يوحنا 1 - تفسير إنجيل يوحنا الكلمة المتجسد الجزء(11) للقمص تادرس يعقوب ملطي
نعمة إعادة ما فقدناه
إذ فقد الآن صورة الله صارت حياته جحيمًا لا يُطاق، وتحول الفردوس إلى سجن، وأنبتت له الأرض شوكًا وحسكًا. لم تقف نعمة الله مكتوفة الأيدي مهما كلفها الأمر، حتى وإن كان الثمن تجسد الكلمة وإعلان حبه بقبوله الموت صلبًا حتى يهب الإنسان بهجة القيامة ويتمتع ببرّ المسيح، ويرد روحه القدوس صورة الله فيه.
* فما العمل إذن؟ إلى من يمكن اللجوء لاستعادة نوال مثل تلك النعمة، سوى إلى كلمة الله الذي خلق في البدء كل الأشياء من العدم؟ إذ يختص هو وحده بأن يأتي بمن كان في الفساد إلى عدم الفساد وأن يحقق ما يليق بالآب فوق كل شيء، إذ هو كلمة الله الآب الذي فوق الجميع لأنه وحده القادر أن يستعيد للجميع ما كان مفقودًا، وأن يتألم لأجل الجميع، وأن يكون شفيعًا لدي الآب لأجل الكل[285].
القديس أثناسيوس الرسولي
نعمة القيامة والغلبة على الموت
يقول السيد المسيح لمرثا: "أنا هو القيامة"، فإن كان الفساد قد حل بجسد لعازر الميت لمدة أربعة أيام، فهو حال في كل نفسٍ وجسدٍ، قد انتن الإنسان تمامًا بسبب موت الخطية. جاء "القيامة" يهبنا ذاته، فنتمتع بالشركة معه، فيحررنا من سلطان الموت، ولا يقدر الفساد أن يحل بنا. بروح القوة والنصرة ننشد مع الرسول بولس: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ أما شوكة الموت فهي الخطية... ولكن شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (١ كو ١٥: ٥٥-٥٧). هذه هي نعمة القيامة.
* لكي يستعيد اللوغوس المتأنس عدم الفساد إلى البشر الذين انحدروا إلى الفساد، فيحيهم من حالة الموت، أخذ جسدهم لنفسه، حتى يبيد الموت ويلاشيه بواسطة نعمة القيامة كما تلتهم النار الهشيم[286].
* لقد مات الموت حقًا... فلم يعد مزعجًا بعد، بل بالأحرى فإن المؤمنين بالمسيح يطأون الموت كأنه عدم،بل أنهم يفضلون الموت عن إنكار إيمانهم بالمسيح. كل هذا لأنهم يعلمون أنهم لا يفنون بالموت، بل يحيون بالقيامة ويصيرون عديمي فساد[287].
القديس أثناسيوس الرسولي
نعمة التبني لله الآب
الكلمة الإلهي هو الابن بالطبيعة، مولود من الآب، نور من نور، فيه ننال نعمة التبني لله الآب:
* أمرنا الله أن نعتمد ليس باسم "الخالق والمخلوق"، بل باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19)، لأننا إذ نحن من بين المخلوقات، نصير هكذا (بالمعمودية) مكتملين، وبهذا نصير أبناء[288].
القديس أثناسيوس الرسولي
* إن كان بينكم من هو عبد للخطية فليستعد بالإيمان استعدادًا تامًا للميلاد الجديد في الحرية والتبني. وبخلعه العبودية لخطاياه المرذولة وارتدائه عبوديته للرب المطوَّبة يصير أهلًا لميراث ملكوت السماوات.
اخلعوا"الإنسان العتيق الفاسد حسب شهوات الغرور"(أف 22:4) بالاعتراف، حتى تلبسوا الإنسان"الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 10:3).
بالإيمان خذوا"عربون الروح القدس" (2كو 22:1) لكي يقبلونكم في المظال الأبدية (راجع لو 9:16).
تعالوا لتنالوا الختمالسري حتى يعرفكم السيد بسهولة، وتكونون محصيين بين قطيع المسيح المقدس الروحاني، ويكون مكانكم عن يمينه، فترثوا الحياة المعدة لكم، أما هؤلاء اللابسون ثوب خطاياهم الدنس فيبقون عن يساره، إذ لم يأتوا بالمسيح إلى نعمة اللٌه في الميلاد الجديد بالمعمودية.
