لوقا 4 - تفسير إنجيل لوقا
صديقنا يُجُرِّب مثلنا الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي
3. يسوع المرفوض من خاصته
قدَّم لنا لوقا البشير صورة حيَّة لعمل هذا الصديق العجيب، فقد جاء إلى الناصرة حيث تربَّى ليخدِم، ومع أن الجميع كانوا يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه لكنهم تعثَّروا فيه لأنهم حسبوه ابن يوسف. وحين بدأ يحدِّثهم عن انفتاح صداقته على الجميع- حتى الأمم- قرَّروا طرحه من حافة الجبل، أما هو فجاز في وسطهم ومضى.
نشأ السيِّد المسيح في الناصرة، ذاك الذي وهب العالم الخلاص والحياة، بينما حكمت مدينته على نفسها بالهلاك والموت. ما فعله أهل الناصرة هو جزء لا يتجزَّأ من خُطَّة الصليب.
"وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربَّى،
ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت، وقام ليقرأ"[16].
* لما كان من الضروري ظهور المسيح للإسرائيليِّين حتى يعرفوا حقيقة التجسَّد إذ كانوا يجهلونه، وبما أن المسيح مسحه الله الآب مخلِّصًا للعالم بأسره، لزم من أجل كل ذلك أن يظهر المسيح نفسه للشعب اليهودي وغيره من الشعوب الأخرى ويكشف عن عمله الفدائي للشعوب قاطبة. إلا أن السيِّد المسيح أوْلى يهود الناصرة فضلًا عظيمًا بأن زارهم، وكان قد تربَّى كإنسانٍ في وسطهم.
وما أن دخل المسيح بلدة الناصرة أخذ مجلسه في مجمعها، وفتح السفر وقرأ فصلًا يشير إلى الفداء، وكيف أن المسيح الكلمة يظهر للعالم كإنسانٍ بقصد امتلائه وتخليصه. وإننا نعتقد بحقٍ أنه لم يكن هناك طريقة بها يمسح المسيح المسحة المقدَّسة سوى أن يأتي إلى العالم كإنسانٍ ويتَّخذ طبيعة إنسان.
كان المسيح إلهًا متأنِّسًا، وبصفته إلهًا يهب الروح القدس للخليقة بأسرها، وبصفته إنسانًا يتسلَّم الروح القدس من الله أبيه. بينما المسيح يقدِّس الخليقة قاطبة سواء كان ذلك بإشراق طلعته البهيَّة من المسكن الأعلى مسكن الله الآب، أم يمنح الروح القدس للعالم السماوي الذي يَدين به، وللعالم الأرضي الذي يعترف بتجسُّده.
القديس كيرلس الكبير
"فدُفع إليه سفر إشعياء،
ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه:
روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين"[17-18].
* لم يحدُث هذا على سبيل الصدفة، وإنما بتدخُّل النعمة الإلهيَّة، إذ بسط يسوع الكتاب ووجد الأصحاح الذي يتنبأ عنه... قرأ النص الذي يخص "سرّ المسيح":بدقَّة: "روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين". فالنص يتحدَّث عن المسيح، وقد جاء ليس صدفة، بل حسب المشيئة الإلهيَّة والنعمة.
بهذه المناسبة لاحظوا هذه الكلمات وكيف طبَّقها يسوع على نفسه في المجمع.
"مسحني لأبشِّر المساكين" بالحق كانوا هم المساكين الذين لا يملكون قط لا الله ولا نبي ولا العدل ولا أية فضيلة، قد أُرسل لهذا السبب يسوع من أجل المساكين[177].
العلامة أوريجينوس
* يؤكِّد الرب نفسه أنه هو الذي تكلَّم في النبوَّات. لقد أخذ المسحة المقدَّسة والقوَّة السماويَّة... ليحل سبي الروح وينير ظلمة الفكر، ويكرز بسَنة الرب التي تمتد عبر السنين اللانهائية، وتهب البشر استمراريَّة الحصاد والراحة الأبديَّة. لقد أغنى كل المهن واحتضنها، ولم يحتقر مهنة ما، بينما نحن الجنس الوضيع نرى جسده ونرفض الإيمان بلاهوته الذي يُعلن خلال معجزاته.
القديس أمبروسيوس
* "وروح الرب علي، لأنه مسَحني لأبشِّر المساكين" [18]. يستنتج من هذه الكلمات أن المسيح أخلى نفسه من الأمجاد السماويَّة حبًا في خلاصنا، لأن الروح القدس بطبيعته في المسيح، فكيف ينزل على السيِّد من أعلى؟! كذلك في نهر الأردن نزل الروح القدس ليمسح يسوع، لا لسبب إلا لأن المسيح وطَّد نفسه على إسداء نعمة الخلاص لنا وتقديم الروح القدس لنا، فإننا كنا خالين من نعمة الروح القدس على حد قول الوحي: "فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد" (تك6: 3). نطق المسيح المتجسِّد بهذه الكلمات لأنه إله حق من إله حق، وتجسَّد بدون أن يتغيَّر أي تغيير ومُسِح بدُهن الفرح والابتهاج، ونزل عليه الروح القدس على شكل حمامة. وإننا نعلم أن الملوك والكهنة مُسِحوا في الزمن القديم حتى تقدَّسوا بعض التقديس، أما المسيح فدُهِن بزيت التقديس الروحي، متسلِّمًا هذه المسْحة ليس منأجل نفسه، بل من أجلنا لأنه سبق أن حُرم الناس من الروح القدس، فخيَّمت سحابة الحزن والكآبة على وجّه الأرض.
القديس كيرلس الكبير
"أرسلني لأشفي المنكسري القلوب،
لأُنادي للمأسورين بالإطلاق،
وللعُمي بالبَصر،
وأرسل المنسحقين في الحريَّة.
وأكرز بسَنة الرب المقبولة"[18-19].
* كنا مأسورين في أسر إبليس وسجنه، وجاء يسوع ينادي للمأسورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر، إذ كلماته وبشارته تجعل العُمي يبصرون...
كان الإنسان مذنبًا وقاتلًا ومأسورًا قبلما يحصل على الحريَّة ويشفيه يسوع[178].
العلامة أوريجينوس
* نادى المسيح بإطلاق سراح الأسرى بأن قيَّد قدميّ الشيطان بالأغلال، وكان طاغية باغية يتسلَّط على رِقاب الناس، وسرق من المسيح رعيَّته وخليقته، فرَدَّ السيِّد ما نهبه إبليس ظُلمًا وعُدوانًا. أرسل المسيح ليهدي قلوبًا غواها الشيطان، فأسدل ستارة من الظلام الدامس، أما المسيح فبدَّد غشاوة الليل الحالك، وأصبحت رعيَّته تسير في الضوء الوهَّاج والنور الساطع، كما ورد في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا من ظلمة" (1 تس 5: 5).
لقد أبصر العميان، وأُنيرت الطرق، ومُهِّدت المرتفعات، وذلك بمجيء المسيح المخلِّص الفادي: "أنا الرب دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم" (إش42: 6).
جاء المسيح فأعلن عهدًا جديدًا لإخوته الإسرائيليِّين، ولكن لم يحتكر اليهود هذا الضوء الوهَّاج، بل سطع نور المسيح البهي على الأمم، فأطلق المأسورين وحرَّر المنسحقين، وكل ذلك يدل على أن المسيح إله بطبيعته فهو إله حق من إله حق.
