اعمال الرسل 1 - تفسير سفر أعمال الرسل
الإعداد لميلاد الكنيسة الجزء(3)للقمص تادرس يعقوب ملطي
عندما دُعى العبد أُرسلت إليه مركبة، أما الابن فإذ له العرش الإلهي، وليس أي عرش بل عرش أبيه، وقد جاءفي إشعياء... "هوذا الرب راكب على سحابة" (إش1:19)...
إذ صعد إيليا سقط عنه رداءه لأليشع (2 مل 13:2)، وإذ صعد يسوع أرسل النعم لتلاميذه، لهم جميعًا، وليس لنبيٍ واحد، بل إلى أمثال أليشع كثيرين بل ومن هم أكثر من أليشع مجدًا.
لنقم أيها الإخوة المحبوبون، ولنرفع أعين نفوسنا تجاه ذاك الذي سيعود، إذ يقول لنا بولس: "لأن الرب نفسه بهتافٍ، بصوت رئيس ملائكة، وبوق اللّه ينزل من السماء... ثم نحن الأحياء الباقين سنُخطف جميعًا معهمفي السحب لملاقاة الرب في الهواء" (1 تس 16:4). ولكن ليس الكل (يتمتع بهذا) بل بعضنا يصعد إلى السماوات وآخرون يبقون...
اسمعوا ماذا يقول المسيح؟ "اثنتان تطحنان على الرحى. تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى" (مت 41:24)...
فهل نحن أيضًا نصعد...؟!
وعندما أقول "نحن" أحسب نفسي لست (مستحقًا) أن أكون بين الذين يصعدون. لأنني لست هكذا بلا إحساس أو فهم حتى أتجاهل خطاياي. وإذ أخشى أن أتلف فرح هذا العيد المقدس، لهذا فإنني أبكي بدموع مرة عندما استرجعفي ذهني هذه الكلمات وأتذكر خطاياي.
وإذ لا أريد أن أنزع فرح هذا العيد، فإنني أنهي عظتي تاركًا فرح هذا العيد يشعفي أذهانكم دون أن يُحتجب، فلا يبتهج الغنى كثيرًا بغناه، ولا يتضايق الفقير بسبب فقره، بل يصنع كل إنسان عمله أيا كان حسبما يمليه عليه ضميره.
لأن الإنسان السعيد ليس هو الغنى، ولا الفقير إنسان بائس، بل بالأحرى مطوّب، ومثلث التطويبات، ذاك الذي يكون مستحقًا أن يصعد على السحاب ولو كان أفقر الجميع.
وهو بالحق بائس ومثلث البؤس، ذاك الذي يحسب مع المفقودين ولو كان أغنى من جميع الناس...[42]
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وقالا أيها الرجال الجليليون،
ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟
إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء،
سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء" [11].
كان موطن التلاميذ هو الجليل، فلا نعجب إن دعاهم الملاكان جليليين.
ليس من منظر لحدثٍ في تاريخ البشرية يمكن أن يبهر الإنسان مثل صعود السيد المسيح على السحاب، يقابله تمامًا مجيئه على السحاب لكي يحمل معه كنيسته في موكب سماوي فائق، ويدخل بها إلى الأمجاد الأبدية.
لماذا كانوا واقفين ينظرون إلى السماء؟
1. كانت أعين الجميع شاخصة تتطلع إلى سيدهم الصاعد إلى السماء، ربما يترقبون في أعماقهم ماذا يحدث بعد ذلك. وقفوا في حيرة: ما هو دوره؟ وما هو دورهم هم بعد صعوده؟
2. يرى البعض أنهم إذ كانوا يتحدثون مع السيد المسيح عن رد المُلك لإسرائيل ظنوا أنه قد حان الوقت لكي يملك ويخلص الشعب من الاستعمار، الآن إذ صعد أمامهم أصيبوا بحالة إحباط، بأنه لن يُرد الملك لإسرائيل.
3. إذ سبق فأعلن لهم أنه يصعد إلى السماء ويعود، ربما ظنوا أنه بصعوده يعود فورًا، فكانوا يشخصون إليه مترقبين سرعة رجوعه.
4. كان منظر صعوده بديعًا للغاية، وبدأت مظاهر المجد تنكشف، لهذا كان الحاضرون يشخصون إلى السماء وهو منطلق، وكأنهم يودون ألا يفارق هذا المنظر أعينهم. وذلك كما حدث في التجلي حيث طلب القديس بطرس: "جيد يا رب أن نكون هنا".
