يوحنا 1 - تفسير إنجيل يوحنا الكلمة المتجسد الجزء(10) للقمص تادرس يعقوب ملطي
"وقال له:
الحق الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة،
وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان" [51].
يرى البعض أن هذا التشبيه مأخوذ مما كان متبعًا حين يذهب أمير إلى بلد ما يأتي سفراء بلده ذاهبين إليه وراجعين إلى بلده يحملون إليه ومنه رسائل. هكذا فإن الملائكة السمائيين هم رسل يُرسلون لخدمة ملكهم الذي تنازل وتجسد ليسلك على الأرض كابن الإنسان.
بينما شهد له نثنائيل: "أنت ابن الله؛ أنت ملك إسرائيل" [٤٩]، إذا به في تواضعه يدعو نفسه ابن الإنسان.
ربما يتحدث هنا عن ظهوره في مجيئه الثاني ليدين العالم.
* أرأيت كيف يصعد المسيح بنثنائيل من الأرض قليلًا قليلًا، ويجعله ألا يظنه إنسانًا مجردًا؟ لأن من تخدمه الملائكة وتصعد عليه وتنزل كيف يكون هذا إنسانًا؟ لهذا السبب قال له: "سوف ترى أعظم من هذا"[50] ولتأكيد ذلك قدم خدمة الملائكة له.
ما قاله يعنى هذا "هل تحسب يا نثنائيل أنه أمر عظيم بان تعترف بي إني ملك إسرائيل؟ فما الذي تقوله عني إذا رأيت الملائكة صاعدين ونازلين إليَّ؟" بهذه الأقوال حقق المسيح عند نثنائيل أنه رب الملائكة، لأن الملائكة يصعدوا وينزلوا إليه كخدام لابن ملكهم الحقيقي.
حدث ذلك في وقت صلبه وفي وقت قيامته، وعند صعوده، وقبل ذلك حين تقدموا وخدموه (مت 4: 11)، وحين بشروا بمولده لما قالوا: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة" (لو 2: 14)، وعندما جاءوا إلى مريم، وجاءوا إلى يوسف[267].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إن كانوا يصعدون وينزلون إليه فهو موجود فوق وهنا في نفس الوقت. فإنه لا يمكن بأية حال أن يصعدوا وينزلوا إليه ما لم يكن موجودًا هناك حيث يصعدون وهنا حيث ينزلون..
لنرى المسيح فوق وأسفل خلال شاول، فقد جاء صوت الرب نفسه من السماء قائلًا: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع ٩: ٤) ماذا...؟
من أين صرخ؟ من السماء، فهو إذن فوق.
ويقول لماذا تضطهدني؟ "فهو أيضًا تحت (لأن بولس لم يصعد إلى السماء ليضطهده)[268]
القديس أغسطينوس
يرى القديس أغسطينوس[269] أن رؤيتنا للسيد المسيح والملائكة يصعدون وينزلون إليه أعظم من وجودنا تحت ظل شجرة التين أو تحت ظل الموت. أما الملائكة فهم رسل السيد المسيح وتلاميذه. كمثال صعد بولس حين اختطف إلى السماء الثالثة وهو في الجسد أو خارج الجسد لا يعلم، لكنه سمع أمورًا لا يُنطق بها (2كو12: 2-4). وهو بنفسه نزل حينما لم يتكلم مع أهل كورنثوس كروحيين بل كجسديين كأطفالٍ في المسيح، يطعمهم لبنًا لا لحمًا (1 كو 3: 1-2). ذاك الذي صعد إلى السماء الثالثة من أجل المسيح، من أجله نزل إلى الشعب ليتحدث معهم بلغة الأطفال غير الناضجين متشبهًا بالأمهات عند حديثهن مع أطفالهن الصغار. لقد صعد ونزل حيث يقول: "إننا إن صرنا مختلين فلله، أو كنا عاقلين فلكم" (2 كو 5: 13).