وما المراد بالقول: "أنادي المأسورين بالإطلاق"؟ تُشير هذه الآية إلى جمهور البؤساء التُعساء الذين أوقعهم الشيطان في حبائله.
وما معنى القول: "أكرز بسَنة الله المقبولة"؟ تُشير هذه الآية إلى جلال الأخبار المُفرحة التي تُعلن قدوم السيِّد المسيح، هذه هي السَنة المقبولة التي شاء المسيح فصُلب فيها نيابة عنَّا، لأن بصلبِه قبِلَنا الله الآب وكنَّا بعيدين عنه، إذ ورد: "وأنا إن اِرتفعت من الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو12: 32). حقًا قام المسيح في اليوم الثالث، منتصرًا على قوَّة الموت، ولذلك يقول: "دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (مت 28: 18).
أليست هذه السَنة سنَة مقبولة، وقد انضممنا إلى أسرة المسيح، وخفق علينا علم يسوع، وتطهَّرنا بالعِماد المقدَّس، واشتركنا في طبيعة المسيح الإلهيَّة، بنيْلنا الروح القدس؟!
إنها السَنة مقبولة تلك التيأَظهر فيها المسيح مجده بمعجزات باهرة، وقبِلْنا بفرح وابتهاج نعمة الخلاص والفداء على حد قول بولس الحكيم: "هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص" (2 كو6: 2). حقًا أنه مقبول إذ فيه فازت الأمم بكنز الإنجيل السمائي، ونالت رسالة السماء المُفرحة، وكانت في الماضي بعيدة عن نعمة الخلاص، لا أمل لها بالنجاة، وليس إله تقصد إليه في العالم. أما الآن فنحن أعضاء في المملكة المسيحيَّة، وشركاء طغمة القدِّيسين الصالحة، وورثة نعم وبركات يقصُر عن تصوُّرِها العقل وعن وصفها اللسان: "ما لم ترَ عين ولم تسمع به إذن ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو2: 9).
وتشير عبارة: "المُنكسري القلوب" إلى ضعاف القلوب مزعزعي العقيدة، هؤلاء الذين لا يُمكنهم مقاومة الميول والشهوات، فيرخون العنان لعواطفهم الدنيئة، فيشتدْ الخِِناق عليهم ويضيق بهم مكان الأسر. أما المسيح فيعد مثل هؤلاء المأسورين بالإطلاق ويناشدهم قائلًا:إرجعوا إليّ فأشفيكم، وأغفر لكم إثمكم وخطيَّتكم.
أما الذين عمَت بصائرهم فإن المسيح يهبهم الضوء والنور؛ هم عميان لأنهم عبدوا المخلوق دون الخالق:"قائلين للعود أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" (إر 2: 27). هؤلاء الناس جهلوا طبيعة المسيح الإلهيَّة فحُرم عقلهم من النور الروحي الحقيقي.
وليس هناك من معترضٍ على نسبة هذه الأمور كلها إلى جماعة الإسرائيليِّين، فقد كانوا فقراء ومنكسري القلوب وأسرى، يهيمون في دُجى الليل الحالك "الكل قد زاغوا معًا وفسدوا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (مز14: 3).
نزل المسيح فبُشِّر الإسرائيليِّين قبل غيرهم من الشعوب، أما الأمم الأخرى فلم تكن دون الإسرائيليِّين عُمي وجُهلاء، ولكن المسيح أغناها بحكمته وهذبها بعلمه، فلم تظل ضعيفة العقل سقيمة الرأي، بل أصبحت سليمة المذهب قويَّة الحجة.
القديس كيرلس الكبير
"ثم طوى السفر وسلَّمه إلى الخادم وجلس
وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه.
فابتدأ يقول لهم:
إنه اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم"[20-21].
جاءت كلمات السيِّد المسيح مفسِّرة لهذه النبوَّة جذَّابة، لأنها لم تكن مجرَّدة، وإنما كانت عملًا إلهيًا تحقَّق بمجيئه، لذلك يقول: "كانت عيونهم شاخصة إليه".
* لما نطق المسيح بهذه الآيات البيِّنات دُهش سامعوه، وتساءلوا فيما بينهم من أين له هذه الحكمة البليغة، ولم يدرس الآداب اليهوديَّة؟! لأنه كان عادة اليهود أن يفسِّروا النبوَّات الخاصة بالمسيح بأنها تمَّت، إما في ملوكهم أو في أنبيائهم، لأنهم جنحوا عن طريق السداد والرشاد واتَّخذوا مسلكًا ملتويًا مرذولًا.
وتجنبًا للخطأ الذي طالما سقط فيه اليهود، ومنعًا لكل غموض قد يقعون فيه، خاطبهم المسيح في صراحة تامة: "أنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم" (لو 4: 21). صارحهم المسيح بأنه هو الذي تُشير إليه النبوَّة، لأن المسيح هو الذي بشَّر بكلمة الخلاص للشعوب الوثنيَّة، وكانوا مساكين معدمين لا إله ولا شريعة ولا أنبياء. وبالأولى بشَّر قومًا حُرموا زمانًا طويلًا من المواهب الروحيَّة، وأطلق سراح مأسورين، تحمّلوا مرارة الأغلال والأصفاد. وأنار سبيل الحق والفضيلة، وكانت سحابة الظلام الحالك تسُد عليهم المنافذ والطرق، ولذلك قال السيد: "قد جئت نورًا إلى العالم" (يو 12: 46). حطَّم المسيح أغلال الإثم، وأعلن قضاء العدل وأخيرًا نادى بسَنة مقبولة، هي علامة مجيئه الأول، وراية خلاصه وشعار الجنس البشري أجمع.
"وكان الجميع يشهدون له ويُعجبون"(لو 4: 22).
لم يُدرك الإسرائيليُّون مكانة المسيح، ولم يعرفوا أنه مسيح الرب إله القوَّات والمعجزات، فزاغوا عن تعاليمه وتكلَّموا بالباطل ضِدُّه، ومع أنهم قدَّروا كلمات الحكمة التي نطق بها السيِّد المسيح إلا أنهم سعوا بروح الشك والغموض فقالوا: "أليس هذا ابن يوسف؟!" (4: 22). وهل حجب هذا السؤال نور المعجزات الساطع، ولِمَ لا يُقابَل المسيح بالاحترام والإجلال رغمًا عن كونه ابن يوسف؟ ألم ير الإسرائيليُّون المعجزات؟! وألم تُقبَر الخطيئة في لحْدِها ويُسجن الشيطان في الهاوية، وتُهزَم جيوشه هزيمة منكَرة؟!
أثنى اليهود على سيل النعمة الذي جرى على لسان المسيح، ولكن غمروه حِقدًا، لأنه ينتسب إلى يوسف. إنه لجهلٍ ليس بعده جهل، فحق عليهم قول الوحي: "اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يُبصرون، لهم آذان ولا يَسمعون" (إر 5: 21).
