يوحنا 1 - تفسير إنجيل يوحنا
الكلمة المتجسد الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
في دهشة تقف النفس لتشهد في سكون عميق الإنجيلي القديس يوحنا الحبيب وقد صار أشبه بنسرٍ طائرٍ، يحلق لا في جو السماء المنظورة، بل في جو الإلهيات التي لا يُنطق بها. إنه كمن يدعونا أن نعبر معه إلى ما وراء الزمن لنرى كلمة الله الذي لا يفارق العقل الإلهي، والعقل الذي لن ينفصل عن كلمته؛ الابن الوحيد الجنس الواحد مع أبيه في ذات الجوهر. إنه يدعونا لنرى ونلمس واهب الحياة ومصدر النور، خالق الزمن، ومُوجد كل خليقة في السماء وعلى الأرض وكأنه لا يشغله أمر ما سوى الإنسان محبوبه الفريد!
بإعلان الروح القدس لا يسجل لنا الإنجيلي كتابًا مجردًا، بل يحملنا إلى حقائق إلهية تمس كياننا ومستقبلنا الأبدي ومجدنا، نغرف من فيض الحب الإلهي الذي لا يُعبر عنه بلسان بشري.
الشهادة للسيد المسيح
في هذا الأصحاح يتحدث القديس يوحنا عن لاهوت السيد المسيح فيقدم لنا شهادته هو [1-5؛ 10-14؛ 16-18]، وشهادة القديس يوحنا المعمدان [6-9؛ 15؛ 19-37]، وإعلان السيد المسيح نفسه لأندراوس [38-42]، ولفيلبس [43-51]، وشهادتهما له.
1. شخص يسوع المسيح بكونه اللوغوس الأزلي الواحد في الجوهر مع الآب والأقنوم المتمايز عنه [1-2]. هو واهب الحياة والنور، وفيه ننال سلطان التبني للآب [3-13].
2. يفتتح معلمنا يوحنا البشير السفر بتقديم الكلمة الإلهي كمصدر النعم الإلهية، خاصةنعمة الخلق ونعمة البنوة لله مع فيضٍ من النعم "نعمة فوق نعمة" [16-18]، يتحدث عنها بفيض في الأصحاحات التالية.
3. شهادة القديس يوحنا المعمدان أمام إسرائيل الرسمي: "كهنة ولاويين" الذين جاءوا يقدمون له ثلاثة أسئلة، وكانت إجابته عليهم مختصرة للغاية. شهادة تمثل مجابهة علنية بينه وبينهم. إجابته تتلخص في أنه ليس له اسم، إنما هو مجرد "صوت صارخ" أمام المسيح [19-28].
4. شهادة القديس يوحنا المعمدان أمام تلاميذه [29-37]حيث يبادر بالكلام ويسهب فيه. لأنه يتحدث مع البقية التي تنبأ عنها إشعياء النبي: "ترجع البقية، بقية يعقوب إلى الله القدير" (إش 21:10). يتحدث القديس يوحنا المعمدان مع إسرائيل الجديد الذين يؤمنون بالسيد المسيح، ليدخل بهم إلى العهد الجديد. يؤكد لهم أن المسيّا يأتي لا في صورة ملوكية مجيدة كما يظن اليهود بل كمتألم ومخذول، مجده الحب وحمل خطايا العالم [36].
5. تبعية تلاميذ القديس يوحنا المعدان للسيد المسيح، حيث يتم لقاء حقيقي شخصي وعميق يؤول إلى تغيير كامل للحياة كما للكيان والاسم. فنرى السيد المسيح يدخل إلى صميم نفس سمعان، ويحتل أعماقها، ليحوله إلى بطرس الرسول؛ فيغير اسمه ورسالته وحياته وكيانه كله [42].
6. دعوة السيد المسيح لبقية تلاميذه في الجليل منذ البداية. يعلن الإنجيلي عن رؤية السرّ الأخروي المخفي، حيث يؤكد انفتاح السماء وصعود الملائكة ونزولهم على شخص السيد المسيح [50-51].
تقسيم الأصحاح:
1. الكلمة الإلهي
1-13.
اللوغوس
2. الكلمة صار جسدًا
14-18.
شهود للكلمة المتجسد
3. شهادة يوحنا المعمدان له
19-34.
