إلى آلات برّ لله، لهذا وجب أن يملك هو فينا لا الخطيّة.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في قول الرسول "لا تملكن الخطيّة" إعلانًا عن استعباد الخطيّة لإنسان، إذ تودّ أن تحكمه بالقوّة والقهر. لذا من يعود إليها بعدما تمتّع بنعمة المسيح يكون كمن قذف بالتاج من على رأسه ليحني رقبته لعبودية امرأة مجنونة مهلهلة الثياب وعنيفة. أمّا قوله "في جسدكم المائت" إنما لكي يوضّح الرسول أن الجهاد مؤقت وله نهاية مادام مرتبط بجسدنا الزمني.
فيما يلي بعض مقتطفات للآباء بخصوص ملكية المسيح فينا وملكية الخطيّة علينا:
* لا يجسر أحد أن يقول: "ملكي وإلهي" (مز5: 1) إلا ذلك الذي لا تملك الخطيّة في جسده المائت...
أنت تملك فيّ، أمّا الخطيّة فلا تملك، لأنك أنت إلهي!
أنت هو إلهي، لأن بطني ليست إلهًا لي، ولا الذهب ولا الشهوة!
أنت هو الفضيلة، أودّ أن أقتنيك!
أنت هو إلهي، أنت هو فضيلتي![158]
القديس جيروم
* إنها كرامة عظيمة وشرف كبير أن يكون الإنسان عبدًا للرب لا للخطية[159].
* "قلب الملك في يدّ الرب" (أم 21: 1). لنكن ملوكًا فنحكم جسدنا (من الخطيّة) ونخضعه، فيكون قلبنا في يد الله[160].
القديس جيروم
* هذا هو عملنا الحالي مادامت حياتنا مستترة، ألا نملك الخطيّة أو شهوة الخطيّة في جسدنا المائت،فإننا إن كنّا نطيع شهوتها تملك علينا.
شهوة الخطيّة فينا، لكنّنا لا نسمح لها أن تملك علينا. ورغبتها موجودة، لكن يلزم ألا نطيعها حتى لا تسيطر علينا. فإذ لا نسمح للشهوة أن تغتصب أعضاءنا بل للعفة أن تطلبها كحق لها، بهذا تكون أعضاؤنا آلات برّ لله وليست آلات إثم للخطية. بهذا لا تسودنا الخطيّة، لأننا لسنا تحت الناموس الذي يأمر بما هو للخير دون أن يهبه، بل تحت النعمة التي تحببنا بما يأمر به الناموس، وهي قادرة على السيطرة على (الإرادة).
* مادامت الخطيّة بالضرورة موجودة في أعضائك فلا تجعل لها سلطان عليك لتملك، وإنما على الأقل اطردها ولا تطع متطلباتها.
هل يثور فيك الغضب؟ لا تُخضِع له لسانك بالنطق بكلمة شريرة، ولا تُخضع له يدك أو قدمك كأن تضرب بهما. ما كان يمكن للغضب غير المتعقل أن يثور فيك لو لم توجد الخطيّة في أعضائك، ولكن اُطرد قوّتها الحاكمة، فلا يكون لها أسلحة لمحاربتك، عندئذ تتعلم هي ألا تثور فيك إذ تجد نفسها بلا أسلحة...
هكذا يليق بكل أحد أن يجاهد إذ يبغي الكمال، حتى إذ تجد الشهوة نفسها بلا استجابة من الأعضاء تقل يومًا فيومًا خلال رحلتها[161].
القديس أغسطينوس
* "إذن لا تملكن الخطيّة في جسدكم المائت" [12]...لم يقل: "لا تدعها توجد هناك" لأنها هي موجودة فعلًا.
* ما دمت تحمل جسدًا قابلًا للموت تحاربك الخطيّة؛ لكن ليتك لا تجعلها تملك... أي اقطع رغباتها. فإن بدأتَ تطيعها تملك عليك.
ماذا يعني "تطيع"؟ تخضع أعضاؤك كآلات إثم للخطية[162].
القديس أغسطينوس
سابعًا: مرة أخرى يؤكّد الرسول أن الدعوة للموت مع المسيح لا تعني تحطيم كيان الجسد بل تقديسه، فقد رأينا في الحديث عن المعموديّة أن الإنسان العتيق الذي يُصلب [6] إنما يبطِل جسد الخطيّة لا أعضاء الجسد في ذاتها، والآن إذ يتحدّث عن الجهاد بعد المعموديّة خلال إمكانيات المعموديّة أو خلال "عمل النعمة" فينا يؤكّد أن الدعوة للموت مع المسيح ليست دعوة سلبيّة للخسارة والتبديد، وإنما دعوة إيجابيّة للربح
فالموت هنا هو ربح، إذ فيه تمتّع بالمعيّة مع المسيح المصلوب القائم من الأموات، القادر لا على تحطيم أعضاء الجسم كآلات إثم للخطية وإنما بالأحرى يقيمها آلات برّ لله، واهبًا إيّاها تقديسًا من عنده.