القديس كيرلس الكبير
* "وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه"[20]
حتى وقتنا الحاضر يحدث هذا، ففي مجمعنا واجتماعاتنا يمكن أن تشخص عيوننا إلى المخلِّص، توجَّه نظرات أكثر عمقًا، فتتأمَّل في ابن الله الوحيد، الحكمة والحق... كم اشتاق في هذه الجماعة أن يكون للكل من موعوظين ومؤمنين ورجال ونساء وأطفال عيون للنفس لا الجسد مشغولة بالنظر إلى يسوع. فإن النظر إليه يجعل نوره ينعكس فتصير وجوهكم أكثر ضياء[179].
العلامة أوريجينوس
"فقال لهم: على كل حال تقولون لي هذا المثل:
"أيها الطبيب اِشف نفسك.
كم سمعنا أنه جرى في كفر ناحوم فافعل ذلك هنا أيضًا في وطنك.
وقال: الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولاً في وطنه"[23-24].
كأنهم يقولون له: يا من رفعت نفسك في البلد الغريب خلال عمل المعجزات،اِصنع معجزات بين أهلك وأقاربك في بلدك، إذ ظنُّوا أن السيِّد المسيح يطلب مجدًا زمنيًا أو كرامة من البشر.
* "على كل حال تقولون لي هذا المثل اِشف نفسك"(لو 4: 23).
كان هذا المثل مألوفًا لدى اليهود وأُُطلق على جماعة الأطبَّاء والحُكماء، فإذا أصاب طبيبًا مرضًا ما قالوا له: "أيها الطبيب اشف نفسك" بيّن المسيح لليهود بأنهم يطلبون إليه أن يجري أمامهم مختلف المعجزات، خصوصًا وأن بلدته التي تربَّى فيها أحَق من غيرها بهذه القوَّات والعجائب، إلا َّأن المسيح أفهمهم أن المألوف منبوذ، بدليل أنه بعد سماعهم كلمات الحكمة والنعمة التي نطق بها امتهنوه بالقول: أليس هذا ابن يوسف؟! فليس بعيدًا إذن أن يتمادوا في حجب عيونهم عن النظر إلى تعاليمه "الحق الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولًا في وطنه" (4: 24).
القديس كيرلس الكبير
لم يرفض السيِّد المسيح هذا المثل، إذ يليق بكل معلِّم أن يُعلن تعاليمه خلال حياته قبل كلماته، وإلا انطبق عليه هذا المثل بكونه يقوم بدور الطبيب الذي يدَّعي قدرته على شفاء المرضى، بينما يُعاني هو نفسه من المرض. إنما أوضح أنه لا ينطبق عليه. إذ كانت أعماله تشهد بالأكثر عن أقواله... إنما سِرّ تعثُّرِهم في السيِّد إنما ينبع عن رفضهم له لمجرد أنه من موطنهم، فينطبق عليهم المثل الآخر "ليس نبي مقبولًا في وطنه" [24].
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [بهذا وضع السيِّد نفسه العمل قبل التعليم... فمن لا يقدر أن يعلِّم نفسهويحاول أن يصلح من شأن الآخرين يجد الكثيرون يسخرون منه. بالحري مثل هذا لا يكون له القدرة على التعليم مطلقًا، لأن أعماله تنطق بعكس أقواله[180].]
* "ليس نبي مقبولًا في وطنه".
إذ كانت عناثوت وطن إرميا (إر 11: 21) لم تُحسن استقباله؛ وأيضًا إشعياء وبقيَّة الأنبياء رفضهم وطنهم أي أهل الختان... أما نحن الذين لا ننتسب للعهد بل كنَّا غرباء عن الوعد، فقد استقبلنا موسى والأنبياء الذين يعلنون عن المسيح، استقبلناهم من كل قلوبنا أكثر من اليهود الذين رفضوا المسيح، ولم يقبلوا الشهادة له[181].
العلامة أوريجينوس
استغلَّ السيِّد المسيح مقاومة أهل بلدته له فرصة لإعلان صداقته على مستوى البشريَّة كلها، مؤكدًا أن جامعية العمل الإلهي أمر له جذوره حتى في العهد القديم، إذ قال:
"وبالحق أقول لكمإن أرامل كثيرة كنَّ في إسرائيل،
في أيام إيليَّا حين أغلقت السماء مدَّة ثلاث سنين وستَّة أشهر،
لما كان جوع عظيم في الأرض كلها.
ولم يُرسل إيليَّا إلى واحدة منها،
إلاَّ إلى امرأة أرملة إلى صرفة صيداء.
وبرْص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمانإليشع النبي،
ولم يَطْهر واحد منهم إلاَّ نعمان السرياني"[25-27].
كانت هذه الكلمات قاسية على الأذن اليهوديَّة، فقد ظنَّ اليهودي أنه الشخص المدلَّل لِدى الله، صاحب الناموس والعُهود والمواعيد والنبوَّات ومن جنسه يأتي المسيَّا. لكن كشف السيِّد المسيح عن حقيقة حبُّه للبشر بلا تمييز، ففي أيام إيليَّا تمتَّعت أرملة صيداء بما لم تتمتَّع به نساء يهوديَّات كثيرات، ونال الأممي نعمان السرياني الأبرص ما لم ينله البرص من اليهود (1 مل17 ؛ 2 مل5).
* إننا نرى النبي لم يشفِ إخوته ولا مواطنيه ولا خاصته بل الشعب الغريب (نعمان السرياني الأبرص 1 مل17 ؛ 2 مل5)، الذي بلا ناموس ولا يدين بديانته، أفلا يدل ذلك على أن الدواء يتوقَّف على الإرادة وليس على جنس الإنسان، وإن البركات الإلهيَّة ننعم بها حسب اشتياقات قلوبنا، ولا تعطي لنا حسب مولدنا؟ فنتعلم الصلاة بلجاجة طالبين ما نشتهيه، فإن ثمر البركات الإلهيَّة لا يُعطى للفاترين.
الأرملة التي أُرسل إليها إيليَّا كانت رمزًا للكنيسة، التي جاء شعبها وقد جُمع من الأمم. وهذا الذي كان قبلًا نجسًا قبل عماده في النهر المقدَّس، وقد اغتسل من نجاسات الجسد والروح، ولم يعد بعد أبرصًا، صار عذراء عفيفة طاهرة بلا دنس ولا لوم (أف 5: 26). لهذا السبب عَظُم نعمان في عينيّ سيِّده، إذ كشف لنا عن صورة خلاص الأمم، وقد نصحته خادمة بارة أسَرَها العدُو بعد هزيمة بلادها في الحرب، بأن يَطلب خلاصه من النبي، فشُفي نعمان لا بأمر ملك أرضي، وإنما حسب سخاء الرحمة الإلهيَّة...
لقد رفض إليشع الهديَّة، وكان له إيمان تعلَّمه في مدرسة أصول الأعمال، فسِرْ أنت على ما تعلَّمته من مبادئ الرب مقتديًا بالنبي: "مجانًا أخذتم، مجانًا أُعطوا" (مت 10: 8). لا تتأخر في الخدمة بل قدِّمها مجانًا، فلا يجوز لك أن تقيِّم نعمة الله بمالٍ، ولا يليق بالكاهن في عمل الأسرار أن يفكِّر في الغنى بل في الخدمة... علّم عبيدك ذلك وحثُّهم، فإن خدَمَك أحد وضبطته هكذا محبَّا للمال (كجيحزي) فاطرده كما فعل النبي، ولتحسب الأموال التي حصل عليها بطريقة خاطئة تُدنِّس النفس والجسد، قائلًا: "أهوَ وقت لأخذ الفضَّة ولأخذ ثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجوار؟! فبَرَص نُعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد" (2 مل 5: 26-27).