يقول القديس أغسطينوس: [إن كان الرب نفسه صعد ونزل، فواضح أن الكارزين به يصعدون بالاقتداء به، وينزلون بالكرازة[270].]
ملحق للأصحاح الأول
عن
النعمة الإلهية
(نعمة فوق نعمة)
يقدم لنا معلمنا يوحنا البشير خلال السفر كله شخص الكلمة الإلهي المتجسد كمصدر فيضٍ من النعم الإلهية بلا توقف، خاصةنعمة الخلق ونعمة البنوة لله مع فيضٍ من النعم.يقول الإنجيلي: "ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا، نعمة فوق نعمة، لأن الناموس بموسى أُعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو ١: ١٥-١٧). وقد سبق لنا نشر كتاب عن النعمة الإلهية في مدرسة الإسكندرية باللغة الإنجليزية، أرجو أن يسمح لي إلهي بترجمته ونشره. أود هنا أن أقدم عرضًا مبسطًا للنعمة الإلهية[271].
ماذا تعني النعمة؟
لم يهتم آباء الكنيسة في الشرق بتقديم تعاريف للمصطلحات اللاهوتية سواء للنعمة أو غيرها، بالرغم من الحديث بفيضٍ عن عمل النعمة ودورها في حياة المؤمن منذ خلقته إلى يوم لقائه مع الرب على السحاب.
ما يشغل ذهن الكنيسة، خاصة كنيسة الإسكندرية، هو الخبرة الحية والاتحاد مع الله كعربون للتمتع بالحياة الأبدية. لهذا لا نعجب إن استخدم العلامة أوريجينوس اسم "المسيح" عوض عطاياه أو نعمه[272]، وفي مواضع أخرى يدعو السيد المسيح "ملكوت في شخص"، فإن من ينعم بملكوت الله إنما يتمتع بالكلمة الإلهي نفسه، واهب النعم ومشبع كل الاحتياجات.
حاول بنيامين بريوري Benjamin Drewery أن يقدم تعريفًا للنعمة الإلهية خلال أعمال أوريجينوس العديدة فقال [يمكننا أن نقترح أنه إذا سُئل أوريجينوس عن تقديم تعريف منهجي للنعمة فإنه يجيب بشيء مثل هذا: "النعمة هي قوة الله المجانية، لكنها ليست غير مشروطة، توضع تحت تصرف الإنسان، بواسطتها يترجم الخلاص إلى حياة جديدة تبلغ الذروة، معلنة ومقننة في الكتب المقدسة، بواسطة يسوع المسيح المتجسد، وتصير به مملكته للعالم"[273].
النعمة وكلمة الله
إذ تغمرنا النعمة الإلهية نسبح في لجة محبة الله الفائقة التي تحصرنا من كل جانب، والتي لا نستطيع أن نحصر طولها وعرضها وعمقها وارتفاعها نتطلع إلى الكتاب المقدس لننهل من الوعود الإلهية الفائقة.
حقًا لقد خلق الله الإنسان ليتحدث الكلمة الإلهي معه وجهًا لوجه. وكان أبوانا الأولان يتمتعان بصوت الله ماشيًا في الجنة (تك 3: 8). أما وقد أعطى الإنسان ظهره لمصدر النعم، لم يتركه الله بل وهبه الناموس ليرتفع به إلى غنى نعمته. وجاء الكتاب المقدس ليس ورقًا وحروفًا مكتوبة بل لقاءً حيًا مع الكلمة الإلهي وراء الحروف.
من يتمتع بنعمة إدراك أسرار الكتاب المقدس يتمتع بالشركة مع الكلمة الإلهي، وتدخل نفسه الفردوس الروحي المشبع.
* لا يمكن نوال أمر صالح بعيدًا عن الله، وأما فوق كل شيء فهو فهم الكتب المقدسة الموحى بها[274].
* المعنى الروحي الذي يهبه الناموس لا يدركه الكل، وإنما الذين يُمنحون نعمة الروح القدس في كلمة الحكمة والمعرفة[275].