ماذا يُقصد بالعالم؟
4. شهادة تلاميذه الأولين له
35-53.
دعوة فيلبس ونثنائيل
ملحق للأصحاح الأول عن النعمة الإلهية
ماذا تعني النعمة؟
النعمة وكلمة الله
نعمة الخلق
نعمة حرية الإرادة
نعمة الناموس
نعمة إعادة ما فقدناه
نعمة القيامة والغلبة على الموت
نعمة التبني لله الآب
نعمة الروح القدس
نعمة الشركة في الطبيعة الإلهية
نعمة اقتناء حياة المسيح
نعمة رائحة المسيح الذكية
نعمة الفضيلة
نعمة الآب والابن
نعمة ميراث الملكوت
نعمة الخلود فيه
نعمة التمتع بمعرفة الحق الإلهي
نعمة الثبوت في الآب والابن
نعمة الشبع والفرح
نعمة النور
نعمة الكرازة والشهادة
نعمة ديناميكية
نعمة جامعة
واهب النعمة يطلب النعمة لحسابنا
من وحي يو 1
1. الكلمة الإلهي
يبدأ الإنجيل بحسب القديس يوحنا بافتتاحية أو مقدمة تختلف عن افتتاحية بقية الأناجيل الإزائية. افتتاحية مرقس الرسول تقدم وصفُا للقديس يوحنا المعمدان وعمله كملاكٍ يهيئ الطريق أمام السيد المسيح الذي طالما اشتهى الآباء والأنبياء أن يروا يوم مجيئه.وافتتاحية متى البشير تقدم تسلسل يسوع المسيح عن إبراهيم، وقصة ميلاده بكونه الملك الفريد الذي جاء ليقيم مملكة داود الساقطة، ويجعل من مؤمنيه شعبًا ملوكًيا.ويفتتح لوقا الرسول إنجيله بمقدمة أدبية رسمية (1:1-4)، يتبعها عرض لميلاد المعمدان ثم ميلاد يسوع المسيح الذي يشبع بحبه الباذل وصداقته الفريدة كل قلبٍ، ويملأ كل فراغ في الداخل.أما يوحنافيبدأ بالكشف عن شخصربنايسوع قبل التجسد بكونه الكلمة الأزلي، لكي نتخطى كل زمن وننطلق إلى حضن الآب الأزلي، فنتعرف على خطة الله من نحونا ومشيئته لخلاصنا ومجدنا الأبدي. يعرفنا على ذاك الذي نشاركه مجده ونعيش معه إلى الأبد. أبرزت المقدمة [1-18] ما ورد في السفر ككل أن الله يعلن عن نفسه خلال كلماته [1-13] كما خلال أعماله [2-5]، وأخيرًا خلال التجسد الإلهي لمجد الآب [14-18].
كُتبت الافتتاحية في أغلبها كقطعة شعرية متميزة من جهة الأسلوب والمفردات عن بقية السفر مما جعل بعض الدارسين يتساءلون إن كانت هذه الافتتاحية هي لحن كنسي اقتبسه الرسول، أو إضافة قدّمها الرسول بعد أن كتب بقية السفر كملخص يكشف عن هدف السفر ويفسر معناه. أو هي مقدمة كتبها ليُعلن عن موضوع كتابته مقدمًا. لكن الحقيقة هي أنغاية الافتتاحية أن تقدم للقارئ شخص يسوع المسيح موضوع السفر، بكونه الكلمة الأزلي، العامل مع الآب في الخليقة. بكونه الله نفسه يعلن عن الآب، ويقدمه لنا كما يقدم نفسه لنا. إنه حكمة الله المتحدث معنا، والذي يقدم ذاته كلمة الله لكي نقتنيه سرّ حياة أبدية. إنه حياة الكل، ونور كل إنسان. هذا الأزلي صار جسدًا وعاش كإنسانٍ، رفضه خاصته اليهود بالرغم من شهادة القديس يوحنا المعمدان له. لكن وُجدت بقية أمينة قبلته فصاروا أبناء الله وأعضاء في العائلة الإلهية.
