اعمال الرسل 1 - تفسير سفر أعمال الرسل
الإعداد لميلاد الكنيسة الجزء(4)للقمص تادرس يعقوب ملطي
وأيضًا عندما تكلم فيه المسيح، قال: "غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة أن وثقًا وشدائد تنتظرني" (أع 20: 23). لأن الروح ليس خارج الكلمة، بل إذ هو الكلمة فهو في الله بالكلمة، وهكذا توهب المواهب الروحية في الثالوث[62].
* فعل الثالوث هو واحد، فالرسول لا يعني أن ما يُعطي (2كو 13: 13) يعطي من كل واحد متنوعًا ومجزئًا، ولكن ما يُعطي إنما يُعطي في الثالوث والكل من إله واحد... لذلك حينما يكون الكلمة في الأنبياء فإنهم يتنبأون بالروح القدس. وحينما يقول الكتاب: "صارت كلمة الرب" (إر 1: 2؛ مي 1: 1)، فهذا يوضح أنه يتنبأ بالروح القدس[63].
البابا أثناسيوس الرسولي
"إذ كان معدودًا بيننا،
وصار له نصيب في هذه الخدمة" [17].
اختار ربنا يسوع المسيح يهوذا كرسولٍ (لو ٦: ١٣-١٦)، وحُسب واحدًا من الرسل، لكنه لم يكن مؤمنًا صادقًا في إيمانه. فقبل ممارسته لخيانة سيده دعاه الرب "شيطانًا" (يو ٦: ٧٠).
كان السيد المسيح يعرفه تمام المعرفة، فلماذا اختاره رسولًا وسلمه أمانة الصندوق وهو يعلم أنه سارق ولص؟
يرى البعض أن السيد المسيح اختار يهوذا مع علمه بما سيفعله، لأنه كان في ذلك الحين مستعدًا للإيمان بالسيد والتبعية له، أي فيه شيء من الصلاح. لم يحاسبه الرب على ما سيكون عليه، بل ما هو عليه في لحظات اختياره. هذا ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح اختاره ولم يدنه حتى لحظات الخيانة العملية ليعطي للكنيسة درسًا ألا تنشغل كثيرًا بالمحاكمات، بل بالعمل الإيجابي للكرازة والخدمة وإعلان الحب، لتعطي الفرصة حتى للخونة أن يرجعوا إلى الله بالتوبة إن أرادوا.
لقد سمح الله بوجود يهوذا بين التلاميذ، ولم يكشف عن شخصه كخائنٍ ولصٍ علانية حتى النهاية لكي ندرك أنه ليس فقط وسط المخدومين بل والخدام أنفسهم من هم ليسوا قمحًا بل زوان، وليس لنا أن نقتلع الزوان مادام مختفيًا وسط الحنطة حتى يحين الوقت اللائق باقتلاعه.
يسمح الله حتى للأشرار أن يعملوا، وهو إذ يقدس حرية الإنسان لن يلزمهم بالتوبة، فإن تابوا كان ذلك لبنيانهم ومجدهم، وإن أصروا على الشر يحول حتى شرهم لبنيان الكثيرين.
سمح أيضًا بوجود يهوذا بين التلاميذ لكي يعطي درسًا للأجيال كلها عن خطورة الطمع ومحبة المال حتى بين خدام الكلمة، فإنه ليس من خطية ارتكبها إنسان في التاريخ مثل يهوذا محب المال. وهي خطية قديمة سيطرت ولا تزال تسيطر على الكثيرين. حذرنا منها الله عندما دخل بشعبه إلى كنعان حيث أخفى عاخان الفضة والرداء ولسان الذهب، كاسرًا وصية الرب من أجل محبته للمال فهلك (يش ٧: ٢١)، وها هو يهوذا يخون سيده، وسيمون في سفر الأعمال يطلب أن يقتني مواهب الروح بالمال.
الكلمة اليونانية التي تُرجمت "معدودًا" معناها حصاة أو حجر صغير، إذ كان الحصي يُستخدم في العَّدْ.
