عبرانيين 13 - تفسير رسالة العبرانيين
وصايا ختامية الجزء(2)للقمص تادرس يعقوب ملطي
5. الهروب من الهرطقات
"يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.
لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَّوِعَةٍ وَغَرِيبَةٍ" [ع ٨، ٩]
إذ أراد أن يوصيهم بعدم الانسياق وراء التعاليم الغريبة المتنوعة أكد لهم أن "يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد". إنه ابن الله الحيّ الذي لم ولن يتغير، نقبله كما قبله آباؤنا بالأمس، ونسلم الإيمان به للأجيال المقبلة بلا انحراف.
إنه رئيس الكهنة السماوي الذي عمل في آبائنا ولا يزال يعمل لحسابنا ويبقى عاملاً إلى الأبد حتى يدخل بالكنيسة كلها إلى مجده الأبدي.
إذ نتمسك بالسيد المسيح نرفض البدع والهرطقات، لا نطلب جديدًا، إذ مسيحنا لا يشيخ ولا يقدم، بركاته جديدة في حياتنا كل يوم.
هنا أيضًا يلمح إلى الهرطقات التي ظهرت في عهده، إذ حملت فكرًا غنوسيًا يحرم الأطعمة لا لأجل النسك الروحي وإنما كدنس يلزم الامتناع عنها كما يدنسون الزواج ... يقول الرسول: "لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا" [ع ٩]. حتى في تلميحه يتحدث الرسول بلطف لينزع عنهم النظرة الغنوسية مقدمًا إليهم نظرة مقدسة إلى كل شيء حتى الطعام.
6. التألم مع المسيح
انتقل بهم الرسول من عدم الانسياق وراء البدع والهرطقات إلى ضرورة التأمل في آلام السيد المسيح المصلوب، وعوض الانشغال بالأطعمة الزمنية يليق بنا أن نرفع قلوبنا إلى الذبيح السماوي القدوس!
لقد أراد الرسول بالتأمل في الصليب أمرين: نزع المرارة التي لحقت بالعبرانيين الذين آمنوا بالمسيح لأنهم حُرموا من الطقوس اليهودية وطردوا من المحلة، وقبول الآلام مع المصلوب بفرح وسرور. يقول الرسول: "لَنَا مَذْبَحٌ لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ. فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ" [ع ١٠، ١١]. وكأنه يقول إن كان في الطقس اليهودي يحرم على الكهنة الأكل من الحيوانات التي يدخل بدمها عن الخطية بيد رئيس الكهنة وتحرق أجسامها خارج المحلة، فبالأولى جدًا ألاَّ يقدر كهنة اليهود أن يتمتعوا بذبيحة السيد المسيح الذي صُلب خارج المحلة وارتفع إلى السموات! حُرموا مما ننعم به، جسد الرب ودمه المبذولين من أجلنا، حرمو من سرّ الأفخارستيا الواهب التقديس! هنا يطمئنهم الرسول أنهم ليسوا هم محرومين بل أصحاب الطقس اليهودي الذين لا يزالوا في الظل والرمز محرومين من أكل الذبائح الحيوانية التي يقدسها رئيس الكهنة عن الخطية ومن الذبيحة الحقة التي وهبها السيد لمؤمنيه.
هذا العمل الطقسي أيضًا حمل رمزًا أن السيد المسيح يُطرد خارج المحلة ويُصلب خارج أورشليم، حتى نلتزم بالخروج معه وإليه لنحمل عار صليبه ونشترك معه في آلامه خلال طردنا من أورشليم ... "لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إِذاً إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ" [ع ١٢، ١٣]. إن كان هؤلاء العبرانيين قد طردهم مجلس السنهدريم كمرتدين، فلا يخجلوا فقد سبق فطُرد مسيحهم قبلهم. إنه لمجد عظيم أن نُطرد معه ونبقى خارج المحلة عربون خروجنا من هذا العالم وتمتعنا بالمدينة العتيدة؛ "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ" [ع ١٤]. الطرد من أورشليم الأرضية عربون الدخول إلى أورشليم العليا.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد صلب خارجًا كمدين، فلا نخجل نحن من طردنا خارجًا[184]]. بخروجه كمذنب صار لنا شرف الطرد خارجًا؛ وإن لم يخرجنا الناس خلال مضايقتهم لنا نخرج نحن عن محبة الزمنيات، حاملين الصليب في داخلنا، مشتهين المجد السماوي.
7. التسبيح
"فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ لِلَّهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ" [ع ١٥].