القديس أمبروسيوس
على أي الأحوال يقدِّم السيِّد المسيح هذه الأرملة لليهود بكونها تمتَّعت بما لم تتمتَّع به أرامل كثيرات في أيام إيليَّا. وقد جذبت هذه الأرملة قلوب الكثير من الآباء، فقال عنها القديس يوحنا ذهبي الفم: [قدَّمت هذه المرأة كرمًا أكثر من أبينا إبراهيم[182].] فإن كان إبراهيم قد قدَّم وليمة للغرباء فاستضاف الرب وملاكيْه، لكنه قدَّم من فيض غِناه، أما هذه فقد قدَّمت أعوازها لنبي الله وعرَّضَت حياتها وحياة ابنها لخطر الموت. لسنا بهذا نقلِّل من شأن عمل أبينا إبراهيم لكننا لا ننكر سمو عمل هذه المرأة الأمميَّة، التي أفاض القديس أمبروسيوس في الحديث عنها، خاصة في مقاله عن الأرامل، إذ رأى فيها رمزًا للكنيسة التي لم تتمتَّع بعطايا إيليَّا، ببركات المسّيا فاتح السماء ليُمطر فيض أسراره الإلهيَّة.
* كانت المجاعة في كل موضع، ومع هذا لم تكن هذه الأرملة في عَوَز. ما هذه السنوات الثلاثة! أليست تلك التي فيها جاء الرب إلى الأرض ولم يجد في التينة ثمرًا، كما هو مكتوب: "هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد" (لو13: 7).
هذه الأرملة بالتأكيد هي التي قيل عنها: "ترنَّمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنُّم أيتها التي لم تتمخَّضْ، لأن بني المُسْتوْحِشة أكثر من بني ذات البَعْل" (إش 54: 1). إنها الأرملة التي قيل عنها: "تنسين خِزيْ صِباكِ وعار ترمًّلِك لا تذكُرينه بعد، لأن أنا هو الرب صانعك" (إش 54: 4).
ربَّما هي "أرملة" لأنها فقدت بالحق رجلها عند آلام جسده، لكنها تتقبَّله في يوم الدينونة ابن الإنسان الذي ظهر كأنها قد فقدته، فيقول: "لُحيْظَة تركتُكِ"، فإنه يتركها لكي يتزكَّى إيمانها في أكثر مجد...
الكنيسة هي عذراء وزوجة وأرملة، الثلاثة معًا في جسد واحد في المسيح. إنها إذن تلك الأرملة التي من أجلهاكانت توجد مجاعة للكلمة السماوي على الأرض، الأمر الذي أشار إليه الأنبياء. كانت أرملة عاقرًا لكنها حُفظت لتُنجب في الوقت المناسب...
من الذي فتح لها السماوات إلا المسيح الذي يُخرج من الخطاة طعامًا لنُمُو الكنيسة؟! فإنه ليس من سلطان إنسان أن يقول:"إن كوار الدقيق لايفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض" (1 مل 17: 14)... الرب الذي هو يهِب الأسرار السماويَّة على الدوام، والذي يُعد بنعمته الفرح الروحي الذي لا يبطل، مقدِّمًا مقوِّمات الحياة وأختام الإيمان وعطايا الفضائل[183].
القديس أمبروسيوس
لقد امتلأ اليهود غضبًا إذ رأوه يكسر تشامخهم، فأخرجوه من المدينة ليُلقوه من حافة الجبل الذي يُقام عليه المدينة. وكما يقول القديس أمبروسيوس:
[هذه هي خطيَّة اليهود التي سبق فتنبَّأ عنها النبي... فكان الرب يبسط مراحمه على الجموع، وكانوا هم يَكيلون له اللعنات. فليس عجيبًا أن يفقدوا الخلاص ويطردوا الرب الذي خضع لمشيئتهم (مسلِّمًا نفسه لهم)... فقد تألَّم بإرادته، إذ لم يقبض عليه اليهود بل سلَّم نفسه لهم عندما شاء هو أن يقبضوا عليه. عندما أراد سقط تحت الصليب وصُلب، لم يعوقه شيء عن إتمام العمل.
لقد صعد على الجبل وها هو يجوز في وسطهم ويمضي، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد...، ولأنه أيضًا كان يريد شفاءهم لا هلاكهم، حتى متى رأوه في وسطهم وفشلوا في دفعه إلى أسفل يتوبون. لقد جاز المسيح في وسطهم بقوَّة لاهوته، فهل كان يمكن لأحد أن يُمسك به هذا الذي لم تستطع الجموع أن تقبض عليه؟!]
يقول القديس كيرلس الكبير :[جاز المسيح في وسطهم ومضى إلى سبيله، ليس خوفًا من الألم، وإنما لأن ساعته لم تكن قد أتت بعد. كان المسيح في بدء عمله التبشيري، ولا يُعقل أن يترك ميدان العمل قبل نشر كلمة الخلاص والحق.]
يقول القديس أغسطينوس: [عندما جاءوا للقبض عليه بعد ما باعه يهوذا الخائن، الذي تصوَّر أنه قادر على تسليم سيِّده وربُّه، أظهر الرب أنه يتألَّم بإرادته وليس قسرًا. فعندما أراد اليهود القبض عليه قال: "من تطلبون؟" أجابوه: يسوع الناصري، قال لهم يسوع: أنا هو، وإذ سمعوا ذلك "رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض[184]" (يو18: 4-6).]
4. يسوع العامل بسلطان
"وانحدر إلى كفرناحوم مدينة من الجليل،
وكان يعلِّمهم في السِبوت.
فبُهِتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان" [31-32].
مدّ الصديق يده لأهله وأقاربه في مدينة الناصرة، لكنها إذ كانت قائمة على تلال عالية، هي تلال الأنا والذات ولم تقبل صداقته، وأراد سكَّانها أن يُلقوه من حافة الجبل حيث توجد المدينة. فانحدر السيِّد إلى كفر ناحوم أي "مدينة النِياح أو الراحة"، أما سِر راحتها فهي أنها كانت منخفضة تحت سطح البحر، تحمل روح التواضع فتقبل صداقة عريسها، وعمله الخلاصي فيها.
* خاطب المسيح الشعب في يوم السبت، فبُهِتوا من تعاليمه، لأنه كان يتكلَّم كمن له سلطان وليس كالكتبة. غُلب اليهود في أمره وبُهتوا لأنهم رأوا أمامهم معلِّمًا لا يخاطبهم كنبي فحسب، بل كإله عظيم تجثو له الروح قبل الجسد، ربّ الناموس. ولذلك نطق بمبادئ تسمو عن الناموس. طبقًا لقول الوحي: "وأقطع لكم عهدًا أبديًا مراحم داود الصادقة؛ هوذا قد جعلته شارعًا للشعوب رئيسًا وموصيًا للشعوب" (إش55: 3، أع13: 34).
القديس كيرلس الكبير
* تأمَّلوا رحمة مخلِّصنا المسيح فإنه لم يغضب بسبب الإهانة ولا تأثَّر بالظُلم ليترك اليهوديَّة، وإنما نسى آثامها ولم يفكِّر إلا في رحمته، لذلك صار تارة يُعلِّم، وأخرى يُنقِذ من الروح الشرِّير، وثالثة يشفي، باحثًا كيف يُليِّن قلب هذا الشعب الغليظ.
