الشماس يوسف حبيب الجزء(4)
1 نسكه وفقره الاختياري
* أفقر يوسف حبيب نفسه من أجل الله فزاد غناه الروحي... مع كل محبي الإنجيل بالحقيقة. تنازل عن أن يلمع وعن رغبة إثبات الذات بالرغم من مواهبه، لكنه تنازل عن الكيان الظاهر، وملأ مكياله الحسن لذا ستكال له المواعيد "ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال" (1كو2: 9) "كيلًا جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا" (لو6: 38) خيرات مائة ضعف في العدد وفي العظمة.
* تجرد المقدس يوسف من روح الامتلاك وهرب من الكرامة حتى النهاية متشبهًا بمن تعرى وأخلى نفسه "الفقير الأبدي" لذا فاضت عليه نعم الله الجزيلة.. بعد أن سار غربته معوزًا.، لا يملك أي شئ ههنا،... مستعملًا العالم وكأنه لا يستعمله... متعففًا في كل شئ وقتي واشتهاء.
خفيفًا في مسيرته نحو الهدف المقصود... كل من تعامل معه أحس بأنه شخص من طراز غريب. مشغول دائمًا بالخطوة القادمة للحياة الدائمة والمستقر الأخير في سيرة حسنة.
* كان عفيفًا زاهدًا فيما في يدي الناس. وقد عبر كالنسيم الخفيف المتنسك، وتعلم لغة وعادات البلد التي سيرحل إليها متطلعًا لها فقيرًا في التعلقات والترابيات، ناظرًا إلى المدينة التي لها الأساسات والتي سيستوطن فيها.
* امتلك الله بقدر ما سلم نفسه له ليمتلكه، وقدم نموذجًا لخدمة الشماس "العلماني" المتبتل الفقير لله في عمل وحركة تتجدد يومًا بعد يوم. إلى أن أنفق وأنفق حتى الفلس الأخير.
وكان يرتدي جاكيت اقرب منه إلى بالطو، ويضع نسخا من كتبه في جيوبه ليقوم بتوزيعها.. وكأنه يأخذ مما له ومن جعبته ليعطينا. لم يفكر لا في لبس ولا في أكل بل كانت فلوسه كلها لربنا ولمدارس الأحد. وبالرغم من أنه كان ساكن في منطقة فيكتوريا إلا أنه كان أول الحاضرين للكنيسة...
وفي تجرده تجرد من كل شئ وتحرر من الأشياء البشرية، وكانت نفسه حرة تحيا سيرة التدبير فوجد الأشياء التي تفوق الكلام والرتب، وتنعم في عالم الحق بيسوع المسيح ربنا...
ولعله تمثل بشفيعه أرسانيوس معلم أولاد الملوك الذي قال (الذي مات عن العالم لم يعد له فرصة في أن يوزع الأموال على الناس، لقد مات أرسانيوس) لقد خبر المقدس يوسف خبرة الإماتة والفقر الاختياري مائتًا في كل شئ.
فلم يتكالب على شئ ولم يسع لشئ... وتمتع بفضيلة النزاهة: أي أنه لا يكون له أي شئ في ذاته ولا يطلب ما لنفسه ولا يطمع حتى فيما له، ولم يتمحور حول ذاته، ولم يكف عن تقديم أعمال النسك كل يوم يقينًا منه أنها أقوى كرازة وشهادة صامتة للمسيح وهو "وان مات يتكلم بعد" (عب11: 4).
2-عشرته للقديسين
امتثل المقدس يوسف بالقديسين وعاش حياتهم سالكًا أعمالهم مشتركًا في سيرتهم متمثلًا بهم.. في تلمذة غالية ونفيسة وعاشر ربوات محفل الملائكة الذين رأى أنهم هم الذين ينزعون عنا الثياب القذرة. لأنهم يحيطون بمن يخافون الله لكي يحموهم ويمنعوا عنهم الشعور بالهم.
