مرقس 12 - تفسير إنجيل مرقس
مقاومته في أورشليم الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
دخل السيد المسيح إلى أورشليم ليحمل الصليب من أجلنا، فتجمعت القيادات الشريرة وتكاتفت ضده، إذ في صراحته كشف لهم عن فساد رعايتهم وحبهم للسلطة، مفحمًا إياهم. لكنه وسط هذا الجو الصعب وُجدت أرملة مجهولة فتحت قلبها البسيط بالحب لله، فقدمت أعظم من الجميع، فلسين هما كل أعوازها.
1. الكرامون المغتصبون
1-12.
2. سؤال بخصوص الجزية
13-17
3. الصدوقيون والقيامة
18-27.
المفهوم الرمزي للمرأة التي تزوجت سبعة رجال
4. الكتبة والوصية
28-40.
المسيح كابن داود وربه
5. الأرملة المحبة والفلسان
41-44.
1. الكرامون المغتصبون
إذ سّد السيد المسيح أفواه مجربيه بسؤالهم عن معمودية يوحنا أراد أن يظهر شرهم ومقاومتهم له وما تحمله من نتائج بتقديمه مثل الكرامين المغتصبين، ويُلاحظ في هذا المثل الذي سبق لنا الحديث عنه في تفسير مت 21: 33 الآتي:
أولًا: لعل أول ما يلفت أنظارنا في المثل أنه يشَّبه الله الآب بإنسان غارس كرم، إذ يقول: "إنسان غرس كرمًا، وأحاطه بسياج، وحفر حوض معصرة، وبنى برجًا حصينًا، وسلمه إلى كرامين وسافر" [1]. محبة الله للإنسان فائقة، فهو خليقته الأرضية الفائقة والمدلّلة، وهبها صورته مثاله وحتى بعد معاندتها بحث عنها وجرى وراءها، وقدم لها كل إمكانية للعودة إلى أحضانه، مقدمًا ابنه فدية عنها، والآن يشبّه الله الآب بالإنسان، الأمر الذي فيه تُعلن عن نظرته المكرمة للإنسان.
ثانيًا: أبرز المثل تقديس الله الإنسانية، فإذ يشَّبه نفسه بالإنسان الذي غرس كرمًا يقول، "سلمه إلى كرامين وسافر" [1]. لا بمعنى ترك المكان، إذ هو حاضر في كل موضع، ولا تُنزع رعايته عن كرمه إذ هو مهتم بكل صغيرة وكبيرة، إنما "سافر" بمعنى ترك الكرامين يعملون بكمال حريتهم، أعطاهم المسئولية كاملة علامة حبه للنضوج مع تقديره للحرية الإنسانية، فقد أقام كرامين ليعملوا كرجال ناضجين مسئولين أمامه.
ثالثًا: في هذا المثل أعلن السيد المسيح لمقاوميه أنه ليس فقط يعرف ما بداخلهم من روح مقاومة للحق، وإنما يعرف مقدمًا ما سيحل به منهم بكونه الوارث الذي لا يطيقه الكرامون الأردياء. فهو لا يخاف اضطهادهم له، بل جاء لكي يكمل كأسهم الشرير، وينزع عنهم الكرم ليُسلم إلى آخرين [9]. لقد دعا نفسه بالحجر المرفوض من البنائين، لكن هذا الرفض لا يقلل من شأنه، إذ صار رأس الزاوية [10].
يرى القديس أغسطينوس[287] في هذا المثل أنه إذ ثار الأشرار على الابن الوارث، وأرادوا قتله لم يقاوم، بل قال: "أنا اضطجعت" (مز 3: 5). نام مسلمًا جسده في أيدي مضطهديه ليسمروه على الصليب، ويطعنوه بالحربة في جنبه لكي تقوم الكنيسة فيه كما قامت حواء من جنب آدم عندما كان في سُبات.