ظهرا بثيابٍ بيضٍ ليحولا أنظار الحاضرين إلى الاستعداد لمجيء المسيح الأخير. تحدثا معهم كأن مجيئه يتم في خلال يومٍ أو أيامٍ، فإنه لا يشغل الملائكة الزمن بل اللقاء مع ربهم. لقد أرادوا أن يلتهب قلب الكنيسة شوقًا نحو مجيء عريسها، كأنه قادم في لحظاتٍ. وكما يقول الرسول: "إنها الساعة الأخيرة". ها قد عبر حوالي ألفين من السنين، ونحن بكل شوقٍ نترقب مجيئه كمن في اللحظات الأخيرة!
* "صعد الله بصراخٍ، الرب بصوت بوقٍ" (مز 47: 5). لأن الرب الذي تمم كل هذا يقول أنه صار أولًا إنسانًا، وطرح الطاغية إبليس المنتقم، عندئذ صعد إلى السماء مع الطغمات السماوية وطقوس الملائكة التي تتقدمه. الذين على الأرض يُقال لهم: "إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقا إلى السماء" [11]. أما الذين في العلا فيقولون: "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، ولترتفع الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد" (مز 24: 7)[43].
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
* صعوده إلى السماء من الأرض، ومرة أخرى نزوله من السماء إلى الأرض، يعلنان عن طاقات دائرة جسمه[44].
* عندما صعد إلى السماء ثانية كان محمولًا نحو الشرق، وهكذا سجد له رسله. وهكذا سيأتي بنفس الطريق الذي رأوه فيه صاعدًا إلى السماء، كما قال الرب نفسه: "لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان" (مت 24: 27). هكذا إذ نتوقع مجيئه نعبده متجهين نحو الشرق. هذا التقليد الذي للرسل غير مكتوب، فإن أمورًا كثيرة تسلمناها بالتقليد غير المكتوب[45].
الأب يوحنا الدمشقي
بينما كان الحاضرون يتطلعون في دهشة إذا بملاكين يسحبان قلوبهم إلي مثل هذا المنظر حين يأتي السيد المسيح على السحاب كما علي المركبة الإلهية ليحمل فيها عروسه المقدسة، تنطلق معه إلي البيت السماوي، بيت الزوجية، لتعيش في الأحضان الإلهية.
* بعد ذلك اندهشوا أمام الحقيقة إذا رأوه صاعدًا، وفرحوا أنه صعد إلى السماء، لأن تقدم الرأس هو رجاء الأعضاء. علاوة علي هذا، فقد سمعوا الرسالة الملائكية: "أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلي السماء؟ إن يسوع... سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء". ما معنى "سيأتي هكذا (بنفس الكيفية)؟ سيأتي في ذات الشكل، فيتم الكتاب: "وينظر إليه الذين طعنوه" (يو 19: 37، زك 12: 10). سيأتي إلى البشر، سيأتي في شكلٍ بشريٍ، بل كإله متأنس. سيأتي بكونه الله الحقيقي والإنسان الحقيقي ليجعل من البشر أشبه بالله. لقد صعد كديانٍ إلى السماء. ليتنا نتبرر فلا نخشى الدينونة القادمة[46].
* بأية كيفية رأوه ذاهبا؟ رأوه صاعدًا بالجسد الذي لمسوه، وبالجراحات التي تأكدوا منها بلمسها. صعد بهذا الجسد الذي به دخل إليهم وخرج لمدة أربعين يومًا، معلنًا لهم أنه جسد حقيقي وليس مزيفًا: ليس جسدًا خيالًا أو ظلًا أو روحًا، بل قال لهم بنفسه دون أن يخدعهم: "جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له جسد ولا عظام كما ترونني" (لو 24: 39). الآن صار هذا الجسد مستحقًا السكنى في السماء، لا يخضع للموت ولا يشيخ خلال مرور الزمن. ليس كما نما إلى هذا السن من الطفولة يميل من الرجولة إلى الشيخوخة. إنما يبقى كما هو، صعد ليأتي إلى الذين يريد منهم أن يكرزوا بكلمته قبل مجيئه. هكذا سيأتي في شكلٍ بشريٍ. هذه الصورة سيراها الأشرار كما قيل: "سيبصرونه الذين طعنوه" (زك 12: 13). سوف لا يرون الله المخفي في الجسد، لكن بعد الدينونة يراه الذين هم على يمينه[47].