يدعو اختيار الشخص للخدمة "تصيبًا"، لأنه لا فضل للإنسان في اختياره خادمًا، بل هي نعمة الله التي تختار وتعمل فيمن تختارهم إن سلكوا بالأمانة في دعوتهم.
* يدعو (العمل الكرازي) في كل موضع "نصيبًا"، مظهرًا أن كل شيء هو من نعمة الله واختياره، مذكرًا إياهم بالعصور القديمة حيث اختار اللاويين في القديم نصيبًاله[64].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فإن هذا اقتنى حقلًا من أجرة الظلم،
وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط،
فانسكبت أحشاؤه كلها" [18].
روى لنا الإنجيلي متى (27: 3-10) كيف رد يهوذا الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، شاعرًا بندامة أنه سلم دمًا بريئًا، لكن في غير رجاء في الرب غافر الخطايا. أما هم فرفضوا استلامها، لأنهم حسبوا المال ملكًا له، ولعلهم رفضوا المال لأنه ثمن دمٍ بريء. وإذ طرحها في الهيكل اشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. واعتبر القديس بطرس كأن يهوذا نفسه قام بشراء هذا الحقل. جاء في النسخة اليونانية لوستكوت وهورت عبارة: "واقتنى حقلًا من أجرة الظلم" بين قوسين، بكونها ليست حديثًا للقديس بطرس، بل هي تعليق للقديس لوقا كاتب سفر الأعمال.
ستر عليه السيد المسيح كل هذه السنوات، أما هو إذ لم يستر على نفسه بالرجوع إلى الله انفضح في العالم كما ينفضح في يوم الرب العظيم. انسكبت أحشاؤه الجسدية، وانفضحت أحشاء نفسه التي فسدت بالخيانة للرب نفسه.
اختلفت آراء الكثير من الدارسين في موت يهوذا:
1. الرأي السائد هو أن يهوذا قام بالانتحار شنقًا، لكن الحبل لم يحتمله بعد، فمن ثقل الجسد انقطع وسقط يهوذا على وجهه، وغالبًا على صخرة، فانشقت بطنه وانسكبت أحشاؤه!
2. شنق نفسه في مزبلة، وبقي جثمانه حتى تعفن وانتفخت بطنه ثم انشقت أو جاءت الكلاب ونهشت بطنه المنتفخة لتأكل جثمانه.
3. إذ ملأه اليأس والرعب ألقي بنفسه من سطح بيته فسقط أرضًا وانشقت بطنه.
4. يرى لايتفوت Lightfoot أنه إذ دخله الشيطان طار به في الهواء وطوّح به، فسقط على الأرض وتمزقت بطنه.
5. يرى Wakefield أنه من شدة الحزن مات مغلوبًا على أمره.
يفسر البعض موت يهوذا شنقًا وانسكاب أحشائه رمزيًا، بأن ذلك يشير إلى سقوطه من رتبته العلوية كرسول للسيد المسيح إلى أعماق الهاوية كخائنٍ للرب، ففقد مركزه وكرامته وصار في عارٍ وخزيٍ أمام الجميع كمن انسكبت أحشاؤه ليصير موضع ازدراء الكل.
"وصار ذلك معلومًا عند جميع سكان أورشليم،
حتى دُعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما،
أي حقل دم" [19].
يرى البعض أن يهوذا أراد أن يحمل صورة التقوى والحب حتى في أثناء مداولته للخيانة، فادعى أمام القيادات اليهودية أنه سيأخذ الفضة لا لنفسه بل لخدمة الغرباء، بشراء حقلٍٍ لدفن الغرباء. وإذ سلم الفضة للهيكل قاموا بتحقيق رغبته، وحسبوا كأنه هو الذي اشترى الحقل، لأنه من ماله.
لعل قادة اليهود نشروا خبر تسليم يهوذا للمال وشراء الحقل بين الشعب ليعلنوا أن يهوذا لم يطلب المال في تسليم سيده لأجل الطمع، وإنما لأجل الخدمة، وأنهم حققوا رغبته حتى بعد انتحاره.
