دانيـــــــال
" يا دانيال ، أيها الرجل المحبوب "
" دا10 : 11 "
مقدمة
كانت حياة دانيال ، من أولها إلى آخرها ، حياة حافلة بالأزمات ، ولقد شاء له اللّه أن يؤخذ وهو غض صغير ، ربما لم يكن يتجاوز السابعة عشرة من عمره ، إلى السبى منذ السنة الأولى ليقضى فى بابل عمره بأكمله هناك ، أو مدة سبعين عاماً أو تزيد ، حتى أيام كورش وداريوس المادى مما جعل البعض يعتقد أنه بلغ التسعين من العمر ، أو حول ذلك ، حين انتهت حياته ورسالته على الأرض ، ... ولم تكن حياة السبى هينة يسيرة سهلة ، بل هى الحياة التى امتلأت بالأزمات بكل ألوانها وصنوفها ، من إغراء أو تهديد ، ما بين أطايب الملك وجب الأسود ، ... وكان من الواضح أن قصد اللّه من دانيال أو من زملائه الثلاثة الفتية ، أن يكونوا صورة ومثالا للمسبيين ، وكيف يعيش الإنسان فى أسوأ الظروف ، وأدق الأوقات ، مرتفعاً منتصراً على التجارب والمآسى ، التى يمكن أن تعترض طريقه ، دون أن تفتنه حدائق بابل المعلقة ، أو يفزعه أتونها المتقد سبعة أضعاف ، أو زئير أسودها فى جب الأسود .
ولعله من المناسب أن نشير ههنا إلى أن دانيال من الشخصيات القليلة الذى - رغم التجارب التى أحاطت به - لم يدون عنه كتاب اللّه خطأ معينا أو سقطة ظاهرة ، فهو من هذا القبيل أشبه بيوسف ، ويشوع ، وصموئيل ، ممن لا تعرف عنهم إنحرافاً فى جانب من جوانب الحياة ، وليس معنى ذلك أنهم كانوا معصومين ، فالمعصوم هو الواحد الأحد الذى قال : « من منكم يبكتنى على خطية » " يو 8 : 46 " غير أن الأسماء المشار إليها ، شاء لها اللّه أن تكون أنوار عصرها ، بل أن تعيش فى التاريخ نماذج رائعة تهدى العابرين السبيل ، والمنعطفين هنا أو هناك فى مساء الحياة المتعبة القاسية الشديدة المنكوبة !! ..
ولعلنا نرى دانيال بعد ذلك فيما يلى :
دانيال ومن هو
الاسم « دانيال » يعنى « اللّه قاضى » ولقد عاش هذا الرجل طوال حياته على الأرض ، وهو يتطلع إلى اللّه القاضى العادل ، وهو يتصرف فى الحياة دون أن يبالى بالناس ، لأنه يعلم أن قضيته ليست فى يد بشر ، بل فى يد اللّه الذى يحكم بعدل ، ... كان من أعلى الطبقات فى بلاده ومن النسل الملكى كما هو واضح فى سفره ، ونحن لا نعلم شيئاً عن أبيه وأمه ، لكننا يمكن أن نتصور أنه تربى فى سنواته الأولى تحت يدى معلمين عظيمين ، البيت ، والألم ، .. ولا يمكن أن أصدق أن شاباً يتصرف هكذا ، فى أرض غريبة ، بعيداً عن كل رقابة أو ملاحظة من أحد ، دون أن تكون نشأته ، وبيته ، وتربيته مرتبطة ارتباطاً عميقاً باللّه ، .. إنه أشبه الكل بموسى ، عندما حصنه البيت ، قبل أن يدخل داخل أسوار قصر فرعون ، وقبل أن يحاط كصبى بأقوى عوامل الإغراء التى يمكن أن يتعرض لها صبى فى الحياة ، ... وربما كانت أم دانيال أشبه بيوكابد التى جعلت ابنها يعيش ، فى كل شئ داخل أسوار القصر ، ولكن قلبه كان على الدوام فى مكان آخر ، وبصورة أخرى !! .. كان البيت هو المعلم الأول لموسى ، ولدانيال ، وكان الألم هو أيضاً المعلم الثانى - والألم فى العادة يهبط بالإنسان إلى القاع أو يرفعه إلى مصاف الأبطال ، وقد صنع من دانيال بطلا عظيماً ، فأنت ترى نفسك فى العادة وأنت تقرأ قصته ، أنك أمام إنسان ممتاز غير عادى ، عاش منكوباً فى وطنه وشعبه ، وعاش منكوباً فى وسط التجارب المتعددة التى لاحقت حياته ، ولكنه كان أشبه بالمعدن النفيس يزداد بالاحتكاك جمالا ولمعاناً ، ... كان جميل الوجه حسن المنظر ، وربما كان كموسى أو يوسف فى فتنة المظهر ، إذ أنه والثلاثة فتية اختيروا ليدخلوا الأكاديمية العلمية التى أنشأها نبوخذ ناصر ، وليدرسوا فيها ثلاث سنوات ، وكان من الشروط الأساسية أن يجتازوا ما يطلق عليه فى وقتنا الحاضر « كشف الهيئة » « من الشرفاء فتيانا لا عيب فيهم حسان المنظر حاذقين فى كل حكمة وعارفين معرفة وذوى فهم بالعلم ، والذين فيهم قوة على الوقوف فى قصر الملك فيعلموهم كتابة الكلدانيين ولسانهم» " دا 1 : 3 و 4 " وكان القصد من هذه الأكاديمية جذب خلاصة الطبقات القائدة من الشعوب المغلوبة ، وكلدنتهم إذا صح التعبير ، وتغيير منهج حياتهم ، إلى الدرجة التى ينسون معها أسماءهم القديمة ، ويعطونهم أسماء كلدانية ، حتى أن دانيال أعطوه اسم « بلطشاصر » أو « أثيربيل » أو المفضل من بيل .. وكان الهدف ، كما هو واضح ، زحزحتهم عن قومياتهم الأولى ، وإدماجهم فى القومية الكلدانية مع إغراقهم بالإمتيازات والإغراءات ، حتى يصلوا إلى نسيان أصولهم الأولى !! ..