في كل صباح نتغنى بهذه المقدمة وما يليها (يو1:1-17)، لكي ما ندرك أن بدايتنا اليومية الجديدة مصدرها الالتقاء بذاك الذي وحده يرفعنا إلى ما فوق الزمن ليدخل بنا إلى حضن أبيه، دون أن يحتقر الزمن أو يستخف به، بل يقدسه كطريق للعبور إلى ما وراء الزمن. في صلاة باكر نتذكر أن مسيحنا المخلص هو الألفا والأومجا، البداية والنهاية، فنتمتع ببداية مقدسة ونهاية مجيدة.
يقول القديس أغسطينوس[79] أن صديقه سمبليشيوس Simplicius أخبره بأن فيلسوفًا أفلاطونيًا قال بأن هذه العبارات التي جاءت في بداية إنجيل يوحنا تستحق أن تُكتب بحروفٍ من ذهبٍ.
وذكر متى هنري عن فرنسيس جوني Francis Junius الذي فقد كل القيم الدينية في شبابه، وقد استعادها بنعمة الله خلال قراءته لهذه الأعداد عن غير قصدٍ منه، قدمها له والده. شعر بقوتها وسلطانها عليه فقضى يومه كله لا يُدرك أين هو ولا ما كان يفعله، وكان جسمه مرتعبًا. وكان ذلك اليوم هو بداية حياته الروحية.
تقدم لنا العبارات (1-13) ثمان حقائق عظمى عن شخص ربنا يسوع المسيح، وهي:
أ - كان ولا يزال الأزلي: "في البدء كان الكلمة" [1].
ب - كان ولا يزال الأقنوم المتمايز عن أبيه: "وكان عند الله" [1].
ج - كان الكلمة ولا يزال هو الله [2].
د - هو شريك مع الآب في الأزلية [2].
ه - هو خالق المسكونة [3].
و - هو مصدر كل حياة ونور [4، 5، 9].
ز - الإله الذي يعلن عن ذاته للعالم الساقط [10].
خ - دخل إلى عالم الإنسان، وخاصته لم تقبله [11]، أما الذين قبلوه فنالوا ميلادًا جديدًا [12-13].
اللوغوس
جاء في النسخة الكلدانية Chaldee في إعادة صياغة العهد القديم دعوة المسيّا بكلمة Memra أي "كلمة يهوه"، وأن الكثير من الأمور الواردة في العهد القديم التي تحققت بالرب، إنما تمت بكلمة الرب. وأيضًا تعلم اليهود بوجه عام أن "كلمة الله" كانت مع الله.
تُستخدم كلمة "لوغوس" بمعنيين:
* الكلمة التي يُحبل بها endiathetas Logos، أي الفكر الذي تحبل به النفس، خلاله تتحقق كل الأعمال، وهي واحدة مع النفس. لذلك لاق بالأقنوم الثاني أن يُحسب كلمة الله، مولودًا من الآب بكونه الحكمة الأساسي الأزلي؛ ليس شيء أكثر يقينًا من أننا نفكر، وليس شيء أكثر غموضًا من معرفة كيف نفكر.
* الكلمة المنطوق بها Logos prophorika، التي هي الكلام، وهو الإشارة الطبيعية لما في الذهن. هكذا المسيح هو الكلمة التي تحدث به الآب في آخر الأيام (عب 2:1)، ويوجهنا لكي نسمع له (مت 5:17). خبرنا عن ذهن الآب كما يخبرنا الكلام عما في فكر الإنسان. إنه الكلمة الذي يحدثنا بما للآب، إذ هو الحق والآمين، والشاهد الصادق للذهن الإلهي. هنا يختلف عن يوحنا المعمدان الذي هو "صوت صارخ" وليس الكلمة الإلهي.