الخروج خارج المحلة لا يخلق في النفس تبرمًا وإنما يحول الإنسان إلى قيثارة إلهية تبعث الفرح وتنطق بالتسبيح، ما دام الإنسان لا يخرج بمفرده، وإنما مع السيد المسيح وفيه. يتحول الإلم والطرد إلى حالة فرح داخلي هو ثمر الروح القدس الذي يبهج المؤمن بتقديم نفسه ذبيحة حب لله في ابنه. هذه البهجة تعلن بالتسبيح خلال الشفاه المعترفة باسمه، وخلال القلب الداخلي، كما خلال العمل بتنفيذ الوصية، إذ يكمل الرسول، قائلاً: "وَلَكِنْ لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ" [ع ١٦]. كأن التسبيح ليس مجرد كلمات تنطق بها الشفاه وإنما هي طبيعة يعيشها المؤمن، يعلنها في قلبه بالمشاعر المملوءة حبًا لله، وبالشفاه خلال كلمات التسبيح، وبالعمل الصالح الروحي. يعلق القديس چيروم على كلمات المرتل "لتصفق الأنهار بالأيادي" قائلاً: [إن المؤمنين وقد صاروا أنهارًا تفيض عليها المياه من النهر الأصلي ربنا يسوع تصفق بالعمل الروحي المستمر كما بالأيدي، تسبح للثالوث القدوس بالسلوك الحيّ].
8. الخضوع للمرشدين
"أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا، لأَنَّهُمْ يَسْهَرُونَ لأَجْلِ نُفُوسِكُمْ كَأَنَّهُمْ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً، لِكَيْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِفَرَحٍ، لاَ آنِّينَ، لأَنَّ هَذَا غَيْرُ نَافِعٍ لَكُمْ" [ع ١٧].
يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن أهمية الخضوع للإرشاد الروحي، قائلاً: [إن عدم الرئاسة لأمر رديء، يسبب مصائب جمة! إنه بداية الاضطراب والشغب وسوء النظام! وكما أنه إذا نُزع الرئيس عن الخورس لا يبقى ما عليه من لحن ونظام، وإذا أُبعد عن الجيش قائده لا يثبت في استقامة ترتيبه ... وإذا ما عدمت السفينة مدبرها تغرق، هكذا إذا أُبعدت الراعي عن المرعى تسيء إليه وتهلكه ... إذن فعدم الرئاسة أمر رديء ومسبب للفساد، وأما ما هو أردأ منه فهو عصيان المرؤسين ... فإذ لا يرضخ الشعب لرسم رئيسه يكون حاله أشبه بمن لا رئيس لهم، بل وأكثر شرًا. لأن الذين ليس لهم رئيس معذورون في سوء نظامهم ... أما من لهم رئيس ولا يطيعونه فلا عفو لهم وإنما يعاقبون[185]].
ليست طاعة المرشدين تعني أرستقراطية الرعاة أو أفضليتهم عن الشعب، فإن الرسول بولس نفسه يشعر بعوزه إلى صلوات شعبه، قائلاً: "صَلُّوا لأَجْلِنَا، لأَنَّنَا نَثِقُ أَنَّ لَنَا ضَمِيراً صَالِحاً، رَاغِبِينَ أَنْ نَتَصَرَّفَ حَسَناً فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَلَكِنْ أَطْلُبُ أَكْثَرَ أَنْ تَفْعَلُوا هَذَا لِكَيْ أُرَدَّ إِلَيْكُمْ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ" [ع ١٨، ١٩]. يعلن الرسول بولس علاقة الحب المتبادل بين الراعي ورعيته. الراعي يصلي عنهم وهم عنه. هو يشتاق أن يلتقي بهم سريعًا فيطلب صلواتهم لتسنده ويحقق اشتياق قلبه من نحوهم.
9. ختام الرسالة
يختم الرسول بولس حديثه بالبركة الرسولية: "وَإِلَهُ السَّلاَمِ الَّذِي أَقَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ رَاعِيَ الْخِرَافِ الْعَظِيمَ، رَبَّنَا يَسُوعَ، بِدَمِ الْعَهْدِ الأَبَدِيِّ، لِيُكَمِّلْكُمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ لِتَصْنَعُوا مَشِيئَتَهُ، عَامِلاً فِيكُمْ مَا يُرْضِي أَمَامَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ" [ع ٢٠، ٢١].
جاءت البركة الرسولية متناغمة مع صلب الرسالة، إذ يطلب الرسول لهم من الله الآب أن يهبهم الحياة الكاملة في كل عملٍ صالح ليصنعوا مشيئته، عاملاً فيهم خلال رئيس الكهنة السماوي، راعي الخراف العظيم يسوع المسيح. فإن كان السيد قد تقدم عنا كذبيحة كاملة، خاضعًا لأبيه في طاعة كاملة هكذا يشتهي الرسول أن نحمل سماته فينا.
أخيرًا يطلب الرسول منهم أن يحتملوا كلمة الوعظ [ع ٢٢]. كأن الرسالة هنا موجهة للشعب، إذ يقول لهم: "سَلِّمُوا عَلَى جَمِيعِ مُرْشِدِيكُمْ وَجَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ" [ع ٢٤].