لوقا 19 - تفسير إنجيل لوقا
صديقنا في أورشليم الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
جاءت قصة استضافة زكا العشار للسيد المسيح في بيته تكمل قصة شفاء عيني الأعمى، فإن كان تفتيح العينين إنما يشير إلى حاجة البشرية للتمتع بالبصيرة الروحية الداخلية حتى تقدر أن تتابع رحلته الخلاصية، فتدخل معه إلى أورشليم وتقبل صليبه وتنعم بقيامته. فإن استضافة زكا له تشير إلى رغبة الرب فينا لا أن نعاينه فحسب ونتبعه أينما وُجد، وإنما نفتح قلوبنا ليدخل فيها كما إلى بيته أو إلى أورشليمه ويعلن خلاصه فينا. يعود الإنجيلي فيقدم لنا مثَلْ العشرة أمناء ليعلن السيد أنه وإن كان يود أن يدخل كل بيت حتى بيوت العشارين والخطاة لكنه يطلب القلوب الأمينة، يود أن نحمل سمته "الأمانة" ليهبنا ميراثًا أعظم وسلطانًا ومملكة على مستوى أبدي. يعطي لواحد عشر مدن ولآخر خمس الخ.
هكذا يود صديقنا أن يفتح بصيرتنا لكي نفتح بيوتنا الداخلية مع زكا فيملك فينا، ونملك نحن به وننعم بمواضعه السماوية. هذا هو غاية دخول صديقنا السماوي إلى أورشليم بل وغاية كل أعماله الخلاصية.
1. إضافة زكا للسيد
1-10.
ماذا يعني بخلاص هذا البيت
2. مثل العشرة أمناء
11-27.
3. تقدمه نحو أورشليم
28-40.
4. بكاؤه على أورشليم
41-44.
5. تطهير الهيكل
45-46.
6. تعليمه في الهيكل
47-48.
1. إضافة زكا للسيد
قلنا أن تفتيح عيني الأعمى يمثل تفتيح البصيرة الداخلية، للتمتع بإدراك عمل الله الخلاصي، الذي كان الرب مزمعًا أن يتممه بدخوله أورشليم، بينما استضافة زكا للسيد المسيح ترمز إلى انفتاح البيت الداخلي لسكنى الرب فيه، فيصير أورشليمه الداخلية التي يدخلها كما بموكب سماوي ليعلن أمجاد صليبه فيها.
يمكننا أن نقدم المقارنة التالية بين تفتيح عيني الأعمى واستضافة زكا للسيد المسيح:
أولًا: التقى الأعمى بالسيد وكان جالسًا على الطريق يستعطي ( لو 18: 35)، أما زكا فالتقى به داخل المدينة وكان صاعدًا على جميزة [4]، وقد تمتع الاثنان بنعمة الرب، لكن كما يقول القديس أمبروسيوس: [الرب ينتظر الأول ليرحمه، أما الثاني فيمنحه مجدًا عظيمًا بحلوله في بيته. واحد يسأله لكي يشفيه، أما الآخر فالرب يدعو نفسه عنده دون أن يسمع كلمة دعوة إذ عرف ما في قلبه[784].]
من هو هذا الذي في الطريق يستجدي تفتيح عينيه إلا كل إنسان لم يختبر داخليًا نعمة الله لكنه آمن خلال السمع فانطلق كما في الطريق يطلب نعمة الاستنارة، فيفتح الرب بصيرته ليقوده إلى مراعي كنيسته المقدسة. أما زكا الصاعد على الشجرة فيمثل كل إنسان التحم بالكنيسة "شجرة الجميز" روحيًا، أو ارتفع بالروح القدس إلى خشبة الصليب يشارك الرب آلامه فينعم بسكنى الرب في بيته الداخلي.
ثانيًا: ترك السيد المسيح الأعمى يصرخ بل ويقول الإنجيلي: "أما هو فصرخ أكثر كثيرًا" (لو 18: 39)، بينما لم ينتظر من زكا كلمة واحدة تخرج من فيه، إنما استضاف الرب نفسه في بيته. لماذا؟ ربما يشير الأول إلى الحياة العاملة المجاهدة التي خلال الحب تصرخ بلا انقطاع فيفتح الرب العينين لمعاينة ملكوته، بينما يشير الثاني إلى الحياة المتأملة المجاهدة أيضًا خلال عشق إلهي أعمق، المرتفعة بالروح القدس إلى الصليب لترى كما خلال شجرة الجميز عريسها يناجيها طالبًا الحلول فيها بلا انقطاع، يدخل قلبها ويحل في أعماقها وتدخل هي حجاله وتتذوق أسرار حبه الإلهي غير المنطوق به.
لست بهذا أعني ثنائية في مجتمع الكنيسة تنقسم إلى جماعة العاملين وأخرى المتأملين، إنما وإن كان لكل إنسان موهبته الخاصة التي يميزه بها الروح لكن يليق بالمؤمن في عمله الروحي الحق أن يحيا متأملًا أسرار الله، وفي تأمله الحق أن يبقى عاملًا مجاهدًا حتى النفس الأخير. إنها حياة واحدة "في المسيح يسوع ربنا"، خلالها نحيا عاملين بروحه، مرتفعين كما بأجنحته، للتمتع بشركة أسراره. بمعنى آخر ليتقدم كل منها صارخًا مع الأعمى بلا انقطاع، وصاعدًا مع زكا على شجرة الجميز، فتنفتح بصيرتنا وننعم بشركته وسكناه الدائم فينا.
