إن مدرسة الله لا بد أن تُعلِّم وتُهذِّب كل أولاد الله، ولا سيما الذين هم في ميدان الخدمة. والذوق الصالح هو التمييز والفهم الذي يجعل الشخص يحكم الحُكم الصحيح في الأمور، ويتصرَّف حسنًا في المواقف المختلفة. وهذه الحاسة يُنشئها الروح القدس في الشخص المولود من الله، ثم تتدرَّب مع الزمن وتنمو كباقي الحواس الروحية، بحيث يستطيع المؤمن أن يفهم طبيعة ونوعية الأشخاص الذين يتعامل معهم من حيث تكوينهم النفسي، وخلفياتهم، وظروفهم، واحتياجاتهم سواء الروحية أو النفسية أو الاجتماعية أو المادية. ويُميِّز الاختلافات بين هؤلاء. فهذا سيفرض أسلوبًا خاصًا في التعامل يختلف من الواحد للآخر، ويختلف مع الشخص نفسه من ظرف لآخر، ومن مرحلة إلى أخرى.
إنه يعرف كيف يتعامل مع الآباء والأمهات بكل أدب واحترام، وكيف يتعامل مع الشيوخ بكل وقار وخضوع، وكيف يتعامل مع الشبان والشابات بكل تعقل ونقاء وطهارة وعفة بما يتناسب مع قداسة الله. وكيف يتعامل مع الأصغر سنًا بكل عطف ورفق. كيف يتعامل مع الأغنياء والفقراء دون تفضيل أو ازدراء. ومع الأقوياء والضعفاء، من حيث الضمير، حتى لا يُعثر أحدًا. ومع الأذكياء والمتفوقين، أو البُلداء والفاشلين، عالـمًا أن المسيح قد مات لأجل الجميع، وأن الله قد اختار جُهال العالم والمزدرى وغير الموجود، لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه (1كورنثوس1:27-29). وهذا كله يتطلـَّب الذوق الصالح والتمييز في الشخص الذي يخدم.
كذلك يجب عليه أن يحفظ نفسه غير ثقيل على أحد، ولا يفرض نفسه على الآخرين، بل يكون عفيف النفس، لا يطمع في أحد، ولا يشتهي ما يخصّ الآخرين. لا يطلب شيئًا لنفسه، ويقنع بأقل القليل، ويشعر بالامتنان والمديونية لكل مَن يُقدِّم له خدمة خاصة أو عناية خاصة. إنه يعيش بمبدإ «مغبوطٌ هو العطاء أكثر من الأخذ» (أعمال20:35)، مُتمثِّلاً بالسيد الذي جاء لا لكي يُخْدَم بل لكي يَخْدِم، ويبذل نفسه فدية عن كثيرين (مرقس10: 45).
إنه يحترم حقوق الآخرين، وخصوصياتهم، ويكون أمينًا على أسرارهم، ليظل جديرًا بثقتهم. ويحافظ على مشاعرهم لكي لا يجرح أحدًا بكلمة أو تصرف، حتى يكون مقبولاً من الجميع.
لا ينبغي أن يصعد على أكتاف الآخرين، ولا يزاحم على الخدمات الظاهرة، ولا يحاول أن يسود على الأنصبة، أو يُشعر الآخرين بأنه الأفضل، وأنه الوحيد الذي يفهم، والوحيد الذي يعمل، وبدونه سينهار العمل، فيحتقر ما يعمله إخوته، ويحكم بالفشل على كل الإنجازات طالما تَمَّت بدونه. ما أردأ هذه الروح، وما أبعدها عن الذوق الصالح!
إن الذوق الصالح يجعل صاحبه لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي، ويحسب الآخرين أفضل من نفسه، ويشعر أنه واحد من كثيرين في ميدان الخدمة. هكذا كان بولس يقرن نفسه بآخرين، حتى لو كانوا أقل منه في الخبرة والموهبة مثل تيموثاوس وسلوانس. وكان يُسرُّ بما يعمله الآخرون مثل أبلوس. وقد علَّم المؤمنين في فيلبي هذا الدرس قائلاً: «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا» (فيلبي2: 4). أي أنه يُقدِّر ويمتدح ما يفعله الآخرون. وهذا هو الذوق المسيحي المطلوب في كل خادم حقيقي للرب.
كذلك يجب أن يكون مُسرعًا في الاستماع، مُبطئًا في التكلُّم (يعقوب1:19)، مُعطيًا الفرصة للآخرين ليُعبِّروا عن أفكارهم، ولا ينبغي أن يحتقر آراءهم أو يصدَّهم لئلا يُعثرهم. وعندما يخدم لا ينبغي أن يكون هو المتكلِّم في كل مرة، وإذا تكلَّم يكون مختصرًا وهادفًا ومُحدَّدًا لكي لا يملّ منه السامعون. ويجب أن يُميِّز حالة الأشخاص الذين يخدمهم وطاقتهم. ويجب أن يعرف متى يتكلَّم ومتى يصمت. وعندما يتكلَّم ماذا يقول، وما الذي لا ينطق به ولا يخرج من شفتيه مهما كان. فالذوق الصالح يتضمن الأسلوب والألفاظ التي يستخدمها لكي يعطي نعمة للسامعين، وتكون فقط حسب الحاجة. ولا ينبغي أن يدَّعي المعرفة في كل الأمور، وليس عيبًا أن يستشير مَنْ هم أكثر خبرة ومعرفة.
