مرقس 14 - تفسير إنجيل مرقس
الإعداد للصليب الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
في الأصحاح السابق جلس السيد المسيح على جبل الزيتون ليعلن لأربعة من تلاميذه علامات المنتهى، ساحبًا قلوبهم إلى سماواته، مؤكدًا لهم أنه يرعى مختاريه بالرغم مما يجتازونه من ضيقات خاصة في أواخر الدهور. وجاء الأصحاح الذي بين أيدينا يقدم لنا صورة للبشرية التي لا تطيق السيد المسيح فتريد أن تطرده. اجتمع رؤساء الكهنة مع الكتبة يطلبون قتله لكنهم خافوا الشعب؛ ووجد يهوذا التلميذ الفرصة سانحة لتسليم سيده من أجل قليل من الفضة. هكذا بينما يفتح السيد سماواته مشتاقًا أن يجمع الكل فيها، إذا بالقيادات الدينية حتى بين تلاميذه من يسلمه للموت.
لكن وسط هذه الصورة المؤلمة وُجدت امرأة محبة تسكب الطيب كثير الثمن على رأس السيد ليمتلئ بيت سمعان الأبرص برائحته الذكية، ومع هذا لم تسلم هذه المرأة من النقد اللاذع.
على أي الأحوال إذ اقترب الفصح كانت الأمور تجري نحو الصليب لذبح الفصح الحقيقي، القادر أن يعبر بنا خلال آلامه وموته إلى قوة قيامته:
1. تدبير رؤساء الكهنة والكتبة قتله
1- 2.
2. كسر قارورة الطيب
3-9.
3. خيانة يهوذا
10-11.
4. وليمة الفصح
12-16.
5. إعلان عن الخيانة
17-21.
6. تأسيس الأفخارستيا
22-26.
7. إعلان عن شك التلاميذ فيه
27-31.
8. ذهابه إلى جثيسيماني
32-42.
9. القبض عليه
43-52.
10. محاكمته دينيًا
53-65.
11. إنكار بطرس
66-72.
1. تدبير رؤساء الكهنة والكتبة قتله
"وكان الفصح وأيام الفطير بعد يومين،
وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه.
لكنهم قالوا ليس في العيد، لئلا يكون شغب في الشعب" [1-2].
يميز العهد القديم بين عيد الفصح وعيد الفطير، فكان خروف الفصح يُذبح في اليوم الرابع عشر من الشهر الأول في المساء، ويبدأ عيد الفطير في الخامس عشر لمدة أسبوع. لكن ارتبط العيدان معًا في ذهن اليهود وكأنهما صارا عيدًا واحدًا، لهذا يُستخدم تعبير "عيد الفطير" ليشمل الفصح أيضًا، كما يطلق اسم "الفصح" على عيد الفطير أيضًا.
لقد اتفق رؤساء الكهنة والكتبة على تدبير خطة لقتل السيد المسيح بعد العيد خوفًا من الجماهير، ولم يدركوا أن السيد المسيح قد جاء فصحًا عن العالم، بل هو الفصح الحقيقي ذُبح في العيد. كان رب المجد يتمم خطته الخلاصية بفرح وسرور مستهينًا بالخزي ليقبل كل نفس إليه، وكان قادة الفكر اليهودي يتممون خطتهم للخلاص منه وطرده لا من أورشليم، بل من الأرض كلها، بقتله!
مساكين هم رؤساء الكهنة والكتبة، فقد التهبت قلوبهم بالحسد، فلم ينشغلوا بالإعداد الروحي لعيد الفصح. إذ كان يليق بهم أن يرشوا الكتاب المقدس بالدم وأيضًا قوائم أفكارهم، ويضعوا الخيط القرمزي على باب صلواتهم ويربطوه على قلوبهم، فيدركوا أن السيد المسيح الذي ظهر في أيامهم هو الفصح الحقيقي.
خلال حسدهم الشرير لم يتعرفوا على الحمل الحقيقي، ولا فهموا الذبيحة الرمزية التي بين أيديهم بكل أسرارها، هذه التي أدركها الآباء وعاشوها. ففي نص منسوب للقديس جيروم جاء [لقد رُمز لآلام المسيح وخلاص الشعب من الجحيم بذبيحة الحمل وعبور الشعب البحر منطلقين من مصر. لقد افتقدنا (في عيد الفصح) حين كان القمر في كماله إذ لم يكن في المسيح أي نصيب للظلمة. لنأكل جسد الحمل الذي بلا عيب، هذا الذي ينزع خطايا العالم، لنأكله في بيت واحد، أي في الكنيسة الجامعة المرشوشة بالحب والحاملة سلاح الفضيلة.]
كان رؤساء الكهنة والكتبة يدبرون قتله ولم يدركوا أنهم حتى في شرهم يتممون خطة السيد المسيح الذي حدد بنفسه يوم آلامه ليصلب في عيد الفصح!
2. كسر قارورة الطيب
"وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكئ
جاءت امرأة معها قارورة طيب نادرين خالص كثير الثمن،
فكسرت القارورة وسكبته على رأسه" [3].
كان السيد في بيت عنيا، أي في بيت العناء أو الألم، عيناه تنظران إلى الصليب بسرور، كقول الرسول بولس: "الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). وكان يرى التحركات الضخمة والسريعة بين جميع القيادات اليهودية المتضاربة، تعمل معًا لأول مرة بهدف واحد، هو الخلاص منه! وسط هذا الجو المّر وُجدت امرأة استطاعت أن تلتقي به في بيت سمعان الأبرص لتقدم حبها الخالص وإيمانها الحيّ العملي، لتتقبل من السيد مديحًا ومجدًا أبديًا!
التقت بالسيد في بيت سمعان الأبرص، وقد دُعي هكذا لأنه كان أبرصًا وطهره السيد، وقد حمل هذا الاسم تذكارًا لما كان عليه ليمجد السيد المسيح الذي طهّره.
ولعل بيت سمعان الأبرص يشير إلى الكنيسة التي ضمت في داخلها من الشعوب والأمم أولئك الذين سبقوا فتنجسوا ببرص الخطية وقد طهرهم السيد بدمه المبارك! في هذه الكنيسة توجد امرأة، لم يذكر الإنجيلي اسمها ولا مركزها إذ هي تشير إلى كل نفس صادقة في لقائها مع السيد.
تشير قارورة الطيب الناردين الخالص كثير الثمن إلى الحب الداخلي، حب النفس لمخلصها، هذا الذي رائحته تملا الكنيسة كلها وترتفع إلى السماوات عينها، إن كسرت القارورة، أي احتمل الإنسان الألم وقبل الموت اليومي من أجل المصلوب.
إن كان اسم السيد المسيح دهن مهراق (1: 2)، فاحت رائحته الذكية حين أُهرق دمه مجتازًا المعصرة وحده، فإن الكنيسة بدورها تقدم حياتها مبذولة كقارورة طيب منكسرة لتعلن رائحة محبتها الداخلية.