ثالثًا: لعل هذا الأعمى الجالس على الطريق يستعطي يمثل أعضاء الكنيسة الذين جاءوا من أصل يهودي، فقد كانوا كمن على الطريق، عرفوا خلال الرموز والظلال والنبوات شخص المسّيا وعمله الخلاصي. هؤلاء كانوا تحت الناموس كمن هم عميان وجياع، غير قادرين على معاينة الأسرار الإلهية، فقراء يستعطون، إذ يعجز الناموس عن أن يرفعهم إلى الأحضان الإلهية ليروا ويشبعوا، وإنما قادهم في الطريق إلى المخلص ليفتح بصيرتهم ويعاينوه، بكونه الحق المفرح المشبع. أما زكا فيمثل أعضاء الكنيسة الذين جاءوا من أصل أممي، هؤلاء كانوا أشبه برئيس العشارين المنبوذ من اليهود. كانوا كمن هم قصيري القامة بلا خبرة روحية سابقة، لكنهم إذ ارتفعوا بالإيمان على خشبة الصليب مع فاديهم تمتعوا بالصوت الإلهي يناديهم ليحل في وسطهم ويقيمهم أهل بيته.
الأعمى كممثل لليهود المتنصرين سأل الجمع، "فأخبروه أن يسوع الناصري مجتاز" (لو 18: 37)، هذا الجمع هو الآباء والأنبياء الذين أشاروا إليهم عن يسوع الناصري الذي يجتاز بين الأمة اليهودية ليحقق عمله الخلاصي. أما زكا فلم يسأل، لأنه كان كغريبٍ عن الآباء والأنبياء، وإنما بالإيمان ارتفع على الصليب ليعاين السيد وسط الجموع، يراه معلنًا أيضًا بالآباء والأنبياء الذين تعرف عليهم خلال المسيّا وصليبه.
نعود إلى تفاصيل قصة لقاء زكا بالسيد المسيح كما رواها الإنجيلي لوقا:
"ثم دخل واجتاز في أريحا،
وإذا رجل اسمه زكا وهو رئيس للعشارين وكان غنيًا.
وطلب أن يرى يسوع من هو ولم يقدر من الجمع،
لأنه كان قصير القامة.
فركض متقدمًا وصعد إلى جميزة لكي يراه،
لأنه كان مزمعًا أن يمر من هناك" [1-4].
يلاحظ هنا الآتي:
أولًا: يرى البعض أن كلمة "زكا" تعني "المتبرر[785]"، لأن زكا يمثل الأمم المتنصرين الذين تبرروا بدم السيد المسيح.
ثانيًا: كان زكا رئيسًا للعشارين، وكما نعرف أن هذا العمل كان مرذولًا لدى اليهود، متطلعين إليه كعملٍ لحساب الدولة الرومانية المستعمرة يحمل رائحة الخيانة للأمة اليهودية، هذا مع ما اتسم به العشارون بصفة عامة من حب لجمع المال بروح الطمع والجشع بلا رحمة من جهة إخوتهم اليهود. على أي الأحوال استطاع كثير من الكتبة والفريسيين بحكم مراكزهم الدينية ونظرة الناس إليهم أن يلتقوا مع السيد حسب الجسد، بل ويدعوه أحيانًا لولائمهم. ولم يكن يرفض لعلهم ينسحبون من عبادتهم الشكلية إلى فكره الإلهي الروحي، لكن نادرًا ما تلاقوا معه على صعيد الروح والتمتع بفكره الإلهي. أما هذا العشار أو رئيس العشارين ففي نظر الجماهير يمثل الدنس بعينه والبعد الكامل عن كل ما هو إلهي. خلال اشتياقه القلبي الخفي أن يرى يسوع من هو، وترجمة هذا الشوق إلى عمل بسيط هو صعود شجرة الجميز ليرى من يحن إليه، يفتح أبواب الرجاء لكل نفس بشرية لتلتقي مع مخلص الخطاة. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [قُدم لنا هنا رئيس العشارين، فمن منا ييأس بعد من نفسه وقد نال نعمة بعد حياة غاشة![786]]
حقًا لقد كانت فئة العشارين تُضم إلى الزناة (مت 21: 31)، بكونهما فئتين مرذولتين للغاية، الأولى منهمكة في طلب الغنى على حساب الآخرين، والأخرى في شهوات الجسد على حساب تقديس الجماعة. وكأن الفئتين مخربتين للجماعة. ومع هذا فقد استطاع رئيس العشارين أن يغتصب بالإيمان دخول السيد إلى بيته، بل وإلى قلبه. وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [كان زكا رئيسًا للعشارين، قد استسلم للطمع تمامًا، غايته الوحيدة تضخيم مكاسبه، إذ كان هذا هو عمل العشارين، وقد دعي بولس الطمع عبادة أوثان (كو 3: 5)، ربما لأن هذا يناسب من ليس لهم معرفة الله (بانشغالهم بالطمع). وإذ كان العشارون يمارسون هذه الرذيلة علانية بلا خجل، لذا ضمهم الرب مع الزناة، قائلًا لرؤساء اليهود: "إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (مت 21: 31). لكن زكا لم يستمر في عداد العشارين، إنما تأهل للرحمة بيدي المسيح الذي يدعو البعيدين للقرب منه، ويهب نورًا للذين في الظلمة[787].]