* يرونه في شكل إنسان الذي فيه حوكم وسيحاكم، ليتحقق القول النبوي: "ينظرون إلى الذين طعنوه" (زك 12: 10؛ يو 19: 37). ولكن حين يذهب الأبرار إلى الحياة الأبدية نراه كما هو، لا نرى إدانة الأحياء والأموات، وإنما مكافأة الأحياء فقط[48].
القديس أغسطينوس
* إذ اقترب وقت نزوله، فكيف نصعد نحن؟ نصعد في كرامة. فعندما يسير ملك (بمركبته) في مدينة، يخرج الذين في كرامة ليستقبلوه، وأما الذين تحت الدينونة فينتظرون القاضي في الداخل. وعند مجيء أب حنون يصعد في مركبة أولاده الذين هم حقيقيون وأيضًا الذين يتأهلون لأن يكونوا أولاده لكي يروه ويقبلوه؛ أما الذين يقاوموه فيبقون في الداخل. إننا نُحمل بمركبة أبينا، فقد استقبله (الآب) وهو صاعد في السحاب، ونحن أيضًا نُؤخذ في السحاب. ألا ترون عظمة الكرامة؟ فكما نزل هو، ننطلق نحن لنلتقي به، وما هو أكثر تطويبًا من كل شيء، أننا سنكون معه[49].
القديس يوحنا ذهبي الفم
يرى البابا أثناسيوس الرسولي[50] أن في هذا لتأكيد بأننا نعبد الرب المتجسد الصاعد هكذا، والذي سيأتي هكذا، إذ تعثر البعض في المسيح بسبب جسده.
"حينئذ رجعوا إلى أورشليم من الجبل الذي يدعى جبل الزيتون،
الذي هو بالقرب من أورشليم على سفر سبت" [12].
ألهب المنظر قلوبهم، فعادوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ (لو 24: 52)، وكانت المسافة بين الجبل وأورشليم هي "سفر سبت"، أي حوالي كيلومتر واحد، تُدعى بالعبرية "تخوم السبت".يرى البعض أن سفر سبت وإن كان لم يحدده الناموس، لكن حسب التقليد اليهودي كانت هذه المسافة تعادل ٢٠٠٠ خطوة، لأنه لم يكن يُسمح لأحد أن يقيم حول الخيمة بأكثر من ٢٠٠٠ خطوة حتى يمكنه الذهاب إلى الخيمة للعبادة في يوم السبت. صار هذا تقليدًا خاصًا بمحلة إسرائيل. كما لم يكن يُسمح للاويين أن يسكنوا في مدن أبعد من ٢٠٠٠ خطوة من الهيكل لذات الغرض.
صعود السيد وهبهم فرحًا داخليًا، إذ بدأوا يدركون أن مملكة المسيح هي السماء، وحيث يملك هو يملكون معه. هذا الفرح الداخلي وهبهم قوة تتحدى كل الظروف، وكما قيل: "لأن فرح الرب هو قوتكم" (نح 8: 10). صار كل ما يشغلهم أن يشهدوا له أمام العالم لكي يصير الكل "منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب" (2 بط 3: 12).
لم يسأل التلاميذ الملاكين عن موعد مجيئه ثانية، فقد اُمتصت أفكارهم في ذاك الصاعد إلى السماء، وأدركوا ما سبق فقاله المرتل عنه: "السحاب والظلام تحت قدميه" (مز 18: 9؛ 92: 2). أدركوا أنه رب السماء. كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كملكٍ أظهر لهم المركبة الملوكية، هذه قد أُرسلت إليه[51].]
"ولما دخلوا صعدوا إلى العلية التي كانوا يقيمون فيها،
بطرس ويعقوب ويوحنا
وأندراوس وفيلبس وتوما
وبرثولماوس ومتى ويعقوب بن حلفى
وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب" [13].
وردت قائمة التلاميذ الإثني عشر في متى ١٠: ٢ الخ؛ مر ٣: ١٦ الخ؛ لو ٦: ١٤ الخ).
سمعان القانوي أو الغيور: يقصد بالقانوي أنه كان من قانا، أما الغيور فلأنه يتبع جماعة الغيورين، وهي فئة كانت تنادي بالتحرر من الاستعمار الروماني للتمتع بالحرية باستخدام القوة. استمدوا فكرهم من فينحاس الغيور علي بيت الرب (عد 25: 10-13). ويقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي أنهم ذوو صلة بثوداس الثائر (أع 5: 37) الذي رتب ثورة ضد الرومان سنة 6 ميلادية. ومع فشل الثورة بقي إتباعه يحملون روحه الثائرة، وقد أثاروا فيما بعد ثورة عام 66 انتهت بدخول تيطس أورشليم عام 70م وحرق الهيكل وتدميره تمامًا.