أما عن سكب الطيب على رأس السيد، ففي نص منسوب للقديس جيروم قيل أن المرأة سكبت الطيب من القدمين حتى بلغت الرأس، لكن الإنجيلي حسبها سكبته على رأسه. ولعل ذلك يشير إلى نظرة السيد المسيح إلى أعمال المحبة أنها جميعًا تقدم لحسابه. فما قدمه للفقراء والمساكين والمرضى والمسجونين والمتضايقين والحزانى من أعمال محبة إنما يتقبله السيد المسيح نفسه كرأسٍ الكل. بمعنى آخر نحن نسكب الطيب على الأعضاء فيُنسب هذا العمل إلى الرأس، ويحسبنا سكبناه عليه.
لم يطق يهوذا محب الفضة هذا العمل الكنسي المفرح، إذ كان يود أن يُقدم ثمن القارورة له ليضعه في الخزانة لحساب الفقراء فينهبه. لهذا أثار تبرمًا وسط المحيطين به، إذ يقول الإنجيلي: "وكان قوم مغتاظين في أنفسهم، فقالوا: لماذا كان تلف الطيب هذا؟ لأنه كان يمكن أن يُباع هذا بأكثر من ثلاث مئة دينار ويعطى للفقراء وكانوا يؤنبونها" [5].
لم يهتم يهوذا أنه يفقد حياته كلها وخلاصه الأبدي، لكنه أثار نفوس التلاميذ لأجل ما يراه فقدانًا بالنسبة لأكثر من ثلاثمائة دينار!
في نص منسوب للقديس جيروم ورد التفسير للقصة بمفهوم رمزي، إذ قيل:
[سمعان الأبرص يعني العالم الذي كان دنسًا (أبرصًا بعدم الإيمان) لكنه تحوّل إلى الإِيمان. المرأة بقارورة الطيب إيمان الكنيسة القائلة: "أفاح نارديني رائحته" (نش 1: 12). دُعي ناردين خالص بكونه الإِيمان الثمين. البيت الذي امتلأ من رائحته هو السماء والأرض. أما كسر القارورة فهو كسر الشهوات الجسدية عند الرأس الذي به تشكّل الجسد كله، فقد تنازل الرأس وأخلى ذاته حتى يستطيع الخاطيء أن يبلغ إليه. هكذا انطلقت المرأة من القدمين إلى الرأس، ونزلت من الرأس إلى القدمين، أي بلغت بالإِيمان إلى المسيح وأعضائه.]
لقد حسب يهوذا هذا الطيب خسارة، لأن يساوي أكثر من ثلاثمائة دينار، ولم يدرك أن ما قد حسبه خسارة هو ربح في عيني الرب الذي يشتاق أن يتقبل من كل إنسان ذات الطيب. فان رقم 300 يشير إلى تقديس الإنسان تقديسًا كاملًا خلال الطاعة لوصية الله في الداخل والخارج فإن كان رقم 300 هو محصلة (10×10×3)، فإن رقم 10 الأولى تشير إلى طاعة الوصية (الوصايا العشر)، ورقم 10 الثاني يشير إلى تقديس الحواس الخفية (خمسة حواس) والظاهرة، ورقم 3 يشير إلى تقديس النفس والجسد والروح بالتمتع بالحياة المقامة التي في المسيح يسوع الذي قام في اليوم الثالث، كما يشير رقم 3 إلى تقديس النفس والجسد والروح خلال الإيمان بالثالوث القدوس.
على أي الأحوال إن كانت هذه المرأة قد انتقدها الناس لكنها تمتعت بمديح الرب نفسه الذي أعلن ارتباط قصتها بالكرازة بإنجيله في العالم كله!
أخيرًا فان قصة سكب الطيب على السيد المسيح وردت في الأناجيل الأربعة (مت 26: 6؛ مر 14: 3؛ لو 7: 21؛ يو 12: 3). وواضح من الأناجيل أن سكب الطيب تكرر أكثر من مرة، وقد اختلفت الآراء في تحديد شخصيات هؤلاء النسوة اللواتي سكبن الطيب، غير أن الرأي السائد هو:
أولًا: المرأة المذكورة في إنجيل يوحنا هي مريم أخت لعازر.
ثانيًا: المرأة المذكورة في إنجيل لوقا هي خاطئة قامت بهذا العمل إثناء خدمة السيد.
ثالثًا: المرأة المذكورة في إنجيلي متى ومرقس سكبت الطيب في أيام البصخة، يرى البعض أنها غير الخاطئة، ويرى آخرون أنها هي بعينها الخاطئة سكبته وهي خاطئة تطلب بدموع المغفرة وأخرى تقدمه طيب حب وشكر أثناء البصخة، بل ويرى آخرون أنها مريم أخت لعازر ومرثا.
3. خيانة يهوذا
"ثم أن يهوذا الإسخريوطى واحدًا من الإثنى عشر
مضى إلى رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم.
ولما سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضة،
وكان يطلب كيف يسلمه في فرصة موافقة" [10-11].
إن كانت الكنيسة تضم امرأة بسيطة تكسر القارورة لتسكب الطيب ناردين كثير الثمن على رأس السيد فيمتلئ البيت من رائحته الذكية، فإنه يختفي حتى من بين التلاميذ من يسلمه في أيدي الأعداء. فالكنيسة تضم في داخلها قديسين هم أعضاء حقيقيون في جسد المسيح، كما تضم من لهم اسم المسيح في الخارج أما قلوبهم فمنحلة عنه تمامًا. هؤلاء بالحقيقة ليسوا أعضاء بل هم مفروزون منها حتى ولو لم يفرزهم أحد!
والعجيب أن الخائن يحمل اسم يهوذا، وهو اسم ذات السبط الذي خرج منه السيد المسيح بالجسد، فبينما يقدم لنا يهوذا الأسد الخارج ليحطم عدو الخير الأسد الذي يجول زائرًا يلتمس من يبتلعه (1 بط 5: 8)، إذا بالشيطان يقتنص تلميذًا يحمل ذات الاسم ليكون أداة لتسليم الرب.
إن كان اسم "يهوذا" معناه "يحمد" أو "يعترف"، فإن يهوذا هذا يمثل الذين يحملون اسم المسيح، كهنة أو شعبًا، يحمدون الرب بلسانهم ويعترفون بالإيمان بشفاههم أما قلوبهم وأعمالهم فأداة للتحطيم. إنهم كعدو الخير الذي قيل أنه يؤمن ويرتعب (يع 2: 19)، لكنه لا يحمل في قلبه حبًا بل عداوة وبغضة. مثل هؤلاء أخطر من الأعداء الخارجين، فإنه ما كان يمكن لرؤساء الكهنة أن يقبضوا على السيد بدون يهوذا! أقول هذا لكي نحذر لا الآخرين بل أنفسنا، فإنه لا يستطيع عدو الخير الخارجي (إبليس) أن يأسر مسيحنا الداخلي أو يصلبه ويشهر به ما لم نسلمه نحن له. لهذا يحذرنا السيد المسيح: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36)، أي حياته الداخلية وإرادته الشريرة.