يرى القديس جيروم أن شجرة الجميز هنا تشير إلى أعمال التوبة الصالحة حيث يطأ التائب الخطايا السابقة بقدميه، ومن خلالها ينظر إلى الرب كما من برج الفضيلة[788]. مرة أخرى يقول: [زكا الذي تغير في ساعة حُسب أهلًا أن يتقبل المسيح ضيفًا له[789].]
ثالثًا: يذكر الإنجيلي لوقا أن زكا "كان غنيًا" [2]، وقد "طلب أن يرى يسوع من هو" [3]، مترجمًا هذا الشوق الداخلي إلى عمل كلفه الكثير، إذ لم يكن سهلًا على رجل ذي مكانة كرئيس للعشارين أن يتسلق جميزة كصبيٍ، ويراه الجماهير عليها. ولعل الإنجيلي قد أراد أن يؤكد بأنه ليس كل غني شرير، وإنما كل إنسان - أيا كان مركزه أو إمكانياته أو ظروفه - يحمل في داخله الناموس الطبيعي يُسحب قلبه - إن أراد - نحو رؤية كلمة الله والتمتع به. الله لا يترك نفسه بلا شاهد في حياة الإنسان، يستطيع الغني كما الفقير إن أراد أن ينطلق نحو الرب والشركة بعمل النعمة المجانية.
يقول القديس أمبروسيوس: [ليعرف الأغنياء أن الغنى في ذاته ليس خطية بل إساءة استخدامه؛ فالأموال التي تمثل حجر العثرة بالنسبة للأشرار هي وسيلة لممارسة الفضيلة بالنسبة للصالحين... كان زكا غنيًا لنتعلم أنه ليس كل الأغنياء طماعين[790].] ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إبراهيم كان يملك حقًا غنى للفقراء، وكل الذين ملكوا الغنى بطريقة مقدسة أنفقوه بكونه عطية الله لهم[791]]، كما يقول: [لم يمنع الرب البشر عن أن يكونوا أغنياء بل أن يكونوا عبيدًا لغناهم. يودنا أن نستخدمه كضرورة لا أن نُقام حراسًا عليه. العبد يحرس، أما السيد فينفق.]
رابعًا: إن كانت شجرة الجميز وهي ترمز للصليب الذي من خلاله يلتقي المؤمن بمسيحه ويسمع الصوت الإلهي، وينفتح بيته الداخلي لقبول السيد متجليًا فيه، فمن ناحية أخرى متكاملة مع هذا الفكر ترمز الشجرة إلى الكنيسة التي تحمل النفوس الخاطئة على كتفيها، كزكا على الشجرة أو كالخروف الضال على منكبي الراعي الصالح، لتقدمه ثمرة حب صادق لعريسها. بمعنى آخر عمل الكنيسة الرئيسي هو حمل العالم كله، ولو كان كرئيس للعشارين، تحمله على كتفيها لا لتدينه أو تجرح مشاعره وإنما لتهبه إمكانية الالتقاء مع مخلصه.
تحمله بالحب واللطف فتلهب قلبه بأكثر شوق نحو العريس السماوي. لهذا بحق قيل أن الكنيسة هي لقاء حق بين المسيح والخطاة التائبين، يجد فيها السيد لذته، إذ يراها تقدم له بالحب النفوس التي مات لأجلها، ويجد الخاطئ فيها أبواب الرجاء مفتوحة على مصراعيها على الدوام والقلوب والأذرع مستعدة بالحب أن تحمله لمخلصه.
خامسًا: لعل لقاء السيد المسيح بزكا الصاعد على شجرة الجميز يحمل رمزًا لعمل السيد المسيح الخلاصي. أقول أن شجرة الجميز هنا تشير إلى الكنيسة التي تقدم البشرية الخاطئة للمخلص. والعجيب أن المخلص يترك الجموع المحيطة به والمتهللة بالالتفاف حوله، أي يترك الطغمات الملائكية والأمجاد السماوية، مخليًا ذاته لينظر إلى الإنسان الساقط رغم شره وفساده، يلتقي معه على صعيد الروح ليعلن له أنه قد استضاف نفسه بنفسه في بيته ليقدسه، قائلًا: "ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك... اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضًا ابن إبراهيم" [5، 9]. كأن هذا العمل يمثل سرّ التجسد الذي به دخل الرب بيتنا إذ حمل طبيعتنا، لا ليقطنها إلى حين، وإنما حملها فيه، واختفى بلاهوته خلالها ليقدس طبيعتنا أبديًا.
سادسًا: يمكننا أيضًا أن نقول بأن شجرة الجميز تشير إلى بذرة الإيمان التي تنمو داخل القلب لتصير شجرة كبيرة، يأوي في داخلها الإنسان ليرى من خلالها السيد المسيح الذي لم يره من قبل، عندئذ يتمتع بسكنى الرب فيه متخليًا عن شره.
خلال شجرة الإيمان التقى زكا بالسيد رغم المعوقات الخاصة به كقصر قامته، أو الخاصة بالظروف كتجمهر الناس حول السيد فيحجبونه عنه. بالإيمان الحيّ العملي نغلب كل ضعف فينا، ونرتفع فوق كل الظروف لنلتقي بربنا يسوع، نراه ويرانا أبرارًا فيه، نسمعه ينادينا فننصت لصوته ونتجاوب مع كلماته.
يقول القديس كيرلس الكبير:
[أراد (زكا) أن يرى يسوع لذا تسلق شجرة جميز، هكذا نمت في داخله بذرة الخلاص. وقد رأى المسيح بعيني اللاهوت (إيمان زكا)، وبرؤيته هذه نظره أيضًا خلال عينيّ الناسوت، فبسط له لطفه وشجعه، قائلًا له: "أسرع وانزل" [5].
