الراهب الشاب الذي أبهر شيوخ الإسقيط: القديس زكريا بن قاريون

نشأ زكريا بين أب هو قاريون وأمه وشقيقته، وكعادة الكثيرين في القرون الرابع والخامس والسادس، كانت بعض الأسر يتفقون بعضهم مع البعض الآخر، على اختيار الحياة النسكية مع العزلة في الصحاري وبيوت العذارى بينما يُودَع الأبناء بيوت الأيتام، فقد اتفق القديس آمون – والذي صار فيما بعد أبًا لجبل نتريا – مع زوجته والتي تزوجها تحت ضغط من الأسرة، على أن يحيا كلاهما بتولين لسنوات قبل أن يفترقا متجهيْن كل منهما إلى الحياة النسكية، ومثله القديس مقاريوس وغيرهما من الآباء والأمهات، وبعضهم هربوا عندما لم يصل أحدهما إلى اتفاق مع الآخر.
ترك قاريون الأب بيته متفقًا مع زوجته أن تهتم هي بالطفلين، أو تودعهما بيتًا للأيتام إذا كان في نيّتها الإقامة في بيت العذارى، ولكن البلاد كانت تعاني في ذلك الوقت من قحط شديد، ويبدو أن الأم لم تقدم على خطوة الترهّب هي الأخرى تاركة ولديها، وإذ حاولت بكل قوتها تأمين قوتهم ولم تستطع انطلقت في رحلة شاقة تبحث عن زوجها في الإسقيط، حسبما علمت منه قبل أن يودعها، وبعد معاناة وصلت إلى المكان وبصحبتها طفليها حيث يوجد زوجها، ورأته عن بُعد إذ كان يفصل بينهما مستنقع من النطرون، فخاطبته متأسِّفة بأنها لم تعد قادرة على إطعام ولديهما، وأنه لا مناص من تركهما لديه، وفيما هي تحادثه ترك الطفل زكريا يد أمه وخاض في البركة متجها نحو والده، بينما تشبثت الطفلة بأمها، وهنا ردّ الأب قائلاً: "إنها قسمة العدل: فليبقَ الطفل معي، ولتعد الطفلة معك"، وهكذا بقي زكريا مع والده في في الدير.
كان الطفل ذكيًا مهذبًا وسيمًا، عاش مع قاريون الذي مثّل له دوري الأبوة الروحية والجسدية معًا، فهو يبقى معه كابن بالجسد نزولاً على رغبة الأم وتحت وطأة الفقر، بينما يتبنّاه روحيًا لأنه يحيا معه حياة رهبانية وليست تلمذة مهنة لتكسّب العيش، وكان منظرًا مألوفا في ذلك الوقت أن يوجد بعض من الفتيان والأطفال في الدير، مثل الطفل الذي وُجِد بجوار سور الدير فأخذه الرهبان وربّوه، ولما كبر أخذوه في مهمة إلى العالم، ولما بدأ يسأل عما يراه كان الآباء يجاوبونه ببساطة، ولما رأى امرأة جميلة قيل له إنها الشيطان (وكانوا يقصدون شيطان الشهوة وليس المرأة بذاتها)، ولما عاد إلى الدير وسألوه عمّا أعجبه أجاب في عفوية "الشيطان"! وهنا تعجّب الآباء كيف يغوي الشيطان حتى البسطاء؛ وكذلك تربّى القديس شنوده مع خاله أنبا بيجول وهو لا يزال في التاسعة من عمره. وفي الغرب تربّى الطفل مارسللينو بين الرهبان في الدير، وغيرهم كثيرون أصبحوا قديسين، ولكن الأديرة في ذلك الوقت كانت أشبه بالمدن بسبب كثرة الرهبان فيها والحركة وعمل اليد والمهن الكثيرة.
ولكن الآباء لم يتقبّلوا كثيرًا هذا الوضع، وكانوا يرون أن الحياة الرهبانية بما فيها من صرامة وشظف وحروب لا يناسب تواجد صغار السن بها لما يتصفون به من غضاضة ورخوية، ومن ثَمّ رأى بعضهم أنه من الأفضل أن يفترقا – زكريا وقاريون – وإذ لم يكن من السهل ذلك، فقد قرّر الأب الخروج بصحبة ولده إلى مكان آخر، ولم يسمع لنصح ابنه والذي اتسمت شخصيته منذ البداية بالتعقّل والرصانة، والذي رأى أن الآباء يعرفون جيدًا نسبته إليه في الإسقيط، بينما ستواجههم متاعب أكثر إذا انتقلا إلى مكان آخر غير معروفين فيه، وتحقق ظن الابن إذ اُضطُر الأب الذي قضى بعض الوقت مع ابنه بدير في الصعيد، إلى العودة من جديد إلى الإسقيط.
