عبرانيين 1 - تفسير رسالة العبرانيين
المسيح والأنبياء الجزء(1)للقمص تادرس يعقوب ملطي
مقدمة
الله يكلمنا
يكلمنا بطرق وأنواع كثيرة
بين الأنبياء والسيد المسيح
1. الابن
2. الذي جعله وارثًا للكل شيء
3. الذي به أيضًا عمل العالمين
4. بهاء مجده ورسم جوهره
5. حامل كل الأشياء بكلمة قدرته
6. صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا
7. جلس عن يمين العظمة
المسيح والملائكة
1. عظمته في البنوة
2. خضوعهم له
3. مسحه للعمل الخلاصي
4. أبديته
"اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ،
كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ،
الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ،
الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ
الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ،
وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ،
بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا،
جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي" [ع ١ - ٣].
مقدمة
افتتح معلمنا بولس الرسول رسالته بإعلان حديث الله مع الآباء، أي مع رجال العهد القديم بواسطة الأنبياء، مؤكدًا أولاً التزامه بالحب والخضوع لرجال العهد القديم؛ وثانيًا بإعلان وحدة العهدين. فإن الله الذي تحدث قديمًا مع رجال العهد القديم هو بعينه الذي يحدثنا نحن في هذه الأيام الأخيرة في ابنه. يتحدث مع الأولين عن الحق الإلهي خلال الظلال، أما الآن فيعلن الحق في كماله. بهذا لم يقلل الرسول بولس من شأن الأنبياء ولا من عظمة مجد العهد القديم، لكن ما هو أعظم منه هو مجد العهد الجديد، بكونه امتدادًا للعمل القديم ودخولاً إلى أعماقه وتحقيقًا لغايته. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يا له من أمر عظيم أن يرسل الأنبياء إلى آبائنا، أما بالنسبة لنا فقد أرسل ابنه الوحيد نفسه ... لم يرى أحد منهم (من الأنبياء) الله، أما الابن الوحيد فيراه[5]]. [يا للعجب! لقد تنازل واختار ألاَّ يتحدث (الله) معنا بواسطة عبيده بل بفمه ... كان لهم موسى معلمًا، أما نحن فلنا رب موسى؛ إذن فلنظهر الحكمة (الفلسفة) السماوية التي تليق بهذه الكرامة ولا نطلب أمرًا أرضيًا[6]].
لماذا بدأ الرسول مقارنته بالأنبياء؟ لأنه في بدء انطلاق الأمة اليهودية كان القائد هو موسى النبي وكان أخوه هرون رئيس كهنة. موسى يمثل إعلان الحق الإلهي خاصة خلال الشريعة، وهرون يمثل الجانب العملي الذبيحي والتعبدي الذي يقوم بالمصالحة بين الله والإنسان. العملان متلازمان ومتكاملان، فالإنسان ليحيا كمؤمن حقيقي وعضو في الجماعة المقدسة عليه أن يتقبل الحق ويتعرف عليه ليس فقط خلال الشريعة أو الوصية أو النبوة وإنما أيضًا خلال الحياة التعبدية الحقة، أي خلال ذبيحة المصالحة بين الله والمؤمن. هذا التلازم بين النبوة والكهنوت، أو بين الوصية والعبادة لم يدم كثيرًا فسرعان ما انحرف كهنة اليهود عن رسالتهم وتحولوا إلى الشكل دون الروح، وضاع الحق من بين أيديهم، فصارت هناك عداوة بين الكهنة الشكليين والأنبياء الحقيقيين، الأمر الذي برز بصورة صارخة في أيام إرميا النبي وحزقيال النبي، حيث لم يكن ممكنًا المصالحة بين الطرفين. أما السيد المسيح فهو وحده "الحق" في كماله يعلنه لنا خلال ذبيحته الفريدة على الصليب، وفي نفس الوقت هو رئيس الكهنة السماوي القادر أن يصنع تطهيرًا لخطايانا، جالسًا عن يمين الآب في الأعالي. في هذا السفر يقارن بين السيد المسيح والأنبياء، ليعود فيقارن في النهاية بينه وبين الكهنوت اللاوي، لكي يعلن في شخصه التحام الحق مع العمل الذبيحي أو التحام النبوة مع الكهنوت في صورة فريدة فائقة.