كانوا يجتمعون معًا في العلية التي في بيت مريم أم القديس مرقس الرسول. ويبدو أن البيت كان متسعًا جدًا وأيضًا العلية، إذ قيل: "كانوا يقيمون فيها". ربما كانت النسوة يُقِمْنَ في الدور الأسفل، بينما كان التلاميذ يقيمون في العلية. وعندما حلّ الروح القدس كريح عصفت بالبيت كله وملأته.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن التلاميذ لم يظهروا أية علامة للحزن عند صعود السيد المسيح كما حدث مع أليشع حين أُخذ سيده إلى السماء، إذ مزق ثوبه (2 مل 2: 12). بل يقول الإنجيلي لوقا: "فسجدوا له، ورجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله" (لو 24: 52-53). ولعل سرّ فرحهم قول الملاك: "سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء" [11]. صعوده ورجاؤهم في المجيء الأخير له حول حياتهم إلى تسبيحٍ دائمٍ في هيكل الله.
"هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفسٍ واحدة على الصلاة والطلبة،
مع النساء ومريم أم يسوع ومع اخوته" [14].
جاءت كلمة "يواظبون" في اليونانية لا تعنى مجرد الانتظام، وإنما تعني الغيرة المتقدة والإصرار على الانتظام بأمانة وإخلاص.
"الصلاة والطلبة": غالبًا ما عنى بالصلاة هنا الصلوات الطقسية الخاصة بالسواعي، وما تضمنته من طلباتها الثماني عشرة، أو البركات "براكوت".
يكشف سفر الأعمال عن طبيعة الكنيسة أنها جماعة مقدسة دائمة الصلاة والطلبة بنفسٍ واحدةٍ
* هذا هو السلاح القوي في التجارب، وقد تدربوا (التلاميذ) عليه: الصلاة بنفس واحدة! حسنًا![52]
القديس يوحنا الذهبي الفم
كانت الكنيسة تضم "النساء" دون تخصيص، اللواتي تبعنه من الجليل (لو 8: 1-3)، واللواتي كن معه عند الصليب وعند القبر (مت 27: 55-56). ويقول الإنجيلي: "وأُخر كثيرات صعدن معه إلى أورشليم". (مر 15: 41)
"اخوته" كما يقول القديس جيروم إنهم أبناء خالته (مر 15: 40).
٤. تكملة عدد التلاميذ
"وفي تلك الأيام قام بطرس في وسط التلاميذ،
وكان عدَّة أسماء معًا، نحو مائة وعشرين فقال:" [15].
جاء تعبير "قام" في الكتاب المقدس ليشير ليس بالضرورة أنه وقف، وإنما اهتم بالقيام بعملٍ معينٍ.
لماذا قام القديس بطرس بهذا الدور مع أنه لم يكن أسقفًا على أورشليم؟
يرى البعض أنه قام بهذا الدور لأنه كان أكبرهم سنًا. ويرى آخرون لأنه كان بطبعه غيورًا، هذا ولم يكن يشغل أذهان التلاميذ من يكون متقدمًا فيهم.
تم اختيار التلميذ الثاني عشر عوض يهوذا في حضور وشركة الصعب كله (نحو مائة وعشرين).
* يجب أن يُختار الكاهن في حضرة وأمام أعين الكل، وأن يبرهن على أنه مستحق ومؤهل بحكم عام وبشهادة جماعية، كما جاء في سفر العدد حيث قال الرب نفسه لموسى: "خذ هرون والعازار ابنه واصعد بهما إلى الجبل... أمام أعين كل الجماعة" (راجع عد 20: 25-26). يأمر الله باختيار الكاهن في حضرة الجماعة كلها، بمعني أنه يعلم ويظهر أن سيامة الكهنة يجب ألا تتم إلا بمعرفة الشعب القريب[53].
الشهيد كبريانوس
أما ذكر العدد "نحو مائة وعشرين" فذلك لأنه بحسب التقليد اليهودي هو أصغر رقم لابد أن يتوفر لأية جماعة يهودية لتأخذ صفتها كجماعة لها حق تدبير ذاتها بذاتها. هذا لا يعني أنه لم يكن غيرهم مؤمنين بالسيد المسيح، وإنما هؤلاء فقط كانوا مجتمعين في العلية.