التصق المقدس يوسف بالقديسين كصورة لحياة المسيح وكعلامات له على الطريق.. سعى لإكرامهم تمجيدًا وتكريمًا للمسيح العجيب فيهم وقدم سيرهم ووثقها، وكتب عن حياتهم وسيرهم ومعجزاتهم وكتاباتهم واعترافاتهم وآلامهم ونسكهم وشهادتهم وأعمالهم وتعليمهم وتذكاراتهم وتمجيدهم.
ويرجع له الفضل في تعريفنا بمئات السير التي أصدرها ونشرها وقت أن كانت مجهولة ومصادرها شحيحة. بعد أن أيقن أنهم عون الكنيسة وحراسها وثباتها للإيمان، وأنهم يعلموننا الفلسفة الحقيقية ويوبخون الشياطين وفي عشرتهم راحة وعزاءًا.
قدمهم كمصابيح بهية وكأصدقاء له قريبين منه... فكان يتباسط ويجلس مع أولاده وتلاميذه متحدثًا عن القديسين والآباء الأولين. وقد حباه الله بقدرة فذة في السرد القصصي للسير وللأعمال، وفي الربط بين القديسين كشجرة عائلية (أهل بيت الله).
ولازلت اذكر جلساته في مضيفة كنيسة العذراء محرم بك وفي مقصورتها وفي النادي وكذلك في مبنى المدرسة المرقسية القديم وقد صارت حياته امتدادًا للقديسين الذين أحبهم وتشفع بهم ونشر سيرتهم الحلوة، وقد تعلم منهم حكمة الالفا فيتا التي أوصلته إلى الاميجا أي النهاية السعيدة التي لآباء الكنيسة.
ولعل الذين عرفوه وتلامسوا معه اشتموا فيه أنفاس القديسين وعطر فضائلهم، وأنني أشهد بما رأيته فيه بصفة خاصة وقد تأثرت به للغاية، حيث وجدته حكيمًا لا بفلسفة باطلة بل بعمق الحكمة الحقيقية التي ليست من هذا الدهر، ضليعًا في الأدب والفلسفة، متشبهًا بالقديسين أرسانيوس الذي كان أول من حقق سيرته بطريقة علمية مدققة..
وسلك بذات القياس "اهرب من الناس وأنت تخلص، اجلس وحدك واصمت".
وبالجملة كانت عزلة يوسف حبيب إيجابية مثمرة وسيرته منيرة بالتقوى العملية. ولا زلت اذكر جلوسه عند باب المضيفة لكنيسة العذراء محرم بك ومن حوله الشباب والخدام يكلمهم عن القديسين كأنهم أصدقاء أقرباء له... كذلك لا أنسى علاقته بالمرتل حبيب الميراهم وهما معًا على خورس شمامسة الكنيسة... وتدريسه للغة القبطية في صالات الخدمة وفي نادي المدرسة المرقسية... وفي حجرة الشمامسة بمحرم بك.
وما أحلى عشرته للقديسين وما أروع حفظه للابصلمودية وترديده للذكصولوجيات وأرباع الناقوس والتماجيد بل والمدائح التي وضعها هو بقلمه وعشق خبرتها ولا ننسى أبدًا الأبحاث التي حققها حول قديسي الكنيسة وعظاتهم وميامرهم وأجسادهم وتنقلاتهم.
3- بتوليته
حفظ المقدس يوسف بتوليته محتقرًا كل أباطيل العالم حتى أنه جذب كثيرين من جيله إلى عيشة التقوى.. واقفًا ثابتا في قداسة ورسوخ وتأصيل فانطبق عليه قول الرب "الحق أقول لكم أنه من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته" (مت16: 28). مقتربًا من المخلص، لا يتزحزح أبدًا عن قداسته وثباته ممجدًا "قدام الإله أرنم لك" (مز138: 1). كحجارة حية مقدسة ضمن البناء الإلهي وكمارة روحانية مشتملة بنور البتولية وعطر الصلاة.. وكسراج الزيت الذي يسيل بنور معرفة الحق التي نقتطف منها الذكرى والتأمل الأقوى ولا يمكن أن يخبأ تحت إناء.