لقد أبلغ الأنبياء الصوت الإلهي للآباء بكونهم قنوات لا فضل لهم سوى تبليغ الرسالة كما هي، إذ "استؤمنوا على أقوال الله" (رو ٣ : ٢)، ويشهد السيد المسيح نفسه أن موسى والأنبياء تحدثوا عنه؛ أما السيد فهو الصوت عينه، أو هو الحق بذاته، يعلن عن الآب بكونه واحدًا معه في الألوهية، لهذا يقول: "ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت ١١ : ٢٧).
الله يكلمنا
في القديم كلم الله الآباء بالأنبياء، أما الآن فيكلمنا في ابنه. ماذا يعني الرسول بهذا؟ الله دائم الحديث معنا، يتحرك نحونا بحركة الإعلان عن حبه. يريد أن يتعامل معنا، فهو وإن كان مطلقًا فوق كل إدراك لكنه ليس ببعيد عنا، ولا بمنعزل عن الإنسان، يود إتحاد الإنسان معه لينعم بشركة أمجاده الأبدية.
كلام الله معنا ليس ألفاظًا تقف عند سماع الأذن لها، إنما هو حياة فعّالة، يشبهه الله بالمطر العامل في الأرض: "أنزل عليهم المطر في وقته فتكون أمطار بركة، وتعطي شجرة الحقل ثمرتها، وتعطي الأرض غلتها" (حز ٣٤ : ٢٦، ٢٧). ويؤكد الرسول في نفس الرسالة: "لأن كلمة الله حيَّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته. وليست خليقة غير ظاهرة قدامه" (٤ : ١٢ : ١٣). والسيد المسيح نفسه يقول: "كلامي روح وحياة".
يكلمنا بطرق وأنواع كثيرة
منذ بدء الخليقة الإنسان والله في حبه يتحرك نحونا ليتكلم معنا، وكما يقول القديس أغسطينوس: [أليس الله هو الذي تكلم في بدء البشرية مع آدم (تك ٣ : ١٧)؟ أليس هو بنفسه الذي تكلم مع قايين ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وكل الأنبياء وموسى؟! انظر فإنه يتحدث حتى مع الشخص الواحد ليس فقط مرة بل مرات كثيرة[7]].
إنه يتحدث منذ بدء البشرية بأنواعٍ وطرق كثيرة مستخدمًا كل وسيلة لعلنا نسمع صوته، ونتقبله فينا، ونتجاوب معه. يقول الوحي الإلهي: "كلمت الأنبياء وكثرت الرؤي وبيد الأنبياء مثلت أمثالاً" (هو ١٢ : ١٠)، وجاء في المزمور: "إله الآلهة تكلم" (مز ٥٠ (٤٩) : ١). ويعلق القديس أغسطينوس قائلاً: [تكلم بطرق كثيرة، فتكلم بنفسه بواسطة ملائكة، ونفسه أيضًا تكلم بواسطة الأنبياء، وتكلم بفمه، وهو يتكلم بنفسه بواسطة مؤمنيه خلال ضعفنا عندما ننطق بشيء من الحق. انظر إذن فإنه يتكلم بطرق متنوعة، وبأوانٍ كثيرة، مستخدمًا آلات كثيرة، لكنه هو بنفسه الذي ينطق في كل موضع بالتلامس أو الصور أو الإيحاء![8]].
بين الأنبياء والسيد المسيح
إن كان الله الآب تكلم خلال الأنبياء، لكن الأمر يختلف عن حديثه في الأيام الأخيرة معنا في ابنه. وقبل أن نتعرف على الاختلاف نذكر السبب لدعوة العهد الجديد بالأيام الأخيرة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حسنًا قال "الأيام الأخيرة"، فإنه بهذا يثيرهم ويشجعهم على الاهتمام بالمستقبل. في موضع آخر يقول: "الرب قريب لا تهتموا بشيء" (في ٤ : ٥، ٦)، وأيضًا فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنًا (رو ٣ : ١١)، هكذا هنا أيضًا. إذن، ما هذا الله يقوله؟ الذي يعيش في صراع إذ يسمع كلمة (الأخيرة) يسترد أنفاسه قليلاً عالمًا بحق أن الوقت حان لنهاية أتعابه وبداية راحته[9]]. كما يعلق ذات القديس على نفس النص، قائلاً أن الإنسان يتوقع في الأيام الأخيرة أن العقاب يقترب، والعطايا تقل، والخلاص غير متوقع، لكن ما حدث هو على نقيض ذلك إذ جاءت النعم فائقة.