غير أن دانيال مع ذلك ، لم يكن جميل الوجه فحسب ، بل كان يملك الجمال المثلث على نحو فائق ممتاز ، إذ كان جميل الوجه ، والعقل ، والإرادة . له ، إلى جمال المظهر الخارجى ، الذكاء الحاد الأريب ، مع إرادة قدت من فولاذ ، تعرف أن تقف إلى جوار اللّه والحق والحياة السليمة دون أدنى تردد أو شبهة أو خوف !! ..
كانت شجاعة دانيال خارقة للعادة ، تلك الشجاعة التى لازمته طوال حياته ، والنابعة من مبادئه وتقاليده ، وأن أعظم شجاعة فى الحياة ، أن يكون الإنسان نفسه كما يعتقد ويريد ، لا أن يكون ممسوخاً فى وسط الآخرين ، يحاكيهم ويشاكلهم ، ويسير على دربهم فى الصواب والخطأ على حد سواء ، فإذا خلا إلى نفسه أنكر ما فعل أو برر قصته بأن ضغط الظروف أكرهه على ذلك ، ... كان دانيال شجاعاً فى السابعة عشرة من عمره وكان شجاعاً فى التسعين من العمر ، كان شجاعاً أمام الإغراء ، وكان شجاعاً أمام التهديد والوعيد ، ... كان شجاعاً وهو يرفض مائدة الملك ، وكان شجاعاً وهو يواجه عطايا الملك ، أو جب الأسود ، ... لم يتذبذب قط فى شجاعته أو يتراجع عنها ، أو يغطيها بما يقال إنه الحكمة أو ما أشبه من تعليلات الناس !! ... كان شجاعاً عندما وضعت أمامه أطايب الملك ، وهو صغير فى وسط مئات الشباب ، ممن يحلمون بمجد العالم ، وممن يسرعون إلى محاكاة بعضهم البعض ، أو ممن يستطيعون أن يعتذروا أمام أنفسهم ، بأنهم مكرهون ، ولا حرية لهم فى القول أو الاختيار كما يفعل آلاف الشباب على وجه الأوض ! وكان شجاعاً فى مواجهة بيلشاصر الملك ، وهو ممتلئ من الغضب والسخط المقدس ، عندما ادخل إليه فى حفله الذى صنعه لقواده وعظمائه ، وكان الحفل ماجناً معربداً ، وقد صنعه - على الأرجح - لسببين ، يقصد من ورائهما تقوية روح قواده وجنوده المعنوية . إذ أن عاصمته كانت فى ذلك الليلة محاصرة بقوات مادى وفارس ، وكان لابد لذلك أن يفعل شيئاً فى مواجهة الحصار فجمع العظماء والقادة إلى حفل كان فى واقع الأمر حفلاً دينياً يطلب فيه معونة الآلهة لشد أزره إزاء الجيوش المهاجمة ، وقد أراد أن يسترض آلهته هذه بأن يجعلها فوق جميع الآلهة والأديان . وفى الوقت نفسه أراد أن يثبت شجاعته ، ففعل الشئ الذى لم يجرؤ نبوخذ ناصر على فعله ، إذ تحدى إله إسرائيل بأن أمر بإحضار الآنية المقدسة التى أحضرها نبوخذ ناصر من الهيكل واستعملها فى الشرب واللهو والمجون . ... وعندما ظهرت له اليد التى تكتب على مكلس الحائط إزاء النبراس ، وفسر دانيال له الكتابة ، ... وأراد الملك مكافأته ، كان جواب دانيال : « لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيرى » " دا 5 : 17 " وهو جواب خشن خال من الزلفى والتملق ، وأكثر من ذلك وبخ الملك توبيخاً صارخاً إذ ذكره بما حدث مع نبوخذ ناصر ، وكيف أنه لما تكبر ولم يتعظ ، وارتفع قلبه وتعالى أمام اللّه ، أسقطه القدير على الصورة المفزعة ، إذ جعله حيواناً مثل أدنى الحيوانات !! .. ولم تتذبذب شجاعة دانيال قط ، وهو فى التسعين من عمره أو ما يقرب من ذلك وهو يواجه جب الأسود ، ويأبى أن يقفل كواه لمدة شهر ، ليصلى فى سره ، وقد كانت صلاته علنية أمام الجميه ، ... كان الرجل من أشجع الناس الذين ظهروا على وجه الأرض ، فى عصره وعلى مر التاريخ أيضاً !! .