أقترن المقدس يوسف بالأمجاد وأنشغل قلبه بالجمال الإلهي في شركة سرية وامتياز مخصوص "أنا لحبيبي وحبيبي لي" (نش6: 3)... وقد رافق المرتل حبيب حنا الميراهم عريف كنيسة العذراء محرم بك والذي كان هو بدوره متبتل فاستراح المثيل إلى مثيله وكانا معًا من المنيرين المسبحين لله الحي ضمن باكورة القطيع الصغير المقدمة لله لكي يتقدس بها سائر القطيع...
ولا أغالي إذا قلت أن كثيرين من المكرسين للخدمة في كل دروبها قد تأثروا بهذه الشخوص الحية التي أعطت المثل ووسيلة الإيضاح لهم... وإن كان الشئ بالشئ يذكر فالمخيلة والذاكرة حافلة بهؤلاء الأعمدة الذين تكرسوا للخدمة في كل أنحاء الكرازة بالداخل وفي المهجر أيضًا.
عاش المتنيح يوسف حبيب مثلًا ونموذجًا لهؤلاء جميعًا في بتولية عجيبة ومجيدة "جذر الأبدية وزهرتها وثمرتها" بطبيعته القوية عبر فوق بحر الشهوات وصار كالصفصاف وكالسوسن وسط هذا العالم وكأنه ساكن للمغائر وشقوق الأرض، حافظًا زهرته يانعة دومًا لا تذبل نبتتها من السماء.
وليس من المستغرب أن يكون ابينا بيشوي كامل علامة في هذه الطريقة.
أحب المقدس يوسف بالأكثر برية شيهيت وأعطاها كرامة وتقديرًا كأورشليم المقدسة تمامًا. كان دائم الزيارة والتبرك وتربطه علاقة وثيقة بقديسيها وتاريخها... ومن المعروف بأنه ذهب إلى أورشليم القدس وزار قبر السيد الرب... لذا استحسن البعض أن ينادوه بـ"المقدس يوسف حبيب".
4 -كمؤرخ ومعلم
كان المقدس يوسف من الذين اطلقوا الشرارة الأولى في الدراسات الآبائية لهذا الجيل... وهو أول الرواد الأوائل الذين استقينا منهم الرضعات الأولى للفكر الآبائي الأصيل، وقد أسس ما بنى عليه بعد ذلك.
ويرجع إليه الفضل في تشجيع عملية الدراسة والبحث والترجمة وتحقيق المخطوطات... ولا أكون مبالغا إذا قلت أنه من المشجعين الاولئل لإصدارات التربية الكنسية بمكتبة العذراء محرم بك.... ثم لمطبوعات مارجرجس اسبورتنج والتى صارت منارة للإشعاع الفكري في هذا المجال على مستوى الكرازة المرقسية.
وكان المقدس يوسف حبيب يرى أن المكتبة هى أثمن مكان بعد المذابح وبعد أماكن وأجساد القديسين، فكان يعطى المكتبات اعتبارا كبيرا يحب ارتيادها والمكوث فيها. ولازلنا نذكر اعتياده للذهاب إلى المكتبة البلدية بالإسكندرية ومكتبة البطريركية القديمة ومكتبات الاديرة. حتى أنه عمل لنفسه اشتراكا شهريا بالقطار، يذهب إلى القاهرة مرتين في الأسبوع ليفتش وينقب ويترجم ويحقق السير والاقوال ثم يضعها في كتيبات نافعة للخدمة ولبنيان النفوس.
وقد جاءت كتاباته وترجماته الخاصة لسير الاباء كنزا لا ينضب، بذل كل ما يملك لتكميلها من أجل الكنيسة وانجيلها وأبائها. ونشعر بالدين الكبير نحوه في المسيح يسوع ربنا الذى يكلله بشركة الامجاد الالهية ويحسبه مع مصاف القديسين الذى عاش كواحد منهم صديقا لهم.