وإنني أعني بالميلاد الجديد ميلادًا روحيًا جديدًا للنفس، فالوالدون المنظورون يلدوننا حسب الجسد، أما أرواحنا فتُولد ميلادًا جديدًا بالإيمان، إذ"الريح تهب حيث تشاء"، عندئذ متى وُجدتم مستحقين تسمعون الصوت القائل:"نعمًا أيها العبد الصالح والأمين" (مت 21:25)، وذلك إن كان ضميركم غير ملوث بدنس الرياء[289].
القديس كيرلس الأورشليمي
نعمة الروح القدس
كثيرًا ما شغل منظر عماد السيد المسيح قلب القديس كيرلس الكبير، فرأي الكنيسة كلها في المسيح الرأس بكونها جسده، فمع أن الروح القدس هو روحه الذي لا ينفصل عنه، لأنه واحد معه في الجوهر، لكنه حل عليه في العماد، من أجل تمتع الكنيسة به. فنعمة الروح القدس هي عطية واهب العطايا والنعم لكنيسته ولكل عضو فيها. قدم لنا نعمة الروح القدس الذي يبكتنا على الخطية، ويدين عدو الخير الذي يود هلاكنا، ويهبنا برّ المسيح. يقدم لنا الحق، إي السيد المسيح، ويجدد طبيعتنا، ويقودنا في الطريق، الذي هو المسيح، ويوَّحدنا في استحقاقات دم المسيح مع الآب، ويهبنا شركة مع السيد المسيح ومع السمائيين ومع بعضنا البعض.
* هكذا أيضًا توضح عبارة داود في مز 44: 7-8 أنه ما كان لنا أن نصير شركاء الروح القدس ولا أن نتقدس لو لم يكن اللوغوس المتجسد، الذي هو واهب الروح قد مسح نفسه بالروح لأجلنا، ولهذا فمن المؤكد أننا كنا نحن الذين قبلنا الروح القدس حينما قيل انه مُسح بالجسد. لأن جسده الخاص هو الذي تقدس أولًا، وإذ قيل عنه كإنسان، إن جسده قد نال هذا (الروح)، فلأجل هذا ننال نحننعمة الروح آخذين إياها "من ملئه"[290].
القديس أثناسيوس الرسولي
* كان سكب للروح علينا، أما للرب يسوع الذي كان في شكل إنسانٍ، فالروح استقر عليه... بخصوصنا فإن سخاء المُعطي يعين بفيضٍ، أما بالنسبة له فيسكن فيه كمال الروح أبديًا. يسكب إذن حسبما يكفينا، وما يسكبه لا ينفصل ولا ينقسم، أما ما هو له فهو وحدة الكمال الذي به ينير بصيرة قلوبنا حسب قدرتنا على الاحتمال. أخيرًا نحن نتقبل حسب ما يتطلبه تقدم ذهننا. من أجل كمال نعمة الروح غير منظور، ولكنه يساهم فينا حسب إمكانية طبيعتنا[291].
القديس أمبروسيوس
نعمة الشركة في الطبيعة الإلهية
إخلاء كلمة الله ذاته ليحمل شكل العبد وهبنا إمكانية المجد الداخلي الفائق، موضع سرور الله، إذ يرى ملكوته قائمًا فينا، وموضع سرور السمائيين، إذ يمجدون الله على غنى هذه النعمة الفائقة.
مع خبرتنا اليومية لهذا المجد الداخلي وسط تيارات العالم المرة يتجلى هذا المجد في أروع صوره يوم لقائنا مع العريس السماوي على السحاب، فنحمل صورته، ونُزف كعروس سماوية، ملكة تجلس عن يمين ملك الملوك. هذه هي نعمة شركة الطبيعة الإلهية العاملة في أعماقنا.
* يا للسر العجيب! الرب تنازل، الإنسان ارتفع.
* يقول الرسول: "ألا تعلمون أنكم هياكل الله" (١ كو ٣: ١٦). فالغنوصي (المؤمن صاحب المعرفة الروحية الحقيقية) بالتبعية إلهي، وقد صار بالفعل مقدسًا، حاملًا الله، ومحمولًا بالله.
* مزارع الله، إذ يمنحنا ميراث الآب العظيم حقًا والإلهي الذي لا يمكن نقله إلى آخر، يؤله الإنسان بتعليم سماوي، ويضع نواميسه في أذهاننا، ويكتبها في قلوبنا[292].
القديس اكليمنضس السكندري
* صار كلمة الله إنسانًا، لكي تتعلم كيف يصير الإنسان إلهًا[293].