رابعًا: قدم لنا كثير من الآباء تفسيرًا تفصيليًا لهذا المثل، وقد سبق لي ترجمة تفسير القديس كيرلس الكبير له في دراستنا لإنجيل متى مع بعض آباء آخرين. لذا أكتفي هنا بعرض آراء آباء آخرين. ففي نص منسوب للقديس جيروم [الكرمة هي بيت إسرائيل، والسور هو حراسة الملائكة، والبرج هو الهيكل، والكرامون هم الكهنة[288]]، بينما يرى الآب ثيؤفلاكتيوس أن [السور هو الشريعة التي منعت امتزاجهم بالغرباء.]
ويقدم لنا القديس أمبروسيوس التعليق التالي:
[يذكر إشعياء بوضوح أن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل (إش 5: 7)، موجد هذا الكرم هو الله الذي سلمه وسافر بعيدًا، لا بمعنى أن الرب سافر إلى مكان آخر، إذ هو دائمًا حاّل في كل مكان، لكنه يظهر وجوده واضحًا جدًا في الذين يحبون، ويظل بعيدًا عن الذين يتركونه.
يذكر إنجيل متى أنه أحاطه بسياج (مت 21: 33؛ مر 12: 1)، أي قوّاه بسياج العناية الإلهية ليحفظه من هجوم الوحش الروحي.
حفر معصرة، لأن أسرار آلام المسيح تبدو كالخمر الجديدة... وقد ظن الجمع أن التلاميذ سكارى حين نالوا الروح القدس (أع 2: 13). حفر حوض معصرة لكي يُسكب فيه الثمر الداخلي.
بنى برجًا، إذ وهبهم الناموس.
في زمن الإثمار أرسل عبيده؛ حسنًا فعل إذ أرسلهم في زمن الإثمار لا زمن الحصاد، لأن اليهود لم يقدموا أي ثمر... ولم تمتلئ معاصر اليهود من الخمر، بل سُفك دم نابوت في هذه الكرمة (1 مل 21: 13)، وتنبأ دمه أنه سيكون لهذه الكرمة شهداء كثيرون... أرسل الله كثيرين، فردهم اليهود بلا كرامة ولا منفعة، لا يحملون منهم ثمرًا. أخيرًا أرسل إليهم ابنه الوحيد، فأرادوا التخلص منه بكونه الوارث، فأنكروه وقتلوه صَلْبًا[289].]
انتقل القديس أمبروسيوس من الحديث عن اليهود ككرم الرب الذي أهمله قادته الروحيون إلى الحديث عن النفس أو حياة المؤمن في كنيسة العهد الجديد بكونها كرم الرب الذي قدم له السيد كل إمكانيات للإثمار. وها هو يطلب الثمر! فمن كلماته:
[اعتاد الكرَّام الرحوم أن يهتم بهذا الكرم ويشذّبه وينقيه مما تكدس من كتل الحجارة. تارة يحرق بالشمس خبايا (شهوات) جسدنا، وأخرى يروي الكرم بالمطر، ويسهر عليه حتى لا تنبت الأرض شوكًا ولا يكسوها أوراق كثيرة، فيضغط غرور الكلمات الباطلة على الفضائل وينزع نموها، ويبطل نضوج البساطة وكل سمة صالحة.
ليحفظنا الله من أجل نهاية هذا الكرم الذي يسنده الرب المخلص، حارسًا إياه ضد كل خداع الدهر بسياج الحياة الأبدية...
هوذا حصادنا! ففي غمار السعادة والأمان يملأ البعض أحشاءهم الداخلية من عنب الكرم اللذيذ. وليدقق آخرون في هبات السماء، وليبصر الكثيرون ثمار البركات الإلهية عند أقدام إرادتهم بعد خلع نعالهم فيصبغوا أقدامهم العارية بالخمر الذي ينهمر عليهم، لأن الموضع الذي هم فيه أرض مقدسة (حز 3: 5)...
سلام لك أيها الكرم الثمين من أجل هذا الحارس، فقد تقدست بدم الرب الثمين، وليس بدم نابوت، ولا بدم أنبياء بلا حصر.