طلب أن يراه، فعاقته الجموع، لكن لم تعقه الجموع مثلما عاقته خطاياه. لقد كان قصير القامة لا من جهة الجسد فحسب، وإنما روحيًا أيضًا.
لم يكن له طريق آخر ليراه سوى أن يصعد فوق الأرض متسلقًا شجرة جميز هذه التي كان المسيح مزمعًا أن يمر بها.
الآن تحمل هذه القصة في داخلها رمزًا، إذ لا يمكن لإنسان أن يرى المسيح ويؤمن به ما لم يصعد شجرة الجميز، بمعنى إقماعه لأعضائه التي على الأرض، الزنى والنجاسة الخ[792].]
هذا وقد قدم البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا مشابهًا لفكر القديس كيرلس الكبير في الفقرات الأخيرة السابقة إذ رأى في شجرة الجميزة شجرة تحمل ثمرًا ضعيف القيمة؛ بهذا لا يقدر أحد أن يعاين السيد المسيح ما لم يرتفع بالإيمان فوق الأمور الزمنية التافهة كشجرة جميزة، يعلو عليها بتأمله في الإلهيات وتمتعه بالحكمة السماوية[793].
سابعًا: يرى القديس أمبروسيوس في صعود زكا قصير القامة شجرة الجميز لرؤية السيد المسيح إشارة إلى ارتفاع المؤمن الذي بسبب الخطية صار قصير القامة محرومًا من رؤية السيد فوق حرف الناموس، فلم يعد بعد تحت الناموس بل مرتفعًا بالروح فوق الناموس ليعاين بالنعمة السيد المسيح. وكأن صعود شجرة الجميز هو انطلاق من الفكر الحرفي في تفسير الكتاب المقدس إلى التمتع بالفكر الروحي العميق خلال شجرة الصليب المقدسة.
ثامنًا: إذ دخل السيد المسيح بيت زكا سمع زكا هذه العبارة الإلهية: "اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضًا ابن إبراهيم" [8].
ماذا يعني بخلاص هذا البيت:
أ. حينما يتقدس عضو في الأسرة يستطيع بالسيد المسيح الساكن فيه أن يكون سرّ بركة وخلاص بقية الأعضاء. وقد جاء سفر الأعمال يكشف بقوة كيف كان لقاء البعض مع السيد المسيح يدفع أهل بيتهم إلى اللقاء أيضًا معه والتمتع بخلاصه في حياتهم. لا نستطيع أن ننكر أنه قد يقبل عضو السيد المسيح ويرفض الآخر حتى حذرنا السيد بقوله أن أعداء الإنسان أهل بيته، وأنه يقوم الأب على ابنه والابن على أبيه الخ. هذا التحذير يكمله حديث السيد المسيح نفسه عن رسالة المؤمن كنورٍ للعالم قادر بالمسيح النور الحقيقي أن يجتذب أهل بيته لشمس البرّ!
ب. حينما يتقدس الإنسان بدخول السيد المسيح إلى حياته يتقدس أهل بيته الداخلي، أعني أنه إذ يقبل المؤمن السيد المسيح يقدم كل أهل بيته للرب، أي جسده بكل طاقاته ودوافعه وأحاسيسه ومشاعره وفكره وقدراته. فالله لا يقدس الروح وحدها وإنما معها الجسد والنفس أيضًا.
ج. يدعو البيت "ابن إبراهيم"، وهو بلا شك لا يقصد المبنى المادي، إنما الساكن فيه أو السكان فيه الذين تمتعوا بعمل السيد المسيح فيهم. دُعي زكا ابنًا لإبراهيم ليس لانتسابه إليه حسب الجسد، وإنما ما هو أعظم لأنه حمل ذات إيمانه الحيّ العامل. فبالإيمان ترك إبراهيم أرضه وعشيرته وأهل بيته منطلقًا وراء الدعوة الإلهية إلى أرض يجول فيها ليقدمها ميراثًا لأبنائه، وها هو ابنه زكا يحمل ذات الإيمان، فقد ترك كل ممتلكاته التي سبق فتعلق بها كأرض يعيش فيها، وكعشيرةٍ تعلق بها بل وكانت كأهل بيته، ارتبط بممتلكاته بعنف، لكنه الآن ينحل من هذه الارتباطات ليقدم نفس ممتلكاته للفقراء، ويقدم الباقي لرد أضعافًا مضاعفة لمن سبق فظلمهم.
يمكننا أيضًا أن نقول بأن زكا حين كان رئيسًا للعشارين كان ابنًا لإبراهيم حسب الجسد، أما الآن إذ تعرف على السيد صار ابنًا له حسب الإيمان، بل صار ابنًا لله في المسيح يسوع.
تاسعًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[794] أن حلول السيد المسيح في بيت زكا قد أعطى زكا فرحًا [6]، فصار كما بجناحين منطلقًا إلى فوق الزمنيات، لذا قال: "يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين..." يمكننا أن نقول بأن الخطية تجرح النفس وتفقدها فرحها، فتعيش مرتبطة بالعالم والزمنيات فاقدة رجاءها الأبدي وبهجتها الداخلية. لكن تجلي الرب في النفس وسماعها صوته يملأها رجاءً، ويرفعها فوق كل تعلق زمني، لتحيا كما بجناحي الروح، مرتفعة من مجدٍ إلى مجدٍ، ومتمتعة بنعمةٍ فوق نعمةٍ، ومنطلقة من قوةٍ إلى قوةٍ بفرحٍ حقيقيٍ.