نعود إلى حديث الآب، فإنه يتحدث بالأنبياء كآلات يستخدمها، أما في الأيام الأخيرة فيحدثنا في ابنه، ليس كآلة خارجه عنه تعلن صوته، إنما هو ذات كلمة الله، الواحد مع الآب. تجسد الابن لكي نقبل الالتقاء معه، حمل الصليب ليهبنا حق الدخول فيه نازعًا العداوة، وبقيامته صرنا كأبرار فيه نلتقي مع أبيه أبًا لنا، فلا نسمع في الابن مجرد صوت أو كلمات، إنما نتقبله فينا ونحن فيه، فنصير واحدًا مع كلمة الله، وأعضاء جسده. لم يعد كلام الله مجرد وصايا نتقبلها لنطيعه وإنما بالأكثر قبول للكلمة الإلهي وثبوت فيه، الذي وحده موضع سرور أبيه، كامل في طاعته له، فنحسب فيه موضع سرور وصايا مرعبة نخشى نيرها لكنها صارت تمتعًا بالكلمة، الذي يهبنا الحياة السماوية وشركة الأبديات في داخلنا ... وهذا ما قصده بكلماته: "ملكوت الله في داخلكم".
حين تحدث الأنبياء مع الآباء قدموا رسائل إلهية مجيدة، أما وقد تحدث الآب إلينا في ابنه فإنه قدم لنا ذاته سرّ حياة وخلاص وقيامة! فمن هو هذا الابن الكلمة الذي يقدمه الآب في هذه الأيام الأخيرة؟
1. الابن
يقول الرسول: "كلمنا في ابنه" ولم يقل "كلمنا في الأنبياء". فالابن إذ هو واحد مع أبيه يحمل فيه الآب على مستوى فريد ويحوينا نحن أيضًا داخله بتقديسنا بدمه، فنلتقي مع الآب فيه، نتعرف عليه وندخل إلى حالة إتحاد معه وشركة فائقة. حقًا لقد كان الروح القدس يهييء الأنبياء لقبول الرسالة الإلهية وتبليغها، لكن لم يكن ممكنًا للآب أن يستقر فيهم على مستوى الإتحاد، ولا أن يدخلوا بالبشر إلى أعماقهم ليلتقوا بالآب. الابن الوحيد الجنس هو القادر وحده أن يصالحنا مع أبيه فينا لنبقى معه وبه إلى الأبد.
في دراستنا لرسائل معلمنا بولس الرسول أدركنا الحقيقة اللاهوتية البارزة للإيمان المسيحي، ملخصها "في المسيح". ففيه يعلن لنا الآب ذاته ويحدثنا، وفيه صرنا مؤمنين (أف ١ : ١)، وفيه تمتعنا بالاختيار الإلهي (أف ١ : ٤)، وفيه نلنا الفداء (أف ١ : ٧)، وفيه يجمنعنا السمائيين والأرضيين (أف ١ : ١٠)، وفيه نتستغني في كل شيء (١كو ١ : ٥) ... الخ.
2. الذي جعله وارثًا للكل شيء
هنا يتحدث عن دور التجسد الإلهي، والابن خالق كل شيء أخلى ذاته وصار في شكل العبد حاملاً أيانا فيه، حتى إذا ما ورث كل شيء ببره الذاتي نرث نحن معه وفيه. من أجلنا أخلى ذاته عن أمجاده، تاركًا كل شيء حتى تعرى ودُفن في قبر لغريب، لكي يجد كل واحد منا له موضعًا فيه.
هذا هو دور الابن وهبنا الميراث فيه، أما الأنبياء فكانوا مجرد متحدثين عن الميراث الذي يعده الله لنا، يشيرون إليه دون أن يقدموه ولا حتى نالوه ... حتى ينعمون معنا بالمسيح ميراثنا الحق.