القديس أمبروسيوس
يقدِّم لنا العلامة ترتليان مفاهيم كثيرة للتعبير الإنجيلي "لأن كلامه كان بسلطان" [32]. فمن ناحيَة أنه لم يكن مجرَّد كلام، لكنه يحوي قوَّة العمل وفاعليَّته، لذا يقول لأتباع مرقيون: [اِسحبوا إسحبوا كل أقوال مسيحي، فإن أعماله تتكلَّم[185].] وكما قال السيِّد المسيح نفسه: "صدِّقوني إني في الآب والآب فيّ، وإلاَّ فصدِّقوني لسبب الأعمال نفسها، الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا ويعمل أعظم منها" (يو14: 11-12). فسلطانه لا بإظهار وحدانيَّته مع الآب خلال معجزات يقيمها بسلطان، وإنما خلال عمله فينا وسلطان العامل في حياتنا.
ومن ناحية أخرى فإن كلامه كان بسلطان إذ تمَّم الناموس والأنبياء، وكما يقول العلامة ترتليان في نفس الحديث: [حديثه الإلهي قدَّم سلطانًا ونعمة، بالحري كان يبني جوهر الناموس والأنبياء ولا يهدِمه[186].]
ومن ناحية ثالثة فقد ظهر سلطانه في حديثه من رعب الشيطان الذي لا يطيق حتى كلماته: [لقد عرف تمامًا أن يسوع هو ابن الله الذي يدين وينتقم وقاسي (على الشيطان) وليس مجرد شخص صالح[187].]
جاء السيِّد المسيح صديقًا عمليًا للإنسان ليس فقط يعلِّمه بسلطان، وليس كالكتبة والفرِّيسيِّين، وإنما يعمل لحسابه بسلطان، لهذا نجد إنسانًا به روح شيطان في المجمع لم يستطع الروح كعدو للبشر أن يحتمل وجود هذا الصديق بل قال: "آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟! أتيتَ لتُهلكنا، أنا أعرفك من أنت قدُّوس الله!"[34].
فزع الروح النجس من القدُّوس وشعر أنه يعمل بقوَّةوسلطان، إذ أحس بمملكته المُظلمة تنهار أمامه. أما السيِّد المسيح فلم يقبل شهادة الشيطان بل انتهره قائلًا: "اخرس واخرج منه" [35]. فأدرك الحاضرون كيف يأمر حتى الأرواح النجسة بسلطان وقوَّة فتخرج!
* أَخرج المسيح الأرواح النجسة، وشعرت بعِظم قوَّة المسيح، ولم تجد مناصًا وقد أصابها الفشل والهزيمة إلا أن تطلب من السيِّد بمكر ودهاء أن يتركها وشأنها، فليس ثِمة علاقة بين السيِّد والأرواح النجسة، إنما هذه لغة التملُّق والكذب. فقد اعترفت الأرواح الشرِّيرة بأن المسيح هو "قدُّوس الله" (4: 34)، ظنًّا منها أن ذلك يبعث فيه الغرور والخيلاء، فيرتدي السيِّد أثواب العظمة الفارغة، والأماني الباطلة، ويكف عن انتهارها وتأديبها. نعمان الشيطان كثير المكر والدهاء، ولكنه يقع بلا شك فريسة خداعه، لأن الرب لا يُخدع أبدًا، ولذلك أخرسها المسيح وأمرها ألاَّ تنطق ببنت شِفَّة.
لا غرابة بعد ذلك أن دُهش الجمع، لأن المسيح يقوم بصنع المعجزات من غير أن يطلب بالصلاة قوَّة من الأعالي، لأنه هو الله نفسه، هو كلمة الله الآب الذي به كون كل شيء، وبواسطته حُطِّمت شوْكة الشيطان، وخرَست ألسِنة الأرواح النجسة.
القديس كيرلس الكبير
* [تعليقة على إتمام أول الأشفية وإخراج الشيَّاطين في يوم السبت.]
بدأ الرب معجزات الشفاء في يوم السبت ليُعلن أن الخليقة الجديدة تبدأ حيث تنتهي القديمة، ولكي يُشير منذ البداية أن ابن الله لا يخضع للناموس، بل هو رب الناموس، جاء لا لينقُضه بل ليُكمِّله. فالعالم لم يُخلق بواسطة الناموس، بل بالكلمة كما هو مكتوب: "بكلمة الرب صُنعت السماوات" (مز32: 6). إذن لم يقصد المسيح أن ينقض الناموس بل يكمِّله حتى يجدِّد الإنسان الساقط، لذلك يقول الرسول: "اِخلعوا الإنسان العتيق واِلبسوا الجديد الذي يتجدَّد حسب صورة خالقه" (كو3: 5). وبدأ الرب بالعمل في السبت ليُظهر أنه الخالق يربط بين الأعمال ويكمل العمل الذي بدأه بنفسه، ذلك كالعامل الذي يستعد لإصلاح البيت فيبدأ بالأجزاء المتآكلة؛ يبدأ بالصغير ليصل إلى الكبير.
القديس أمبروسيوس
* [تعليقه على اعتراف الشيطان: أنا أعرَفك من أنت قدُّوس الله؟!]
يليق أن يوجد فارق بين إيماننا وإيمان الشيطان، فإن إيماننا يُنقِّي القلب، أما إيمانهم فيجعلهم يُخطئون ويصنعون الشرّ، إذ يقولون للرب: ما لنا ولك؟![188]
القديس أغسطينوس
5. شفاء حماة بطرس
كان شفاء الرجل الذي به روح شيطان نجس في داخل المجمع علانيَّة، والآن يشفي حماة بطرس في بيتها عندما دعاه بطرس ليأكل. فهو صديق عامل لحسابنا، أينما وُجد وتحت كل الظروف، يعمل في المجمع العام كما في البيت الخاص. وقد سبق لنا الحديث عن هذا الشفاء في دراستنا لإنجيلي متى (8: 5) ومرقس (1: 31). ورأينا كيف لم يطلب سمعان بطرس شيئًا لنفسه إذ لم يدعه لشفاء حماته، بل ليأكل فأعطاه الرب ما لم يسأله.
لم يسأل بطرس شيئًا لنفسه أو عائلته لكن المحيطين بالسيِّد "سألوه من أجلها"؛ صورة حيَّة لوحدة الحب العامل، وشفاعة الأعضاء لبعضها عن البعض أمام الرأس الواحد ربَّنا يسوع!
* ربَّما كانت حماة سمعان تُصوِّر جسدنا الذي أصابته حُمى الخطايا المختلفة ودفعته نحو الشهوات الكثيرة. هذه الحُمى ليست أقل من التي تصيب الجسد، إذ تحرق القلب، بينما الأخرى تحرق الجسد...
القديس أمبروسيوس
يعلِّق القديس أمبروسيوس على هذه الزيارة لحماة سمعان بالقول: [أنه لم يستنكف من زيارةالأرامل ودخول الحُجرات الضيِّقة في الأكواخ الفقيرة[189].]