عاشرًا: يقارن القديس أغسطينوس بين زكا الذي استضاف السيد بفرح وبين قائد المائة الذي حسب نفسه غير أهل أن يدخل السيد بيته (مت 8: 8) قائلًا له: [لا يوجد تناقض بين الاثنين... ولا يُحسب أحدهما أفضل من الآخر، فبينما تقبل الأول الرب بفرح في بيته [6]، قال الآخر: "لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي" (مت 8: 8). كلاهما يكّرم المخلص وإن كان بطريقين مختلفين... كلاهما كانا بائسين بالخطية، ونالا الرحمة التي طلباها[795].]
أحد عشر: إذ لم يدرك اليهود غاية المسيح وعمله "تذمروا قائلين إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ" [7]. عوض أن يفرحوا بخلاص الخطاة تذمروا على المخلص، لأنه يفتح قلبه لهم، ويدخل بيوتهم ليملك على قلوبهم، أو حسب تعبير القديس كيرلس الكبير يقيمهم من الأموات، إذ يقول: [لماذا يلومون المسيح إن كان ذلك يمكن أن تقول قد سقط ودفن في الفساد الروحي، فأقامه المسيح من هوة الهلاك؟! ولكي يعلمهم ذلك قال: "اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضًا ابن إبراهيم" [9]. لأنه حيث يدخل المسيح بالضرورة يوجد الخلاص. ليكن في داخلنا؛ إن آمنا يكون فينا، بالإيمان يسكن في قلوبنا، ونكون نحن مسكنه. كان يليق باليهود أن يفرحوا، لأن زكا قد خلص بطريقة عجيبة، إذ حُسب هو أيضًا من بين أبناء إبراهيم الذي وعده الله بالخلاص في المسيح بواسطة الأنبياء القديسين، قائلًا: "ويأتي الفادي إلى صهيون، وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب، يقول الرب" (إش 59: 20). لقد قام المسيح ليخلص سكان الأرض من خطاياهم، يطلب من قد فُقدوا، ويخلص من قد هلكوا. هذا هو عمله، قل هذا هو ثمرة لطفه الإلهي[796].]
ثاني عشر: إذ دخل السيد المسيح بيت زكا أشرق عليه بنور بره، فطرد منه كل ظلمة دون أن يبكته بكلمة، أو حتى يقدم له وصية. كان حضرة المسيح نفسه "كلمة الله المتجسد" قوة قادرة على انتشال زكا من محبة المال إلى حبه للفقراء وشوقه لرد أضعاف مضاعفة لمن سبق فظلمهم، حتى وإن دفع كل ما يملكه ثمنًا لذلك.
في نص منسوب للقديس يوحنا الذهبي الفم قيل: [لم ينتظر زكا حكم الناموس بل حكم على نفسه بنفسه]، كما قيل: [أنظر هنا معجزة، فإنه يطيع دون أن يتعلم. كما أن الشمس تلقي بأشعتها على البيت فتضيئه بالعمل لا بالكلام، هكذا يلقي المخلص بأشعة بره ليحطم ظلمة الخطية، فيشرق النور في الظلمة.]
هذا، ويليق بنا أن نلاحظ أن زكا لم يقدم ماله للفقراء والمظلومين، وإنما قدم أولًا قلبه لله، عندئذ جاءت عطايا طبيعية وبلا كلفة، ومفرحة لله. يقول القديس جيروم: [إن قدمنا للمسيح نفوسنا كما نقدم له غنانا، يتقبل التقدمة بفرح[797].]
ثالث عشر: يكشف ربنا يسوع المسيح عن رسالته الخلاصية، فاتحًا باب الرجاء للكل بقوله: "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" [10].
يستخدم العلامة ترتليان هذه العبارة للرد على أصحاب الفكر الغنوسي الذين يحقرون من شأن الجسد ويحسبونه لا يتمتع بالخلاص ولا يقوم في اليوم الأخير، قائلًا: [ماذا تظن في الذي هلك؟ إنه الإنسان بلا شك، الإنسان بكليته وليس جانبًا منه. بالطبع الإنسان كله... فإن كانت الخطية أهلكته بكليته، فإنه سيخلص بكليته[798].]
ويستخدم القديس أغسطينوس ذات العبارة في توبيخ أتباع بيلاجيوس منكري الخطية الأصلية، لذا يخاطب السيد المسيح على لسانهم قائلًا: [إن كنت قد جئت لتطلب وتخلص ما قد هلك، فإنك لم تأتِ للأطفال، لأنهم لم يهلكوا بل ولدوا في حالة خلاص؛ اذهب إذن إلى الكبار[799].]
يحدثنا القديس أغسطينوس عن عمل السيد المسيح الخلاصي، ومجيئه طالبًا من قد هلك، قائلًا: [لقد وجد المفقودين أيضًا. إنهم اختفوا هنا وهناك بين الأشواك، وتشتتوا بسبب الذئاب. اختفوا بين الأشواك، فجاء إليهم ليجدهم، وقد تمزق بأشواك آلامه. جاء فعلًا ووجدهم، مخلصًا إياهم... لقد خلصوا بذاك الذي ذُبح لأجلهم[800].]
