الرؤيا 1 - تفسير سفر الرؤيا
شخص المُعلن الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
مادام هذا السفر هو "سفر السماء" لهذا لا تعجب إن كنت تراه بين الحين والآخر يكشف لك عن "شخص الرب السماوي" في صورٍ متعددةٍ، حتى يلتهب قلبك شوقًا إليه فتناجيه مع كل الكنيسة قائلًا: "تعال أيها الرب يسوع".
1. مقدمة
1-3.
فائدة الإعلان
2. السلام الرسولي للكنائس
4-6.
3. مجيء المعلن
7-8.
4. شخص المعلن
9-20.
شخص المعلن
1. الألف والياء
2. "في وسط السبع المناير شبه ابن إنسان
3. "وأما رأسه وشعره أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج"
4. "وعيناه كلهيب نار"
5. "ورجلاه شبه النحاس النقي كأنهما محميتان"
6. "وصوته كصوت مياه كثيرة"
7. "ومعه في يده اليمنى سبعة كواكب"
8. "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه"
9. "ووجهه كالشمس وهي تضيء في قوتها"
خاتمة
أثر المنظر على يوحنا
1. المقدمة
"إعلان يسوع المسيح،
الذي أعطاه إياه الله،
ليُرى عبيده ما لابد أن يكون عن قريب،
وبينه مرسلًا بيد ملاكه لعبده يوحنا"[1].
لقد دعاه "إعلان"، أو في اليونانية "أبو كلابسيس"، أيّ كشف الأسرار الإلهيّة للبشر. فإن كان الله لم يشأ أن يصنع شيئًا بسدوم وعمورة إلا بعدما يعلن ذلك لخليله إبراهيم، كما لم يرد إلاّ أن يعلن لدانيال الرجل المحبوب لديه ما سيحدث، لهذا يليق بالأولى أن يتقدم إلى كنيسته، العروس التي دفع مهرها على الصليب، بهذا "الإعلان"، ليكشف لها "ما لابد أن يكون عن قريب".
كلما أحب العريس عروسه فتح قلبه لها لترى فيه أسراره خاصة ما يتعلق بحبه تجاهها، وما يعده لأجلها في يوم زفافها.
كان يمكن للرب أن يرسل "إعلانه" ليوحنا مباشرة، لكنه "بيَّنه مرسلًا بيد ملاكه" حتى يعطى للملائكة هذه البركة أن تشترك مع ربها في لذته بكشف أسراره لعروسه. إنه يقدم لهم على الدوام كل فرصة لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 10: 14) ليعلن أيضًا حبهم تجاه عروسه.
وقد اشترك أيضًا يوحنا الحبيب في الخدمة إذ أُرسل الملاك إليه وهو بدوره قد سجل الرؤيا للكنيسة.
ولكن من هو يوحنا هذا؟
"الذي شهد بكلمة الله،
وبشهادة يسوع المسيح بكل ما رآه!"[2].
مجرد شاهد ينقل ما يراه أو يسمعه، كأنه يقول إنني مجرد "صوت صارخ في البرية" (مر 1: 3). ليس لي فضل في ذاتي، بل وهبني الرب هذه النعمة أن أشهد له!
فائدة الإعلان
"طوبى للذي يقرأ،
وللذين يسمعون أقوال النبوة،
ويحفظون ما هو مكتوب فيها،
لأن الوقت قريب"[3].
مبارك هو ذاك الذي يقرأ هذه النبوة في مخدعه، وللذي يقرأها في الكنيسة أو يسمعها مع إخوته. لأنه إذ يحفظها في قلبه يلتهب قلبه نحو تحقيق "ما هو مكتوب فيها، لأن الوقت قريب" أو كما جاء في النص اليوناني "لأن الفرصة سانحة وقريبة".
يقول الأسقف فيكتورينوس: [يبدأ السفر بالوعد بتطويب من يقرأه ويسمعه ويحفظه، حتى أن من يثابر على القراءة يتعلم تنفيذ الأعمال وحفظ الوصايا[11].]
2. السلام الرسولي للكنائس
"يوحنا إلى السبع الكنائس التي في آسيا.