حين يفسد "يهوذنا" أي "إيماننا" بانحلاله عن الحب، يُسلم القلب للعدو، ويصلب السيد المسيح مرة أخرى ويشَّهر به... أما ثمن هذا فقليل من الفضة الغاشة يعده بها العدو.
يا للعجب يسلم القلب الخائن مسيحه، كلمة الله، الفضة المصفاة سبع مرات (مز 12: 6) مقابل فضة غاشة من أيدٍ شريرة! يُقدم السماوي أسيرًا، لينعم بقليل من الأرضيات يعود فيتركها ويشنق نفسه!
فيما يلي بعض تعليقات الآباء على قصة خيانة يهوذا:
* لماذا تخبرني عنه "الإسخريوطي"...؟ لأنه يوجد تلميذ آخر يدعى يهوذا الغيور، أخ يعقوب، خشي (الإنجيلي) لئلا يحدث خلط بينهما، فميّز الواحد عن الآخر. لكنه لم يقل عنه "يهوذا الخائن" حتى يعلمنا إلا نندد بأحد، بل نتجنب اتهام الآخرين. على أي الأحوال بقوله "واحد من الإثني عشر" أبرز بشاعة جريمة الخائن، إذ وجد سبعون آخرون لم يمتثل أحدهم به ولا اشترك معه في تصرف كهذا. أما هؤلاء الإثنا عشر الذين اختارهم السيد كانوا الجماعة الملوكية خرج منها هذا الخائن الشرير.
* يا للجنون! نعم فإن محبة المال التي للخائن وطمعه جلبا كل هذا الشر.
محبة المال تستولي على النفوس التي تتقبلها، وتقودها إلى كل طريق عندما تقيدها، وتنسى النفوس كل شيء وتجعل أذهانها في حالة جنون!
لقد أُسر يهوذا مجنون محبة المال هذا، فنسى المحادثات ومائدة المسيح وتلمذته وتحذيرات المسيح وتأكيداته[329].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كان واحدًا من الإثنى عشر في العدد، في الاستحقاق حسب الجسد لا الروح!
ذهب إلى رئيس الكهنة بعد أن خرج ودخله الشيطان. كل كائن يتحد بمثاله!
* لقد وعد أن يخون السيد كما سبق فقال الشيطان لسيده: "لك أعطي هذا السلطان" (لو 4: 6)...
هم وعدوه بالمال، فخسروا حياتهم التي خسرها هو أيضًا باستلامه المال[330].
نص منسوب للقديس جيروم
* يقول: "واحد من الاثني عشر". هذا أمر غاية في الأهمية إذ يوضح خطية الخيانة بأكثر جلاء، فإن الذي كرّمه مساويًا إياه بالبقية وزينه بالكرامات الرسولية، وجعله محبوبًا، وضمه للمائدة المقدسة... صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح[331].
القديس كيرلس الكبير
4. وليمة الفصح
كما اهتم السيد المسيح بدخوله أورشليم، فأرسل تلميذين يحضران له الأتان والجحش، نجده هنا في اليوم الأول من الفطير، إذ كانوا يذبحون الفصح أرسل اثنين من تلاميذه إلى المدينة، فيلاقيهما إنسان حامل جرة ماء، غالبًا هو القديس مرقس كما جاء في التقليد القبطي، يتبعاه وحيثما يدخل يطلبان رب البيت أن يريهما العلية التي يعداها ليأكل السيد الفصح مع تلاميذه. هذه العلية الكبيرة هي علية القديسة مريم والدة القديس مرقس، وقد صارت أول كنيسة مسيحية في العالم، حيث أقام فيها السيد المسيح بنفسه سرّ الإفخارستيا، وفيها كان يجتمع التلاميذ، وقد حّل علليهم الروح القدس في يوم الخمسين في ذات الموضع.
يلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:
أولًا: اهتم التلاميذ بالتمتع بوليمة الفصح مع معلمهم، إذ قالوا له: "أين تريد أن نمضي ونعد الفصح؟" [12]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بينما كان يهوذا يخطط كيف يسلمه، كان بقية التلاميذ يهتمون بإعداد الفصح.] وقد كشف لنا هذا السؤال ليس فقط أن السيد لم يكن له مسكن يقيم فيه ليعد فيه الفصح بل حتى تلاميذه لم يكن لهم مساكن يستقرون فيها، بل وجدوا استقرارهم وراحتهم في معلمهم ربنا يسوع المسيح.
لم يستأذن التلاميذ المعلم لكي يذهب كل واحدٍ إلى عائلته يشترك معها في وليمة الفصح، إنما أدركوا أنهم قد صاروا به عائلة واحدة حتى وإن كانوا من أسباط متنوعة، يلتقون معًا فيه لينعموا بالفصح الواحد؛ هكذا ارتبطوا في وحدة حقه أساسها الاتحاد مع مخلصهم بالحب، رفعتهم إلى ما هو أعظم من وحدة الرباط الدموي.
في سؤال التلاميذ أيضًا تسليم كامل للمخلص، يسألونه في كل صغيرة وكبيرة، ليست لهم شهوة أن يذهبوا إلى موضع معين يقترحونه عليه، لكن شهوتهم الوحيدة أن يوجدوا معه على الدوام.
ثانيًا: أرسل السيد اثنين من تلاميذه ليعدوا الفصح، هما بطرس ويوحنا (لو 22: 8). فإن كان رقم 2 يشير إلى الحب، فإننا لا نستطيع أن نقدم للسيد المسيح قلبنا عُلية يقيم فيها ذبيحة صليبه بدون الحب. هذا وإن كان بطرس يمثل الإيمان ويوحنا يمثل المحبة فإن السيد أرسل الإيمان العامل بالمحبة ليهيئ كل قلب بسيط كعلية يجتمع فيها بنفسه مع تلاميذه، يقيم فيها مذبحة الخفي، ويتقدم هو كرئيس يعلن صليبه ويؤسس فيها ملكوته الروحي.