2. مثل العشرة أمناء
لقاء السيد المسيح بزكا رئيس العشارين في بيته وإعلان السيد المسيح عن الخلاص لأهل هذا البيت تحقيق لملكوت الفرح الحقيقي حتى ارتفع قلب زكا فوق كل فكر أرضي، فقدم أكثر مما يطلبه الناموس بكثير، قدم نصف أمواله للمساكين وطلب أن يرد لكل من ظلمه أربعة أضعاف. هكذا يعلن السيد المسيح عن الرغبة الإلهية في تقديس كل نفس ليكون الكل ملكوتًا حقيقيًا له. والآن بعد إعلان هذا الملكوت الحاضر والعامل في حياة البشرية يود السيد أن يعلن أنه ليس إلا عربونًا للملكوت الأبدي، مقدمًا لنا مثل العشرة الأمناء لنعرف أننا وإن كنا نفرح هنا باللقاء مع السيد المسيح لكي نحيا مجاهدين نمارس الحياة الأمينة لننعم بكمال مجد الملكوت الأبدي.
"وإذ كانوا يسمعون هذا عاد فقال مثلًا،
لأنه كان قريبًا من أورشليم،
وكانوا يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال" [11].
يبدو أن فكرًا بدأ يسود بين اليهود عندما رأوا ما صنعه رب المجد يسوع من أعمال عجيبة أن الملكوت قد اقترب جدًا، بمعنى أن السيد يملك في أورشليم، ويقيم مملكته أرضيًا. لهذا انشغل حتى التلاميذ في بعض الأحيان عن مركز كل واحدٍ منهم في هذه المملكة المنتظرة سريعًا. وكأن السيد المسيح أراد أن يوجه أنظارهم عن التفكير في عظمة المملكة بفكر زمني إلى التهيئة للملكوت الأبدي بحمل سمة "الأمانة". وقد سبق لنا الحديث عن هذا المثل في دراساتنا السابقة مت 25: 18، والآن نكتفي بإبراز النقط التالية:
أولاً: يقول السيد المسيح: "إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه مُلكا ويرجع. فدعا عشرة عبيد له وأعطاهم عشرة أمناء، وقال لهم: تاجروا حتى آتي" [12-13]. من هو هذا الإنسان الشريف الجنس إلا رب المجد نفسه، الكلمة الذي صار جسدًا. إنه شريف الجنس، بل "وحيد الجنس"، فريد في بنوته الأزلية للآب، أخلى ذاته بالتجسد لكي ينقلنا نحن الذين صرنا عبيدًا للخطية إلى البنوة لله باتحادنا معه، وثبوتنا فيه، فنصير نحن به شرفاء الجنس أو أحرارًا.
يعلق القديس كيرلس الكبير على تعبير "شريف الجنس"، بالقول:
[مجال هذا المثل إنما يمثل في اختصار عصب التدبير الذي قُدم لأجلنا، أي سرّ المسيح من بدايته حتى نهايته.
الله الكلمة صار إنسانًا، ومع كونه قد صار في شبه جسد الخطية لذا دُعيَ عبدًا (في 2: 7) لكنه وُلد حرًا "شريف الجنس" (لو 19: 12)، إذ ولد من الآب ميلادًا غير منطوق به. نعم، إنه الله الذي يعلو الكل في الطبيعة والمجد، يسمو علينا بل وعلى كل الخليقة بكماله الذي لا يُقارن.
إنه شريف الجنس بكونه ابن الله، حمل هذا اللقب ليس مثلنا من قبيل صلاح الله وحبه للبشر، وإنما لأن هذا يخصه بالطبيعة، كمولود من الآب، عالِ فوق كل خليقة.
إذن عندما صار الكلمة الذي هو صورة الآب والمساوي له مثلنا إنسانًا "أطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسما فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب المجد الله الآب" (في 2: 8-11)...
بالتأكيد الابن هو الله بالطبيعة فكيف أعطاه الآب ذاك الاسم الذي فوق كل اسم؟ نقول أنه عندما صار جسدًا، أي عندما صار إنسانًا مثلنا أخذ اسم العبد، وقبل فقرنا ومذلتنا، وبعد تتميم سرّ تدبير التجسد رُفع إلى المجد الذي له بالطبيعة وليس كأمر غريب عنه لم يعتد عليه، ولا كأمر خارج عنه مقدم إليه من الغير، إنما نال المجد الذي له خاصًا به. ففي حديثه مع الآب السماوي يقول: "مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو 17: 5). كان يرتدي مجد اللاهوت بكونه الكائن قبل الدهور قبل العوالم، بكونه الإله المولود من الله؛ وعندما صار إنسانًا كما قلت لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل بل بقى كما هو عليه على الدوام بكونه المولود من الآب، مثله في كل شيء. إنه "صورة جوهره" (عب 1: 3)، يحق له كل ما للآب بكونه واحدًا معه في الجوهر، مساوٍ له في عدم التغيير، مثله في كل شيء[801].]
يعلق أيضًا القديس باسيليوس الكبير على تعبير "شريف الجنس"، قائلًا: [إنه شريف ليس فقط من جهة لاهوته، وإنما من جهة ناسوته أيضًا بكونه من نسل داود حسب الجسد[802].]