نعمة لكم وسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي".
يهدي الرسول السلام الإلهي إلى الكنائس السبع التي سيرِد الحديث عنها، ويتضمن سلامة "النعمة" التي هي أساس السلام الحقيقي، وهي موضوع كرازتنا وفرحنا.
وكشف لنا العلامة ترتليان سرّ منح النعمة الرسولية قبل السلام بقوله إنه كانت العادة القديمة بين الشعب أن يفتتحوا ملاقاتهم بالسلام، وقد استخدم السيد المسيح نفس الأمر مع تلاميذه، لكن بعد صعوده أضافوا عليها "النعمة" وقدموها عن "السلام" إذ هي موضوع كرازتهم التي ينالونها بالسيد المسيح.
ويهتم الرسول بوصف الرب ب "الكائن والذي كان والذي يأتي" في أكثر من موضوع في هذا السفر ليؤكد أن واهب النعمة وينبوعها هو الرب الحال في الكنيسة التي رعاها ويرعاها ويبقى راعيًا لها، عمل ويعمل وسيعمل من أجلها.
يقول الأسقف فيكتورينوس: [هو "كائن" لأنه يحتمل لأجلنا على الدوام، و"الذي كان" أيّ أنه مع الآب خلق كل شيء، كما أخذ له بداية (بالجسد) من العذراء. و"الذي يأتي" لأنه سيأتي حتمًا للدينونة.]
"ومن السبعة الأرواح التي أمام عرشه"[4].
اختلفت الآراء في تفسير حقيقة السبعة أرواح التي أمام عرشه:
الرأي الأول: أنهم السبعة الملائكة المخصصون لخدمة الكنائس السبع المذكورين في سفر الرؤيا، إذ هم أرواح خادمة للعتيدين أن يرثوا الخلاص. ويشهد الكتاب المقدس وكتابات الآباء عن إرسال الله ملائكته لكل إنسان ليقوموا بخدمته وحراسته. ويرى ابن العسال[12] أن "السبعة الأرواح" هم السبع طغمات الملائكية، أيّ الرؤساء والسلاطين والربوبيات والقوات ورؤساء الملائكة والملائكة.
ويرى القديسان إكليمنضس الإسكندري والشهيد كبريانوس أنهم السبعة رؤساء الملائكة[13] كما يظهر من قول رافائيل عن نفسه إنه أحد الملائكة السبعة الواقفين أمام الله (طو 12: 15).
أما عن سبب تقديمهم على شخص الرب يسوع الشاهد الأمين فذلك لاستطالة الحديث عنه بعد ذلك.
الرأي الثاني: أنه وصف الروح القدس الذي يعمل في الكنيسة خلال مواهبه الكاملة في الأسرار السبعة.
"ومن يسوع المسيح الشاهد الأمين" [5].
في هذه الافتتاحية يلقب الرسول شخص ربنا يسوع بألقاب تهييء روح القارئ للتلامس مع غاية هذا السفر، فيلقبه:
1.الشاهد الأمين: يدور السفر كله حول شهادتنا لربنا على الأرض ليشهد لنا الرب أمام أبيه وملائكته. وكيف نكون شهودًا أمناء؟ بالرب يسوع "الشاهد الأمين"، إذ يقول عن نفسه "لهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق" (يو 18: 37). هذه الشهادة لم تقف عند حد الكلام بل قدم شهادة عملية باذلة أوضحها بالتجسد، ونقشها على الصليب، وأكدها بموته وأعلنها بقيامته!
يقول الأسقف فيكتوريينوس: [لقد قدم شهادة في العالم بأخذه ناسوتًا حتى تألم فيه أيضًا، محررًا إيانا من الخطية بدمه، منتصرًا على الهاوية، قائمًا من الموت بكرًا، لا يسود عليه الموت بعد (رو 6: 9) بل بملكه هدم مملكة العالم.]
2. البكر من الأموات: ما يؤكده لنا هذا السفر هو أن الرب بكرنا، وكما قام الرأس هكذا تقوم معه وبه كل الأعضاء، "المسيح باكورة ثم الذين في المسيح" (1 كو 15: 23).
يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [لم يُدعَ هكذا لأنه مات قبلنا بل لأنه كابد عنا الموت وأبطله... فإذ هو قد قام نستمد قيامتنا منه، وبسببه نقوم حتمًا من الأموات[14].]
وكما يقول ذهبيّ الفم[15]إن الرب بكرنا لأنه قدم ذاته ذبيحة مقبولة بلا عيب، تسلمها الآب برضا، فصارت البشرية مقبولة فيه ومقدسة فيه.
فخلال البكر نرث في "كنيسة الأبكار"، ونتمتع بالمجد السماوي الموصوف في الرؤيا.
3."الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه. وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين"[5-6].
وهنا نستطيع بكل جرأة أن نقول إننا إذ لبسنا "ربنا يسوع" صرنا منتسبين لملك الملوك ورب الأرباب رئيس الكهنة الأعظم، وبهذا "جعلنا ملوكًا وكهنة". فنحن ضعفاء بذواتنا جدًا لكننا به أقوياء للغاية. نحن كلا شيء نخور أمام أقل الخطايا، وبه ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات العدو.لا مطروحين في ضعف أمامه، لكننا بسلطان روحي نترجى ونفرح. ليس لنا ما نقدمه، لكننا به نرفع تقدمات روحية مقبولة أمام الله.
لقد صرنا "ملوكًا وكهنة" بمعنى روحي فلا نخلط بين السلطان العام الموهوب للمسيحي، وبين الذين عينوا من قبل الله أو بسماح منه ملوكًا ورؤساء. نخضع لهم ونقدم لهم الكرامة التي تليق بهم كما أوصانا الكتاب. ويجدر بنا ألاّ نخلط بين الذين تقدسوا وتكرسوا مفروزين للخدمة والكرازة بسرّ الكهنوت وبين الكهنوت العام الذي يسميه القديس إيرونيموس[16] (الكهنوت العلماني Laic Priesthood) الذي يناله المؤمن بسر المعموديّة.
3. مجيء المعلن عنه
"هوذا يأتي مع السحاب،
وستنظره كل عين،
والذين طعنوه،
وينوح عليه جميع قبائل الأرض.
نعم آمين"[7].
كأن الرسول يبوق للكنيسة قائلًا "لقد اقترب مجيء العريس! إنه حتمًا آتٍ فتأملي!"
"يأتي مع السحاب" والسحاب يشير إلى بهاء مجده كما في التجلي. ويشير السحاب إلى غضبه ضد الشر وفاعليه، كقول المرنم: "السحاب والضباب حوله... قدامه تذهب نار وتحرق أعداءه حوله" (مز 97: 2، 3).
ويرى البابا ديوناسيوس الإسكندري أن السحاب يشير إلى الملائكة المحيطين به في مجيئه.
ويرى القديسون كيرلس وأغسطينوس وجيروم أن السحاب رمز لناسوته الذي يخفي اللاهوت. ويعلل القديس أغسطينوس ذلك بأن الرب يخفي عن الأشرار مجد لاهوته فلا يرونه، أما الأبرار فيتمتعون بأمجاد الإله المتأنس ويتكشف لهم بهاءه وينعمون به وحدهم.
يراه الأشرار فينوحون، ويراه الأبرار فيبتهجون. يرى الأشرار جراحاته فييأسون. ويراها الأبرار -كما يقول القديسين أغناطيوس النوراني وذهبيّ الفم وكبريانوس- ظاهرة ومنيرة! لهذا لا يكفّون عن القول "نعم آمين!" أيّ ليكن يا رب، فإننا منتظرون مجيئك للتمتع بك!
ومن هو الذي يأتي ليدين! أنه يقول عن نفسه:
"أنا هو الألف والياء،
البداية والنهاية،
الرب الكائن والذي كان والذي يأتي،
القادر على كل شيء"[8].
وقد سبق لنا فهم قوله "الكائن والذي كان والذي يأتي"[4].
وهو "الرب" أيّ الإله الديان الذي له أن يحكم.
وهو "القادر على كل شيء" فلا يليق بنا أن نشك في مجيئه أو إمكانياته!