دُعي الحقل "حقل دم" باللغة الكلدانية-السريانية Syro-Chaladic، وقد دُعي هكذا لأنه أُشتري بثمن حياة الرب أو سفك دمه بالصليب. وقد بقي هذا الاسم معروفًا يشهد عن جريمة الخيانة التي ارتكبها يهوذا إلى أجيالٍ كثيرةٍ.
"لأنه مكتوب في سفر المزامير:
لتصر داره خرابًا،
ولا يكن فيها ساكن،
وليأخذ وظيفته آخر" [20].
ما ورد هنا جاء في المزمور 69: 25، 28؛ 109: 8. لم يذكره القديس بطرس كإدانة ليهوذا، ولا تشهيرًا به، وإنما يتحدث من باب الشعور بالمسئولية كقول السيد المسيح له: "وأنت متى رجعت ثبت إخوتك" (لو 22: 32)، فشعر بالتزام تكملة عدد التلاميذ الإثني عشر مقابل عدد أسباط العهد القديم (لو 22: 29-30) "وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر".
جاءت النبوة عن يهوذا في مز 69: 25، 28 بصيغة الجمع، لأنها لا تشير إلى يهوذا وحده، وإنما إلى كل الذين سلكوا معه ذات الطريق، وهم رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب. وكأن ذلك ينطبق عليهم حيث حققت هذه الجماعة الخيانة ونُزع عنهم العمل الكهنوتي والخدمة، وتوقف عملهم كمسئولين عن تدبير الهيكل أو بيت الرب الجديد.
صار هذا الحقل هو داره الذي أُشتري بماله الذي اقتناه بالخيانة لسيده، هذا الدار صار مقبرة تضم الغرباء من اليهود الذين يموتون في أورشليم. باسمه اشتروا هذا الدار المملوء خرابًا، والذي في ذهن القديس يوحنا الذهبي الفم مقدمة لما سيحل بأورشليم كلها، إذ صارت حقل دم، حيث دُمرت وصارت مقبرة لكثيرين من اليهود حين دخلها تيطس الروماني سنة 70م.
جاءت كلمة "وظيفته" في اليونانية thn episkophn "أسقفيته episkopeen"، وهي تعني "الإشراف".
"فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا
كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج" [21].
"منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا،
يصير واحد منهم شاهدًا معنا بقيامته" [22].
ما هي مؤهلات المختار للخدمة؟
1. أن يكون قد عاصر السيد المسيح وشاهد معموديته، ولازمه واستمع إليه واستنار بتعليمه.
2. تعبير "دخل وخرج" يشير إلى المرافقة للشخص في كل أعمال الحياة. أن يكون قد رافق السيد المسيح حتى لحظات صلبه، واجتمع مع التلاميذ ورافقهم، فلا يكون اختياره مجرد تحقيق لعدد 12، بل قد تأهل عمليًا لهذا العمل الرسولي.
3. بقوله: "شاهدًا معنا بقيامته" يركز القديس بطرس على تمتعه بخبرة القيامة مع المسيح التي بالحق غيرت مفاهيم المؤمنين وإمكانياتهم. وكما يقول القديس بطرس: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات". (1 بط 1: 3)
* لم يقل أن يكون شاهدًا للأعمال الأخرى بل للقيامة وحدها... لأن الأمور الأخرى كانت واضحة ومعروفة، أما القيامة فتمت في سرية، وأعلنت لهؤلاء فقط. إنهم لم يقولوا: قد أخبرتنا الملائكة، بل نحن نرى (نشهد). فقد كانوا في ذلك الوقت في حاجة ماسة أن يكونوا رجالًا يمكن تصديقهم لأنهم شاهدوا[65].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فأقاموا اثنين:
يوسف الذي يدعى برسابا الملقب يوستس، ومتياس" [23].