وقد دُعوا "تلاميذ" لأنهم كانوا يحسبون أنفسهم تلاميذ في مدرسة السيد المسيح.
وقف القديس بطرس الرسول يتحدث مع الجموع عن اختيار الله لتلميذٍ يحل محل يهوذا.
تساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: [لماذا لم يسألوا المسيح (قبل صعوده) ليقدم لهم شخصًا يحل محل يهوذا؟ ما قد حدث كان حسنًا، لأنهم كانوا مشغولين في أمورٍ أخرى. ثانيًا فإن حضور المسيح معهم هو أعظم برهان أنهم يستطيعون أن ينالوا هذا، كما اختار التلاميذ حين كان في وسطهم (أثناء خدمته على الأرض)، فإنه لا يزال يعمل أيضًا وهو غائب عنهم (بالجسد). هذا ليس بالأمر الهين في تقديم تعزية لهم[54].]
* تطلعوا إلى وداعة يعقوب، فمع استلامه أسقفية أورشليم لم ينطق هنا بشيء. أيضًا لاحظوا وداعة الرسل الآخرين العظيمة، كيف أنهم خولوا له الكرسي، ولم يحاور الواحد الآخر، فقد كانت الكنيسة كما في السماء، لا تمارس شيئًا من أعمال العالم هذه، ولم تكن متألقة بالأسوار، ولا بالأعداد، بل بغيرتهم التي شكلت اجتماعهم، قيل أنهم كانوا نحو مائة وعشرين. السبعون شخصًا الذين اختارهم المسيح نفسه وآخرون من التلاميذ المتقدي الذهن جدًا مثل يوسف ومتياس [14]. وبينهم نساء كثيرات كما قيل عن اللواتي تبعنه (مر 15: 41)[55].
القديس يوحنا الذهبي الفم
في تعليق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا الحدث يقارن بين ما حدث في ذلك الزمان وما يحدث في أيامه، ففي عصر الرسل لم تكن هناك مناقشة بين المختارين للعمل الرسولي أو الأسقفي، لأن الأسقفية هي قبول أحمال الآخرين وليست تمتعًا بكرامة وراحة.
* دعوني أقول: لماذا هذا الأمر صار موضوع منافسة؟
لأننا أتينا إلى الأسقفية ليس كعملٍ تدبيري واهتمام بالإخوة، وإنما كمركز للكرامة والراحة.
ألا تعلمون أن الأسقف يلزم أن ينتمي إلى الكل، لكي يحمل أثقال الجميع، فإن كان الآخرون غضبى يُغفر لهم، أما إن غضب هو فلن يُغفر له. فإن أخطأ الآخرون لهم أعذارهم، أما هو فليس له عذر.
ليتكم لا تشتاقوا إلى الكرامة، ولا تجروا وراءها. فإن الأمر هكذا: وهو أن الأسقف معرض لألسنة الجميع، ونقد الكل له، سواء كانوا حكماء أو أغبياء. كثيرون يسيئون إليه كل يوم، بل وكل ليلةِ.
كثيرون يكرهونه وكثيرون يحسدونه. لا تتحدثوا معي عن (الأساقفة) الذين يطلبون نفعًا من الكل، الذين يرغبون في النوم، والذين يطلبون هذه الوظيفة للراحة. ليس لنا ما نتكلم به عن هؤلاء، إنما نتحدث عمن يسهرون على نفوسكم، ويحسبون سلام ونفع من هم تحت قيادتهم قبل سلامهم ونفعهم[56].
* لست أظن أن كثيرين من بين الأساقفة يخلصون، بل كثير جدًا منهم يهلكون، والسبب في هذا أن هذا العمل يتطلب ذهنًا عظيمًا... إن هلاك نفس واحدة (من رعاياه) تحمل عنها عقوبة لا يمكن للغةٍ أن تعبر عنها. فإن كان خلاص تلك النفس ذات قيمة عظيمة بهذا المقدار أن صار ابن الله إنسانًا واحتمل الكثير، تأملوا أية مرارة تكون عقوبة من يفقد هذه النفس. لا تقل إنها خطأ الكاهن أو الشماس. فإن الجريمة تقع لزامًا على رأس من سامهما[57].
* إن أخطأت كشخصٍ فإن عقوبتك ليست عظيمة هكذا كما إن أخطأت كأسقف، فإنك تهلك[58].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"أيها الرجال الإخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب،
الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا،
الذي صار دليلًا للذين قبضوا على يسوع" [16].