يقارن القديس أغسطينوس بين الخبز الذي يشبع البطن والكلمة التي تشبع الذهن. فإنه إن قدم خبزًا للشعب لا يستطيع أن يقدم ذات الخبزة لكل الحاضرين، أما الكلمة فيقدمها للكل، وتستقبلها أذهان جميع الشعب بالكامل. حقًا عجيبة هي كلمة الإنسان يقدمها ليسمعها الكل بلا نقص، فكم تكون كلمة الله الخالق؟
* إن كنت أود أن أطعمكم فلا أملأ أذهانكم بل بطونكم، وأقدم لكم خبزًا لأشبعها بها، أما تقسمون الخبز فيما بينكم؟ هل يمكن لخبزي أن يأتي إلى كل واحدٍ منكم؟ فإن ناله أحد لا ينال البقية شيئًا. لكن الآن انظروا، فإني أتحدث وأنتم جميعًا تستقبلون الكلمة لا، ليس فقط جميعكم تستقبلونها، وإنما أيضًا الكل يستقبلون الكلمة بالكامل. يا لعجب كلمتي! فماذا عن كلمة الله؟! استمعوا أيضًا، إني أتحدث ما أنطق به فيأتي إليكم الكلام ولا يفارقني. يبلغ إليكم ولا ينفصل عني. قبل أن أتكلم كنت أملك الكلمة ولم تكن لديكم. لقد تكلمت وبدأتم تنالونها دون أن أفقد شيئًا منها. يا لعجب كلمتي! فماذا تكون إذن كلمة الله؟![80]
القديس أغسطينوس
* يا لكم من أغبياء، تتحدثون كمن لا يميزون بين الكلمة المنطوق بها والكلمة الإلهي، الثابت سرمديًّا، مولود من الآب؛ أقول أنه مولود وليس فقط منطوق به. الذي لا يوجد فيه مقاطع كلمات، بل كمال اللاهوت السرمدي، والحياة التي بلا نهاية (كو19:1؛ 9:2؛ 4:3؛ يو4:1؛ 26:5؛ 25:11؛ 6:14؛ رؤ18:1)[81].
القديس أمبروسيوس
"في البدء كان الكلمة،
والكلمة كان عند الله،
كان الكلمة الله" [1].
جاءت هذه العبارة في ثلاثة مقاطع موزونة موسيقيًا في اللغة العبرية، حيث يتكرر في الثلاثة الاسم "الكلمة" والفعل "كان". هنا الفعل يدل على الكينونة الدائمة القائمة في البدء لا على الزمن. في هذه المقاطع: كان الكلمة في البدء، وكان مع الله، وكان هو الله.
"في البدء": بدأ سفر التكوين بعبارة "في البدء خلق الله"، أي أنه يتكلم عن بداية المخلوقات، أي بدء الزمن بالخلقة. أماالبدء في إنجيل يوحنا فهو ما قبل الخلق والزمن والتاريخ، حيث لم يوجد سوي الله الكائن بذاته. يبدأ ببداية الكينونة "في البدء كان الكلمة" أي أن الكلمة أزلي هو بدأ بما لا بداية له. وقد كرر الرسول هذا الفكر حين قال الرب لليهود: "أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به" (يو 25:8)، أي أنا الكائن المتكلم في الأصل أو منذ الأزل. جاء أيضًا في بداية رسالته الأولى: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا" (1 يو 1:1). وقد قال أيضًا للجموع: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يري يومي فرأي وفرح... قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (56:8، 58).
قدم العلامة أوريجينوس معانً كثيرة لكلمة "البدء"، كما ميز بين البدء في علاقته بالخالق، والبدء في علاقته بالخليقة. إنه البدء بكونه حكمة الله وقوة الله (١ كو ١: ٢٤).
يؤكد الرسول أن الكلمة هو "في البدء"، ليس فقط قبل التجسد بل قبل كل الأزمنة. جاء العالم إلى الوجود بخلقه من البدء، أما الكلمة فكان موجودًا في البدء، أي قبل الأزمنة. لقد عبر المرتل عن أزلية الله أنه قبل وجود الجبال (مز2:90؛ أم23:8).
إنه مع الله، فلا يظن أحد أن الإيمان بالكلمة يسحبه عن الله، وكان الكلمة عند الله إذ لا ينفصل عنه قط، من ذات جوهره (عب 3:1). وهو موضوع سروره (يو5:17)، ابن محبته (أم30:8).
يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم[82] لماذا لم يبدأ الإنجيلي بالحديث عن الآب، بل بدأه بالابن الوحيد الجنس، ولماذا لم يبدأ بدعوته الابن الوحيد الجنس بل الكلمة. ويجيب على ذلك بأنه بدأ بالإعلان عن شخص السيد المسيح بكونه "الكلمة" المتجسد، ليتحدث بفيض فيما بعد أنه "ابن الله". لقب "الكلمة" يؤكد الوحدة، ولقب "الابن الوحيد الجنس" يؤكد التمايز، لذا فاللقبان مكملان لبعضهما البعض. ويقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم تبريرًا لذلك بقوله أن الإنسان غالبًا ما يفصل بين الأب والابن. فيظن أن بميلاد الابن حدث في الله تغيير، فصار الآب، ولم يكن قبل الولادة هكذا، إذ نظن أن الولادة حسية مثلما يحدث في الخليقة، وأنها لم تتم أزليًا. فلو أن الإنجيلي بدأ بالحديث عنه أنه "ابن الله" لدخل الشك لدى البعض أنهما إلهان منفصلان. لذا بدأ باللقب "الكلمة" الذي لا يتخيل الإنسان أنه منفصل عن الله.
* يدعوه "الكلمة" لأنه يستعد للتعليم بأن هذا الكلمة هو ابن الله الوحيد، فلا يظن أحد أنه ولادته حسّية. فبإعطائه لقب "الكلمة" ينزع مقدمًا ما يتعرض له الشخص من وهمٍ شرير ويزيله عنه. لقد أظهر أن الابن من الآب، وأنه ولد دون ألم (تغيير)[83].
* لئلا يظن أحد عند سماعه "في البدء" أنه ليس بمولود أيضًا، عالج هذا في الحال بقوله أنه كان "عند الله" قبل أن يعلن أنه هو الله. وهو يمنع أي أحد من افتراض أن الكلمة بسيطة كما لو كانت مجرد كلمة منطوقة أو مدركة، مضيفًا إليها أداة التعريف... إنه لم يقل "كان في الله" بل "عند الله" معلنًا سرمديته كأقنوم. بعد ذلك يعلن عنها بأكثر وضوح مضيفًا أيضًا "والكلمة كان الله".
* لم يدعه "كلمة" بل أضاف أداة التعرف ليميزه عن البقية (كلمة الإنسان)[84].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* هذا التعبير "في البدء كان" لا يعلن سوى الوجودbeing الدائم، وأنه وجود مطلق[85].
* "كان اللوغوس" لأن كلمة "وجود being" تستخدم للإنسان لتمييز الوقت الحاضر وحده، وأما بخصوص الله فتشير إلى السرمدية. لذلك عندما يستخدم "كان" بخصوص طبيعتنا تعني الماضي، وعندما تستخدم بخصوص الله تعلن عن السرمدية[86].
* هذا (الكلمة) هو جوهر إلهي حاصل في أقنوم بارز من أبيه خالٍ من انقسام عارض. وحتى لا تظن أن لاهوت الابن أدنى، وضع للحال الدلائل المُعرفة للاهوته فقال: "وكان الكلمة الله"[87].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إذ هو مولود فبسببٍ حسنٍ لم يجزم يوحنا أو غيره، سواء كان رسولًا أو نبيًا، أنه مخلوق. فإن هذا الذي تحدث عن نفسه بتواضع هكذا خلال تنازله لم يرد أن يقف صامتًا في هذا الأمر... لقد نطق بكلمات متواضعة (يو 5: 30؛ 12: 49)... لكنه لو كان مخلوقًا لتحدث قائلًا: "لا تظنوا إني مولود من الآب، بل أنا مخلوق غير مولود، ولست شريكًا في جوهره". لكن إذ هذا أمره، فعلى العكس نطق بكلمات تلزم البشر حتى بغير إرادتهم أو رغبتهم أن يقبلوا الفكر الآخر. كقوله: "أنا في الآب والآب فيّ" (يو 14: 11)، "أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9)، وأيضًا: "لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" (يو 5: 23)، "لأنه كما أن الآب يقيم الموتى ويحيي، كذلك الابن أيضًا يحي من يشاء" (يو 5: 21). "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). "كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب" (يو 10: 15). "وأنا والآب واحد" (يو 10: 30)[88].
* أصابت الدهشة إشعياء النبي عندما قال: "وميلاده من يخبر به؟ لأن حياته رُفعت من الأرض" (إش 8:53). حقًا لقد رفع من الأرض تمامًا كل آثار الميلاد الأزلي، لأنه يفوق الإدراك. وإذا كان فوق الإدراك فكيف يمكن أن نقول أنه مخلوق، لأننا نستطيع أن نحدد بوضوح زمن بداية المخلوقات وكيفية وجودها، أما البدء فنعجز عن تحديد زمن بدايته.