إن كان هذا الإنسان الشريف الجنس هو كلمة الله المتجسد، فماذا يعني بقوله: "ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه مُلكًا ويرجع" [12]؟ لعله يقصد بالكورة البعيدة الطبيعة البشرية التي صارت بالعصيان مبتعدة عن الله، وكأنها كورة غريبة بالنسبة له، خاصة جماعات الأمم التي قاومت العبادة الإلهية وعزلت نفسها بنفسها بعيدًا عن ملكوت الله. لقد جاء إلينا نحن الذين كنا غرباء وبعيدين لكي يملك علينا مقربًا إيانا إليه كأعضاء جسده، فيحملنا فيه كرأس لنا، ويرجع بنا إلى ملكوته، لنجد لنا به موضعًا في حضن الآب. هذا ما أعلنه الرسول بولس بوضوح، قائلًا: "اذكروا أنكم أنتم الأمم قبلًا في الجسد المدعوين عزلة... إنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح أجنبيين عن رعوية إسرائيل وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم، وبلا إله في العالم، ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلًا بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح... فلستم إذًا بعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أف 2: 11-19).
يقول القديس باسيليوس الكبير: [ذهب إلى كورة بعيدة (لو 19: 12)، ليس خلال بعد المسافة المكانية بل بعد الحالة الفعلية. فإن الله نفسه قريب جدًا لكل واحدٍ منا متى ارتبطنا به خلال الأعمال الصالحة، ويكون بعيدًا جدًا متى تركناه وابتعدنا عنه جدًا بالتصاقنا بالهلاك. لقد جاء إلى هذه الكورة البعيدة الأرضية لكي يتقبل مملكة الأمم كقول المزمور: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك" (مز 2: 8)[803].] ويقول القديس أغسطينوس: [الكورة البعيدة هي كنيسة الأمم الممتدة إلى أقصى الأرض. فقد جاء لكي يتم ملء الأمم، وعندئذ يرجع لكي يخلص كل إسرائيل (بقبولهم الإيمان الحق ورفضهم الفكر الصهيوني المتعصب)[804].]
نزل الرب إلينا كما إلى كورة بعيدة بحمله ناسوتنا، وأقام مملكته فينا ليرجع حاملًا إيانا إلى سماواته كمملكة خاصة به. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [وصف نفسه من جهة لاهوته وناسوته، فهو غني من جهة كمال لاهوته وقد صار فقيرًا لأجلنا. فمع أنه الغني والملك الأبدي، وابن الملك الأبدي، قال أنه ذهب إلى كورة بعيدة (لو 19: 12) بأخذه جسدنا، إذ سلك طريق البشر كما في رحلة غريبة، وجاء إلى هذا العالم ليعد لنفسه مملكة منا. إذن قد جاء يسوع إلى هذه الأرض ليتقبل لنفسه مملكة منا نحن الذين قيل لنا: "ملكوت الله داخلكم". عندئذ يسلم الابن مملكته للآب، وبتسليمه إياها لا يخسرها المسيح بل تنمو... نحن ملكوت المسيح وملكوت الآب، إذ قيل: "ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو 14: 6). عندما أكون في الطريق فأنا للمسيح، وإذ أعبر به فأنا للآب، لكن أينما وجدت فأنا خلال المسيح وتحت سلطانه[805].]
والآن ماذا يعني بالعشرة عبيد الذين وهبهم عشرة أمناء ليتاجروا حتى يأتي إليهم ثانية؟ يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن رقم 10 يشير إلى الكمال، وكأن السيد المسيح قدم إلى كل العبيد أي إلى جميع البشرية بلا تمييز بين جنس وآخر، أو شعب وشعب، مواهبه الكاملة المتباينة لكي يضرموها حتى يجئ فيكافئهم على أمانتهم في العمل. أعطى للعشرة عبيد فلا يستطيع أحد أن يحتج بأن رسالة الله الخلاصية لا تخصه شخصيًا. لقد وهب لكل عبدٍ واحدًا من العشرة أمناء، أي قدم عمله وعطاياه لكل من يريد أن يأخذ بلا محاباة ولا تمييز.
يرى البعض أن "المنا" يوازي 100 درهمًا، وهو رقم يمثل عظمة الكمال، فكأن السيد حين قدم الأمناء أراد في الكل أن يتاجروا في عطاياه العظيمة لينالوا كرامة ومجدًا على مستوى فائق.
يعلق القديس كيرلس الكبير على هذه الأمناء التي وزعت على العبيد، قائلًا: [يوزع المخلص عطاياه الإلهية المتنوعة على الذين يؤمنون به، فإننا نؤكد أن هذا هو معنى الأمناء... إنه إلى اليوم مستمر في التوزيع كما يظهر الكتاب المقدس بوضوح، إذ يقول الطوباوي بولس: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خدم موجودة، ولكن الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل" (1 كو 12: 4-6). يعود فيوضح ما قاله بإبراز أنواع المواهب هكذا: "فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، لآخر مواهب شفاء بالروح الواحد" (1 كو 12: 8-9)، وهكذا أنه يبرز بهذه الكلمات تنوع المواهب بوضوح[806].]
ثانيًا: ميّز السيد المسيح بين عبيده الذين تسلموا الوزنات المتنوعة هؤلاء الذين يشيرون للمؤمنين منهم من يجاهد بالروح ليكسب عشرة أمناء، ومنهم من يكسب خمسة، وأيضًا منهم من يتراخى ويهمل ويضع الوزنة كما في منديل، وبين الذين رفضوه تمامًا، إذ يقول: "وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه، فأرسلوا وراءه سفارة، قائلين: "لا نريد أن هذا يملك علينا" [14]. وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [حقًا عظيم هو الفارق بين هؤلاء (الذين تسلموا الأمناء) وبين الذين جحدوا مملكته تمامًا. هؤلاء هم متمردون يلقون عنهم نير صولجانه، بينما يمارس الآخرون مجد خدمته[807].] لعله قصد بالرافضين مملكته شعب اليهود الذين هم "أهل مدينته"، إذ قال: "وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي" (يو 15: 24). وكما يقول الإنجيلي يوحنا: "أجاب رؤساء الكهنة: ليس لنا ملك إلا قيصر" (يو 19: 15).