قوله "أيها الرجال الإخوة" تعبير يُستخدم في الحديث إلى أشخاصٍ يحملون نوعًا من الجدية والوقار والاحترام، سواء كانوا رجالًا أو نساءً.
* يقول بطرس: "أيها الرجال الإخوة". فإن كان الرب قد دعاهم إخوة كم بالأكثر بطرس. إذ كان الكل حاضرين يقول: "أيها الرجال". انظروا كرامة الكنيسة، حالها الملائكي. لا يوجد تمييز بين "ذكر وأنثى". أود أن تكون الكنائس حاليًا هكذا. ليس من يشغل ذهنه أمر أرضي، ليس من بينهم من يفكر بقلقٍ من جهة الأمور العادية[59].
القديس يوحنا الذهبي الفم
الإشارة إلى النبوات الخاصة بخيانة يهوذا الإسخريوطي وقطعه وموته (مز 41: 9) تشير إلى أن هذه الأحداث تمت بسماحٍ إلهي، وأنها أحداث لها خطورتها. كما تكشف عن انشغال الكنيسة منذ بدء انطلاقها بجميع نبوات العهد القديم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
هنا يقدم لنا القديس بطرس طريق التعزيات الإلهية، أن ما حدث لم يكن جزافًا، بل سبق فأعلنت عنه النبوات. هكذا فإن التمتع بنبوات العهد القديم تعطي تعزية للنفس أن الإيمان الذي نعيشه حقيقة لا جدال فيها، لأن كل ما حدث إنما سبق فأعلن عنه الله بالأنبياء قبل مجيء السيد المسيح بمئات وأحيانا آلاف السنوات. يمكن للدارس أنه يتعرف بالروح على كل أحداث الخلاص من العهد القديم الذي كان ولا يزال في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح. هذا بالنسبة لخطة الله الخلاصية للعالم كله، والتي من خلالها ندرك اهتمام الله بكل إنسانٍ فينا شخصيًا، ففي ذهن الله خطته نحوه لخلاصه ومجده!
* "كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله". إنه يعزيهم دائمًا بالنبوات، هكذا يفعل المسيح في كل المناسبات. هكذا يُظهر لهم بنفس الطريقة أن ما حدث ليس بالأمر الغريب، بل ما سبق فأخبر عنه[60].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هذا هو سرّ تعزيتنا على مستوى العالم والكنيسة والشخص نفسه! هذا وما يعزينا أن الروح القدس نفسه هو قائد الكنيسة منذ بدء انطلاقها. لهذا لم يقل القديس بطرس: "قاله داود" بل "الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود"، فهو القائد الحقيقي عبر الأجيال حتى يحمل كنيسة الله سواء في العهد القديم أو الجديد إلى المجد الأبدي. يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة بقوله: [ألا ترون أنه ليس بلا هدف قلت من البداية أن هذا العمل (السفر) هو سفر "قيادةالروح القدس"[61].]
كثيرًا ما يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ما سجلته الأناجيل وسفر الأعمال عن يهوذا، فإن الإنجيليين وهنا أيضًا الرسول بطرس يتحدثون عنه مشيرين إلى الأحداث التي تمت والنبوات عنه دون تعليق باستخفاف من جانبهم. يقدم القديس بطرس الحقيقة مجردة، فلم يصفه كخائنٍ لسيده ولا كبائسٍ.
حديث الرسول هنا يؤكد أن ما كتبه داود النبي في المزامير كان بوحي الروح القدس.
* حيث يكون الكلمة يوجد أيضًا الروح... الروح غير منفصل عن الابن... عندما صار الكلمة إلى النبي، كان النبي يتكلم في الروح بالأمور التي أعطيت له من الكلمة، وهكذا كتب في سفر الأعمال عندما قال بطرس: "أيها الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب، الذي سبق الروح القدس فقاله" [16]. وفي زكريا عندما صار الكلمة إليه قيل: "لكن اقبل كلامي وفرائضي التي أوصي بها الأنبياء بروحي" (زك 1: 6). وعندما كان يوبخ الشعب قال: "جعلوا قلبهم عنيدًا لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله الرب ضابط الكل بروحه على يد الأنبياء الأولين" (زك 7: 12). وعندما تكلم المسيح في بولس- كما قال عن نفسه: " أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم في" (2كو 13: 3). فلم يكن أحد يمنحه القوى لكي يتكلم سوي الروح الذي عنده، لأنه هكذا يكتب: " حسب مؤازرة روح يسوع المسيح لي" (في 1: 19).