كذلك وهو يتعامل مع أخطاء الآخرين وضعفاتهم يجب ألا يشهِّر بهم، ولا يكون كثير الانتقاد، بل بروح المحبة والوداعة يعالج الأمور ويسترها، وبكل تواضع يكون ناظرًا إلى نفسه لئلا يُجرَّب هو أيضًا. ويجب أن يُميِّز متى يكون العلاج على انفراد ومتى يكون أمام آخرين.
كذلك يظهر التمييز في اختيار الوقت المناسب من جهة ظروف الآخرين، لزيارة خاصة أو لقاء فردي أو جماعي، وأيضًا في اختيار الموضوع المناسب طبقًا لاحتياج النفوس التي يتعامل معها. فيقدِّم التشجيع عندما يراهم خائرين وحائرين ومضطهدين، ويُكلِّمهم عن النعمة عندما يراهم منكسرين وفاشلين ومُحبَطين وشاعرين بعدم الاستحقاق. ويكون من الحماقة أن يكلِّم هؤلاء عن المعاملات التأديبية والقضائية في هذا التوقيت. بينما يكون مناسبًا أن يتكلَّم عن القداسة والتأديب إذا رأى فيهم التهاون والشرور وكل ما يهين الرب، وأنهم لا يفهمون النعمة بالشكل الصحيح ويعتبرونها أنها التساهل مع الشَّر. وهذا ما ذكره يهوذا في رسالته قائلاً: «ارحموا البعض مُميِّزين، وخلِّصُوا البعض بالخوف، مختطفين من النار» (يهوذا 22،23). وهكذا كان الرب يسوع يتكلَّم أحيانًا عن محبة الله وعطية الله وغفران الله ولم ينطق بكلمة عن الدينونة أو عن نتائج الخطية من حيث الزرع والحصاد، بينما في مواقف أخرى كان يُوبِّخ الفريسيين ويحذّرهم ويتكلَّم عن الدينونة والهلاك والجحيم الأبدي.
أخيرًا فإن التمييز يشمل معرفة الاحتياجات الروحية والمادية للنفوس، ومن عدم التمييز أن تسدَّد الأعواز الروحية بأمور مادية، أو الأعواز المادية برسالة روحية. وهذا ما كان يفعله رب المجد عندما كان يُعلِّم ويكرز ويشفي ويُطعم، ويُعزِّي النائحين، في تمام المناسبة بحسب احتياج النفوس التي حوله، فما أروعه مثال
about 7 months ago
Amir 2- الخادم وكلمة الله
إن حياتنا الروحية إمّا أن تسير بقوة دافعة متجدِّدة، أو تسير بقوة الاندفاع. والقوة الدافعة ستأتي من الصلاة، أما قوة الاندفاع فهي نتيجة التأثر بالآخرين أو الحماس الذي نأخذه بعد النهضات والفرص الانتعاشية؛ وهذا لا يستمر طويلاً، ولا بد أن يتوقف بعد حين.
وإن كانت الصلاة ضرورة حتمية في حياة كل مؤمن، فبالأولى تكون كذلك في حياة كل مَنْ يريد أن يخدم الرب خدمة حقيقية ناجحة.
إن الصلاة هي الضعف البشري مستندًا على قوة الله القدير ومتعلّقًا بها. وهي التعبير عن حياة الاتكال وعدم الاستقلال، أو الاستغناء، عن الرب. إنها حالة قلب، وليست مُجرّد كلمات نتلوها. وهي الشعور بالاحتياج والحنين إلى الله، والثقة فيه باعتباره الآب المحب والقدير. إنها المكان والمدرسة التي نتدرَّب فيها على سماع صوت الرب ومعرفة مشيئته، كما نتدرَّب على فحص النفس وإدانة كل ما يصدر من الجسد، سواء في السلوك أو الخدمة. ونحن نميل، بطبيعتنا، إلى النشاط الظاهر أكثر من الوجود المستتر أمام الرب وسكب القلب في محضره. ونميل أن نتكلم مع بعضنا أكثر من أن نتكلم معه. والجسد سريعًا ما يملّ من الصلاة؛ ولهذا قال الرب يسوع: «ينبغي أن يُصلَّى في كل حين ولا يُمَل» (لوقا 18: 1). وفي مَثَل صديق نصف الليل (لوقا 11: 5-8) نرى أن الشعور بالحاجة المُلِحَّة يقود إلى الطلب بلجاجة. وهذا ينبغي أن يكون شعور الخادم وهو تحت المسؤولية، لكي يلجأ إلى الرب، ليأخذ منه ما يقدِّمه للآخرين.
إن الخادم ليس مَخزنًا للقوة والبركة الروحية. لكنه يستمدّها من الرب يوميًا بالصلاة، لكي يستخدمه استخدامًا ناجحًا، ويكون مؤثِّرًا في النفوس. وبدون ذلك سيصبح نحاسًا يطن أوصنجًا يرن، مهما كانت مواهبه وشخصيته ومعلوماته.
والخادم يحتاج أن يُصلِّي لكي يعطيه الرب أن يكون مقبولاً من الآخرين في شخصه، وأن تكون خدمته مقبولة، حتى أبسط الخدمات، مع أطفال مدارس الأحد. وأن يفتح الرب له بابًا للكلام مع النفوس (في العمل الفردي). ويعطيه كلامًا عند افتتاح فمه، وأسلوبًا مناسبًا. وأن يكون مؤيَّدًا بقوة الروح القدس حتى يصل الكلام إلى الضمائر ويبكِّت النفوس. ولكي يُربَح الخطاة ويُبنى المؤمنون. ولكي يُحفظ الخادم من الأشخاص الأردياء ومقاومتهم، ومن تجارب إبليس وما يمكن أن يعطِّل الخدمة، أو يُسبِّب لومًا عليها أو يُعْثِر الآخرين. إن كل هذا لن يحدث بتلقائية على الإطلاق، لكنه يحتاج إلى صراخ وتضرّع الخادم قبل الخدمة وبعدها.