3. الذي به أيضًا عمل العالمين
هان يحدثنا الرسول بوحي من الروح القدس عن سمو المسيح عن الأنبياء دون ين يشير إليهم صراحة، فالأنبياء بشر قبلوا الرسالة الإلهية وكرسوا حياتهم ليحققها الله بواسطتهم، أما السيد المسيح فهو الخالق، صانع السماء والأرض، وكما يقول القديس يوحنا الحبيب: "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو ١ : ٣). به تمت الخليقة السماوية والأرضية، وبه أيضًا تتحقق الخلقة الجديدة فينا، فيقيم فينا سماءً جديدة وأرضًا جديدة. وكما يرى القديس أغسطينوس[10] أن السماء إنما تشير إلى النفس، والأرض إلى الجسد، فإن السيد المسيح يجدد نفوسنا وأجسادنا أي يعيد خلقتها، وذلك بروحه القدوس في مياه المعمودية.
4. بهاء مجده ورسم جوهره
يرتفع بهم الرسول إلى درجة أعلى ليروا الابن الكلمة الذي به كان كل شيء هو بعينه بهاء مجده ورسم جوهره، يقلل من مساواة الابن للآب أو يسيء إلى وحدانيتهما الأزلية؟
تعبير "بهاد مجده" يشير إلى الولادة الثانية فلا يمكن أن يقدم النور الأزلي بدون بهائه، فالابن هو النور من النور، أو البهاء الأزلي غير المنفصل عن النور، بل واحد معه. يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [من ذا الذي يرى نورًا بغير بهاء أو إشراق؟![11]] كما يقول: [إنه غير منفصل عن الآب كما أن البهاء غير منفصل عن النور[12]]. ويقول: [من الذي لا يرى أن البهاء لا يمكن أن يفصل عن النور وإنما بالطبيعة يكون هكذا شريكًا معه في الوجود، لا يأتي بعده؟![13]] وأيضًا: [كيف يكون الابن غير مشابه للآب في الجوهر، وهو صورة الآب الكاملة وبهاؤه، والقائل: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يو ١٤ : ٩)؟ إن كان الابن هو كلمة الآب وحكمته، فكيف يوجد زمان لم يكن فيه الابن هو كلمة الآب وحكمته، فكيف يوجد زمان لم يكن فيه الابن موجودًا؟![14]].
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ بأي وقار يفهم هذا، وعندئذ نتقبله، فإنه (مولود) منه بلا ألم، ليس بأعظم ولا أقل منه[15]]. كما يقول: [إذ يدعو الآب بهذا الإسم (النور) في العهدين القديم والجديد، استخدم المسيح نفس الإسم أيضًا (يو ١٢ : ٤٦)، لذا دعاه بولس أيضًا "بهاء" مُظهرًا أنه منه، شريكه في السرمدية[16]]. ويقول: [اسمع أيضًا المسيح نفسه يقول: "أنا نور العالم" (يو ٨ : ١٢)، لهذا استخدم كلمة بهاء بمعنى أنه نور من نور؛ لا يعني هذا فقط وإنما قصد أيضًا أنه ينير نفوسنا ويعلن لنا الآب والابن معًا (أي وحدتهما كوحدة النور بالبهاء)[17]].
إن عدنا إلى المقارنة بين السيد المسيح والأنبياء، نذكر أن موسى النبي في لقائه مع الله إنعكس على وجهه بهاء خارجي ومجد حتى لم يقدر الشعب أن يتفرس فيه، فاضطر إلى وضع برقع على وجهه عند الحديث معهم، يرفعه عندما يدخل إلى الحديث مع الله. وكان ذلك رمزًا للسيد المسيح "بهاء الآب" الذي لا يحمل بهاءً خارجيًا منعكسًا عليه، إنما هو البهاء بعينه غير المنفصل عن الآب، لبس جسدنا كبرقع موسى حتى يمكننا أن نتفرس فيه فنتعرف على إسرار أبيه، قائلين مع المرتل: "بنورك يا رب نقدر أن نعاين النور"، أي بابنك الوحيد الذي هو بهاؤك نقدر أن نعاين أسرار وندخل إلى أمجادك السرمدية.
أما دعوته "رسم جوهره"، فكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تشهد لشخصه أنه منتسب لذات جوهره[18]].