ثالثًا: لم يخبرهما السيد المسيح عن اسم صاحب العلية، إذ كان معروفًا لهم، ألا وهو والد القديس مرقس الرسول. لكنه اكتفى بتقديم علامة، قائلًا: "اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء. اتبعاه. وحيثما يدخل فقولا لرب البيت: إن المعلم يقول أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي" [13-14]. فلماذا اكتفى السيد بتقديم هذه العلامة:
أ. يرى القديس كيرلس الكبير أن الشيطان قد دخل قلب يهوذا وكانت جريمة قتل مخلصنا المسيح قد ثارت فيه، لذلك أخفى السيد اسم صاحب العلية حتى لا يخطط يهوذا لتسليم السيد وهو في العلية[332]
ب. يقدم القديس كيرلس الكبير تفسيرًا آخر، بقوله: [ربما تكلم بهذا ليعني سرًا ضروريًا: وهو حيث يوجد الماء في المعمودية المقدسة يقيم المسيح. كيف وبأي وسيلة؟ بكونها تحررنا من كل نجاسة ، فنغتسل بها من أدناس الخطية، فنصير هيكل الله المقدس ونشاركه طبيعته الإلهية بواسطة شركة الروح القدس. فلكي يستريح المسيح فينا ويقطن داخلنا لنتقبل المياه المخلصة، معترفين بالإيمان الذي يبرر الأشرار، ويرفعنا إلى أعلى حتى نحسب نحن "علية". فإن الذين يسكنهم المسيح بالإيمان لهم فكر عالٍ مرتفع، لا يرغبون في الزحف على التراب، أقول ويرفضون البقاء على الأرض طالبين على الدوام السمو في الفضيلة. قيل: "أقوياء الله برتفعون على الأرض"، "لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة" (عب 13: 14)، فبينما يسيرون على الأرض إذا بأفكارهم تستقر في العلويات، ويكون مسكنهم في السماويات (في 3: 20)[333].]
يتحدث الأب ثيؤفلاكتيوس عن جرة الماء هذه فيقول: [من يعتمد يحمل جرة ماء، ومن يحمل معمودية علية يستريح إن عاش بتعقل، ينال راحة كمن يدخل في بيت.]
لكي ننعم بفصح المسيح يلزمنا أن ننعم بمياه المعمودية فترفعنا إلى علية الروح عوض الحرف القائل، وكما يقول الآب ثيؤفلاكتيوس: [رب البيت هو العقل الذي يشير إلى العلية الكبيرة أي إلى الأفكار العلوية، التي بالرغم من علوها لكنها لا تحمل كبرياءً ولا مجدًا باطلًا، بل تعد وتُهيأ خلال التواضع. هناك، في فكر كهذا يُعد فصح المسيح بواسطة بطرس ويوحنا أي خلال العمل والتأمل.]
أيضًا يقول القديس أمبروسيوس [ليت الرب يسمح لي أنا أيضًا أن أحمل جرة الماء كما فعل رب البيت صاحب العلية المفروشة! ماذا أقول عن الماء؟ كان "روح الرب يرف على وجه المياه" (تك 1: 2). أيتها المياه التي علت فوق الكون الذي تدنس بالدم البشري وكنتِ رمزًا للمعمودية العلوية! أيتها المياه التي وُهبت أن يكون لها سرّ المسيح فتغسل الكل...! أنت تبتدئين ثم تكملين الأسرار، فيكِ البداية وأيضًا النهاية[334]!]
رابعًا: يكمل السيد حديثه قائلًا: "فهو يريكما علية كبيرة مفروشة مُعدة، هناك أعد لنا" [15]. يقول القديس أمبروسيوس: [العلية المفروشة تشير إلى عظم استحقاق صاحبها، حتى أن الرب نفسه مع تلاميذه يستطيعون أن يستريحوا فيها، أو تشير إلى زينة فضائله العالية[335].]
5. إعلانه عن الخيانة
"ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر.
وفيما هم متكئون يأكلون قال يسوع:
الحق أقول لكم أن واحدًا منكم يسلمني، الآكل معي.
فابتدأوا يحزنون ويقولون له واحدًا فواحدًا. هل أنا؟ وآخر هل أنا.
فأجاب وقال لهم: هو واحد من الاثني عشر الذي يغمس معي في الصحفة.
إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه،
ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلم ابن الإنسان.
كان خير لذلك الرجل لو لم يولد" [17-21].
إذ سبق فأعلن السيد المسيح أكثر من مرة عن تسليمه وموته وقيامته ليسند تلاميذه عندما يواجهون الأحداث نراه الآن يعلن عن "الخيانة" ليعطي مسلمه فرصة التوبة والرجوع إن أراد. حقًا لقد سبق الكتاب فأنبأ عن الخائن، لكن لم يلزم الله يهوذا أن يخون، ولا يمكن له أن يحتج بأن فيه تحققت النبوة عن الخيانة، فإن سابق معرفة الله للأمر لا تلزمه بالتنفيذ ولا تعفيه من المسئولية. ولو أن قلب يهوذا تحرك بالتوبة لتمت أحداث الصليب بطريقة أو أخرى يخططها الرب دون هلاك يهوذا.
في إعلان السيد المسيح عن الخيانة لم يذكر اسم الخائن حتى لا يحرج مشاعره وأحاسيسه لعله يرجع عن رأيه، وفي نفس الوقت أعطى علامة عندما ابتدأ التلاميذ يحزنون حتى لا يسقطوا في اليأس. كان السيد لطيفًا ورقيقًا حتى مع الخائن، لكنه أيضًا حازمًا وصريحًا معه، مستخدمًا كل أسلوب للحث على التوبة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [واضح أنه لم يعلن عنه صراحة حتى لا يجعله في عارٍ أشد، وفي نفس الوقت لم يصمت تمامًا لئلا يظن أن أمره غير مكشوف، فيسرع بالأكثر لعمل الخيانة بجسارة[336].]
إذ أعلن السيد عن هذه الخيانة المُرة ابتدأ كل تلميذ يسأل المعلم: هل أنا؟ فمع ثقتهم في أنفسهم أنهم لن يخونوا السيد، لكن ثقتهم في كلمات الرب أعظم من ثقتهم في أنفسهم، فتشكك كل واحد في نفسه وخشي لئلا يسقط في هذا العمل الشرير.
قدم لهم السيد الإشارة "الذي يغمس في الصحفة"، ثم أعلن في حزم عن مصير هذا الخائن المسكين. يقول القديس كيرلس الكبير: [وبُخ يهوذا الخائن الذي كان يأكل معه بالكلمات التي قالها المسيح... لعله في فقدانه التام للحس، أو بالحري إذ امتلأ بكبرياء إبليس، حسب أنه قادر على خداع المسيح بالرغم من كونه الله. ولكن كما قلت كان مقتنعًا بكونه شريرًا تمامًا ومبغضًا لله وخائنًا ومع ذلك فمن قبيل اللطف انضم إلى المائدة وحُسب كأنه مستحق للطف الإلهي حتى النهاية، بهذا صارت دينونة أعظم. فقد قال المسيح في موضع آخر خلال المرتل: "لأنه ليس عدوي يعيرني فأحتمل، ليس مبغضي تعظّم علىّ فأختبئ منه، بل أنت إنسان عديلي أليفي وصديقي، الذي معه كانت تحلو لنا العشرة إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور (اتفاق)" (مز 55: 12-14)" [337].]