وهناك فارق بين شخص يصلِّي عند الضرورة فقط، وآخر طابع حياته هو الصلاة. وبين مؤمن أقصى أمانيه أن يعبر يومه بدون مشاكل ودون أن يرتكب خطايا مشينة، وبين مؤمن آخر يريد أن يتصوَّر المسيح فيه وأن يسلك ويخدم كما كان سيده. ولا شك أن الأخير يحتاج أن يصلِّي أكثر جدًا.
إن الرب يسوع كان هو أعظم خادم ظهر على الأرض، وقد عاش حياة الصلاة كإنسان كامل على الأرض. لقد بدأ خدمته العلنية بالصلاة. ففي المعمودية إذ كان يصلي فُتحت له السماء، ونزل الروح القدس عليه مثل حمامة. وبعدها واجه إبليس في التجربة وانتصر عليه. ثم انطلق في خدمته بنجاح فريد. ونحن هل نريد سماءً مفتوحة بالبركة لنا؟ هل نريد تأييدًا بقوة الروح القدس؟ هل نريد انتصارًا على تجارب الشيطان؟ هل نريد نجاحًا في الخدمة؟ لا سبيل لذلك سوى الصلاة.
وقبل أن يختار الرُسل، ذهب الرب يسوع إلى الجبل، وقضى الليل كله في الصلاة. فقد كان يقدِّر المسؤولية ويُعطي الوقت الكافي لها في الصلاة. هل نندهش إذا ظهر الفشل في حياتنا وخدمتنا؟ أليس بسبب قِلّة صلواتنا واندفاعنا وسرعة قراراتنا؟!
كان للخلوة مكان بارز في حياة الرب يسوع، ورغم أنه لم يكن لديه وقت للأكل أو النوم أحيانًا كثيرة؛ لكنه كان لديه وقت للصلاة! والخدمة، بكل متطلّباتها، لم تعطِّله عن خلوته مع أبيه، بل كانت تستمِد قوتها من هذه الخلوة.
كذلك بولس، كخادم، كان يصلِّي لأجل جميع الكنائس، أفرادًا وعائلات، بظروفهم واحتياجاتهم تفصيليًا. فهل نفعل ذلك نحن لأجل الدائرة الصغيرة التي نخدم فيها، وليكن فصل في مدارس الأحد، على سبيل المثال؟ يجب أن نتحرَّر من الأنانية والمشغولية بذواتنا، لنفكِّر في الآخرين ونتشفَّع لأجلهم. بهذا نكون ناجحين في خدمتنا، والرب يصادق عليها ويباركنا
about 7 months ago
Amir 3- الخادم وقوة الروح القدس
إن كل مؤمن حقيقي قد وُلِدَ من الروح، ويسكن فيه الروح القدس بصفة دائمة. «إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس» (أفسس1:13)، وهذا الختم يعني المصادقة الإلهية على أن هذا الشخص قد تمتَّع بالفداء، وصار مِلكًا للمسيح، وله الضمان الأبدي، إذ قد امتلك الحياة الأبدية، ولن يهلك إلى الأبد، و هو عربون الميراث والمجد في المستقبل. وهذا امتياز جميع المؤمنين الآن.
وهكذا فإن الروح القدس يتخذ من جسد كل مؤمن هيكلاًًًًًًًًًًًًًًًً له (1كورنثوس6: 19). وهذا يتطلب مراعاة القداسة العملية في السلوك اليومي للمسيحي الحقيقي في الفكر والقول والعمل، لكي لا يحزن الروح.
كذلك هو قوة حياة وسلوك المؤمن لكي تظهر حياة المسيح فيه، ولكي ينتصر على الجسد. فالجسد يشتهي ضد الروح، والروح يقف ضد الجسد، يتصدى له ويكبح جماحه ويلجم رغباته وشهواته وانفعالاته. ومسؤولية المؤمن هي أن يسلك بالروح فلا يكمّل شهوة الجسد (غلاطية5: 16، 17)، وأن يميت بالروح أعمال الجسد (رومية8:13). هذا من الناحية السلبية. أما من الناحية الإيجابية فهو يقود المؤمن في مشيئة الله، ويحرّكه في المناخ والأجواء التي تناسب قداسة الله، لكي يختبر ما هو مرضي عند الرب من جهة القرارات والاختيارات وتصحيح المسارات. إنه بلغة العصر Navigator يوجِّه ويقود المؤمن في الطريق الصحيح نحو الهدف الصحيح. وهذا يتطلب الطاعة، والحواس الروحية المدرَّبة لتمييز همسات الروح القدس، وإخضاع الإرادة الذاتية لفعل إرادة الله.
وإن كان هذا ما يليق بكل مؤمن يريد أن يحيا الحياة المسيحية الصحيحة، فبالأولى كثيرًا أولئك الذين يشتاقون إلى خدمة ناجحة للرب.