لم تكن هذه الشجاعة نوعاً من الإندفاع ، أو الحماقة ، أو التهور ، أو التعصب ، أو ما أشبه - بل كانت تستند إلى المبدأ الصحيح المرتبط باللّه ، ... كان دانيال يؤمن بأن المؤمن إنسان يعيش فى العالم ، ولكنه ليس من العالم .... وهو إنسان يحيا مع الناس ، ولكنه لا يعيش كما يعيش الناس ، .. بل أنه لابد أن يحيا نوعاً من العزلة النبيلة التى لا تجرى مع تيار الأيام ، واندفاع العالم ، ... فإذا كانت أطايب الملك امتيازاً فى نظر غيره من الشباب ، فهى نجاسة عنده ، لقد كانت هذه الأطايب فى العادة نوعاً من اللحوم المحرمة على اليهودى ، أو التى كانت تقدم للآلهة الوثنية ، ويؤخذ منها الطعام فى القصر الملكى ، فليأكل غيره من الشباب منها ما طاب لهم ، ولو أكل جميع الشباب ، فإن هذا لا يغير من نجاستها وإثمها ، والتى تجعله ينفصل عن الجميع بالعزلة النبيلة ، وقد كان هذا الشاب عظيماً ، لأنه لم يحاول أن يسكت ضميره ، أليس له حرية الاختيار، وإذا كان رئيس الخصيان يخشى على رأسه فيما لو غير نظام أكلهم ، فكم بالحرى يكون الأمر بالنسبة للشاب نفسه أو زملائه الفتية الثلاثة ؟!! ... لقد أدرك دانيال أن النجاسة لا يمكن أن تعطيها اسماً آخر ، فهى نجاسة مهما يصورها الآخرون أو يعطونها من أسماء أو صور ، .... وهو أهون عليه أن يموت نبيلاً مقدساً ، من أن يعيش حيواناً منجساً ، ... وهو واثق تماماً من أن طعامه العادى أفضل وأجمل ، وأنه يعطيه من القوة أو الصحة ، مالا يمكن أن يجرها عند الآخرين !! .. وقد نجح دانيال منذ القديم فى هذا الامتحان !! .. والشجاعة عند دانيال لا يمكن أن يسكتها الجاه أيضاً ، فالجاه الحقيقى من اللّه ، وليس من ملك أو إنسان ، فإذا كافأه الملك بيلشاصر بأن « « يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب فى عنقه وينادوا عليه أن يكون متسلطاً ثالثاً فى المملكة » ... فإن جاه هذا الملك لن يأتى الليل قبل أن ينتهى ويذهب ، بمصرعه هو فى الأرض ، وهكذا الذين يبحثون عن جاه الملوك أو نفوذهم ، وهم لا يعلمون أن هذا الجاه - طال أو قصر - لابد سيذهب مع الريح ، إذ هو فى الحقيقة قبض الريح ، فى قول سليمان المشهور : « باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح » . والشجاعة الصحيحة ألا يرضى الإنسان بالجاه المزيف حتى ولو تدثر بالأرجوان أو جمل وساماً أو قلادة ذهبية مهما يكن منظرها ومظهرها أمام الناس !! ..
فإذا عجز الإغراء ، سواء فى الأطايب أو فى المركز ، عن إسقاط الرجل ، فإن الامتحان القاسى يكون فى الجب مع الأسود ، ويكون فى الشيخوخة أمام ضعف الجسد ووهنه ، ... وهنا تصل الشجاعة إلى ذروتها الحقيقية ، وتحكم العزلة النبيلة الرجل ، . كان ديموستينيس أخطب خطباء اليونان ، وقد عجز الأعداء عن أن يسكتوا فصاحته بأية صورة من الصور ، فما كان منهم إلا أن رشوه ، وإذا به يتلعثم ، وعندما سأل البعض عن سر لعثمته هذه ، ... قال آخرون : لقد بح صوته من الذهب ، ... أما صوت دانيال فقد ارتفع فوق صوت الذهب ، وزئير الأسود ، ... لقد وقف دانيال ضد الفساد والرشوة : « ثم أن الوزراء والمرازبة كانوا يطلبون علة يجدونها على دانيال من جهة المملكة ، فلم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنباً لأنه كان أميناً ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب ، فقال هؤلاء الرجال لا نجد على دانيال هذا علة ألا أن نجدها من جهة شريعة إلهه » " دا 6 : 4 و 5 " كان هؤلاء الرجال يرفعون ملوكهم إلى درجة العبادة ، كما فعلت روما فيما بعد ، إذ كان الاعتقاد أن الآلهة تسكن الملوك ، ومن ثم فهم جديرون بالعبادة ، ومن لا يعبدهم فإنما يحتقرهم ويحتقر الآلهة التى يمثلونها ، وكان هذا هو الشرك الذى نصب بذكاء ودهاء لداريوس الملك ، وسقط فيه ، وهو لا يعلم ، ... ولكن دانيال وإن كانت علاقته بالملك قوية وكريمة ، إلا أنها تقف عند حد لا يمكن أن تتجاوزه ، فهو يعطى لداريوس ما هو لداريوس ، ويعطى للّه ما هو للّه ، .. وهو يعلم طوال حياة السبى ما بين السابعة عشرة ، والتسعين من العمر ، أن اللّه جعله بين المسبين قوة ومثالاً ، ... وهو لا يمكن أن ينحرف قيد أنمله عن هذه الحقيقة .