غالبًا ما اتسم الاثنان بالتعقل والحكمة والتقوى، وربما كانا أكبر من غيرهما سنًا، وكان يصعب التمييز بينهما، لهذا التجأوا إلى الله ليختار من بينهما، وذلك بالالتجاء إلى القرعة بعد الصلاة.
هنا نلاحظ كيف أعطي الرب لكنيسته حرية اختيار الخدام على أساس الالتزام بالسمات اللائقة بهم.
"يوسف الذي يُدعى بارسابا"، أو باشابا، أي المولود يوم السبت أو ابن السبت أو ابن الشايب. يرى البعض أن بارسابا مشتقة من كلمتين سريانيتين: "بار" معناها ابن، وساباس Sabas ومعناها قسّم أو راحة أو هدوء أو سبي.
يظن البعض أنه ذات الشخص الوارد في أع ٤: ١٦ باسم برناباس، لكنه ليس من دليلٍ على ذلك. أما لايتفوت Lightfoot فيظن أنه ابن اليفوس Alpheus وأخ يعقوب الصغير، وأنه اُختير بحكم قرابته للسيد المسيح.
دُعي "يوستس"، وهو اسم لاتيني معناه "بار"، وربما دُعي هكذا بسبب استقامته.
يخبرنا يوسابيوس القيصري عن فيلبس الذي من صيدا أن بابياس يروي عن بنات فيلبس العذارى النبيات (أع 21: 9) أن يوستس شرب سم ثعبان باسم ربنا يسوع ولم يُصب بسوء، متحديًا بعض جاحدي الإيمان، معتمدًا على قول السيد: "وإن شربوا سمًا مميتًا لا يضرهم" (مر 16: 18).
"متياس" تعني "عطية الله". لا يُعرف شيء عن عائلته أو شخصيته سوى أنه شارك الرسل أتعابهم واحتمال الاضطهادات، ونال بركة الكرازة بالإنجيل. بحسب يوسابيوس القيصري هو أحد السبعين الذين اختارهم السيد المسيح. قام بالتبشير في أثيوبيا[66].
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذكر متياس بعد يوسف الذي يُدعى بارسابا، قائلًا: [ليس بدون سبب ذُكر متياس في الآخر، فقد أراد أن يظهر أنه غالبًا من هو مكرم من الناس يكون الأقل عند الله[67].]
"صلوا قائلين:
أيها الرب العارف قلوب الجميع،
عيِّن أنت من هذين الاثنين، أيا اخترته" [24].
ألقوا القرعة ليس بلا تمييز، إنما بعد اختيار حتى لم يعد ممكنًا تمييز أحدهما عن الآخر، فالتجأوا بروح الصلاة إلى الله الفاحص القلوب ليختار من يراه صالحًا للعمل. فحص القلوب خاص بالله وحده. "أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى" (إر ١٧: ١٠؛ راجع مز ١٣٩: ١، ٢٣؛ أي ٢٨: ٩)، وقد وُصف ربنا يسوع المسيح بذات هذه السمة الإلهية الخاصة به وحده: "فستعرف جميع الكنائس إني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب" (رؤ ٢: ٢٣).
يرى البعض أن هذا التصرف، وقد كان مًستخدمًا في العهد القديم، توقف بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين، حيث يتدخل في حياة الكنيسة لمعرفة مشورة الله، كما جاء في فرز برنابا وشاول للخدمة بين الأمم (أع 13: 2-3).
"أيها الرب": بعد الصلب اعتاد التلاميذ أن يوجهوا الحديث إلى السيد المسيح بكونه: "الرب" أو "الإله" دون تمييز بين اللقبين (أع ١: ٦؛ ٧: ٥٩؛ يو ٢٠: ٢٨).
"ليأخذ قرعة هذه الخدمة،
والرسالة التي تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه" [25].
تخلى يهوذا عن خدمته منحدرًا إلى الهلاك، واحتل متياس موضعه ليتمتع بخدمة المجد.
جاءت كلمة "قرعة" KlhronTon في النسخ القبطية والفولجاتا وBezae"موضع"، أو يحتل مركزه الرسولي.