إن الروح القدس هو القوة الفعَّالة للشهادة والخدمة الصحيحة. وما أعظم النتائج والتأثيرات التي يجريها الروح القدس من خلال الأواني الخزفية الضعيفة والبسيطة. لهذا يجب الاعتماد تمامًا على قوة الروح القدس في كل خدمة، صغيرة كانت أم كبيرة. وبدونه سيصبح كل نشاط بلا قيمة أو فاعلية، وستصبح النتائج هزيلة ومفشِّلة. لهذا فبعد حديث الرب يسوع مع تلاميذه عن الشهادة له في هذا العالم، بعد أن يمضي إلى الآب، والمعبَّر عنها بالثمر نتيجة الثبات في الكرمة (يوحنا15)، فإنه ختم بأن أشار إلى الروح القدس الذي سيرسله إليهم من الآب، روح الحق، الذي يشهد فيهم. كذلك طلب الرب يسوع من تلاميذه أن يمكثوا في أورشليم بعد صعوده حتى يلبسوا قوة متى حلّ الروح القدس عليهم، ويكونون له شهودًا في أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض (لوقا24:49؛ أعمال1:8). فلقد كانوا يحتاجون إلى تعضيد الروح القدس لهم في شهادتهم بالنظر لأنهم: 1- كانوا ضعفاء وقليلين. 2- العالم ورئيس هذا العالم ضدهم ويقاومهم. 3- موضوع الشهادة عظيم ومجيد عن شخص الرب يسوع المسيح الذي مات وقام وصنع الخلاص، وهو الآن حي في المجد. ومن هو كفوء أن يقدِّم هذا الشخص للآخرين. وبعد نزول الروح القدس كان الرُسل يؤدّون الشهادة بشجاعة وقوة تفوق بكثير قدرتهم الطبيعية، إذا كانوا ممتلئين من الروح القدس. وكانت النتائج مذهلة والتأثيرات عميقة، إذ كان الروح القدس يبكِّت النفوس وينخس القلوب ويقود الألوف إلى التوبة والإيمان الحقيقي. لقد قيل عنهم إنهم فتنوا المسكونة، رغم أن معظمهم كانوا صيّادين. وإلى يومنا هذا، كم من أشخاص يقدِّمون رسائل للنفوس، بسيطة جدًا في محتواها، ولكنها مصحوبة بقوة الروح القدس بشكل مميَّز. لهذا فإن التأثيرات والنتائج مباركة جدًا وحقيقية وثابتة، وليست سطحية وعاطفية ووقتية.
ونحن نحتاج ليس فقط إلى الروح ساكنًا فينا، بل إلى روح القوّة مستقِرًّا علينا لكي يمتلكنا ويحرِّكنا ويستخدمنا في خدمة ناجحة وفعّالة ومؤثرة.
إن كثيرين اليوم، بكل أسف، في ميدان الخدمة يعتمدون على الجسد والإمكانيات البشرية، ويتجاهلون أهمية الاعتماد على الروح القدس. فهم يعتمدون على الوسامة والأناقة واللباقة والجاذبية وخفة الروح وقوة الشخصية والذكاء وسرعة البديهة والذاكرة والخبرة ونبرات الصوت و... إلخ. وكل هذه المقوّمات الإنسانية يمكن أن تتوفر في إنسان لا يعرف الله. ولا يمكن أن الله يصادق على ذلك، حتى لو كانت هذه الخدمة تحظى بمديح الناس واستحسانهم.
أما نحن فإذا أردنا نجاحًا حقيقيًا في الخدمة فعلينا أن نتعلَّق بالرب، ونطلب بإلحاح مؤازرة روحه لنا في كل جوانب الخدمة العامة والخاصة، سواء فى العمل الفردي، أو خدمة مدارس الأحد، أو خدمة النشء الصغير، أو النواحي التدبيرية، أو الخدمات المعاونة. وبالطبع يجب أن نكون في الوضع الروحي الصحيح، وبالدوافع الصحيحة للخدمة، حتى يمكن للروح القدس أن يؤيّدنا ويملأنا ويستخدمنا.
إن سر نجاح كل الذين استخدمهم الرب في أي مجال، يكمن في تأييد وتعضيد الروح القدس لهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر:
يوسف الذي استخدمه الرب ليفسر حلم فرعون، ويكشف الأسرار، ويُخلّص العالم من المجاعة، ويستبقي الحياة. هذا الشخص شهد عنه فرعون قائلاً: «هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله» (تكوين41: 38).
موسى الذي استخدمه الرب لخلاص شعبه وإخراجهم من مصر وقيادتهم فى البرية. أخذ الرب من الروح الذي عليه وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ من الشعب، فتنبأوا (عدد11: 25) أي أنه كان مؤيَّدًا بقوّة جبارة من الروح القدس.
جدعون الذي خلَّص الشعب من عبودية مديان نقرأ عنه «ولبس روح الرب جدعون» (قضاة6: 34).
داود بعد أن مسحه صموئيل ملكًا، «حلَّ روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا» (1صموئيل16:13).
وفوق الكل شخص الرب يسوع المسيح، عندما كان كإنسان هنا على الأرض، الذي رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس (لوقا4:1)، وذلك في بداية خدمته العلنية. وقال عنه بطرس: «كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه» (أعمال10:38
about 7 months ago
Amir 4- الخادم وروح الاتضاع
الكبرياء هي أقدم الخطايا. وهي عِلّة سقوط الشيطان (إشعياء14: 12-14)، وكذلك الإنسان (تكوين3: 5). ومكتوب «يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة» (يعقوب4: 6). وهناك فارق بين مدرسة العالم التي تُعظّم الإنسان وتجعله يبحث عن ذاته، ويشعر بقيمته، ويُعجَب بنفسه، ويفتخر بامتيازاته الجسدية ومواهبه الطبيعية؛ كالذكاء والجمال والفصاحة واللباقة والثروة والصحة والنجاح والشهادة والعائلة ... الخ. وبين مدرسة الله التي تُفَرِّغه من ذاته، وتُعلِّمه أنه لا شيء، فيتضع، ويشعر بحقارته وفساده وعجزه، ويُقدِّر النعمة التي اتجهت إليه، عالمًا أنه في ذاته لا يستحق أي شيء.