كانت عادته الدائمة التى لا يمكن أن يقلع عنها هى الصلاة ثلاث مرات يومياً والكوى مفتوحة تجاه أورشليم حيث هناك قلبه وعقيدته ودينه وإيمانه ، وهو لا يستطيع أن يغلق النافذة ، وقد جعله اللّه شاهداً ، ولا مانع عنده من أن يكون شهيداً ، وخير له أن يموت دون أن يجدوا فيه علة إلا من جهة شريعة إلهه ، من أن يعيش وقد سقطت شجاعته ومثاليته أمام الكلدانيين والمسبيين على حد سواء !! ... لقد عاش الرجل فى جاهه منعزلا عن أسلوب الأخرين من القادة ، ... وكان أميناً ونبيلاً فى هذه العزلة أيضاً !! ... إن قصته على الدوام تذكرنا بقول الرسول : « لا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم » " رو 12 : 2 " « لأنه أية خلطة للبر والإثم . وأية شركة للنور مع الظلمة وأى اتفاق للمسيح مع بليعال . وأى نصيب للمؤمن مع غير المؤمن . وأية موافقة لهيكل اللّه مع الأوثان . فإنكم أنتم هيكل اللّّه الحى كما قال اللّه إنى سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً . لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم ، وأكون لكم أبا وأنتم تكونون لى بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شئ» " 2 كو 6 : 14 - 18 " .
على أن العزلة عند دانيال لم تكن نوعاً من التصوف ، بمفهوم الزهد أو الامتناع عن الطعام ، كما يفعل المتصوفون ، لأن الزهد عند دانيال كان دائماً مصحوباً بغرض معين ، فهو زاهد أو متصوف بالنسبة لكل ما ينجس النفس ، حتى ولو سال له لعاب الآخرين ، ... ويعتقد « كلفن » أن دانيال عندما كان ينصرف من القصر الملكى أو يبعد عن الحفلات ، كان يأكل ما يحلو له من طعام أو شراب ، لأن الأكل فى ذاته لا يقدم ولا يؤخر ، إلا بالقدر الذى يعطى للّه مجداً ، أو يعثر الآخرين ، أو يقودها إلى عبادة الجسد ، والانصراف عن الروح التى هى أعلى واسمى من الجسد ، بما لا يقدر أو يقاس ، ... وهو يمكن أن يتذلل فى وقت الأزمات والنكبات والضيق والحيرة والنوح ، كما جاء فى الأصحاح العاشر من سفره : « فى تلك الأيام أنا دانيال كنت نائماً ثلاثة أسابيع أيام لم آكل طعاماً شهياً ولم يدخل فى فمى لحم ولا خمر ولم أدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع أيام » " دا 10 : 2 و 3 " ومن المستفاد بمفهوم المقابلة ، إنه كان يأكل ويشرب ويدهن فى الأوقات العادية ، إلا أنه هنا كان نائماً وهو يبحث عن مصير شعبه والمستقبل ، وكان ولا شك مشغولا بالصلاة إلى أن جاءته رؤيا السماء !! ...
ومن اللازم أن نشير أيضاً إلى أن الرجل كان مشهوراً بالحكمة الفائقة ، التى جعلت حزقيال فى مطلع الأصحاح الثامن و العشرين من سفره ، وهو يتنبأ عن رئيس صور الذى ظن أنه أوتى من الحكمة مرتبة الآلهة ، وإذا باللّه يوبخه : « ها أنت أحكم من دانيال ، سر مالا يخفـــــى عليــــك » "حز 28 : 3 " ودانيال دائماً كان يواجه المعضلات والأسرار بذهن حكيم بارع فى الرأى والمشورة والحكمة ، وقد رآه نبوخذ ناصر بالمقارنة بالحكماء والمجوس وعلماء الإمبراطورية عشرة أضعاف فى الحكمة والفهم ولا شبهة فى أن هذه الحكمة كانت فى أسمى صورها هى ما يطلق عليه الشفافية، أو الإلهام ، أو الحكمة النازلة من فوق ، ... ومن المعتقد أنه فى الأكاديمية العلمية فى مطلع الشباب ، كان وأخوته الفتيان الثلاثة من المنكبين على الدرس ، المجتهدين فى التحصيل ، الباذلين أقصى جهد فى المعرفة والعلم ، ... لكن دانيال كان يعلم علم اليقين أن اللّه يلهم الإنسان ، ويرشده وينصحه بكل ما يتجاوز حدود المعرفة والإدراك البشرين و ذلك لأن « سر الرب لخائفيه وعهده لتعليمهم » ، " مز 25 : 14 "، ومن واجبنا ونحن نذكر قصة الرجل ، أن نذكر شبابنا المقبلين عن المعرفة والآخذين بأسباب العلم ، أن اللّه لا يسر كثيراً بمجرد الدراسة أو التعلم ، بل أكثر من ذلك بالتفوق فيها !! ..
دانيال وكواه المفتوحة
على أنك لا تستطيع أن تعرف هذه الشخصية على حقيقتها ، إلا إذا صعدت إلى علية الرجل وأدركت عادته العظيمة اليومية التى لا تتغير : « فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة فى عليته نحو أورشليم فجثا على ركبتيه ثلاث مرات فى اليوم وصلى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك » " دا 6 : 10 " ونحن نرى الرجل ، فى ولائه وإيمانه ، وتعبده ، ... أما الولاء ، فمن الواضح أنه كان مركزاً فى أورشليم ، وهو لا يستطيع أن يصبح أو يمسى دون أن يتطلع إلى مكان أحلامه ، وأشواقه ، إلى المدينة التى فارقها منذ سبعين عاماً ، ولكنها لم تفارق قلبه وإحساسه ، ومشاعره ، هى حبيبته العظمى ، التى تملك عليه كل المشاعر والحنين والعواطف ، منذ تركها صبياً يافعاً طوال سنى السبى القاسية ، هى عصارة الأمل والألم ، والحزن والحب ، والشوق والحياة : « إن نسيتك يا أورشليم تنسى يمينى ... ليلتصق لسانى بحنكى إن لم أذكرك إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحى » .. " مز 137 : 5 و 6 " ولعله غنى هذا المزمور آلاف المرات وهو يمد خياله إلى المكان البعيد البعيد ، من هناك من بابل ، من كواه المفتوحة كل يوم ، نحو أورشليم ، .. وما هى أورشليم بالنسبة لى ولك ؟ .. هى كنيسة اللّه العلى ، عمود الحق وقاعدته ، عروس المسيح ، وحبيبتنا المفضلة على كل حب فى الأرض !! ... فهل نحبها ونتطلع إليها ، ونحلم بها ، ونفكر فى مجدها ، كما كان يفعل الرجل القديم تجاه مدينة أحلامه أورشليم !! ؟ .