"ليذهب إلى مكانه": إذ اشترى يهوذا "حقل دم"، أو اشتراه رؤساء الكهنة والفريسيون باسمه، ترك يهوذا مركزه الرسولي لكي يذهب إلى الموضع الذي اشتراه بمال الخيانة والغدر. ويرى البعض أن كلمة "مكانه" هنا تشير إلى مركزه السابق؛ فحين اُختير رسولًا ترك مكانه بين أسرته ليكون عضوًا في الأسرة الإلهية، أما وقد مارس الخيانة بإرادته عاد إلى أسرته ومعارفه وأصدقائه القدامى. ويرى فريق ثالث أن تعبير "ليذهب إلى مكانه" تعبير شائع يشير إلى الموت حيث يذهب الشخص إلى موضعه الأخير، سواء في الفردوس مع المسيح أو في الجحيم مع إبليس إلى يوم الرب العظيم.
لذلك جاء في التفسير اليهودي القديم[68] للعبارة "وانطلق (بلعام) ورجع إلى مكانه" (عد ٢٤: ٢٥) أنه رجع إلى جهنم مصيره.
وجاء في الترجوم Targum أو إعادة الصياغة الكلدانية للعبارة الواردة في جا ٦: ٦: "وإن صارت أيام إنسان ٢٠٠٠ عامًا دون أن يدرس الناموس ويمارس العدل، ففي يوم موته تنزل نفسه إلى الهاوية، الموضع الذي يذهب إليه كل الخطاة". وجاء في رسالة القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية إلى أهل ماغنسيا Magnesians: [لما كان لكل شيء نهاية فإن الأمرين: الموت والحياة يستلقيان معًا، ويذهب كل واحدٍ إلى موضعه.]
هكذا ذهب يهوذا إلى الموضع اللائق به كطمَّاع وخائن، إذ ليس له موضع في كنيسة المسيح هنا وفي الفردوس حيث السيد المسيح.
بالقول "مكانه" يكشف الكتاب المقدس عن عجز الأشرار عن الشكوى فإنهم يذهبون إلى الموضع الذي اختاروه واللائق بشخصياتهم، إذ لا يستطيعون أن يعبروا إلى السماء، حيث ليس لهم موضع فيها.
* "ذهب إلى مكانه" [25]... إذ اختار هذا الشرّير أن يكون خاطئًا، فعل ما أراد، ونال ما لم يرد. في هذا فعل ما أراده، كُشفت خطيته، فاحتمل بهذا ما لم يرده، تدبير اللَّه الممدوح! [69]
القديس أغسطينوس
"ثم ألقوا قرعتهم،
فوقعت القرعة على متياس،
فحُسب مع الأحد عشر رسولًا" [26].
لم يكن موت يهوذا هو علة الشعور بالحاجة لملء وظيفته الرسولية، فقد استشهد يعقوب الرسول بسيف هيرودس، ولم يجتمع التلاميذ لانتخاب رسول عوضًا عنه، لكن سقوط يهوذا عن الرسولية وخيانته أنشأ الحاجة إلى ذلك.
لا نعرف بالتدقيق كيف تمت القرعة yhfov، لكن عادة ما كانوا يأتوا بقطعتين من الخشب أو المعدن أو الرق ويُكتب اسم كل شخص على احداهما ثم يضعونها في جرة، وتُقدم صلوات وتقدمات، ثم يضع شخص ما يده ليسحب إحدى القطعتين ليكون ذلك من قبل الله.
هذا وإن تكملة رقم ١٢ للرسل لم يكن من باب تكملة عدد، وإنما لأن رقم ١٢ في العهدين القديم والجديد يشير إلى ملكوت الله على الأرض، حيث يملك الثالوث القدوس (٣) على جهات المسكونة الأربع (٤)، فالمحصلة هي رقم ١٢.