إن الشخص المتّضع هو الذي وصل إلى نهاية ذاته، وما عاد مشغولاً بنفسه بل بشخص المسيح. لا يبحث عن مكان له، بل عن مجد وتعظيم المسيح. وشعاره كما كان المعمدان: «ينبغي أن ذلك يزيد، وأني أنا أنقص» (يوحنا3: 30). وهذه هي روح الخادم الذي يُسَرُّ الرب بأن يستخدمه.
إنه أمر محزن أن نجد كثيرين في الساحة الآن يتّخذون من الخدمة مجالاً لتحقيق ذواتهم. وهناك التسابق على القيادة والأماكن البارزة في الخدمة التي تحقّق الشهرة. وكلٌّ يريد أن يكون الأول. وصارت الخدمة مجالاً للتنافس والصراعات بين مَن يخدمون. وتسرّبت روح العالم وحب الظهور لتصبح هي الصفة السائدة وسط المؤمنين، بدلاً من روح السيد الذي قال: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم» (متى11: 29).
لقد ظهرت هذه الروح وسط التلاميذ في أيام المسيح، إذ حدثت مشاجرة بينهم عن مَن يكون الأعظم. في الوقت الذي فيه كان الرب يتكلم عن آلامه وصلبه، وأنه «قد جاء لا لكي يُخدَم بل لكي يَخدِم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين». وكم نخجل إذ نراه في اللية الأخيرة وقد «قام عن العشاء، وخلع ثيابه، وأخذ منشفة واتَّزر بها. ثم صبَّ ماءً في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنشفة التي كان مُتَّزرًا بها» (يوحنا13: 4، 5). وقال لهم: «أنا بينكم كالذي يخدم» (لوقا22: 27). لقد أخذ المكان الأخير، وخدم كالعبد الصغير، فياله من مثال!
وهذه الروح المتضعة كانت في الرسول بولس الذي معنى اسمه “صغير”. حيث قال عن نفسه: «أصغر جميع الرسل» (1كورنثوس15: 9). وأيضًا «أصغر جميع القديسين» (أفسس3: 8). وأيضًا «مَن هو بولس، ومَن هو أبُّلوس؟ بل خادمان آمنتم بواسطتمها» (1كورنثوس3: 5). وبهذه الروح كان يُحرِّض إخوته قائلاً: «لا شيئًا بتحزُّب أو بعُجب، بل بتواضع؛ حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا» (فيلبي2: 3، 4). ويا لها من أخلاق فاضلة تليق بالخادم أن يرى ويُقدِّر ما يفعله الآخرون، ويفرح باستخدام الرب لهم، وليس أن يرى نفسه فقط ويحتقر الآخرين. مثلما فعلت مرثا إذ قالت: «(أنا) أخدم وحدي» (لوقا10: 40). لقد كانت مملوءة من الذات وحُب الظهور والبحث عن الإطراء والمديح الذي يشبع الجسد. وهل هذه خدمة تحظى بسرور الرب وإعجابه؟! إن الجسد لا يحتمل أن يرى آخر أفضل منه، وأحيانًا لا يحتمل أن يرى آخر معه في الساحة حتى لو كان أقل منه. فهو يريد أن يكون الأول والوحيد في الصورة. بينما بولس كان يقرن نفسه دائمًا بآخرين مثل تيموثاوس وسلوانس وأبُلّوس وغيرهم.
إن الخادم المتضع لا ينشغل بنفسه، ولا بما يقوله الآخرون عنه. ولا يتكلّم عن نفسه وإنجازاته. ولا يجعلك تنشغل به، بل يقودك إلى المسيح لتتعلَّق به. إنه يبحث عن المكان الأخير والخدمات الخفيَّة والأماكن المستترة. وكل هدفه أن يرضي سيده. ولا ينتظر مكافآت هنا، بل يمد البصر إلى كرسي المسيح. إنه لا يُسيء إلى أحد، ولا يستاء من أحد إذا جُرِحَت كرامته، أو إذا أساء الظن به الآخرون. إنه يعرف في أعماقه أنه تراب ورماد. وهو على استعداد أن يعترف بأخطائه مهما كان هذا مُذلاً أو مخجِلاً. في الوقت الذي فيه يسعى الكثيرون إلى تبرير أنفسهم وإدانة الآخرين.
ما أحوجنا كخُدّام أن نكون مثل جدعون في عفرة عندما قال: «ها عشيرتي هي الذُّلَّى في منسى، وأنا الأصغر في بيت أبي» (قضاة6: 15). ومثل إرميا الذي قال: «إني لا أعرف أن أتكلَّم لأني ولد» (إرميا1: 6). ومثل موسى الذي قال: «مَن أنا حتى أذهب إلى فرعون؟» (خروج3: 11). وداود الذي قال: «(أنا) ابن عبدك يَسَّى البيتلحمي» (1صموئيل17: 58). فكل هؤلاء كانوا يشعرون أنهم لا شيء، ولهذا استخدمهم الرب بنجاح.
إن الخادم المتضع لا ينقاد إلى الأمور العالية، بل إلى الأمور البسيطة والمتضعة، قانعًا بظروفه وإمكانياته، مكتفيًا بما هو فيه، شاكرًا في كل شيء، مسرورًا بأقل قدر من المراحم، معترفًا بفضل الرب في كل نجاح أو إنجاز.