مرقس 14 - تفسير إنجيل مرقس الإعداد للصليب الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي في الأصحاح السابق جلس السيد المسيح على جبل الزيتون ليعلن لأربعة من تلاميذه علامات المنتهى، ساحبًا قلوبهم إلى سماواته، مؤكدًا لهم أنه يرعى مختاريه بالرغم مما يجتازونه من ضيقات خاصة في أواخر الدهور. وجاء الأصحاح الذي بين أيدينا يقدم لنا صورة للبشرية التي لا تطيق السيد المسيح فتريد أن تطرده. اجتمع رؤساء الكهنة مع الكتبة يطلبون قتله لكنهم خافوا الشعب؛ ووجد يهوذا التلميذ الفرصة سانحة لتسليم سيده من أجل قليل من الفضة. هكذا بينما يفتح السيد سماواته مشتاقًا أن يجمع الكل فيها، إذا بالقيادات الدينية حتى بين تلاميذه من يسلمه للموت. لكن وسط هذه الصورة المؤلمة وُجدت امرأة محبة تسكب الطيب كثير الثمن على رأس السيد ليمتلئ بيت سمعان الأبرص برائحته الذكية، ومع هذا لم تسلم هذه المرأة من النقد اللاذع. على أي الأحوال إذ اقترب الفصح كانت الأمور تجري نحو الصليب لذبح الفصح الحقيقي، القادر أن يعبر بنا خلال آلامه وموته إلى قوة قيامته: 1. تدبير رؤساء الكهنة والكتبة قتله 1- 2. 2. كسر قارورة الطيب 3-9. 3. خيانة يهوذا 10-11. 4. وليمة الفصح 12-16. 5. إعلان عن الخيانة 17-21. 6. تأسيس الأفخارستيا 22-26. 7. إعلان عن شك التلاميذ فيه 27-31. 8. ذهابه إلى جثيسيماني 32-42. 9. القبض عليه 43-52. 10. محاكمته دينيًا 53-65. 11. إنكار بطرس 66-72. 1. تدبير رؤساء الكهنة والكتبة قتله "وكان الفصح وأيام الفطير بعد يومين، وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه. لكنهم قالوا ليس في العيد، لئلا يكون شغب في الشعب" [1-2]. يميز العهد القديم بين عيد الفصح وعيد الفطير، فكان خروف الفصح يُذبح في اليوم الرابع عشر من الشهر الأول في المساء، ويبدأ عيد الفطير في الخامس عشر لمدة أسبوع. لكن ارتبط العيدان معًا في ذهن اليهود وكأنهما صارا عيدًا واحدًا، لهذا يُستخدم تعبير "عيد الفطير" ليشمل الفصح أيضًا، كما يطلق اسم "الفصح" على عيد الفطير أيضًا. لقد اتفق رؤساء الكهنة والكتبة على تدبير خطة لقتل السيد المسيح بعد العيد خوفًا من الجماهير، ولم يدركوا أن السيد المسيح قد جاء فصحًا عن العالم، بل هو الفصح الحقيقي ذُبح في العيد. كان رب المجد يتمم خطته الخلاصية بفرح وسرور مستهينًا بالخزي ليقبل كل نفس إليه، وكان قادة الفكر اليهودي يتممون خطتهم للخلاص منه وطرده لا من أورشليم، بل من الأرض كلها، بقتله! مساكين هم رؤساء الكهنة والكتبة، فقد التهبت قلوبهم بالحسد، فلم ينشغلوا بالإعداد الروحي لعيد الفصح. إذ كان يليق بهم أن يرشوا الكتاب المقدس بالدم وأيضًا قوائم أفكارهم، ويضعوا الخيط القرمزي على باب صلواتهم ويربطوه على قلوبهم، فيدركوا أن السيد المسيح الذي ظهر في أيامهم هو الفصح الحقيقي. خلال حسدهم الشرير لم يتعرفوا على الحمل الحقيقي، ولا فهموا الذبيحة الرمزية التي بين أيديهم بكل أسرارها، هذه التي أدركها الآباء وعاشوها. ففي نص منسوب للقديس جيروم جاء [لقد رُمز لآلام المسيح وخلاص الشعب من الجحيم بذبيحة الحمل وعبور الشعب البحر منطلقين من مصر. لقد افتقدنا (في عيد الفصح) حين كان القمر في كماله إذ لم يكن في المسيح أي نصيب للظلمة. لنأكل جسد الحمل الذي بلا عيب، هذا الذي ينزع خطايا العالم، لنأكله في بيت واحد، أي في الكنيسة الجامعة المرشوشة بالحب والحاملة سلاح الفضيلة.] كان رؤساء الكهنة والكتبة يدبرون قتله ولم يدركوا أنهم حتى في شرهم يتممون خطة السيد المسيح الذي حدد بنفسه يوم آلامه ليصلب في عيد الفصح! 2. كسر قارورة الطيب "وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكئ جاءت امرأة معها قارورة طيب نادرين خالص كثير الثمن، فكسرت القارورة وسكبته على رأسه" [3]. كان السيد في بيت عنيا، أي في بيت العناء أو الألم، عيناه تنظران إلى الصليب بسرور، كقول الرسول بولس: "الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). وكان يرى التحركات الضخمة والسريعة بين جميع القيادات اليهودية المتضاربة، تعمل معًا لأول مرة بهدف واحد، هو الخلاص منه! وسط هذا الجو المّر وُجدت امرأة استطاعت أن تلتقي به في بيت سمعان الأبرص لتقدم حبها الخالص وإيمانها الحيّ العملي، لتتقبل من السيد مديحًا ومجدًا أبديًا! التقت بالسيد في بيت سمعان الأبرص، وقد دُعي هكذا لأنه كان أبرصًا وطهره السيد، وقد حمل هذا الاسم تذكارًا لما كان عليه ليمجد السيد المسيح الذي طهّره. ولعل بيت سمعان الأبرص يشير إلى الكنيسة التي ضمت في داخلها من الشعوب والأمم أولئك الذين سبقوا فتنجسوا ببرص الخطية وقد طهرهم السيد بدمه المبارك! في هذه الكنيسة توجد امرأة، لم يذكر الإنجيلي اسمها ولا مركزها إذ هي تشير إلى كل نفس صادقة في لقائها مع السيد. تشير قارورة الطيب الناردين الخالص كثير الثمن إلى الحب الداخلي، حب النفس لمخلصها، هذا الذي رائحته تملا الكنيسة كلها وترتفع إلى السماوات عينها، إن كسرت القارورة، أي احتمل الإنسان الألم وقبل الموت اليومي من أجل المصلوب. إن كان اسم السيد المسيح دهن مهراق (1: 2)، فاحت رائحته الذكية حين أُهرق دمه مجتازًا المعصرة