* ليتنا نحث الله لكي ما كما أن الكلمة تنمو فينا، نتقبل اتساع الفكر في المسيح يسوع، وبهذا يمكننا أن نسمع الكلمات المقدسة[276].
* كثيرون يسعون لتفسير الكتب المقدسة... لكن ليس الكل ينجحون. فإنه نادرًا ما يوجد من له هذه النعمة من الله[277].
العلامة أوريجينوس
* "حبيبي هو شبيه بالظبي أو بِغُفْرِ الأيائل. هوذا واقف وراء حائطنا، يتطلع من الكوى، يُوَصْوِص من الشبابيك" (نش 9:2)...
يمكن تفسير معنى هذه الآية كالآتي: لا تكلمني من الآن فصاعدًا برموز الأنبياء والوصايا. وحتى أراك اظهر لي نفسك حتى آتى إلى داخل الصخرة، الإنجيل، وأترك خلفي حائط الوصايا. وحتى أسمعك اجعل صوتك يرن في أذني. فإذا كان صوتك حلوًا جدًا من خلال شبابيك الأنبياء، فكم تكون رؤية وجهك الجميل مُجْلِبةً للحب والسعادة؟
فهمت العروس السرّ في صخرة الإنجيل التي قادها إليها الكلمة بطرق عديدة ومختلفة (عب 11:1)، بينما كان عند الشبابيك. والآن ترغب العروس في ظهوره في الجسد، حتى يمكن رؤية اللّه في الجسد ويتكلم عن الوعود الإلهية للسعادة الأبدية لكل من يستحقها.
لاحظ توافق كلمات سمعان مع رغبة العروس: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك" (لو 29:2، 30). رأى سمعان مثلما أرادت العروس أن ترى. وهؤلاء الذين استقبلوا صوت المسيح الحلو تعرفوا على نعمة الإنجيل وصرخوا: "يا رب إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك" (يو 68:6)[278].
القديس غريغوريوس النيسي
نعمة الخلق
في تفسيرنا لعبارة "نعمة فوق نعمة" رأينا كيف أن الله أب كل البشرية يبسط يديه ليهب من فيض سخائه نعمته لكل بشرٍ. حقًا توجد نعم عامة يشترك فيها كل إنسان، كما توجد نعم خاصة تمتع بها شعب الله قديمًا بالإيمان خلال الناموس الموسوي، وأما ما قدمه الكلمة الإلهي المتجسد خلال صليبه فيفوق كل فكر. إنه كنز من النعم مفتوح لكل إنسان يقبله ويتجاوب معه. ولعل أول نعمة تمتع بها الإنسان هو "الخلق".
اهتم القديس أثناسيوس الرسولي بالحديث عن نعمة الخلق، فقد أوجد الله الإنسان ليس فقط من العدم إلى الوجود، فيشعر أنه مدين له بكل حياته، وإنما أوجده أيضًا حاملًا نعمة صورته. بهذا يتمكن من ممارسة الحياة الفردوسية، وإدراك أسرار معرفة الله، والاتصال بالخالق، فيتمثل به، ويراه ويحيا معه خالدًا إلى الأبد. يشرح القديس عمل الكلمة (اللوغوس) الخالق كواهب نعمة التمتع بصورة الله، وإعادتها لنا بتجديد طبيعتنا بعد فسادها.
* طالما يحفظ الإنسان تلك السمة الإلهية Tautotis، فإنه لا ينعزل قط عن إحساسه بالله، أو يبتعد عن شركة حياة القديسين، بل إذ يستعيد نعمة الله التي وُهبت له، وإذ يمتلك القدرة الخاصة التي من اللوغوس كلمة الآب، فإنه يتهلل فرحًا متحدثًا مع الله، فيحيا الحياة المباركة التي بلا ألم، والخالدة بالحقيقة (عديمة الموت). وإذ لا يعوقه عائق عن المعرفة الإلهية، يتأمل دوما بطهارته[279] صورة الأب، أي في الله اللوغوس، الذي خلق الإنسان على صورته، ويتعجب إذ يدرك تدبير الله للكون بواسطة اللوغوس.