ليت هذه الكلمات تكون من سمات حياتك كخادم تُجمِّله النعمة بروح الاتضاع التي نفتقدها كثيرًا في هذه الأيام
about 7 months ago
Amir 5- الخادم والقدوة
قال بولس لتلميذه تيموثاوس، الخادم الصغير: «لا يستهن أحدٌ بحداثتك، بل كن قُدْوَةً للمؤمنين في الكلام، في التصرُّف، في المحبة، في الروح، في الإيمان، في الطهارة» (1تيموثاوس 4: 12). وأيضًا «اجتهد أن تُقيم نفسك لله مُزكَّى، عاملاً لا يُخْزَى» (2تيموثاوس 2: 15)، بمعنى أنه لا يفعل شيئًا يُسبِّب له الخزي أمام الآخرين. إن رسالة الحياة أقوى بكثير في تأثيرها من الكلام الذي نقوله. ويجب أن نعيش ما نتكلَّم به في جميع الدوائر، مُتمثلين بالسيد الذي قال: «أنا من البدء ما أُكلِّمكم أيضًا به» (يوحنا 8: 25). أو كما قال البشير لوقا: «ما ابتدأ يسوع يفعله ويُعلِّم به» (أعمال 1: 1). وهذا سيُعطي للخدمة قوَّة ومصداقية لدى كل مَنْ نتعامل معهم.
أما المجالات التي يحتاج الخادم أن يكون فيها قدوة للمؤمنين فهي كما أشار الرسول بولس:
1- في الكلام: ما أكثر التحريضات في كلمة الله على أهمية الكلام وعدم التفريط بالشفتين. على سبيل المثال يقول بولس: «لا تخرج كلمة رديَّة من أفواهكم، بل كل ما كان صالحًا للبنيان، حسب الحاجة، كي يُعطيَ نعمةً للسامعين» (أفسس 4: 29). وعلينا أن نُصلِّي مع النبي القائل: «لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب» (مزمور 19: 14). وأيضًا «اجعل يا رب حارسًا لفمي» (مزمور 141: 3). فما أسهل وأخطر الانزلاق في الكلام، فنحتاج إلى مزيد من الحذر لضبط اللسان. ويقول يعقوب في رسالته: «إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجلٌ كاملٌ» (يعقوب 3:2)، لأنه يستطيع أن يُلجم كل الجسد. ويقول الحكيم: «كثرة الكلام لا تخلو من معصية. أما الضابط شفتيه فعاقلٌ» (أمثال 10: 19). وعن المرأة الفاضلة يقول: «تفتح فمها بالحكمة، وفي لسانها سُنَّةُ المعروف» (أمثال 31:26) وهذا ما يليق بكل مَنْ يخدم، مُقدِّمًا نفسه قدوة للمؤمنين في الكلام، فيعرف متى يتكلَّم ومتى يصمت، وعندما يتكلَّم ماذا يقول وما الذي لا يخرج من شفتيه.
2- في التصرُّف: كم من المرات يكون الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو (تكوين 27:22). وما أردأ هذه الازدواجية التي تُعثر الآخرين. ولأننا في ميدان الخدمة، فيجب أن تكون سيرتنا حسنة وسلوكنا بلا لوم، لا سيما عند الذين هم من خارج. ويجب أن تكون تصرفاتنا خارج الاجتماعات مطابقة لما نفعله ونقوله داخل الاجتماعات. وقد قال أحدهم: ”ما أنت عليه يتكلَّم بصوت عالٍ، فلا أستطيع أن أسمع ما تقول“. وذلك إذا رأى الآخرون فينا تصرفات الجسد وخشونته ورداءته، بعد أن يسمعوا أصواتنا الحلوة داخل الاجتماعات في الترنيم والصلوات. إن الناس سيفقدون المصداقية، ويتعثرون منا ومن الأمور الروحية، إذا رأوا هذه الازدواجية في مَنْ يخدمون. هل نتكلَّم عن القداسة ونُضبَط في مواقف مخزية لا تليق بقدِّيسين؟ هل نتكلَّم عن العطاء ونحن نُجسِّم الأنانية؟ هل نتكلَّم عن الأمانة وتصدر منا الخيانة؟ هل نتكلَّم عن الانفصال عن العالم ونحن نحب العالم وننبهر به؟ هل نتكلَّم عن البر ونظلم الآخرين أو نطمع فيهم ونشتهي ما عندهم ولا نحترم حقوقهم؟ هل نتكلَّم عن افتداء الوقت ونحن نهدر الوقت أمام الـتلفزيون وألعاب الكومبيوتر، وشبكة الانترنت لمجرَّد التسلية، وفي المقابل لا نجد وقتًا مُماثلاً لقراءة الكتاب والصلاة؟ كيف نبحث عن نجاح في الخدمة ونحن فاقدون المصداقية والقدوة؟!
3- في المحبة: إن المحبة ليست بالكلام بل بالعمل والحق. ويقول يعقوب: «إن كان أخ أو أخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي، فقال لهما أحدكم: امضيا بسلام، استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد، فما المنفعة؟» (يعقوب 2: 15، 16). ويقول الرسول يوحنا: «مَنْ كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجًا، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟» (1يوحنا 3: 17). ويمكننا أن نرى صورًا مختلفة للمحبة العملية في كلمات الرب يسوع: «لأني جُعتُ فأطعمتموني. عطشتُ فسقيتموني. كنت غريبًا فآويتموني. عريانًا فكسوتموني. مريضًا فزرتموني. محبوسًا فأتيتم إليَّ ... بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم» (متى 25: 35-40). إن المحبة العملية في أبسط صورة تؤثِّر في النفوس أكثر من عظات كثيرة. فليتنا نُقدِّم أنفسنا قُدْوَةً في المحبة.