يقول الرسول: "ولا تقدّموا أعضاءكم آلات إثم للخطية، بل قدّموا ذواتكم للَّه كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات برّ لله" [13].
والعجيب قبل أن يطالبنا بتقديم أعضاءنا آلات برّ لله يطالبنا بتقديم "ذواتنا لله كأحياء من الأموات"، بمعنى أنه لن تتقدّس أعضاؤنا الجسديّة ما لم يتقدّس كياننا ككل، ونقبل القيامة عاملة في نفوسنا كما في فكرنا وجسدنا الخ...
* الأعضاء عينها التي اعتدنا أن نخدم بها الخطيّة ونجلب بها ثمرة الموت يريدنا الله أن نستخدمها للطاعة للبرّ فنثمر للحياة[163].
القدّيس إيريناؤس
يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أنه إذ يتقدّس الإنسان في كُلّيته، خاصة النفس، تتحوّل الأعضاء الجسديّة من آلات إثم إلى آلات برّ لمجد الله. فتكون النفس كالمرأة التي وجدت الدرهم المفقود (لو 15)، فدعت جيرانها ليفرحوا معها ويشاركونها بهجتها بالدرهم. هكذا أعضاؤنا أشبه بالجيران، ندعوها لتمارس فرحنا بخلاص الرب عمليًا!
ثامنًا: يختم الرسول بولس حديثه عن عمل المعموديّة الملتحم بالجهاد الروحي، قائلًا: "فإن الخطيّة لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" [14]، مؤكدًا الإمكانيات الجديدة التي صارت لنا خلال النعمة، التي تعمل فينا في مياه المعموديّة كما في جهادنا اليومي، الإمكانيات الواهبة للغلبة والنصرة.
2. الحرّية في المسيح يسوع
إذ ركّز الرسول بولس أنظارنا نحو المعموديّة كأبناء لله، نمارس هذه البنوّة خلال موتنا مع المسيح وحياتنا معه كل أيام غربتنا، أراد أن يصحّح مفهومًا خاطئًا استقر في ذهن اليهود، ألا وهو أنهم أحرار لمجرد انتسابهم لإبراهيم جسديًا، الأمر الذي وضح في حوارهم مع السيد المسيح حين أعلن لهم: "أنكم إن ثبتّم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (يو8: 31-32)، "أجابوه: إننا ذُرّية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارًا؟ أجابهم يسوع: الحق الحق أقول لكم أن كل من يعمل الخطيّة هو عبد للخطية، والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أمّا الابن فيبقى إلى الأبد، فإن حرّركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 33-36).
يلاحظ في حديث الرسول بولس هنا عن الحرّية التي صارت لنا في المسيح يسوع الآتي:
أولًا: يستخدم الرسول أسلوب التشجيع، إذ يقول: "فشكرًا للَّه أنكم كنتم عبيدًا للخطية، ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلّمتموها، وإذ أُعتقتم من الخطيّة صرتم عبيدًا للبرّ" [17-18]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يعود فيُدخل الثقة في نفوسهم بعد أن أزعجهم بالخزي وأرعبهم بالعقاب، مظهرًا لهم أنهم بالفعل نالوا الحرّية من شرورٍ كثيرة بفضل النعمة الإلهية، لذا وجب عليهم تقديم الشكر لله على هذه العطية. بمعني آخر، إن كان الرسول يدعونا للحرية، فإنه يدعونا لحياة نمارسها بالنعمة، يجب أن تزداد وتلتهب فينا.
ثانيًا: بقوله "أطعتم من القلب" يُشير إلى أن الحرّية التي نمارسها لا تتحقق عن اضطرار، إنما تُمارس خلال الحب "من القلب" بكمال إرادتنا. فالحرّية في المسيح هي عبودية للبرّ [18] لكنها عبودية الحب الاختياري وليس عبودية العنف الإلزامي؛ عبودية النضوج والالتزام بلا استهتار أو تسيّب!
* لا يقل المسيحي أنني حرّ، أفعل ما يحلو لي، ليس لأحد أن يكبح إرادتي مادمت حرًا. إن كنت بهذه الحرّية ترتكب خطيّة فأنت عبد للخطية.