ولكن الآباء والذين كانوا يسلكون بكثير من الجدّية في حياة صارمة شكلاً وموضوعًا، رأوا في وجود الشاب الغضّ مظهرًا من مظاهر الرخاوة بما لا يتماشى مع طبيعة حياتهم. ومن ثَمّ فكّر الشاب الفطن المهتم بخلاصه أكثر من كل شيء، والمتمسك بالطريق النسكي وقيمة التتلمذ على آباء شيهيت، ثم قرّر أمرًا فيه من الجرأة والشجاعة وسمو النفس ما يجعله قديسًا ونبيلاً، إذ ذهب الي بحيرة من بحيرات النطرون وغطس فيها عاريًا حتى أنفه لعدة ساعات، ليخرج وقد تغير لون جسده الغض كثيرًا، وعندما رآه القس إيسيذوروس هكذا تعجَّب مما فعله وقال: "إن زكريا الصبي جاء في الأحد الماضي ليتناول من الأسرار على أنه إنسانٌ، أما الآن فقد صار شبه ملاك".
تنيح زكريا وهو ما يزال شابًا في العشرينات من عمره، ويُعَد بذلك من أصغر قديسي شيهيت، واكتسب شهرة كبيرة من خلال قلّة كلامه وصواب رأيه وكثرة جديته في حياته، حتى أن كلاً من القديس مقاريوس الكبير والقديس موسى الأسود كانا يسألانه أحيانًا فيما ينفعهما، فقد سأله الأب مقاريوس الكبير وكان زكريا ما يزال حديث السن قائلاً: «قل لي يا زكريا، ما هو الراهبُ الحقيقي»؟ قال زكريا: "يا أبي أتسألني أنا"؟ قال له الشيخُ: «نعم يا ابني زكريا، فإن نفسي متيقنةٌ بالروح القدس الذي فيك، أن شيئًا ينقصني يلزم أن أسألك عنه". فقال له الشابُ: "إن الراهبَ هو ذلك الإنسان الذي يُرذل نفسَه ويُجهد ذاتَه في كلِّ الأمور". أمّا الأنبا موسى فقد ذهب مرة ليستقي ماءً، فوجد أنبا زكريا على البئرِ يصلي وروحُ الله حالٌّ عليه. فقال له: "يا أبتاه قل لي ماذا أصنع لأخلصَ". فما أن سمع الحديثَ حتى انطرح بوجهِه عند رجليه وقال له: "يا أبي أتسألني أنا"؟. قال أنبا موسى: "صدقني يا ابني زكريا إني أبصرتُ روحَ الله حالاًّ عليك ولذلك وجدتُ نفسي مسوقًا من نعمةِ الله أن أسألَك". فتناول زكريا قلنسوته ووضعها عند رجليه وداسها، ثم رفعها ووضعها فوقَ رأسهِ وقال: "إن لم يصر الراهبُ هكذا منسحقًا فلن يخلصَ".
بل شهد عنه أبوه الأنبا قاريون قائلاً: «إني بذلتُ أتعاباً كثيرةً بجسدي لكني لم أصل إلى رتبةِ ابني زكريا في تواضع العقلِ والسكون».
وعند نياحة زكريا سأله أنبا موسى قائلاً: "أيُّ الفضائلِ أعظم يا ابني؟" فأجابه: "على ما أراه يا أبتاه، ليس شيءٌ أفضلَ من السكوتِ". فقال له: "حقًا يا ابني، بالصوابِ تكلمتَ". وكان موجودًا عند خروج نفسه من جسده القديس الأنبا إيسيذوروس القس جالسًا، فنظر إلى السماءِ وقال: "اخرج يا ابني زكريا فإن أبوابَ ملكوتِ السماوات قد فُتحت لك".
وهكذا كان تدبير من الله أن يترهب الأب قاريون، وأن تحدث المجاعة لتأتي أسرته إلى حيث يوجد، ويمكث الابن بالبرية دون الابنة، وفيما كان يُظَن أنه مكث لأجل القوت الجسدي إذا به جائع ومتعطّش للقوت السماوي من بستان الرهبنة وشيوخ الدير، وبينما يتفوق الصبي على الكثير ممن تقدموه في الحياة النسكية نرى أباه وقد توارى ليلمع نجم الابن حديث السن عملاق القامة الروحية، قليل الكلام بالغ الحكمة التي من السماء. بركة صلاته فلتكن معنا آمين.

» القديس زكريا الراهب بن قاربوس
» القديس زكريا الراهب بن قاربوس
» القديس زكريا
» القديس زكريا النبي ابن براشيا احد الاثني عشر
» القديس سمعان الذي من منوف العليا