4- في الإيمان: أي في الثقة في الله وسط العواصف والتجارب وفي مواجهة المستقبل المجهول. فالمؤمن، ولا سيما الذي في موقع الخدمة، يجب أن يُمارس ثقته في الله، ويحتمي فيه كالصخر، ويتمتع بالسلام. وبهذا يستطيع أن يُشجِّع الآخرين. فكيف يروه مضطربًا ومتوترًا وخائرًا وحائرًا أمام صعوبة بسيطة كالناس الذين لا يعرفون الله، وهو الذي يكلِّمهم عن الإيمان والاتكال وكفاية النعمة؟ إن الامتحانات والمحكَّات العملية تُظهر معدن الشخص وحجمه الروحي الحقيقي، وما إذا كان إنسانًا نظريًا فقط أم له اختبارات عميقة في ممارسة الإيمان.
5- في الطهارة: إني أود أن أرفع راية الخطر على الصداقات غير البريئة بين الشباب والفتيات خاصة في ميدان الخدمة. والرسول وهو يوصي تيموثاوس أن يكون قُدْوَة، قال له: «احفظ نفسك طاهرًا»، وأن يتعامل مع الحدثات كأخوات بكل طهارة، وأن يهرب من الشهوات الشبابية، وكل ما يسبب الإثارة. أما تيطس فطلب إليه أن يُكلِّم العجائز لكي ينصحن الحدثات. وعلينا أن نفهم أساليب العدو ولا نجهل أفكاره. ويجب أن ندرك أن أردأ صور الفساد هو فساد أقدس الأشياء. ونحن نحتاج دائمًا إلى المزيد من الحذر والسهر لكي نحتفظ بطهارة الفكر والقلب والعواطف وكل ما يُدنِّس الروح والجسد، مُكمِّلين القداسة في خوف الله. ولا نسمح لأنفسنا بأي تهاون أو تساهل مع الجسد، بل نقمع الجسد ونستعبده لئلا تُلام الخدمة. بهذا نُعطي للخدمة مصداقية أمام الآخرين ونُزيِّن تعليم مُخلِّصنا الله بالتصرُّف الحسن
about 7 months ago
Amir 6- الخادم بين الترفيه واحتمال المعاناة
اشترك أنت في احتمال المَشَقَّات، كجندي صالح ليسوع المسيح» (2تيموثاوس2: 3)
كل مؤمن حقيقي ارتبط بالمسيح وصار تحت لواء محبته، هو خادم للمسيح بشكل أو آخر، حسب الوزنة التي أُعطيتْ له. ولكي يكون خادمًا ناجحًا، يجب أن يتسلَّح بنيَّة احتمال المشقات بصبر وطول أناة. فيتكيَّف ويتعايش مع الضغوط والحرمان والمعاناة لفترة طويلة دون أن يكِلّ، ويتحمَّل الصدمات المفاجئة دون أن ينكسر. وعليه أن يعرف أن الطريق شائكٌ، وأنه سيحمل الصليب. وهناك فارق كبير بين حياة الرفاهية وحياة الجندية.
حدَّثنا الرب يسوع عن شخص غني، كان يلبس الأرجوان والبز، ويتنعَّم كل يوم مُترفِّها (لوقا16: 19). كان يسير في الطريق الواسع المليء بالمسرَّات والملذَّات العالمية والراحة والرخاء والرفاهية، وخَلَتْ حياته من المعاناة. كان يعيش لأجل نفسه فقط، وكانت الذات هي محور تفكيره. كان يسعى لإشباع وإمتاع رغباته التي يُدلِّلها. قَطّ لم يفكِّر في الله، ولا فكَّر في الآخرين. وبذلك كسر مُحتوَى الناموس الذي يتلخَّص في عبارة: «تُحب الرب إلهك من كل قلبك... وتحب قريبك كنفسك».
ربما تشعر أن هذه الحالة الخاصة من الرفاهية مُتطرِّفة للغاية، وتقول في نفسك: “أنا لستُ كذلك”. وبالحق قد لا تكون بهذه الصورة، ربما لأن ظروفك وإمكانياتك لا تسمح بذلك. لكن المبدأ الذي تعيش به هو تدليل رغبات نفسك، والهروب من المعاناة كلّما أمكن ذلك. وقد تقول: “ولمَ لا؟ وأي ضرَر في ذلك؟ وهل أُخطئ إن كنت أحب نفسي؟ وطالما سأعيش حياة واحدة، فلماذا أحرم نفسي من مُتع ومباهج الحياة؟”
ولكي نجيب على هذه التساؤلات وغيرها، دعونا نسمع ما نطق به رب المجد عندما قال: «مَنْ يحب نفسه يُهلكها، ومَنْ يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية» (يوحنا12:25). من هنا نفهم أن مبدأ إرضاء النفس وتدليلها سيؤدّي حتمًا إلى تدميرها وإهلاكها، والعكس صحيح. ذلك لأن رغبات النفس نابعة من الجسد الفاسد الذي فينا، وهي في المؤمن أو غير المؤمن على السواء. إنها تختلف عن رغبات الروح التي عندما نلبيها سنصل إلى علاقة أفضل مع الله. وعلى العكس فإن تلبية رغبات النفس ستجنح بنا بعيدًا عن الله. ولكن هل كل رغبات النفس خاطئة؟ أليس فيها بعض الأمور المشروعة؟ بكل تأكيد: نعم. بل إن هناك احتياجات أساسية لا نستطيع أن نحيا بدونها. ونحن نستعمل من هذا العالم ما يلزمنا في رحلة الحياة القصيرة، في حدود الإمكانات المتاحة، قانعين بظروفنا وشاكرين. وفي عصرنا الحديث، حيث التقدم العلمي والتكنولوجيا، هناك أشياء تُعتَبر ضرورية ونافعة حتى للخدمة، ولم تعُد أشياء ترفيهية. وبالطبع ليس كل ترفيه خطية. وحياة الجندية مع كل ما فيها من مشقّات وقسوة ومعاناة، لا تخلو من أوقات ترفيهية. وكذلك حياة الخادم المُكرَّس. لكن هناك فارق كبير بين شخص له الحياة هي المسيح، ولا يستطيع الحياة بدونه، وآخر له الحياة هي الترفيه، ولا يستطيع الحياة بدونه، ولا يحتمل المعاناة، ولا يتنازل عن رغباته ولا يعرف أن يؤجِّلها. وبالطبع مثل هذا الشخص لا يصلح أن يكون خادمًا ناجحًا للرب.