على أنه ، وهو يفعل هذا ، لم يكن ولاؤه مجرد حنين إلى تراب الوطن ، أو اتجاه إلى مدينة تحولت أطلالاً وخرباً ، ... لقد كانت المدينة رمز إيمانه باللّه ، وحبه لسيده العلى ، ... وما حبه لها ، إلا حباً للّه نفسه ، وإتجاهاً إليه ، والإحساس بمعنى الوجود مرتبطاً به ، ... فإذا كان لغيره أن يتصور القبة الزرقاء فوقه ولا تزيد عن الصحن المقلوب ، فإن دانيال كان يراها - على العكس - تحدثه عن جلال اللّه ومجده وعظمته وجوده : « السموات تحدث بمجد اللّه . والفلك يخبر بعمل يديه » " حز 19 : 1 " ..
ومن هنا نرى الرجل فى العادة المتأصلة فيه والتى أضحت كيانه اليومى ، يظهر به واضحاً للجميع فى العبادة ثلاث مرات كل يوم !! ... وهل لنا أن نقف هنا ، أمام صورة من أجمل الصور وأعظمها لهذا المتعبد وهو يبدو أمامنا فى صورة المتعبد الوديع الذى يركع مهما عظم شأنه فى حضرة اللّه ، ... عندما سئل الأمبراطور قسطنطين على أى وضع يمكن أن يصنعوا تمثاله ، أجاب : إصنعوا تمثالى وأنا راكع على ركبتى !! ... فى حفل تتويج الملكة فيكتوريا قيل لها أن تظل جالسة على عرشها، ولو وقف جميع الحاضرين ، بينما ترنم الجماهير معزوفة المسيا لهانول ، فلما بدأوا الترنيم وقف النواب والأشراف والإكليروس بروؤس مكشوفة ، وبقيت الملكة الشابة جالسة على عرش القوة والسلطان ، تمييزاً لها عن الشعب كله ، ولكن لما تقدم المرنمون إلى الدور الثانى ، ظهر التأثر على وجه الملكة ، ولما وصلوا إلى قولهم : « وملكه من الآن وإلى الأبد » .. ارتعشت وعندما هتفت الأصوات محمولة على أجنحة الرياح : « ملك الملوك ورب الأرباب » أنتصبت الملكة واقفة على قدميها ورفعت التاج من فوق رأسها لأنها شعرت أنها فى حضرة اللّه الذى ملكه إلى أبد الآبدين ، وهو يسود على لكل !! ...
ولعل البعض يذكر تلك الأسطورة القديمة التى تتحدث عن الملك الذى شغف بالبحث عن صليب المسيح ، والذى قيل إنه خرج ليبحث عنه ، وحصل عليه بعد حروب طويلة، ... وعاد فى موكبه الظافر إلى مدينة أورشليم ، ليجد فى الحلم الأبواب مغلقة أمامه..، وتقول الأسطورة إن ملاكاً ظهر له وقال : ها أنت أحضرت الصليب فى موكب حافل ، ولكن صاحبه لم يحمله وهو خارج من المدينة هكذا ، ... لقد خرج به يحمله على ظهره العارى !! .. وعند ئذاك خلع الملك ثيابه وحمل الصليب ، والقصة تقول إن المدينة فتحت أبوابها فى الحال أمامه !! .. كان العامل الفقير يركع فى حضرة اللّه ، ... وأبصر إلى جواره من يركع ، فتزحزح كثيراً ، إذا كان الراكع إلى جواره دوق ولنجتون الذى هزم نابليون فى معركة ووترلو ... على أن الدوق قربه إليه وهو يقول : نحن أمام اللّه سواء !! ..
وكان دانيال المتعبد الشاكر ، ومن العجيب أن الرجل فى صلاته كان يصلى ويحمد، وهو أمام خطر جسيم ، ... لقد كانت له الشركة العميقة مع اللّه ، التى علمته الحمد والشكر حتى ولو كانت عواصف الحياة القاسية تحيط به ، والزوابع تلفه من كل جانب، لقد أدرك أمانة اللّه فى كل سنوات سبيه وأسره ، وهو لن يكون جحوداً تجاه إله لم يتخل عنه قط طوال هذه السنين ...
وكان المتعبد الظاهر الذى لم يخجل قط من المجاهرة بإيمانه أمام الكل ، لقد عرفه خصومه بأنه الرجل الذى لا علة فيه إلا من جهة شريعة إلهه ، ... وعرفه داريوس الملك بدانيال : « ياعبد اللّه الحى هل إلهك الذى تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسود » " دا 6 : 20 " دعا أحد ملوك الشرق الأقصى قائداً بحرياً من بلاد الغرب ليتناول طعام الغداء معه ، وإذ جلسا على المائدة انحنى القائد المسيحى وشكر اللّه على الطعام ، فاندهش الملك وقال : ولكن هذا لا يعمله إلا المرسلون ! ؟؟ فأجاب القائد : وأنا أيضاً مرسل !! ؟ .. لم يحاول دانيال قط أن يغير من عادته ، ويغلق ولو لمدة ثلاثين يوماً كواه المفتوحة !! ..