* بقي العدد مقدسًا، يحوي العدد 12، لأنه كان ينبغي أن يعلنوا عن الثالوث في كل العالم، أي خلال أربعة أركان العالم. هذا هو السبب: ثلاثة في أربع مرات. قطع يهوذا نفسه، لكن لم يفقد الرقم قدسيته. لقد ترك معلمه، وعين الرب من يحل محله[70].
القديس أغسطينوس
ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كنورٍ للعالم يًرمز إليه بالنهار، والتلاميذ كأبناء النهار يًرمز إليهم بالاثني عشر ساعة للنهار. فالمسيح، اليوم أو النور، حال وسط الاثني عشر ساعة. لقد صار يهوذا ظلامًا فأُستبعد من الاثنى عشر ساعة ليحل محله متياس[71].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم انه إذ عين الله متياس لم ينزعج يوسف برسابا، ولا تضايق. فإن لكل عضو موهبته وعمله، فعدم اختياره لم يفقده دوره في العمل. يكشف القديس يوحنا الذهبي الفم عن مرارة نفسه لمفهوم الأسقفية في عهده حيث توجد منافسة، إذ يراها البعض سلطة وكرامة فيجرون إليها، عوض إدراكه أن الأسقفية هي قبوله أثقال الآخرين واحتمال نقد الكل، الحكماء والأغنياء، وأن يهتم بكل أحدٍ نهارًا وليلًا وأنه موضع كراهية الكثيرين وحسدهم.
يتساءل البعض: كيف سقط يهوذا في خيانة سيده وقد أدرك قوته الإلهية وسلطانه، وكان بين يديه الصندوق يسرق منه دون رقيب يحاسبه؟
يقدم الدارسون تعليلات كثيرة منها:
1. كان يهوذا كسائر التلاميذ والرسل حتى بعد قيامة السيد بل وحتى لحظات صعوده يتوقعون قيام مملكة زمنية، وإذ تحقق يهوذا بأن يسوع يرفض تمامًا أن يصير ملكًا حتى إن أجمع رأي الجماهير على ذلك، لذلك ضاعت كل أمنيات يهوذا هباءً.
2. كإنسانٍ محبٍ للمال لم يكن من الصعب على رؤساء الكهنة والفريسيين أن يستميلوه بالفضة لخيانة سيده.
3. لعله إذ كان يدرك سلطان سيده ظن أنه يأخذ الرشوة وينتفع بها بينما لن يستطيع أحد أن يقبض عليه أو يؤذيه، ولن يغلبه الموت. حقًا إنه يرشد عليه، لكن حتمًا سيتخلص السيد من أيديهم.
الإعداد الدائم لقيام الكنيسة ونموّها
بعد استعراضنا لما ورد في هذا الأصحاح يمكننا أن نوجز أن السيّد المسيح قد أعدّ تلاميذ ورسله ومنهم حوله لميلاد الكنيسة، ليصيروا هم كنيسته المقدّسة. هذا الإعداد ليس حدثًا تاريخيًا عبر مع الزمن، لكنّه إعداد وخبرة يوميّة يليق بالكنيسة أن تعيشها لكي تبقى أمًا ولودًا، تنمو على الدوام حتى تصير أيقونة مسيحها، وتضم كل يوم الذين يخلصون حتى مجيء الرب الأخير. هذا الإعداد كما رأينا هو الآتي:
1. نحمل مسيحنا الذي يعمل ويعلّم [1]، فنشاركه هذه السمة، مترجمين إيماننا إلى عمل محبّة وشهادة عمليّة صادقة عن عذوبة الخلاص.
2. نراه مع تلاميذه ونتلامس معه كل يوم خلال حياتنا الزمنيّة (الأربعين يومًا)، فنعلن عن يقين أنّه حيّ فينا، ببراهين عمليّة صادقة [3].
3. نتجاوب مع روحه القدّوس،عطيّته العظمى، بل واهب العطايا، نلناه في مياه المعموديّة ومسحة الميرون [5]، لكي يقودنا كل أيام غربتنا في حياتنا اليوميّة وشهادتنا لمسيحنا أمام الكثيرين.