لا تفسد حريتك بالتحرّر للخطية، إنما لاستخدامها في عدم ارتكاب الخطيّة. "فإنكم إنما دُعيتم للحرّية أيها الإخوة، غير أنه لا تُصيِّروا الحرّية فرصة للجسد بل بالمحبّة اخدموا بعضكم بعضًا" (غل5: 12) [164].
القديس أغسطينوس
ثالثًا: ما هي صورة التعليم التي تسلّمناها لنطيعها من القلب؟ "إذ أعتقتم من الخطيّة صرتم عبيدًا للبرّ"... أي خروج بالنعمة من حالة العبوديّة القاسية التي أذلتنا بها الخطيّة إلى حالة عبودية للبرّ يبتهج بها قلبنا بالحب الداخلي.
رابعًا : يقول الرسول: "أتكلم إنسانيًا من أجل ضعف جسدكم" [19]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول يتكلّم معهم بكونه إنسانًا، يشاركهم ذات العمل، فهو لا يتحدّث متعاليًا عن أمر عسير صارم، إنما يوصيهم كإنسان يحمل معهم ذات طبيعتهم، وله خبرة عمليّة أنه كان قبلًا يستخدم أعضاءه لخدمة الإثم وقد تحررت، فصارت أعضاؤه متعبدة للبرّ.
خامسًا: يقارن الرسول بين العبوديّة للإثم والعبوديّة للبرّ، فيرى الأولي قاسية ومخزية، إذ يقول "تستحون منها" [21] ونهايتها الموت [21]، أمّا الثانية فعلى العكس تهب تقديسًا ونهايتها حياة أبدية [21]. فإن كانت الأولي تثمر عارًا وموتًا، فالثانية تثمر قداسة وحياة أبدية. ويرى الأب موسى أن الثمر الثاني يحمل مستويين: الهدف النهائي وهو الحياة الأبدية، وأمّا الهدف الحالي فهو "القداسة" التي هي "نقاوة القلب" والتي بدونها لن ننعم بالحياة الأبدية[165]. وكأن العبوديّة للبرّ تسندنا في زماننا الحاضر بثمرها الذي للبرّ حيث تهب القلب نقاوة، فيقدر على معاينة الله، وتدخل بنا إلى العالم الأبدي، إذ تهبنا "الحياة الأبدية".
سادسًا: إذ يتحدّث الرسول بولس هنا عن "الحياة الأبدية"[24] كعطيّة مجّانية للنعمة، يتساءل القديس أغسطينوس: كيف يمكن أن تكون "الحياة الأبدية" جزاءً لأعمال صالحة (مت 16: 27) وفي نفس الوقت عطيّة مجّانية للنعمة؟ وقد جاءت إجابته بإسهاب في كتابه عن "النعمة والإرادة الحرة[166]"، نقتطف منها الآتي:
[يبدو لي أن هذا السؤال لا يمكن حلّه مطلقًا ما لم نفهم أنه حتى الأعمال الصالحة التي نجازى عنها بالحياة الأبدية هي من عمل نعمة الله، لأنه عن ماذا قال الرب يسوع: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا"؟ (يو 15: 5)
والرسول نفسه بعدما قال: "لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطيّة الله، ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد" (أف2: 8-10) رأي بالطبع أن البشر يمكنهم أن يفهموا من هذه العبارة أن الأعمال الصالحة ليست هامة للمؤمنين، إنما يكفيهم الإيمان وحده، وفي نفس الوقت يرى أولئك المفتخرون بأعمالهم كما لو أنهم قادرون وحدهم على تنفيذها، لهذا وفّق بين هذه الآراء بعضها البعض... مكملًا: "لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيه"...
اسمع الآن وافهم إن عبارة: "ليس من أعمال" قيلت عن الأعمال التي تظن أن مصدرها هو أنت وحدك. لكن لتفتكر في الأعمال التي يشكِّلها الله فيك. عن هذه يقول: "نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع" "لأعمال صالحة قد سبق فأعدها الله لكي تسلك فيها"...
علي أي الأحوال تُعطى الحياة الأبدية هكذا، كجزاء لأعمال صالحة، لأن الله يعمل أعمالًا صالحة في أناس صالحين، قيل عنهم: "الله هو العامل فيكم أن ترّيدوا وأن تعملوا من أجل مسرّته"، حتى أن المزمور المطروح أمامنا يقول: "الذي يكلّلك بالرحمة والرأفة" (مز103: 4)، إذ من خلال رحمته تنفذ الأعمال الصالحة التي بها تنال الأكاليل.]