* شاركنا يسوع المسيح بشريتنا لكي يمنحنا فيضًا من غناه[294].
القديس كيرلس الكبير
* قيل عن المسيح أنه أخذ كإنسان ما كان له دائمًا كإله، حتى إن تلك النعمة، التي وُهبت له يمكن أن ننالها نحن أيضًا، لأن اللوغوس لم ينقص قدره باتخاذه جسدًا حتى يسعى للحصول على نعمة، بل إنه بالأحرى قد ألَّه ذلك الجسد الذي لبسه، بل وأكثر من ذلك، فقد أنعم بهذه النعمة على جنس البشر[295].
القديس أثناسيوس الرسولي
* لداود الحق أن يصرخ، كإنسانٍ قد تجدد، "وسآتي إلى مذبح الله، إلى الله الذي يعطي فرحًا لشبابي" (مز 43:4). كما قال قبلًا إنه شاخ وسط أعدائه... وهو يقول هنا إنه قد استعاد الشباب بعد طول شيخوخة وسقوط الإنسان. لأننا قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية، وتجددنا خلال سكب الروح القدس، وسنتجدد أيضا بالقيامة، كما يقول في نصٍ آخر: "فيتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103:5) فاعلموا طريقة تجديدنا: "تنضح علَّي بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيَّض أكثر من الثلج" (مز 51:9) وفي إشعياء: "إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض كالثلج" (إش 1:18) ومن يتغير من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلًا. لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلًا بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من الثلج[296].
القديس أمبروسيوس
* يقول السيد المسيح: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 37:23). تتوافق هذه التعبيرات مع ما كنا نفترضه. فإذ قال النص المقدس الموحى به، لأي سبب سري لا نعرفه، أن الطبيعة الإلهية لها أجنحة، لذلك يكون الإنسان الأول الذي خلق على حسب صورة اللّه، شبيهًا له في كل شيء (تك 26:1). أستنتج من ذلك أن الإنسان الأول خُلق بأجنحة حتى يكون شبيها بالطبيعة الإلهية. ويتضح أن كلمة "أجنحة" يمكن أن ترمز إلى اللّه. فهي قوة اللّه ونعمته وعدم فساده وكل شيءٍ آخر. وامتلك الإنسان جميع هذه الصفات طالما كان على شبه اللّه في كل شيءٍ، ولكن ميلنا إلى الشر سلب منا الأجنحة. (فلم نكن تحت حماية أجنحة اللّه، بل نُزعت منا أجنحتنا الخاصة). لذلك ظهرت لنا نعمة وبركة اللّه، وأنارت عقولنا حتى تنمو لنا أجنحة من خلال الطهارة والبرً بعد أن ننبذ الرغبات الدنيوية ونتجه إلى اللّه بكل قلوبنا[297].
القديس غريغوريوس النيسي
نعمة اقتناء حياة المسيح
* بالسخاء ذاك الذي يعطينا أعظم كل العطايا، حياته ذاتها[298].
القديس إكليمنضس السكندري
* (إذ صار إنسانًا) صرنا الآن قادرين أن نقتنيه، نقتنيه هكذا بالعظمة، وبذات طبيعته التي كان عليها، إن كنا نعد له مكانًا لائقًا في نفوسنا.
* المسيح الذي هو كل فضيلة، يأتي ويتكلم على أساس أن ملكوت الله في داخل تلاميذه وليس هو هنا وهناك[299].
العلامة أوريجينوس
نعمة رائحة المسيح الذكية
* هكذا تشبَّه بولس العروس بالعريس في فضائله، وصور بعطره الجمال الذي لا يُدنى منه. من ثمار الروح الحب، الفرح، السلام وما شابه ذلك. صنع عطره، واستحق أن يصير "رائحة المسيح الذكية" (2 كو 15:2). لقد استنشق القديس بولس هذه النعمة الغير مدركة التي تجاوزت كل نعمة، وأعطى نفسه لآخرين كرائحة ذكية ليأخذوا منها على قدر طاقتهم، حسب تدبير كل إنسان. صار بولس الرسول عطرًا، إما لحياة أو لموت، فإنه إذا ما وضعنا العطر ذاته أمام خنفس وأمام حمامة، فلن يكون له تأثير مماثل على الاثنين؛ فبينما تصير الحمامة أكثر قوة حين تستنشقه فإن الخنفس يموت حينذاك. هكذا الحال مع الرائحة المقدسة، مع بولس الرسول العظيم الذي شابه الحمامة[300].
القديس غريغوريوس النيسي