كان فكر الله واضحًا من جهة هذا الأمر في رحلة شعبه من مصر إلى كنعان، بعد الفداء وعبور البحر الأحمر. حيث ساروا في البرية لمدة 40 سنة، في قفر عظيم مخوف. وما ميَّز هذه الرحلة بطولها هو قِلَّة المياه، إذ تكررت كثيرًا عبارة «ولم يجدوا ماءً» أو «ولم يكن ماءٌ» (خروج15:22؛ 17:1؛ عدد20:2). والماء يُعبِّر عما ينعش الإنسان من مسرَّات طبيعية تطلبها نفسه، أو ما يمكن أن نعتبره ترفيهًا مشروعًا. وإن كان في معظم أجزاء الرحلة كانت المياه قليلة أو منعدمة، وأحيانًا مُرَّة كما حدث في «مارة»، لكنها لم تخلُ من «إيليم» حيث وجدوا الراحة والشبع والإنعاش (الترفيه)، مما خفف عنهم عناء الرحلة لمواصلة المسير.
إن النبات الصحراوي يعيش ويثمر في ظروف صعبة، ويتكيَّف مع المياه القليلة والشمس اللافحة. ووفرة المياه تضره. كذلك حياة المؤمن ولا سيما الذي يخدم. إنه يعيش على القليل من مصادر الإنعاش، ويحتمل المشقات والمعاناة، وكثرة التدليل والترفيه تفسده، وتجعله غير مُؤهَّل للخدمة.وإذا رجعنا إلى قصة جدعون ورجاله الذين خرجوا لمحاربة المديانيين (قضاة7)، سنجد نفس الفكر. لقد وُضِعُوا تحت الامتحان عند الماء. مَنْ منهم يصلح للحرب؟ وهذا سيتقرر بُناءً على الطريقة التي سيشرب بها كل فرد حسب عادته وطبيعته. وكانت نتيجة الامتحان أن 9700 شخص جثوا على ركبهم للشرب، و300 شخص فقط ولغوا بأيديهم إلى فمهم. وهؤلاء هم الذين استخدمهم الرب فى الحرب. إنهم يقنعون بالقليل من الماء ويتناولونه بسرعة، وأمامهم الهدف الأسمى، وهو الحرب والنصرة. لقد أخذوا الماء بأيديهم، أي أنهم يتحكَّمون فيما يأخذون ويستعملون من مصادر الإنعاش والترفيه. أما الأكثرية فأعطوا حياتهم واهتمامهم للشرب فجثوا على ركبهم، أي ركعوا أمام رغباتهم وشهواتهم. وبالطبع أمثال هؤلاء لا يصلحون للخدمة. والآن دعني أسالك أيها القارئ العزيز: كم من الوقت تقضيه في الرياضات والتسليات والخروجات للنزهة والمحادثات فى الموبايلات؟ ماذا تشاهد على الفضائيات، وماذا تفعل أمام شاشة الكومبيوتر بالساعات؟ هل عرفت معنى الجندية المسيحية؟ هذا ما قاله بولس لتيمــوثــاوس: «اشترك أنت في احتمـال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح» (2تيموثاوس2:3). إن حياة الجندي ليست ناعمة ومليئة بالمسرَّات والترفيه، بل هي حياة خشنة مليئة بالمعاناة والحرمان، وفيها جهاد وانضباط. والجندي الصالح لا يُرضي نفسه بل يُرضي سيده، ويتعلَّم أن يضبط نفسه في كل شيء مثل: الأكل واللبس والنوم والنزهة والرياضات والتسليات والعلاقات. إنه على استعداد أن يُضحِّي بكل شيء عزيز في عينيه من أجل الرب وشعب الرب. وهذا هو الخادم الحقيقي الذي يستخدمه الرب بنجاح. وهكذا كان المثال الكامل، والخادم الأعظم، شخص الرب يسوع المسيح الذي تعب وأفنَى قدرته، ولم يبحث عن حقوقه، ولم يفكِّر في راحته، ولم يعمل شيئًا واحدًا لأجل نفسه. لم يُرضِ نفسه، ولم يُمجِّد نفسه، بل أخلَى نفسه، ووضع نفسه، وسكب للموت نفسه، فما أروعه مثال
about 7 months ago