سمع الكثيرون عمّا يفعله السيِّد المسيح، لكنهم لم يجسروا أن يحملوا المرضى إليه إلاَّ عند الغروب[40]، حيث ينتهي يوم السبت ويبدأ الأحد، فقد خشوا لئلاَّ يكسروا السبت بتصرُّفهمهذا. وكأن حفظ السبت في أعينهم أهم من الإنسان ومن شفائه! على أي الأحوال لم يعاتبهم في شيء، بل أعلن سلطان محبَّته، فكان يضع يده (غالبًا على شكلصليب) على كل واحد منهم وشفاهم [40].
* أرجو أيضًا أن تلاحظوا قوَّة جسده المقدَّس إذا ما مسَّ أحدًا، فإن هذه القوَّة تقضي على مختلف الأسقام والأمراض، وتهزم الشيطان وأعوانه، وتشفي جماهير الناس في لحظة من الزمن. ومع أن المسيح كان في مقدوره أن يُجري المعجزات بكلمة منه، بمجرَّد إشارة منه، إلا أنه وضع يديه على المرضى، ليعلِّمنا أن الجسد المقدَّس الذياتَّخذه هيكلًا له كان قوَّة الكلمة الإلهيَّة. فليربطنا الله الكلمة به، ولنرتبط نحن معه بشركة جسد المسيح السرِّيَّة، فبذلك يمكن النفس أن تُشفى من أمراضها وتتقوَّى على هجمات الشياطين وعدائها.
القديس كيرلس الكبير
إذ دعا سمعان بطرس السيِّد المسيح إلى بيته لم تُشفَ حماته وحدها، وإنما صار بيته مركزًا حيًا يأتي إليه المرضى والمتعبين من الأرواح النجسة، لينعموا بعمل السيِّد المسيح فيهم. هكذا إذ يدخل الرب قلوبنا ينعم الكثيرون معنا براحته وسلامه.
ويرى القديس كيرلس الكبير أن هذه الجماهير التي تمتَّعت بعمله تشير إلى حياة الإنسان بكل طاقتها وعواطفها وإمكانيَّاتها إذ تتمتَّع بالشفاء والراحة فيه.
على أي الأحوال كانت الشيَّاطين تصرخ: أنت المسيح ابن الله" [41]. أما هو فكان ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون. يقول القديس كيرلس الكبير: [لم يدع المسيح الشيَّاطين أن يعترفوا به لأنه لا يليق أن يغتصبوا حق الوظيفة الرسوليَّة. كذلك لا يجوز أن يتكلَّموا بألسِنة نجسة عن سرّ المسيح الفدائي. نعم يجب ألا تصدِّق هذه الأرواح الشرِّيرة حتى لو تكلَّمَت صدْقًا. لأن النور لا يُكشف بمساعدة الظلام الدامس، كما أشار إلى ذلك رسول المسيح بالقول: "وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟!" (2 كو 6: 14-15).] ويقول القديس أمبروسيوس:[طبيعة الشيطان يعترف بالمسيح، لكنه يُنكره بأعماله.]
ويرى القدِّيس ذهبي الفم[190]في منع السيِّد الشيَّاطين من النطق أنه هو المسيح، وهو يشفي أجساد المرضى ومن بهم أرواح شرِّيرة، أراد أن يشفي أرواحهم فعلَّمهم أنه لا يصنع هذا للاستعراض وطلبْ المجد الزمني. هكذا يليق بهم ألاَّ يطلبوا المجد الزمني.
6. كرازته في مجامع الجليل
إذ صنع السيِّد المسيح أشفية كثيرة عند غروب الشمس، مع بداية يوم الأحد، ولا ندري كم من الساعات قضاها السيِّد مع الجموع القادمة تلتمس الشفاء، إنما يُخبرنا الإنجيلي أنه إذ صار النهار [42]، أي في الصباح المبكِّر ذهب إلى موضع خلاء، ساحبًا قلوب الخدَّام الأمناء إلى اللقاءات الخفيَّة مع الآب حتى لا يضيع الهدف منهم.
على أي الأحوال لم تتركه الجموع وحده فانطلقت تفتِّش عليه وقد أمسكوه لئلاَّ يذهب عنهم. وفي حب شديد أعلن: "ينبغي لي أن أبشر المدن الأخرى أيضًا بملكوت الله" [43]. ويمكننا أن نقول كلما اختلى الخادم مع الله اِلتهب قلبه بالأكثر نحو خلاص العالم، فالحياة التأمَُّليَّة الصادقة هي التي تفتح القلب بالأكثر وتُلهبه نحو الشوق لخلاص الكل.
لوقا 4 - تفسير إنجيل لوقا صديقنا يُجُرِّب مثلنا الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي 3. يسوع المرفوض من خاصته قدَّم لنا لوقا البشير صورة حيَّة لعمل هذا الصديق العجيب، فقد جاء إلى الناصرة حيث تربَّى ليخدِم، ومع أن الجميع كانوا يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه لكنهم تعثَّروا فيه لأنهم حسبوه ابن يوسف. وحين بدأ يحدِّثهم عن انفتاح صداقته على الجميع- حتى الأمم- قرَّروا طرحه من حافة الجبل، أما هو فجاز في وسطهم ومضى. نشأ السيِّد المسيح في الناصرة، ذاك الذي وهب العالم الخلاص والحياة، بينما حكمت مدينته على نفسها بالهلاك والموت. ما فعله أهل الناصرة هو جزء لا يتجزَّأ من خُطَّة الصليب. "وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربَّى، ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت، وقام ليقرأ"[16]. * لما كان من الضروري ظهور المسيح للإسرائيليِّين حتى يعرفوا حقيقة التجسَّد إذ كانوا يجهلونه، وبما أن المسيح مسحه الله الآب مخلِّصًا للعالم بأسره، لزم من أجل كل ذلك أن يظهر المسيح نفسه للشعب اليهودي وغيره من الشعوب الأخرى ويكشف عن عمله الفدائي للشعوب قاطبة. إلا أن السيِّد المسيح أوْلى يهود الناصرة فضلًا عظيمًا بأن زارهم، وكان قد تربَّى كإنسانٍ في وسطهم. وما أن دخل المسيح بلدة الناصرة أخذ مجلسه في مجمعها، وفتح السفر وقرأ فصلًا يشير إلى الفداء، وكيف أن المسيح الكلمة يظهر للعالم كإنسانٍ بقصد امتلائه وتخليصه. وإننا نعتقد بحقٍ أنه لم يكن هناك طريقة بها يمسح المسيح المسحة المقدَّسة سوى أن يأتي إلى العالم كإنسانٍ ويتَّخذ طبيعة إنسان. كان المسيح إلهًا متأنِّسًا، وبصفته إلهًا يهب الروح القدس للخليقة بأسرها، وبصفته إنسانًا يتسلَّم الروح القدس من الله أبيه. بينما المسيح يقدِّس الخليقة قاطبة سواء كان ذلك بإشراق طلعته البهيَّة من المسكن الأعلى مسكن الله الآب، أم يمنح الروح القدس للعالم السماوي الذي يَدين به، وللعالم الأرضي الذي يعترف بتجسُّده. القديس كيرلس الكبير "فدُفع إليه سفر إشعياء، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه: روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين"[17-18]. * لم يحدُث هذا على سبيل الصدفة، وإنما بتدخُّل النعمة الإلهيَّة، إذ بسط يسوع الكتاب ووجد الأصحاح الذي يتنبأ عنه... قرأ النص الذي يخص "سرّ المسيح":بدقَّة: "روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين". فالنص يتحدَّث عن المسيح، وقد جاء ليس صدفة، بل حسب المشيئة الإلهيَّة والنعمة. بهذه المناسبة لاحظوا هذه الكلمات وكيف طبَّقها يسوع على نفسه في المجمع. "مسحني لأبشِّر المساكين" بالحق كانوا هم المساكين الذين لا يملكون قط لا الله ولا نبي ولا العدل ولا أية فضيلة، قد أُرسل لهذا السبب يسوع من أجل المساكين[177]. العلامة أوريجينوس * يؤكِّد الرب نفسه أنه هو الذي تكلَّم في النبوَّات. لقد أخذ المسحة المقدَّسة والقوَّة السماويَّة... ليحل سبي الروح وينير ظلمة الفكر، ويكرز بسَنة الرب التي تمتد عبر السنين اللانهائية، وتهب البشر استمراريَّة الحصاد والراحة الأبديَّة. لقد أغنى كل المهن واحتضنها، ولم يحتقر مهنة ما، بينما نحن الجنس الوضيع نرى جسده ونرفض الإيمان بلاهوته الذي يُعلن خلال معجزاته. القديس أمبروسيوس * "وروح الرب علي، لأنه مسَحني لأبشِّر المساكين" [18]. يستنتج من هذه الكلمات أن المسيح أخلى نفسه من الأمجاد السماويَّة حبًا في خلاصنا، لأن الروح القدس بطبيعته في المسيح، فكيف ينزل على السيِّد من أعلى؟! كذلك في نهر الأردن نزل الروح القدس ليمسح يسوع، لا لسبب إلا لأن المسيح وطَّد نفسه على إسداء نعمة الخلاص لنا وتقديم الروح القدس لنا، فإننا كنا خالين من نعمة الروح القدس على حد قول الوحي: "فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد" (تك6: 3). نطق المسيح المتجسِّد بهذه الكلمات لأنه إله حق من إله حق، وتجسَّد بدون أن يتغيَّر أي تغيير ومُسِح بدُهن الفرح والابتهاج، ونزل عليه الروح القدس على شكل حمامة. وإننا نعلم أن الملوك والكهنة مُسِحوا في الزمن القديم حتى تقدَّسوا بعض التقديس، أما المسيح فدُهِن بزيت التقديس الروحي، متسلِّمًا هذه المسْحة ليس منأجل نفسه، بل من أجلنا لأنه سبق أن حُرم الناس من الروح القدس، فخيَّمت سحابة الحزن والكآبة على وجّه الأرض. القديس كيرلس الكبير "أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعُمي بالبَصر، وأرسل المنسحقين في الحريَّة. وأكرز بسَنة الرب المقبولة"[18-19]. * كنا مأسورين في أسر إبليس وسجنه، وجاء يسوع ينادي للمأسورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر، إذ كلماته وبشارته تجعل العُمي يبصرون... كان الإنسان مذنبًا وقاتلًا ومأسورًا قبلما يحصل على الحريَّة ويشفيه يسوع[178]. العلامة أوريجينوس * نادى المسيح بإطلاق سراح الأسرى بأن قيَّد قدميّ الشيطان بالأغلال، وكان طاغية باغية يتسلَّط على رِقاب الناس، وسرق من المسيح رعيَّته وخليقته، فرَدَّ السيِّد ما نهبه إبليس ظُلمًا وعُدوانًا. أرسل المسيح ليهدي قلوبًا غواها الشيطان، فأسدل ستارة من الظلام الدامس، أما المسيح فبدَّد غشاوة الليل الحالك، وأصبحت رعيَّته تسير في الضوء الوهَّاج والنور الساطع، كما ورد في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا من ظلمة" (1 تس 5: 5). لقد أبصر العميان، وأُنيرت الطرق، ومُهِّدت المرتفعات، وذلك بمجيء المسيح المخلِّص الفادي: "أنا الرب دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم" (إش42: 6). جاء المسيح فأعلن عهدًا جديدًا لإخوته الإسرائيليِّين، ولكن لم يحتكر اليهود هذا الضوء الوهَّاج، بل سطع نور المسيح البهي على الأمم، فأطلق المأسورين وحرَّر المنسحقين، وكل ذلك يدل على أن المسيح إله بطبيعته فهو إله حق من إله حق. وما المراد بالقول: "أنادي المأسورين بالإطلاق"؟ تُشير هذه الآية إلى جمهور البؤساء التُعساء الذين أوقعهم الشيطان في حبائله. وما معنى القول: "أكرز بسَنة الله المقبولة"؟ تُشير هذه الآية إلى جلال الأخبار المُفرحة التي تُعلن قدوم السيِّد المسيح، هذه هي السَنة المقبولة التي شاء المسيح فصُلب فيها نيابة عنَّا، لأن بصلبِه قبِلَنا الله الآب وكنَّا بعيدين عنه، إذ ورد: "وأنا إن اِرتفعت من الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو12: 32). حقًا قام المسيح في اليوم الثالث، منتصرًا على قوَّة الموت، ولذلك يقول: "دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (مت 28: 18). أليست هذه السَنة سنَة مقبولة، وقد انضممنا إلى أسرة المسيح، وخفق علينا علم يسوع، وتطهَّرنا بالعِماد المقدَّس، واشتركنا في طبيعة المسيح الإلهيَّة، بنيْلنا الروح القدس؟! إنها السَنة مقبولة تلك التيأَظهر فيها المسيح مجده بمعجزات باهرة، وقبِلْنا بفرح وابتهاج نعمة الخلاص والفداء على حد قول بولس الحكيم: "هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص" (2 كو6: 2). حقًا أنه مقبول إذ فيه فازت الأمم بكنز الإنجيل السمائي، ونالت رسالة السماء المُفرحة، وكانت في الماضي بعيدة عن نعمة الخلاص، لا أمل لها بالنجاة، وليس إله تقصد إليه في العالم. أما الآن فنحن أعضاء في المملكة المسيحيَّة، وشركاء طغمة القدِّيسين الصالحة، وورثة نعم وبركات يقصُر عن تصوُّرِها العقل وعن وصفها اللسان: "ما لم ترَ عين ولم تسمع به إذن ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو2: 9). وتشير عبارة: "المُنكسري القلوب" إلى ضعاف القلوب مزعزعي العقيدة، هؤلاء الذين لا يُمكنهم مقاومة الميول والشهوات، فيرخون العنان لعواطفهم الدنيئة، فيشتدْ الخِِناق عليهم ويضيق بهم مكان الأسر. أما المسيح فيعد مثل هؤلاء المأسورين بالإطلاق ويناشدهم قائلًا:إرجعوا إليّ فأشفيكم، وأغفر لكم إثمكم وخطيَّتكم. أما الذين عمَت بصائرهم فإن المسيح يهبهم الضوء والنور؛ هم عميان لأنهم عبدوا المخلوق دون الخالق:"قائلين للعود أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" (إر 2: 27). هؤلاء الناس جهلوا طبيعة المسيح الإلهيَّة فحُرم عقلهم من النور الروحي الحقيقي. وليس هناك من معترضٍ على