4. ألا ننشغل بالمعرفة الباطلة،كالبحث عن الأزمنة والأوقات، بل نطلب القوة والسلطان الموهوب لنا لنحيا بروح القوّة لا الفشل والضعف [7-8].
5. لا يفارقنا منظر صعود مسيحنا الفريد، الذي يبهج قلوبنا ويرفعها إلى حضن الاب السماوي، مترقّبين بشوقٍ عظيم مجيئه الأخير على السحاب، ليحملنا بكل كياننا إلى المجد الأبدي [9-11].
6. ممارسة الحياة الكنسية كما في العليّة مع التلاميذ وكل الشعب، لا نكف عن الصلاة بنفسٍ واحدةٍ [13-14].
7. الطلب المستمر من اللَّه أن يرسل خدّامًا شهودًا لقيامته، كما اختار متياس لينضم إلى الأحد عشر رسولًا [24-26].
من وحي أعمال الرسل ١
هل من بداية جديدة؟
* قدم لنا رسولك لوقا قصة بداية انطلاق كنيستك.
ومع كل صباح نرى في هذا السفر بدء انطلاق كنيستك.
مع أنها قديمة لكنها تبقى دومًا جديدة.
تصرخ كل يوم: لنبدأ بدأً حسنًا!
* حديثك عن أمور الملكوت ممتع ولذيذ،
لأنه هو إعلان عن شخصك، يا كلي الحب.
أنت هو الملكوت بعينه، وبدونك ليس من ملكوت.
* تعدني ألاَّ أبرح أورشليم حتى ألبس قوة من الأعالي.
حققت وعدك، ووهبتني روحك النور والناري.
روحك يجعلني مصباحًا لا ينطفئ، ونارًا آكلة!
لن تستريح نفسي حتى أرى كل بشرٍ في أحضانك.
* لأخرج معك إلى جبل الزيتون.
يا له من منظر عجيب أن أراك ترتفع إلى السماء!
ليس للجاذبية الأرضية أثر على جسدك القائم من الأموات.
هوذا السماء بكل قواتها تترقب بفرح صعودك.
لتحمل قلبي معك،
فبه أرى عرشك،
وأدرك أسرار مجدك.
قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد.
أرفعه معك، فيرتفع كل كياني أيضًا ليكون معك!
* ها أنت في السماء مشغول بخلاص العالم كله،
ورسلك على الأرض مهتمون بالشهادة لك!
أنت مشغول بنا، ونحن مشغولون بك يا مخلص الجميع.
* طوبى لرسولك بطرس، وطوبى لكل الرسل الذين هو بينهم.
بقلبه الملتهب غيرة يطلب من يحمل نصيب يهوذا.
سأل لا بروح الرئاسة ولا السلطة،
بل بروح الحب وشهوة الخدمة والكرازة.
طوبى لإخوته، لأنه لم يتسلل إليهم فكر حسد،
ولكن بروح التواضع سلك الكل معًا!
ليس من يشتهي كرامة، ولا من يطلب مجدًا زمنيًا!
فالكل أعضاء في جسدٍ واحدٍ لك، يا أيها الرأس السماوي!
* إني في حيرة: هل أطوِّب متياس الذي اخترته رسولًا،
أم أطوِّب يوسف برسابا الذي تهلل باختيار زميله؟
طوباهما معًا، لأنهما شاهدان بالحق لقيامة الرب!
طوباك يا متياس من أجل جهادك كرسول.
وطوباك يا يوسف من أجل جهادك في الوزنات التي أعطاها لك الله.
* والآن استمع يا رب إلى طلبتي.
لنبدأ بدأً حسنًا مع كل صباحٍ جديد:
نصغي دومًا إلى أحاديثك السرية في القلب،
نثق في وعدك بعمل روحك الناري فينا،
تثبت نظراتنا دومًا على صعودك المفرح،
نبحث مع رسلك عن خدام ملتهبين بالروح،
وأخيرًا لن نستريح حتى نرى العالم قد صار سماءً!