أعطاه الله نعمة وفهم قلب حتى أنه كان يقرأ ويبحث ويدرس ويحفظ ويترجم... فازداد حكمة وتدربا بالامور الفاضلة حتى أكمل جيدا ارساء هذا الاهتمام وصار أول اهتمام بالنشر وبالتراث عبر مكتبة مدارس أحد محرم بك.
كان التأليف مادة عمله وشغله الاول بحد ذاته فألف كتبا وشابه الكثير من الأولين. يغوص في ذخائر المخطوطات النفيسة حتى لا تنقطع صلتنا بالآباء معلمي الكنيسة.
ولم يكن فقط ناسخا للمخطوطات على مستوى النساخة لكنه عمل بالذى نسخه واتقن ونشر الكثير منه. كذلك كشف عن التاريخ على اعتبار أنه عمل الله وسط الكنيسة وكعلم كنسى يحيط بحياتها من كل الجوانب. فأهتم بالسير والمدلولات والأعمال والمقاصد كمصدر دائم للالهام وكينبوع قوة روحية وتراث مقدس له معنى لاهوتى ودلالة غنية.
وكان حماسه عجيبا في الدراسة احتمل لاجله الأتعاب والتنقل والجهد والسفر ول يضعف بل دأب في العمل. ويرجع إليه الفضل كل الفضل في حفظ تراث وأفكار ومبادئ وأسماء وأقوال وأعمال أباءنا التي حرص على نشرها في ازمنة كان فيها البحث صعبا والإمكانية قليلة.
ومما لاشك فيه أنه نال موهبة الكتابة والترجمة من عند الرب. فكان يتلو الايات عن ظهر قلب ويحكى قصص القديسين وسيرهم بطلاقة وتدقيق في التواريخ والأحداث والتفاصيل والأماكن والمعاني... وهو اشهر وأقدم شماس في جيلنا له إسهامات في هذا الصدد وقد وجدنا نحن منها ربح عظيم وحلاوة روحية.
- كان شعار المقدس يوسف العملى "تحت الطلب" جاهزا للخدمة في أي وقت وفى أي مكان. لذا قام بتدريس المنهج المدرسى للدين المسيحى بالمدارس المرقسية بالإسكندرية (مرحلتى ثانوى واعدادى). وله العديد من المقالات المنشورة في مجلة الكرازة بالاضافة لمئات الكتب التي قام بنشرها. كذلك له ابحاث عن أقدس الآثار المسيحية وأماكن وجودها، وتضمنت كتاباته اهتمامات متنوعة من التفاسير والسر والتاريخ والترجمات ونصوص المخطوطات والتى من ضمنها ما تم أكتشافه بخرائب طرة وأشهر ترجماته كانت نقلا عن مجموعة Sources Chretiemnes..
الامر الذى لم يكن سهلا فى الستينات!!
- وإلى جوار إجادته للغة الفرنسية التي نقل عنها أقوال الآباء الأقباط. اشتهر أيضا بنبوغه فى اللغة القبطية وكان يجيدها بطلاقة وقد ترجم عنها الكثير، بل وكان يقف ليقرأ الانجيل ويترجمها ترجمة فورية من القبطية إلى العربية والعكس. وكان ضليعا مدققا غزير الاطلاع.
وقد ظل المقدس يوسف حبيب نشيطة تلتقط المعرفة الروحانية من الينابيع ويؤدى هذه الخدمة حتى النهاية بل وصدرت أخر كتاباته بعد انتقاله للمجد بمقدمة لقدس أبينا الموقر القمص تادرس يعقوب مطلى.... بعد أن أنجز في حياته أعمالًا كثيرة من المدونات التى سجلها المؤرخون وكشف لنا عن الكثير من الأسرار لأول مرة. وكتب أكثر من مائة كتاب نافع، كذلك وضع الكثير من الذكصولوجيات والمدائح (قبطي / عربي).
الله إلهنا الذي يزن الجبال يعرف بالأكثر ما قدمه من جهد ومال ووقت حتى فلسه الأخير وحتى يسلمنا ما تسلمه من عمل يديه كى نذكره وهو المعروف لدى الله والعزيز عنده.