مات نابوت ولم يتهاون في ميراث آبائه، أما أنت فلأجلنا غرست استشهاد جموع الشهداء، ولأجلنا ذاق الرسل صليب الرب، لهذا أثمروا إلى أقاصي الأرض[290].]
2. سؤال بخصوص الجزية
في دراستنا لإنجيل متى (22: 15-22) رأينا القادة اليهود وقد أدركوا أن أمثال السيد المسيح تكشف جراحاتهم الخفية لم يلجأوا إلى الطبيب الحقيقي لإبرائهم، بل تكاتفوا معًا بالأكثر على مقاومته، فاتفق بعض من الفريسيين والهيرودسيين أن يسألوه بخصوص الجزية، هل تقدم لقيصر أم لا، حتى إذا ما رفض تقديمها حُسب مثير فتنة ضد الدولة الرومانية، وإن قبل تقديمها نفرت منه الجموع، وفقدت ثقتها فيه كمخلص لهم من المستعمر الغريب الجنس. وقد جاءت إجابة السيد المسيح تمس أعماق نفوسنا من جهة الآتي:
أولًا: يقول القديس أمبروسيوس: [يعملنا الرب في هذا المكان الحكمة في إجابتنا على الهراطقة أو اليهود. يقول في موضع آخر: "كونوا حكماء كالحيات" (مت 10: 16). ويفسر الكثيرون هذه العبارة هكذا: كما كانت الحية النحاسية (عد 21: 8) تعلن عن صليب المسيح الذي نزع سم الحية الشريرة، هكذا يليق بنا أن نكون حكماء كالمسيح، بسطاء كالروح (رمزه الحمامة)[291].]
ثانيًا: لقد ظن هؤلاء الأشرار أنه يهين السلطات، فيجدوا فرصة لتسليمه، والعجيب أن السيد بحكمة حث سامعيه على الخضوع للسلطان الزمني في الرب، وتقديم الكرامة لمن له الكرامة، والجزية لمن لهم الجزية (رو 7: 1-7)، ومع ذلك كان اتهامه أمام بيلاطس: "إننّا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تُعطي جزية لقيصر، قائلًا أنه هو مسيح ملك" (لو 23: 2). وفي هذا لم يدافع السيد عن نفسه. لقد قدم مبدأ الخضوع للسلطات، ليس عن خوف، ولا للدفاع عن نفسه، وإنما كمبدأ يمارسه المسيحي حتى وإن أُتهم بخلاف ما يمارس!
ثالثًا: يرى كثير من القديسين أن مبدأ "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" [17]، وإن كان في معناه الظاهر يعني التزام المؤمنين بتقديم واجباتهم بأمانة نحو الدولة والحاكم، لا عن خوف، ولا عن مضض، وإنما كتنفيذ للوصية الإلهية، فإن هذا المبدأ يحمل فهمًا روحيًا عميقًا. إن كانت نفوسنا تحمل صورة الله، نصير نحن عملته يتقبلها بفرح. وإن حملت صورة العالم نصير عملة العالم، ولا يجد الرب له فينا موضع راحة أو سرور.
يقول القديس أمبروسيوس: [طلب دينارًا وسألهم عن الصورة، لأن صورة الله تختلف عن صورة العالم. هكذا ينذرنا الرسول: "كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كو 15: 49)... لا تجد صورة قيصر في بطرس القائل ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك (مر 3: 13)، ولا تجدها عند يعقوب ولا يوحنا لأنهما ابنا الرعد، لكنك تجدها في البحر. إن كان بطرس لا يحمل صورة قيصر، فلماذا دفع الجزية؟ إنه لم يدفعها مما له (بل من البحر) حيث أرجع للعالم ما كان للعالم. وأنت أيضًا إن أردت أن لا يكون لقيصر شيء عليك فلا تقتني ما للعالم بل اقتن البركات... إن أردت ألا تكون مدينًا للملك الأرضي أترك كل أموالك واتبع المسيح[292].]
رابعًا: يقول العلامة أوريجينوس في هذا المبدأ الإلهي أنه يليق بنا أن نقدم للجسد (قيصر) جزيته أي ضرورياته، أما لله فنهبه نفوسنا مقدسة بالكامل.