وكان المتعبد الطاهر النظيف القلب واليدين ، ... لقد كان عفا أميناً فى عمله ، لم يستطيع جميع الوزراء أو المرازبة أن ينسبوا إليه فساداً أو شراً ، فى بلاد امتلأت بكل ألوان المفاسد والشرور ، ... لم يكن دانيال مزدوج الشخصية يحيا حياتين ، أو يعيش أسلوبين ، أو يتقمص شخصيتين ، إنه لم يكن مثل رجل قال عنه أحد الشباب للواعظ المشهور هنرى دراموند : ياسيدى هل ترى الشخص الواقف هناك ؟ فأجابه دراموند : نعم .. قال الشاب : إن هذا الشخص هو رئيس نادينا المشهور بالإلحاد ... فذهل دراموند إذ كان الرجل أحد الشيوخ فى كنيسة من الكنائس ، ومن الغريب أن يكون شيخاً فى الكنيسة وشيخاً فى الإلحاد !! ...
وكان دانيال آخر الأمر ، المتعبد المصلى ... إذ كان يؤمن بالصلاة وفاعليتها ، وهو يعلم أنه يستطيع أن يواجه كل أوضاع الحياة بالصلاة ، ... عندما قبض النازى على أسقف هانوفر ، أخذوه إلى برلين ، ووضعوه فى زنزانه فى أعلى السجن فى مركز الشرطة وهناك وعندما صب الحلفاء غاراتهم القاسية على برلين ، كان النازيون يتركونه هناك بعد أن يغلقوا عليه الزنزانه ، ويهرعون هم إلى المخابئ ، فكان الرجل القديس يفتح الكوة ويصلى للّه ، ...
وقد أنقذته العناية ، لأنه وضع رجاءه فى النافذة المفتوحة التى تطل نفسه منها على اللّه !! ... وهكذا كان الرجل القديم دانيال رجل الصلاة !! .
دانيال والجزء الإلهى
عندما تحدث كرس موريسون ، والذى كان رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك ، عن السبعة الأسباب العلمية التى تجعله يؤمن باللّه ، كان السبب السادس فى نظريته هو التوازن بين القوة والمقاومة فى الحياة ، ... وأورد لذلك قصة « التين الشوكى » والذى زرع من سنوات فى استراليا بدافع الرغبة فى التحصين الوقائى من الأعاصير وما أشبه ، ولما لم تكن الحشرات المعادية لهذا النوع من الأشجار معروفة فى تلك البلاد ، فقد أخذ الشجر ينمو ويتكاثر من تلقاء ذاته بكيفية مذهلة عجيبة حتى أنه غطى مساحة من الأرض تقرب من مساحة إنجلترا طولا وعرضاً ، وأفسد بذلك مساحات شاسعة من الحقول والمزارع ، وإذ فشلت كل مقاومة فى الحد من نموه وتكاثره ، لم يجد العلماء بدا من البحث عن الحشرات التى تعيش فقط على هذا الشجر ، وأطلقوها عليه ، وعندئذ توقفت الأشجار عن الانتشار والغزو ، وبذلك أمكن القضاء على الخطر الداهم الناجم عنها ، .. وأوضح كرس موريسون ما أسماه « التوازن والتعادل بين القوة والمقاومة فى الطبيعة » وهو مالا يمكن أن يصنعه سوى عقل مدبر عظيم !! ..
هذه الظاهرة تبدو بوضوح من الجانب الروحى ، فيمن يصنعهم اللّه من أبطال ، يظهرون فى أحلك الأيام والليالى ، مزودين بالقوة الإلهية العظمى ، حتى أنهم يبدون كالنجوم اللامعة فى الليل البهيم ، وكلما ازداد الظلام ، كلما تلألأوا بالنور بالباهر يعكسونه على أجيالهم ، وربما على أجيال أخرى عديدة لاحقة ، ... وهذه الظاهرة ليست صماء بالنسبة لمن يقرأون الكلمة الإلهية ، إذ أن اللّه يعمل بنشاط أعظم وأكمل وأسمى ، عندما ينشط عمل الشر والفساد والشيطان فى الأرض ، ... ووعصا موسى القديمة التى ابتلعت عصى العرافين ، ما تزال تتكرر بهذا الأسلوب أو ذاك فى كل العصور والأجيال ، وسيبقى الحق الإلهى أقوى وأفعل مهما استشرى الفساد والطغيان فى الأرض !! ... وقد ظهر هذا فى قصة دانيال وصحبه بأكثر من مظهر ووجه ، ... فإذا ظهر الشر يريد أن ينجس الفتى بالأطايب ، وإذا رفض الشاب أن يتنجس وقد وضع ذلك راسخاً فى قلبه ، حتى ولو تعرض للموت ، وإذا عجز رئيس الخصيان عن أن يجد حلا ، وبدا خائفاً من الملك ، إلا أن دانيال مع ذلك سيجد نعمة فى عينيه ، وسيجد الحل مع رئيس السقاة الذى ولاه رئيس الخصيان على دانيال والفتية الثلاثة ،... فهى النعمة الإلهية التى تلاحق المتضايق والبائس والمأزوم عندما يضع أمره بين يدى اللّه ، والتى لا يستطاع تفسير ظاهرتها ، عندما تبدو حناناً يصدر مرات متعددة عن أقسى الناس وأشرهم وأبعدهم عن الرقة واللطف والإحسان ، ... وأليس من الغريب أن عيسو وقد طوى نفسه على حقد مبيت لمدة عشرين عاماً ، وجمع أربعمائه رجل حوله ليضرب أخاه يعقوب ضربة قاضية ، يتحول فى لحظة واحدة ، إلى الرجل الذى يعانق أخاه بقبلات الشوق والحنان والمحبة ؟ .. أليست هى النعمة التى لاحقت يوسف المضطهد فى الغربة والاستعباد والسجن بل والمجد أيضاً ؟ ... وأليست هى النعمة التى لم تصاحب دانيال فى صدر الشباب ، وأمام مائدة الملك فحسب ، بل صاحبته الحياة كلها ، والسبى كله فكانت له نعمة أمام الملوك المتعددين والمختلفى الميول والاتجاهات والمشارب ؟ ! .. ولم يعطه اللّه النعمة فحسب ، بل اعطاه الحكمة والمعرفة والشفافية والإعلان ، مما تجاوز أبعد حدود الإدراك البشرى ، وعلى وجه الخصوص عندما حلم نبوخذ ناصر حلمه ، ولعله نسيه ، وأراد من حكماء بابل على وجه غير معروف أو مألوف أن يقصوا عليه الحلم ، ويخبروه بتفسيره ، الأمر الذى لا يملكه بشر على الإطلاق ، ولكنه أعطى لدانيال ، ومن الواضح أن شهرة النبى بلغت الافاق كأحكم إنسان فى عصره ، وعلى ما يقول حزقيال لا يخفى عليه سر ! ...
وعلى أن الأمر ، كامل أكثر من ذلك ، إذ كانت له النجاة من الأخطار المتراكمة المتلاحقة ، فإذا ذكرناه على وجه المثال ، مطلوباً للموت مثل سائر حكماء بابل فى مطلع أيامه دون أن تكون هناك قوة على الأرض تمنع موته أو البطش به ، بعد أن صدر أمر نبوخذ ناصر الغريب والمستحيل على العقل البشرى ، ... وإذا ذكرناه فى آخر الأمر فى جب الأسود الجائعة ، والملك لا يستطيع - وقد قضى بالأمر - أن يرجع عن شريعة مادى وفارس التى لا تنسخ ، ولكن اللّه هو المنقذ أولا وأخيراً ودائماً على وجه عجيب معجزى ، يسمو على كل فهم أو قدرة بشرية !! .. ومع هذا كله ، فإن الجزاء الإلهى يتسامى ويعلو فوق كل خيال أو تفكير ، إذ أن الشاب الغريب المسبى يرتفع إلى أعلى مراكز المجد والقوة ، عند الكلدانيين كما عند الفرس على حد سواء ، ... فهو يوسف آخر يخرج من السجن إلى المجد ، وكما عاش يوسف رئيساً للوزراء مدة طالت إلى ثمانين عاماً متوالية ، ... عاش دانيال فى أعلى القمم طوال مدة السبى بأكمله ، مما يشهد بالحقيقة الواضحة أن من يباركه اللّه لا يستطيع أحد أن يلعنه ، وأن من يحرسه اللّه ، لابد أن يخرجه سالماً من جب الأسود بعد أن يكم أفواهها ، ولعله ذكر ما قاله إشعياء من قبل : « لا تخف لأنى معك . لا تتلفت لأنى إلهك . قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين برى . إنه سيخزى ويخجل جميع المغتاظين عليك . يكون كلا شئ مخاصموك ويبيدون . تفتش على منازعيك ولا تجدهم يكون محاربوك كلا شئ وكالعدم. لأنى أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك لا تخف أنا أعينــك » " إش41: 10 - 12 " « وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك ، وأطعم ظالميك لحم أنفسهم ويسكرو ن بدمهم كما من سلاف فيعلم كل بشر أنى أنا الرب مخلصـــك وفاديك عزيز يعقوب » .. " إش 49 : 25 و 26 " .
دانيال والفكر اللاهوتى فى سفره
ليس من السهل الإفاضة فى تفسير الروئ التى جاءت فى السفر ، واختلفت حولها الأفكار والنظريات ، غير أننا نود أن نمر فى عجالة على ارتباط هذه الروئ بالمستقبل، إن الستة الأصحاحات الأولى فيه تاريخية ، والستة الأخرى نبوية ، ... والسفر كله تاريخ يرتبط بالنبوة ، وونبوات تمد جذورها فى التاريخ ، وقد اعتقد البعض أن السفر كتب متأخراً بعد زمن طويل من دانيال ، لأنه أورد حقائق تاريخية لاحقة لدانيال ، كمثل حديثه عن التيس العافى ملك اليونان ، أو الإسكندر ذى القرنين ، وقد نسوا - أو تناسوا - أن النبوات ليست إلا إعلاناً عن مسرحية التاريخ الواضحة الرؤية أمام عين اللّه حتى آخر الأيام !! ... وقد قال يوسيفوس المؤرخ اليهودى ، إن الإسكندر كان غاضباً على اليهود ، .. ولكنه عندما أحضروا نبوة دانيال ، واروه حديث النبوة عنه ، تحول فرحاً مبتهجاً بالنبوة ، وغير معاملته لهم ، وأحسنها إلى حد بعيد ، ... وليس فى وسعنا الآن أن نناقش هذه النبوات ، التى اختلفت حولها الشروح والتفاسير ، ولكنها من الواضح كانت حول الممالك الأربع العالمية التى سبقت المسيحية : البابلية ، ومادى وفارس ، واليونان ، وروما بقرونها العشرة - حتى جاء المسيح ، الحجر الذى قطع بغير يدين ليسحق هذه الممالك ، ويقيم مملكة اللّه التى سترث الأرض وما عليها وتملأ كل مكان فيها ، إذ يتحول الحجر إلى الجبل العظيم ، ... « فى أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبداً وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك ، وهى تثبت إلى الأبد » " دا 2 : 44 ".