نسبة هذه الأمور كلها إلى جماعة الإسرائيليِّين، فقد كانوا فقراء ومنكسري القلوب وأسرى، يهيمون في دُجى الليل الحالك "الكل قد زاغوا معًا وفسدوا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (مز14: 3). نزل المسيح فبُشِّر الإسرائيليِّين قبل غيرهم من الشعوب، أما الأمم الأخرى فلم تكن دون الإسرائيليِّين عُمي وجُهلاء، ولكن المسيح أغناها بحكمته وهذبها بعلمه، فلم تظل ضعيفة العقل سقيمة الرأي، بل أصبحت سليمة المذهب قويَّة الحجة. القديس كيرلس الكبير "ثم طوى السفر وسلَّمه إلى الخادم وجلس وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم"[20-21]. جاءت كلمات السيِّد المسيح مفسِّرة لهذه النبوَّة جذَّابة، لأنها لم تكن مجرَّدة، وإنما كانت عملًا إلهيًا تحقَّق بمجيئه، لذلك يقول: "كانت عيونهم شاخصة إليه". * لما نطق المسيح بهذه الآيات البيِّنات دُهش سامعوه، وتساءلوا فيما بينهم من أين له هذه الحكمة البليغة، ولم يدرس الآداب اليهوديَّة؟! لأنه كان عادة اليهود أن يفسِّروا النبوَّات الخاصة بالمسيح بأنها تمَّت، إما في ملوكهم أو في أنبيائهم، لأنهم جنحوا عن طريق السداد والرشاد واتَّخذوا مسلكًا ملتويًا مرذولًا. وتجنبًا للخطأ الذي طالما سقط فيه اليهود، ومنعًا لكل غموض قد يقعون فيه، خاطبهم المسيح في صراحة تامة: "أنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم" (لو 4: 21). صارحهم المسيح بأنه هو الذي تُشير إليه النبوَّة، لأن المسيح هو الذي بشَّر بكلمة الخلاص للشعوب الوثنيَّة، وكانوا مساكين معدمين لا إله ولا شريعة ولا أنبياء. وبالأولى بشَّر قومًا حُرموا زمانًا طويلًا من المواهب الروحيَّة، وأطلق سراح مأسورين، تحمّلوا مرارة الأغلال والأصفاد. وأنار سبيل الحق والفضيلة، وكانت سحابة الظلام الحالك تسُد عليهم المنافذ والطرق، ولذلك قال السيد: "قد جئت نورًا إلى العالم" (يو 12: 46). حطَّم المسيح أغلال الإثم، وأعلن قضاء العدل وأخيرًا نادى بسَنة مقبولة، هي علامة مجيئه الأول، وراية خلاصه وشعار الجنس البشري أجمع. "وكان الجميع يشهدون له ويُعجبون"(لو 4: 22). لم يُدرك الإسرائيليُّون مكانة المسيح، ولم يعرفوا أنه مسيح الرب إله القوَّات والمعجزات، فزاغوا عن تعاليمه وتكلَّموا بالباطل ضِدُّه، ومع أنهم قدَّروا كلمات الحكمة التي نطق بها السيِّد المسيح إلا أنهم سعوا بروح الشك والغموض فقالوا: "أليس هذا ابن يوسف؟!" (4: 22). وهل حجب هذا السؤال نور المعجزات الساطع، ولِمَ لا يُقابَل المسيح بالاحترام والإجلال رغمًا عن كونه ابن يوسف؟ ألم ير الإسرائيليُّون المعجزات؟! وألم تُقبَر الخطيئة في لحْدِها ويُسجن الشيطان في الهاوية، وتُهزَم جيوشه هزيمة منكَرة؟! أثنى اليهود على سيل النعمة الذي جرى على لسان المسيح، ولكن غمروه حِقدًا، لأنه ينتسب إلى يوسف. إنه لجهلٍ ليس بعده جهل، فحق عليهم قول الوحي: "اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يُبصرون، لهم آذان ولا يَسمعون" (إر 5: 21). القديس كيرلس الكبير * "وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه"[20] حتى وقتنا الحاضر يحدث هذا، ففي مجمعنا واجتماعاتنا يمكن أن تشخص عيوننا إلى المخلِّص، توجَّه نظرات أكثر عمقًا، فتتأمَّل في ابن الله الوحيد، الحكمة والحق... كم اشتاق في هذه الجماعة أن يكون للكل من موعوظين ومؤمنين ورجال ونساء وأطفال عيون للنفس لا الجسد مشغولة بالنظر إلى يسوع. فإن النظر إليه يجعل نوره ينعكس فتصير وجوهكم أكثر ضياء[179]. العلامة أوريجينوس "فقال لهم: على كل حال تقولون لي هذا المثل: "أيها الطبيب اِشف نفسك. كم سمعنا أنه جرى في كفر ناحوم فافعل ذلك هنا أيضًا في وطنك. وقال: الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولاً في وطنه"[23-24]. كأنهم يقولون له: يا من رفعت نفسك في البلد الغريب خلال عمل المعجزات،اِصنع معجزات بين أهلك وأقاربك في بلدك، إذ ظنُّوا أن السيِّد المسيح يطلب مجدًا زمنيًا أو كرامة من البشر. * "على كل حال تقولون لي هذا المثل اِشف نفسك"(لو 4: 23). كان هذا المثل مألوفًا لدى اليهود وأُُطلق على جماعة الأطبَّاء والحُكماء، فإذا أصاب طبيبًا مرضًا ما قالوا له: "أيها الطبيب اشف نفسك" بيّن المسيح لليهود بأنهم يطلبون إليه أن يجري أمامهم مختلف المعجزات، خصوصًا وأن بلدته التي تربَّى فيها أحَق من غيرها بهذه القوَّات والعجائب، إلا َّأن المسيح أفهمهم أن المألوف منبوذ، بدليل أنه بعد سماعهم كلمات الحكمة والنعمة التي نطق بها امتهنوه بالقول: أليس هذا ابن يوسف؟! فليس بعيدًا إذن أن يتمادوا في حجب عيونهم عن النظر إلى تعاليمه "الحق الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولًا في وطنه" (4: 24). القديس كيرلس الكبير لم يرفض السيِّد المسيح هذا المثل، إذ يليق بكل معلِّم أن يُعلن تعاليمه خلال حياته قبل كلماته، وإلا انطبق عليه هذا المثل بكونه يقوم بدور الطبيب الذي يدَّعي قدرته على شفاء المرضى، بينما يُعاني هو نفسه من المرض. إنما أوضح أنه لا ينطبق عليه. إذ كانت أعماله تشهد بالأكثر عن أقواله... إنما سِرّ تعثُّرِهم في السيِّد إنما ينبع عن رفضهم له لمجرد أنه من موطنهم، فينطبق عليهم المثل الآخر "ليس نبي مقبولًا في وطنه" [24]. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [بهذا وضع السيِّد نفسه العمل قبل التعليم... فمن لا يقدر أن يعلِّم نفسهويحاول أن يصلح من شأن الآخرين يجد الكثيرون يسخرون منه. بالحري مثل هذا لا يكون له القدرة على التعليم مطلقًا، لأن أعماله تنطق بعكس أقواله[180].] * "ليس نبي مقبولًا في وطنه". إذ كانت عناثوت وطن إرميا (إر 11: 21) لم تُحسن استقباله؛ وأيضًا إشعياء وبقيَّة الأنبياء رفضهم وطنهم أي أهل الختان... أما نحن الذين لا ننتسب للعهد بل كنّ