3. الصدوقيون والقيامة
من هؤلاء الصدوقيون الذين جاءوا إلى السيد المسيح يجربوه؟ هم فرقة يهودية دينية أرستقراطية، رأى بعض الربانيين أنهم ينتسبون إلى مؤسس فرقتهم صادوق الذي عاش حوالي عام 300 ق.م.[293]، لكن الرأي السائد أنهم ينتسبون إلى صادوق رئيس كهنة في عصر داود وسليمان، وفي عائلته حُفظت رئاسة الكهنوت حتى عصر المكابيين، فدُعي خلفاؤه وأنصاره صدوقيين. هذه الفرقة كما يقول المؤرخ يوسيفوس كانت مناقضة للفريسيين[294]، كانوا متعلمين وأغنياء أصحاب مراكز[295]. كانوا يحتلون مركز القيادة في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، في العصرين الفارسي واليوناني. أحبوا الثقافة اليونانية، واهتموا بالسياسة أكثر من الدين، وكان من أثر هذا إنهم أنكروا قانونيه أسفار العهد القديم بخلاف أسفار موسى الخمسة، كما استخفوا بالتقليد على خلاف الفريسيين الذين حسبوا أنفسهم حراسًا لتقليد الشيوخ.
ظن الصدوقيون أن أسفار موسى الخمسة ليس فقط لا تذكر شيئًا عن القيامة من الأموات، وإنما ما جاء بخصوص الزواج الناموسي حينما يموت رجل فتلتزم زوجته أن ترتبط بأخيه أو وليه متى كانت بلا أطفال، حتى تنجب للميت طفلًا يرثه ويقيم اسمه؛ ظنوا في هذا إعلانًا وتأكيدًا لعدم القيامة من الأموات. وكما يقول سفر الأعمال: "لأن الصدوقيين يقولون أنه ليس قيامة و ملاك ولا روح، وأما الفريسيون فيقرون بكل ذلك" (أع 23: 8).
إتفق الصدوقيون مع الفريسيين على مقاومة السيد، لكن كل واحد بطريقته. جاءه الصدوقيون يقدمون له قصة خيالية، فيها يتصورون امرأة تزوجت ومات رجلها دون أن تنجب أولادًا، فتزوجت أخاه وإذ مات تزوجت بالأخ الثاني فالثالث حتى السابع، ولم تنجب، وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا، ففي القيامة متى قاموا لمن منهم تكون زوجة، لأنها كانت زوجة للسبعة؟
جاءت إجابة السيد المسيح مزدوجة:
أولًا: في العدد 25 لم يظهر لهم غباوتهم بإنكار القيامة، وإنما في فهمهم للقيامة، فقد تعلق قلبهم بالسياسة والعالم فحسبوا القيامة حياة زمنية مادية، مع أنه "متى قاموا لا يُزوِّجون ولا يَتزوًّجون، بل يكونون كملائكة في السماوات" [25]. لا وجه للمقارنة بين حياة نعيشها هنا حسب الجسد بفكر مادي، وحياة ننتظرها على مستوى ملائكي سماوي.
ثانيًا: إذ ظنوا أن أسفار موسى الخمسة تنكر القيامة، أكدها لهم من ذات الأسفار، حيث دعت إبراهيم وإسحق ويعقوب أحياء بعد موتهم بنسب الله لهم. يقول: "أفما قرأتم في كتاب موسى في أمر العليقة كيف كلمه الله قائلًا: أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. ليس هو إله أموات بل إله أحياء" [26-27].