وحده، فإن الكنيسة بدورها تقدم حياتها مبذولة كقارورة طيب منكسرة لتعلن رائحة محبتها الداخلية. أما عن سكب الطيب على رأس السيد، ففي نص منسوب للقديس جيروم قيل أن المرأة سكبت الطيب من القدمين حتى بلغت الرأس، لكن الإنجيلي حسبها سكبته على رأسه. ولعل ذلك يشير إلى نظرة السيد المسيح إلى أعمال المحبة أنها جميعًا تقدم لحسابه. فما قدمه للفقراء والمساكين والمرضى والمسجونين والمتضايقين والحزانى من أعمال محبة إنما يتقبله السيد المسيح نفسه كرأسٍ الكل. بمعنى آخر نحن نسكب الطيب على الأعضاء فيُنسب هذا العمل إلى الرأس، ويحسبنا سكبناه عليه. لم يطق يهوذا محب الفضة هذا العمل الكنسي المفرح، إذ كان يود أن يُقدم ثمن القارورة له ليضعه في الخزانة لحساب الفقراء فينهبه. لهذا أثار تبرمًا وسط المحيطين به، إذ يقول الإنجيلي: "وكان قوم مغتاظين في أنفسهم، فقالوا: لماذا كان تلف الطيب هذا؟ لأنه كان يمكن أن يُباع هذا بأكثر من ثلاث مئة دينار ويعطى للفقراء وكانوا يؤنبونها" [5]. لم يهتم يهوذا أنه يفقد حياته كلها وخلاصه الأبدي، لكنه أثار نفوس التلاميذ لأجل ما يراه فقدانًا بالنسبة لأكثر من ثلاثمائة دينار! في نص منسوب للقديس جيروم ورد التفسير للقصة بمفهوم رمزي، إذ قيل: [سمعان الأبرص يعني العالم الذي كان دنسًا (أبرصًا بعدم الإيمان) لكنه تحوّل إلى الإِيمان. المرأة بقارورة الطيب إيمان الكنيسة القائلة: "أفاح نارديني رائحته" (نش 1: 12). دُعي ناردين خالص بكونه الإِيمان الثمين. البيت الذي امتلأ من رائحته هو السماء والأرض. أما كسر القارورة فهو كسر الشهوات الجسدية عند الرأس الذي به تشكّل الجسد كله، فقد تنازل الرأس وأخلى ذاته حتى يستطيع الخاطيء أن يبلغ إليه. هكذا انطلقت المرأة من القدمين إلى الرأس، ونزلت من الرأس إلى القدمين، أي بلغت بالإِيمان إلى المسيح وأعضائه.] لقد حسب يهوذا هذا الطيب خسارة، لأن يساوي أكثر من ثلاثمائة دينار، ولم يدرك أن ما قد حسبه خسارة هو ربح في عيني الرب الذي يشتاق أن يتقبل من كل إنسان ذات الطيب. فان رقم 300 يشير إلى تقديس الإنسان تقديسًا كاملًا خلال الطاعة لوصية الله في الداخل والخارج فإن كان رقم 300 هو محصلة (10×10×3)، فإن رقم 10 الأولى تشير إلى طاعة الوصية (الوصايا العشر)، ورقم 10 الثاني يشير إلى تقديس الحواس الخفية (خمسة حواس) والظاهرة، ورقم 3 يشير إلى تقديس النفس والجسد والروح بالتمتع بالحياة المقامة التي في المسيح يسوع الذي قام في اليوم الثالث، كما يشير رقم 3 إلى تقديس النفس والجسد والروح خلال الإيمان بالثالوث القدوس. على أي الأحوال إن كانت هذه المرأة قد انتقدها الناس لكنها تمتعت بمديح الرب نفسه الذي أعلن ارتباط قصتها بالكرازة بإنجيله في العالم كله! أخيرًا فان قصة سكب الطيب على السيد المسيح وردت في الأناجيل الأربعة (مت 26: 6؛ مر 14: 3؛ لو 7: 21؛ يو 12: 3). وواضح من الأناجيل أن سكب الطيب تكرر أكثر من مرة، وقد اختلفت الآراء في تحديد شخصيات هؤلاء النسوة اللواتي سكبن الطيب، غير أن الرأي السائد هو: أولًا: المرأة المذكورة في إنجيل يوحنا هي مريم أخت لعازر. ثانيًا: المرأة المذكورة في إنجيل لوقا هي خاطئة قامت بهذا العمل إثناء خدمة السيد. ثالثًا: المرأة المذكورة في إنجيلي متى ومرقس سكبت الطيب في أيام البصخة، يرى البعض أنها غير الخاطئة، ويرى آخرون أنها هي بعينها الخاطئة سكبته وهي خاطئة تطلب بدموع المغفرة وأخرى تقدمه طيب حب وشكر أثناء البصخة، بل ويرى آخرون أنها مريم أخت لعازر ومرثا. 3. خيانة يهوذا "ثم أن يهوذا الإسخريوطى واحدًا من الإثنى عشر مضى إلى رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم. ولما سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضة، وكان يطلب كيف يسلمه في فرصة موافقة" [10-11]. إن كانت الكنيسة تضم امرأة بسيطة تكسر القارورة لتسكب الطيب ناردين كثير الثمن على رأس السيد فيمتلئ البيت من رائحته الذكية، فإنه يختفي حتى من بين التلاميذ من يسلمه في أيدي الأعداء. فالكنيسة تضم في داخلها قديسين هم أعضاء حقيقيون في جسد المسيح، كما تضم من لهم اسم المسيح في الخارج أما قلوبهم فمنحلة عنه تمامًا. هؤلاء بالحقيقة ليسوا أعضاء بل هم مفروزون منها حتى ولو لم يفرزهم أحد! والعجيب أن الخائن يحمل اسم يهوذا، وهو اسم ذات السبط الذي خرج منه السيد المسيح بالجسد، فبينما يقدم لنا يهوذا الأسد الخارج ليحطم عدو الخير الأسد الذي يجول زائرًا يلتمس من يبتلعه (1 بط 5: 8)، إذا بالشيطان يقتنص تلميذًا يحمل ذات الاسم ليكون أداة لتسليم الرب. إن كان اسم "يهوذا" معناه "يحمد" أو "يعترف"، فإن يهوذا هذا يمثل الذين يحملون اسم المسيح، كهنة أو شعبًا، يحمدون الرب بلسانهم ويعترفون بالإيمان بشفاههم أما قلوبهم وأعمالهم فأداة للتحطيم. إنهم كعدو الخير الذي قيل أنه يؤمن ويرتعب (يع 2: 19)، لكنه لا يحمل في قلبه حبًا بل عداوة وبغضة. مثل هؤلاء أخطر من الأعداء الخارجين، فإنه ما كان يمكن لرؤساء الكهنة أن يقبضوا على السيد بدون يهوذا! أقول هذا لكي نحذر لا الآخرين بل أنفسنا، فإنه لا يستطيع عدو الخير الخارجي (إبليس) أن يأسر مسيحنا الداخلي أو يصلبه ويشهر به ما لم نسلمه نحن له. لهذا يحذرنا السيد المسيح: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36)، أي حياته الداخلية وإرادته الشريرة. حين يفسد "يهوذنا" أي "إيماننا" بانحلاله عن الحب، يُسلم القلب للعدو، ويصلب السيد المسيح مرة أخرى ويشَّهر به... أما ثمن هذا فقليل من الفضة الغاشة يعده بها العدو. يا للعجب يسلم القلب الخائن مسيحه، كلمة الله، الفضة المصفاة سبع مرات (مز 12: 6) مقابل فضة غاشة من أيدٍ شريرة! يُقدم السماوي أسيرًا، لينعم بقليل من الأرضيات يعود فيتركها ويشنق نفسه! فيما يلي بعض تعليقات الآباء على قصة خيانة يهوذا: * لماذا تخبرني عنه "الإسخريوطي"...؟ لأنه يوجد تلميذ آخر يدعى يهوذا الغيور، أخ يعقوب، خشي (الإنجيلي) لئلا يحدث خلط بينهما، فميّز الواحد عن الآخر. لكنه لم يقل عنه "يهوذا الخائن" حتى يعلمنا إلا نندد بأحد، بل نتجنب اتهام الآخرين. على أي الأحوال بقوله "واحد من الإثني عشر" أبرز بشاعة جريمة الخائن، إذ وجد سبعون آخرون لم يمتثل أحدهم به ولا اشترك معه في تصرف كهذا. أما هؤلاء الإثنا عشر الذين اختارهم السيد كانوا الجماعة الملوكية خرج منها هذا الخائن الشرير. * يا للجنون! نعم فإن محبة المال التي للخائن وطمعه جلبا كل هذا الشر. محبة المال تستولي على النفوس التي تتقبلها، وتقودها إلى كل طريق عندما تقيدها، وتنسى النفوس كل شيء وتجعل أذهانها في حالة جنون! لقد أُسر يهوذا مجنون محبة المال هذا، فنسى المحادثات ومائدة المسيح وتلمذته وتحذيرات المسيح وتأكيداته[329]. القديس يوحنا الذهبي الفم * كان واحدًا من الإثنى عشر في العدد، في الاستحقاق حسب الجسد لا الروح! ذهب إلى رئيس الكهنة بعد أن خرج ودخله الشيطان. كل كائن يتحد بمثاله! * لقد وعد أن يخون السيد كما سبق فقال الشيطان لسيده: "لك أعطي هذا السلطان" (لو 4: 6)... هم وعدوه بالمال، فخسروا حياتهم التي خسرها هو أيضًا باستلامه المال[330]. نص منسوب للقديس جيروم * يقول: "واحد من الاثني عشر". هذا أمر غاية في الأهمية إذ يوضح خطية الخيانة بأكثر جلاء، فإن الذي كرّمه مساويًا إياه بالبقية وزينه بالكرامات الرسولية، وجعله محبوبًا، وضمه للمائدة المقدسة... صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح[331]. القديس كيرلس الكبير 4. وليمة الفصح كما اهتم السيد المسيح بدخوله أورشليم، فأرسل تلميذين يحضران له الأتان والجحش، نجده هنا في اليوم الأول من الفطير، إذ كانوا يذبحون الفصح أرسل اثنين من تلاميذه إلى المدينة، فيلاقيهما إنسان حامل جرة ماء، غالبًا هو القديس مرقس كما جاء في التقليد القبطي، يتبعاه وحيثما يدخل يطلبان رب البيت أن يريهما العلية التي يعداها ليأكل السيد الفصح مع تلاميذه. هذه العلية الكبيرة هي علية القديسة مريم والدة القديس مرقس، وقد صارت أول كنيسة مسيحية في العالم، حيث أقام فيها السيد المسيح بنفسه سرّ الإفخارستيا، وفيها كان يجتمع التلاميذ، وقد حّل علليهم الروح القدس في يوم الخمسين في ذات الموضع. يلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي: أولًا: اهتم التلاميذ بالتمتع بوليمة الفصح مع معلمهم، إذ قالوا له: "أين تريد أن نمضي ونعد الفصح؟" [12]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بينما كان يهوذا يخطط كيف يسلمه، كان بقية التلاميذ يهتمون بإعداد الفصح.] وقد كشف لنا هذا السؤال ليس فقط أن السيد لم يكن له مسكن يقيم فيه ليعد فيه الفصح بل حتى تلاميذه لم يكن لهم مساكن يستقرون فيها، بل وجدوا استقرارهم وراحتهم في معلمهم ربنا يسوع المسيح. لم يستأذن التلاميذ المعلم لكي يذهب كل واحدٍ إلى عائلته يشترك معها في وليمة الفصح، إنما أدركوا أنهم قد صاروا به عائلة واحدة حتى وإن كانوا من أسباط متنوعة، يلتقون معًا فيه لينعموا بالفصح الواحد؛ هكذا ارتبطوا في وحدة حقه أساسها الاتحاد مع مخلصهم بالحب، رفعتهم إلى ما هو أعظم من وحدة الرباط الدموي. في سؤال التلاميذ أيضًا تسليم كامل للمخلص، يسألونه في كل صغيرة وكبيرة، ليست لهم شهوة أن يذهبوا إلى موضع معين يقترحونه عليه، لكن شهوتهم الوحيدة أن يوجدوا معه على الدوام. ثانيًا: أرسل السيد اثنين من تلاميذه ليعدوا الفصح، هما بطرس ويوحنا (لو 22: 8). فإن كان رقم 2 يشير إلى الحب، فإننا لا نستطيع أن نقدم للسيد المسيح قلبنا عُلية يقيم فيها ذبيحة صليبه بدون الحب. هذا وإن كان بطرس يمثل الإيمان ويوحنا يمثل المحبة فإن السيد أرسل الإيمان العامل بالمحبة ليهيئ كل قلب بسيط كعلية يجتمع فيها بنفسه مع تلاميذه، يقيم فيها مذبحة الخفي، ويتقدم هو كرئيس يعلن صليبه ويؤسس فيها ملكوته الروحي. ثالثًا: لم يخبرهما السيد المسيح عن اسم صاحب العلية، إذ كان معروفًا لهم، ألا وهو والد القديس مرقس الرسول. لكنه اكتفى بتقديم علامة، قائلًا: "اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء. اتبعاه. وحيثما يدخل فقولا لرب البيت: إن المعلم يقول أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي" [13-14]. فلماذا اكتفى السيد بتقديم هذه العلامة: أ. يرى القديس كيرلس الكبير أن الشيطان قد دخل قلب يهوذا وكانت جريمة قتل مخلصنا المسيح قد ثارت فيه، لذلك أخفى السيد اسم صاحب العلية حتى لا يخطط يهوذا لتسليم السيد وهو في العلية[332] ب. يقدم القديس كيرلس الكبير تفسيرًا آخر، بقوله: [ربما تكلم بهذا ليعني سرًا ضروريًا: وهو حيث يوجد الماء في المعمودية المقدسة يقيم المسيح. كيف وبأي وسيلة؟ بكونها تحررنا من كل نجاسة ، فنغتسل بها من أدناس الخطية، فنصير هيكل الله المقدس ونشاركه طبيعته الإلهية بواسطة شركة الروح القدس. فلكي يستريح المسيح فينا ويقطن داخلنا لنتقبل المياه المخلصة، معترفين بالإيمان الذي يبرر الأشرار، ويرفعنا إلى أعلى حتى نحسب نحن "علية". فإن الذين يسكنهم المسيح بالإيمان لهم فكر عالٍ مرتفع، لا يرغبون في الزحف على التراب، أقول ويرفضون البقاء على الأرض طالبين على الدوام السمو في الفضيلة. قيل: "أقوياء الله برتفعون على الأرض"، "لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة" (عب 13: 14)، فبينما يسيرون على الأرض إذا بأفكارهم تستقر في العلويات، ويكون مسكنهم في السماويات (في 3: 20)[333].] يتحدث الأب ثيؤفلاكتيوس عن جرة الماء هذه فيقول: [من يعتمد يحمل جرة ماء، ومن يحمل معمودية علية يستريح إن عاش بتعقل، ينال راحة كمن يدخل في بيت.] لكي ننعم بفصح المسيح يلزمنا أن ننعم بمياه المعمودية فترفعنا إلى علية الروح عوض الحرف القائل، وكما يقول الآب ثيؤفلاكتيوس: [رب البيت هو العقل الذي يشير إلى العلية الكبيرة أي إلى الأفكار العلوية، التي بالرغم من علوها لكنها لا تحمل كبرياءً ولا مجدًا باطلًا، بل تعد وتُهيأ خلال التواضع. هناك، في فكر كهذا يُعد فصح المسيح بواسطة بطرس ويوحنا أي خلال العمل والتأمل.] أيضًا يقول القديس أمبروسيوس [ليت الرب يسمح لي أنا أيضًا أن أحمل جرة الماء كما فعل رب البيت صاحب العلية المفروشة! ماذا أقول عن الماء؟ كان "روح الرب يرف على وجه المياه" (تك 1: 2). أيتها المياه التي علت فوق الكون الذي تدنس بالدم البشري وكنتِ رمزًا للمعمودية العلوية! أيتها المياه التي وُهبت أن يكون لها سرّ المسيح فتغسل الكل...! أنت تبتدئين ثم تكملين الأسرار، فيكِ البداية وأيضًا النهاية[334]!] رابعًا: يكمل السيد حديثه قائلًا: "فهو يريكما علية كبيرة مفروشة مُعدة، هناك أعد لنا" [15]. يقول القديس أمبروسيوس: [العلية المفروشة تشير إلى عظم استحقاق صاحبها، حتى أن الرب نفسه مع تلاميذه يستطيعون أن يستريحوا فيها، أو تشير إلى زينة فضائله العالية[335].] 5. إعلانه عن الخيانة "ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر. وفيما هم متكئون يأكلون قال يسوع: الحق أقول لكم أن واحدًا منكم يسلمني، الآكل معي. فابتدأوا يحزنون ويقولون له واحدًا فواحدًا. هل أنا؟ وآخر هل أنا. فأجاب وقال لهم: هو واحد من الاثني عشر الذي يغمس معي في الصحفة. إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلم ابن الإنسان. كان خير لذلك الرجل لو لم يولد" [17-21]. إذ سبق فأعلن السيد المسيح أكثر من مرة عن تسليمه وموته وقيامته ليسند تلاميذه عندما يواجهون الأحداث نراه الآن يعلن عن "الخيانة" ليعطي مسلمه فرصة التوبة والرجوع إن أراد. حقًا لقد سبق الكتاب فأنبأ عن الخائن، لكن لم يلزم الله يهوذا أن يخون، ولا يمكن له أن يحتج بأن فيه تحققت النبوة عن الخيانة، فإن سابق معرفة الله للأمر لا تلزمه بالتنفيذ ولا تعفيه من المسئولية. ولو أن قلب يهوذا تحرك بالتوبة لتمت أحداث الصليب بطريقة أو أخرى يخططها الرب دون هلاك يهوذا. في إعلان السيد المسيح عن الخيانة لم يذكر اسم الخائن حتى لا يحرج مشاعره وأحاسيسه لعله يرجع عن رأيه، وفي نفس الوقت أعطى علامة عندما ابتدأ التلاميذ يحزنون حتى لا يسقطوا في اليأس. كان السيد لطيفًا ورقيقًا حتى مع الخائن، لكنه أيضًا حازمًا وصريحًا معه، مستخدمًا كل أسلوب للحث على التوبة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [واضح أنه لم يعلن عنه صراحة حتى لا يجعله في عارٍ أشد، وفي نفس الوقت لم يصمت تمامًا لئلا يظن أن أمره غير مكشوف، فيسرع بالأكثر لعمل الخيانة بجسارة[336].] إذ أعلن السيد عن هذه الخيانة المُرة ابتدأ كل تلميذ يسأل المعلم: هل أنا؟ فمع ثقتهم في أنفسهم أنهم لن يخونوا السيد، لكن ثقتهم في كلمات الرب أعظم من ثقتهم في أنفسهم، فتشكك كل واحد في نفسه وخشي لئلا يسقط في هذا العمل الشرير. قدم لهم السيد الإشارة "الذي يغمس في الصحفة"، ثم أعلن في حزم عن مصير هذا الخائن المسكين. يقول القديس كيرلس الكبير: [وبُخ يهوذا الخائن الذي كان يأكل معه بالكلمات التي قالها المسيح... لعله في فقدانه التام للحس، أو بالحري إذ امتلأ بكبرياء إبليس، حسب أنه قادر على خداع المسيح بالرغم من كونه الله. ولكن كما قلت كان مقتنعًا بكونه شريرًا تمامًا ومبغضًا لله وخائنًا ومع ذلك فمن قبيل اللطف انضم إلى المائدة وحُسب كأنه مستحق للطف الإلهي حتى النهاية، بهذا صارت دينونة أعظم. فقد قال المسيح في موضع آخر خلال المرتل: "لأنه ليس عدوي يعيرني فأحتمل، ليس مبغضي تعظّم علىّ فأختبئ منه، بل أنت إنسان عديلي أليفي وصديقي، الذي معه كانت تحلو لنا العشرة إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور (اتفاق)" (مز 55: 12-14)" [337].]