وهو "الألف والياء" وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إنه لو وجدت لغة إلهية لقراءة السمائيات فإننا نجد الابن هو أول حروفها وآخرها... فبدونه لا ندرك شيئًا عن السماء، وبغيره لا يقدر الفم أن ينطق بالتسابيح السماوية[17].]
وهو "البداية والنهاية" وكما يقول القديس أغسطينوس: [الابن هو البداية الذي فيه خلقت السماء والأرض، إذ قيل "في البدء (البداية) خلق الله السماوات والأرض"، إذ "به كان كل شيء"، ويقول المرتل: "كلها بحكمة (أيّ في المسيح الحكمة) صُنعت[18]" (مز 104: 24).]
ويقول العلامة أوريجينوس [أنه البداية إذ كان منذ البداية حالًا مع آدم في الفردوس وقد صار النهاية أيّ "آدم الأخير"، محتضنًا بهذا كل البشرية منذ البداية إلى نهاية الدهور، مهتمًا بالجميع إلى انقضاء الدهر[19].]
ويقول القديس أمبروسيوس: [ليس لابن الله أية بداية، ناظرين إلى أنه هو فعلًا البداية، وليس له نهاية ذاك الذي هو "النهاية[20]".]
فبكونه البداية كيف يمكن أن يتقبل أو يأخذ له ما هو عليه (بداية وجود مادام هو فعلًا موجود،إذ هو البداية). وكيف تكون له نهاية ذاك الذي هو نهاية كل الأمور حتى أننا في هذا "النهاية" نجد لنا مسكنًا نستقر فيه بلا نهاية.
ويقول القديس جيروم والعلامة ترتليان أن هذا يطابق قول الرسول "ليجمع كل شيء في المسيح" (أف 1: 10)، أيّ نجد فيه كل احتياجاتنا، يجمع فيه كنيسته ويحفظها ويصونها ويقدم لها كل مطالبها.
4. شخص المعلن
يشرق الله على الإنسان بالصورة التي تناسب ظروفه واحتياجاته ليعطيه شبعًا خاصًا، لهذا قبل أن يصف الرب نفسه أظهر الرسول ظروفه وأحوال الكنيسة فقال:
"أنا يوحنا أخوكم وشريككم في الضيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره.
كنت في الجزيرة التي تدعى بطمس،
من أجل كلمة الله، ومن أجل شهادة يسوع المسيح"[9].
إذ اعتقل الإمبراطور دومتيانوس الرسول وهو في سن الشيخوخة ليحرمه من أولاده وخدمته ويوقف لسانه عن الكرازة حدث ما هو على العكس:
1. لم ينقطع رباط الأخوة والأبوة بينه وبين شعبه، لأن هذا الرباط لا يقوم على أسس جسدية بل على الشركة في الرب. وهاهو يعلن لهم أنه مرتبط معهم بالشركة معًا في الضيقة "آلام المسيح"، والتي من خلالها تكون لهم شركة "في ملكوت يسوع المسيح"، الذي ينالون عربونه، منتظرين معًا في شركة "صبره" حتى يبلغوه في الأبدية.
2. وجوده في بطمس لم يطمس ذهنه بالأحزان، بل كان فرصة ليكون منطلقًا في الروح. وفي الوقت الذي فيه توقف لسانه عن الكرازة أعلن له الرب نبوة يعلنها للكنيسة كاشفًا له حقائق خفية تخص نهاية الدهور وأسرار فرح العرس السماوي.
وفي وسط الآلام تعزيات الله تلذذ نفس المؤمن، ففي وسط حفرة الرجم رأى استفانوس السموات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا لإعانته، وفي وسط التجربة المرة رأى أيوب الرب، وفي وسط الضيق أعلن ليعقوب الهارب السلم السمائي، وفي السبيّ نظر حزقيال النبي الله الجالس على المركبة الشاروبيميّة.
نعود لنرى أن الرسول الذي نفي "من أجل كلمة الله، ومن أجل شهادة يسوع المسيح" لم تتوقف رسالته، بل آلت إلى تقدم أكثر إذ يقول: "كنتُ في الروح في يوم الرب[21]. وسمعتُ ورائي صوتًا عظيمًا كصوت بوق"[10].