ماذا يعني السيد بقوله: "أرسلوا وراءه سفارة" [14]؟ يجيب القديس أغسطينوس: [أرسلوا سفارة وراءه، لأنهم بعد قيامته اضطهدوا رسله، ورفضوا الكرازة بالإنجيل[808].]
ثالثًا: يقول السيد: "ولما رجع بعدما أخذ المُلك أمر أن يُدعى إليه أولئك العبيد الذين أعطاهم الفضة ليعرف بما تاجر كل واحدٍ" [15]. ماذا يعني "بعد ما أخذ المُلك"؟ يمكننا أن نقول مع القديس يوحنا الذهبي الفم[809] أن السيد المسيح ملك على كل البشر بحق الخلقة إذ هو خالق الكل، وهو ملك أيضًا بحق التبرير، إذ يملك على الأبرار، فيخضعون له طوعًا. بهذا له مملكتان، الأولى إلزامية علينا كخليقة، والثانية اختيارية، فنقبل مُلكه علينا خلال عمل نعمته، وهذه هي التي يقصدها بالقول: "أخذ المُلك".
يقول القديس أغسطينوس: [إنه يرجع بعدما يأخذ مُلكه، إذ يأتي بكل المجد ذاك الذي سبق فظهر لهم متواضعًا، قائلًا: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو 18: 36)[810].]
رابعًا: من هو ذاك الذي ربح بالأمناء الفضية الذي لسيده عشرة أمناء؟ وذاك الذي ربح بأمناء سيده خمسة أمناء؟ وذاك الذي استلم منا سيده الفضي ووضعه في منديل أو دفنه في التراب (مت 25: 18)؟ بلا شك أن الأمناء العشرة الفضية التي وزعها السيد على عبيده ما هي إلا "كلمة الله" التي قيل عنها أنها كالفضة المصفاة بالنار (مز 121: 3)، خاصة الناموس الذي يرمز له بالرقم 10 بكونه يحوي في جوهره الوصايا العشرة! الأول أخذ الوصية الإلهية لا ليدفنها بل لتربح عشرة أمناء، أي ليبلغ الحياة الملائكية بكون الطغمات السمائية هي تسع (بما فيها الشاروبيم والسيرافيم)، فيصير هو الطغمة العاشرة
أما الثاني الذي ربح خمسة أمناء، فيشير إلى ذاك الذي بكلمة الله الحية تتقدس الحواس الخمس، أي تقديس الجسد بحواسه، أما الذي دفن الوزنة الفضية في منديله أو في أرضه، فهو ذاك الذي يدفن كلمة الله في سجن ذاته أو في حدود الجسد كما كان يفعل زكا قبلًا حين كان محصورًا داخل شهواته الذاتية (الطمع).
يرى البعض أن الرجل الأول الذي ربح عشرة أمناء يشير إلى الخادم الكارز بالحق، إذ يكسب بروح الإنجيل الفهم الروحي للناموس (رقم 10)، أما المكافأة فهي مُلكه على عشر مدن، وكما يقول القديس أمبروسيوس أن هذه المدن هي النفوس التي تعهد بين يديه بإضرامه الوزنة الإلهية أو العملة المسيحانية، كلمة الإنجيل. ليست هناك مكافأة للخادم الحقيقي أعظم من أن يرى النفوس قد قبلت الكلمة، وخضعت لروح الحق، فيحسب نفسه كمن ملك بالمسيح عليها لا ليسيطر، وإنما ليبذل بالحب. أما الرجل الثاني الذي ربح خمسة أمناء فأظن أنه يمثل الإنسان التقي الذي وإن كان ليس له موهبة التعليم والكرازة بالكلمة لكنه خلال تقديس حواسه الخمس يشهد فيكسب نفوسًا للرب، فيصير كمن يملك على خمس مدن. أما الأخير الذي وضع الموهبة في منديل، فكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس أن المنديل تستخدم في ربط وجه الميت... وكأن ذاك الرجل حسب موهبة الرب ميتة يدفنها ويضمرها.
أما بقية المثل فيمكن الرجوع إلى تفسيره في كتابنا "الإنجيل بحسب متى 25: 14-30" منعًا للتكرار، مكتفيًا هنا بالتعليقين التاليين:
* "إن كل من له يُعطى" [26]. من له الإيمان يُعطى معرفة، ومن له معرفة يُعطى حبًا، ومن له الحب يُعطى الميراث[811].
القديس إكليمنضس السكندري
* "وأما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى هنا، واذبحوهم قدامي" [27].
ليته لا يهمل أحد في مقابلة الملك لئلا يُطرد من حجال العريس.
ليته لا يوجد بيننا من يستقبله بكآبة، لئلا يُدان كمواطنٍ شرير يرفض استقباله كملكٍ عليه.
لنأتِ إليه معًا ببهجة، ولنستقبله بفرح، ونتمسك بوليمتنا بكل أمانة[812].
الأب ميثوديوس