ومن الواضح أن النزاع الفكرى قد امتد وتشعب ، إلى درجة أن بعضهم يصر على أن المملكة الرابعة ليست هى الرومان ، بل هى اليونان ، ... وأن النزاع كله يقوم حول حقيقة المملكة الرابعة ، وهل انتهت وانقرضت ، أم أنها قامت فى صور أخرى صورها البعض فى البابوية ، وغيرهم فى أديان أخرى ، كما يقول ابن عزرا . ووقف آخرون ليناقشوا التفاصيل المتعددة المختلفة ، غير أنه مهما كان من خلاف ، فمن الواضح أنه مرت سبعة أسابيع سنين ، وأربعمائة وتسعون سنة ما بين النبوة ومجئ المسيح وصلبه ، وأن الدولة الرومانية كانت آخر دولة عالمية وثنية قبل مجئ المسيح ،.. وكما يقول اسحق نيوتن : « إن الذين ينكرون نبوات دانيال ، ينكرون المسيحية التى قامت وتأسست على مسيحها الذى تنبأ عنه دانيال بكل وضوح » وقال آخر : لقد حاول شرلمان وشارل الخامس ونابليون ، إقامة الامبراطورية العالمية الخامسة عبثاً ، وكل الحركات أو الموجات التى جاءت بعد ذلك ، لا يمكن أن تغير من الحقيقة التى قالها السيد : « ابنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقوى عليها » ... " مت 16 : 18 " .
فإذا جئنا إلى آخر السفر ، فنحن نقف أمام واحد من أقدم وألمع الأحاديث عن القيامة من الأموات ، ... ومع أن الأصحاح الحادى عشر كان يشير على الأغلب إلى انتيوخس أبيفانيس ، والاضطهاد المرير الذى سيوقعه باليهود ، ... لكن اللّه لن يتركهم بين يديه ، بل سيقف فى مواجهته ميخائيل الرئيس العظيم لينجى الشعب ، كل من يوجد مكتوباً فى السفر ، ومن المسلم به أن اليهودى الحقيقى كان يؤمن بسفر التذكرة أمام اللّه الذى تكتب فيه قصته وحياته وأعماله ، وقد قال موسى : « والآن إن غفرت خطيتهم ، وإلا فامحنى من كتابك الذى كتبت ، فقال الرب لموسى من أخطأ إلى أمحوه من كتابى » " خر 32 : 33 " وفى المزمور التاسع والستين والعدد الثامن والعشرين : ليمحوا من سفر الأحياء ومع الصديقين لا يكتبوا » ... وقد كتب ملاخــــــــــــى يقول : « حينئذ كلم متقو الرب كل واحد قريبه والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمفكرين فى اسمه " ملا 3 : 16 " وجاء فى سفر الرؤيا : « ثم رأيت عرشاً عظيما أبيض والجالس عليه الذى من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لها موضع ، ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام اللّه وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات مما هو مكتوب فى الأسفار بحسب أعمالهم . وسلم البحر الأموات الذين فيه وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ودينوا كل واحد بحسب أعماله ، وطرح الموت والهاوية فى بحيرة النار. هذا هو الموت الثانى . وكل من لم يوجد مكتوباً فى سفر الحياة طرح فى بحيرة النار " رؤ 20 : 11 - 15 " .
ومع أن الفكرة عن القيامة فى العهد القديم ، لم تكن تلمع بذات الوضوح الذى جاء به « المسيح الذى أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل » ، " 2 تى 1 : 10 " إلا أن دانيال أعطى بحياته ونبوته لمعاناً رائعاً لها فى الأصحاح الأخير من سفره، ... وهو لا يتحدث عن المجد الأبدى فحسب ، بل أكثر من ذلك يتحدث عن العذاب الأبدى ، وهو يعطى ذات الصورة التى أعطاها المسيح فى قصته الغنى ولعازر، وهو يتحدث بنفس الأسلوب الذى ذكر فيه السيد وهو يفرق بين الأخيار والأشرار : « فيمضى هؤلاء إلى عذاب أبدى والأبرار إلى حياة أبدية !! ... " مت 25 : 46 " ولعل من أجمل ما تسمعه الاذان البشرية ، ما قاله اللّه لدانيال ، وهو يتجه فى أيامه الأخيرة صوب الغروب : وكثيرون من الراقدين فى تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية ، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدى . والفاهمون يضيئون كضياء الجلد ، والذين ردوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور » ... " دا 12 : 2 و 3 " أجل لقد عاش الرجل المحبوب حياة امتلأت بالتعب والألم والمشقة والضيق ، والعظمة والانتصار إلى أن جاءه الصوت الأخير المبارك : « أما أنت فاذهب إلى النهاية فتستريح وتقوم لقرعتك فى نهاية الأيام » .. !! .. " دا 12 : 13 " .