* في هذا "البدء Archi" الذي هو فوق الكل وعلى الكل "كان الكلمة"، ليس من الطبائع المخلوقة التي تحت قدمي البدء، وإنما عاليًا عنها جميعًا، لأنه "في البدء"، أي من ذات الطبيعة والكائن دائمًا مع الآب له طبيعة الذي ولده... منه ومعه له السيادةarchi على الكل.
القديس كيرلس الكبير
* بالقول "في البدء كان"، وليس "بعد البدء" يعني أنه لم يكن بدء بدون اللوغوس، وبإعلانه " كان اللوغوس عند الله" يعني غياب أية شائبة في علاقة الابن بالآب، لأن اللوغوس يفكر فيه ككل مع كيان الله ككل[89].
* خشي الإنجيلي من أذهاننا التي ينقصها التمرن، ولا يثق في آذاننا ليقدم لقب "الآب"، لئلا يتصور الجسداني في فكرة وجود أم أيضًا. ولم يذكر في إعلانه "الابن" حتى لا يجعل أحد اللاهوت بشريًا بنوعٍ من الهوى. لهذا دعاه اللوغوس، فكما أن كلمتك تصدر عن ذهنك دون تدخل لهوى، هكذا أيضًا عند سماعك "الكلمة" لا تفهم ذلك عن شيءٍ صدر بهوى[90]
* أولئك الذين يقدمون لنا أية أفكار صالحة عن مثل هذه الأسرار، هم غير قادرين حقًا على التعبير عن الطبيعة الإلهية.
أنهم يتكلمون بالأحرى عن بهاء مجد اللّه ورسم جوهره (عب 3:1)، صورة اللّه، وفي البدء كان الكلمة والكلمة كان اللّه (يو1:1). كل هذه التعبيرات تبدو لنا نحن الذين لم نرَ الطبيعة الإلهية مثل الذهب من هذا الكنز. ولكن بالنسبة لهؤلاء القادرين على رؤية الحقيقة، فإنها شبه الذهب وليست ذهبًا لامعًا، إنها ذهب مع جمان من فضة (نش 1: 11). إن الفضة كما يقول الكتاب: "لسان الصديق فضة مختارة (أم 20:10)".
هنا نتكشف أن الطبيعة الإلهية تتجاوز كل مفهوم نحاول أن ندركه.
فهمنا للطبيعة الإلهية يشبه ما نهدف إليه. إن أحدًا ما لم يرها ولا يستطيع أن يراها، ولكن خلال مرآة ولغز (1 كو 12:13).
إنها تعطينا انعكاسًا لما نفكر فيه، أي انعكاس موجود في الروح بصورة معينة.
كل كلمة تمثل هذه المفاهيم تشبه نقطة ينقصها أن تمتد، حيث إنها قاصرة عن التعبير عما في العقل...
وكل كلمة تقال كمحاولة للتعبير عن اللّه تبدو مثل نقطة صغيرة غير قادرة للامتداد لتتناسب مع الغرض، إذ تقاد خلال مثل هذه المفاهيم لإدراك ما لا يمكن إدراكه سوى خلال الإيمان بها أن تقيم ذاتيًا طبيعة تفوق كل ذكاء[91].
القديس غريغوريوس النيسي
* يُدعى الكلمة والابن وقوة الله وحكمة الله. الكلمة لأنه بلا عيب، والقوة لأنه كامل، والابن لأنه مولود من الآب، والحكمة لأنه واحد مع الآب في السرمدية، واحد في اللاهوت. ليس أن الآب أقنوم واحد مع الابن. إذ يوجد تمايز واضح بين الآب والابن يأتي من الولادة، هكذا المسيح هو إله من إله، خالد من خالد، كامل من كامل[92].
القديس أمبروسيوس
* يوجد الله الواحد الذي أعلن عن نفسه بيسوع المسيح ابنه، الذي هو كلمته (اللوغوس)، ليس منطوقا به بل جوهري. لأنه ليس صوتًا لأداة نطق بل أقنوم مولود بالقوة الإلهية[93].
القديس أغناطيوس