لهذا يسمو فوق كل محسوس وكل رؤية جسدانية، فيرتبط بالحقائق الإلهية والمعقولة[280] في السماوات بقوة الذهن. لأنه حينما لا تتصل أذهان الناس بالأجساد، ولا يوجد شيء مختلط بالأذهان من خارج، والذي ينبع من شهوة تلك الأجساد، بل تسمو (تلك الأذهان) بالتمام وتتكامل في ذاتها، كما خلقت منذ البدء.
وإذ تدع جانبًا كل الأمور الحسية والبشرية فإن الذهن يرتفع إلى عنان السماء.
وإذ يعاين اللوغوس يرى فيه الآب،أب اللوغوس، فيختبر الفرح الغامر عند هذه الرؤيا، ويتجدد باشتياقه إليه.
ويشبه ذلك الأمر حالة الإنسان الأول المخلوق الذي دعي آدم (بحسب اللغة العبرانية)، والذي يقول عنه الكتاب المقدس إنه كان في البدء ذا ذهن مثبت على الله بدالة لا تخزى، وإنه عاش حياة الشركة مع القديسين في تأمل الحقائق المعقولة التي اقتناها في ذاك الموضوع، والذي يسميه القديس موسى بشكل تصويري "الفردوس"، وكانت النفس الطاهرة بالحق قادرة أن ترى الله ذاته الذي ينعكس فيها كمرآة. كما قال الرب نفسه: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله"[281].
القديس أثناسيوس الرسولي
نعمة حرية الإرادة
* أعطى اللّه الطبيعة العاقلة نعمة حرية الإرادة، وأنعم على الإنسان القدرة على تحديد ما يريده حتى يسكن الصلاح في حياتنا، ليس قسرًا ولا لاإراديًا بل نتيجة للاختيار الحر. إن تمتعنا بحرية الإرادة يؤدى بنا إلى اكتشاف حقائق جلية. في طبيعة الأمور إذا ما أساء أحد استخدام مثل هذه الإرادة الحرة فإنه بحسب كلمات الرسول يصير مثل هذا الشخص مخترعًا لأعمال شريرة (رو 30:1). كل من هو من اللّه يُعد أخًا لنا، أما الذي يرفض الاشتراك في أعمال الصلاح يتم ذلك بكامل إرادته[282].
القديس غريغوريوس النيسي
نعمة الناموس
الناموس، سواء الطبيعي أو الموسوي، في ذاته عطية عظيمة، ونعمة مقدمة من الله، لتهيئ لنعمة الإنجيل، لكن لا وجه للمقارنة بين الظل والحقيقة.
* النعمة التي معنا ليست كتلك التي لهم (لليهود)، فإننا لم ننل مجرد غفران الخطايا، بل نلنا البرّ والتقديس والبنوة ونعمة الروح القدس الأكثر بهاءً وبهجة وفيضًا. بهذه النعمة صرنا نشتاق إلى الله، ليس كعبيدٍ بل كأبناء وأصدقاء. عن هذه الحال يقول: "نعمة فوق نعمة". حتى الأمور الخاصة بالناموس هي من النعمة... إذ قَبِلَ البشر الناموس كترفقٍ وعفوٍ ومحبةٍ ونعمةٍ[283]
* كان يوجد تقديس، والآن يوجد التقديس.
كان يوجد عماد والآن العماد.
كانت هناك ذبيحة والآن توجد الذبيحة.
كان يوجد هيكل والآن يوجد الهيكل...
هكذا كانت توجد نعمة والآن توجد النعمة.
لكن الكلمات في الحالة الأولى استُخدمت كرموزٍ، وفي الثانية كحقائق تحمل ذات الصوت ولكن ليس ذات المعنى[284].
القديس يوحنا الذهبي الفم