يعلق القديس كيرلس الكبير على تصرف الصدوقيين هذا بقوله:
[اقتربوا من المسيح مخلصنا كلنا، الذي هو الحياة والقيامة، وكانوا يسعون لتحطيم القيامة بكونهم أناسًا متكبرين وغير مؤمنين، اخترعوا قصة مشحونة جهلًا، ونظموا افتراضات جامدة، بها سعوا بطريقة شريرة وعنيفة أن يفسدوا رجاء العالم كله
نحن نؤكد أن رجاء كل العالم في القيامة من الأموات التي المسيح هو بكرها وأول ثمارها، لذلك إذ يجعل الحكيم بولس قيامتنا تقوم على قيامة السيد يقول: "لأنه إن كان الموتى لا يقومون، فلا يكون المسيح قد قام" (1 كو 15: 16)، كما يقدم فكرًا عكسيًا فيقول: "إن كان المسيح يُكرز به أنه قام من الأموات، فكيف يقول قوم بينكم ليس قيامة أموات؟" (1 كو 15: 12). الذين قالوا بهذا هم الصدوقيون الذين نتحدث عنهم الآن.
على أي الأحوال كان سؤال الصدوقيون بلا معنى، السؤال برمته لا يتفق مع الكتب المقدسة الموحى بها، وجاءت إجابة مخلصنا تؤكد تمامًا غباوة قصتهم وتجعلنا نستخف بوهمهم والفكرة التي يقوم عليها هذا الوهم...
قال الله عن الذين رقدوا: "من يدّ القبر أفديهم، من الموت أخلصهم، أين دينونتك يا موت؟ أين شوكتك يا قبر؟" (هو 13: 14 الترجمة السبعينية). الآن ما يقصده بدينونة الموت وشوكته قد أخبرنا به الطوباوي بولس بقوله: "أما شركة الموت فهو الخطية، وقوة الخطية هي الناموس" (1كو 15: 56)، إذ يقارن الموت بالعقرب، شوكتها هي الخطية وبسمها تقتل النفس. يقول أن الناموس هو قوة الخطية، إذ في موضع آخر يعترض: "بل لم أعرف الخطية إلا بالناموس" (رو 7: 7)، "إذ حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعدٍ" (رو 4: 15). لهذا السبب يستبعد مؤمنيه من وصاية الناموس الذي يدين ويبطل شوكة الموت التي هي الخطية، فإنه إذ ينزع الخطية بالتبعية يرحل الموت معها، إذ الموت صادر عنها وبسببها جاء إلى العالم.
إذ أعطى الله وعدًا: "من يدّ القبر أفديهم، من الموت أخلصهم"، اتفق الأنبياء الطوباويون مع هذا المرسوم العلوي، فتحدثوا معنا لا برؤيا قلبهم ولا بمشيئة إنسان بل عن فم الله كما هو مكتوب (راجع إر 23: 16) إذ يعلن الروح القدس المتكلم فيهم حكم الله وإرادته القديرة غير المتغيرة في كل أمر. يحدثنا إشعياء النبي: "تحيا أمواتك، يقوم الذين في القبور، سيبتهج الذين في الأرض، لأن طلك يشفيهم" (إش 26: 19 الترجمة السبعينية). على ما أعتقد أن الطل هو قوة الروح القدس واهب الحياة، أو تلك الفاعلية التي تبطل الموت، الصادرة عن الله والحياة.
يقول أيضًا داود الطوباوي في المزامير عن الذين على الأرض: "تأخذ روحهم فيموتون وإلى ترابهم يعودون. ترسل روحك فتخلقهم وتجدد وجه الأرض" (مز 104: 29). ألم تسمع عن عمل الروح القدس ونعمته واهبة الحياة، هذا الذي سيجدد وجه الأرض؟ فإنه يقصد بوجه الأرض جمالها، وبجمال طبيعة البشر عدم الفساد، إذ قيل: "يُزرع في فساد ويُقاوم في عدم فساد، يزرع في هوان ويقاوم مجد، يزرع في ضعف ويقاوم قوة" (1 كو 15: 42-43). مرة أخرى يؤكد لنا إشعياء النبي أن الموت الذي دخل بسبب الخطية لا يستعيد قوته على سكان الأرض أبديًا، إنما يبطل خلال قيامة المسيح من الأموات، حيث يجدد المسكنة، ويردها إلى ما كانت عليه، كما هو مكتوب: "خلق الله كل شيء في عدم فساد" (حك 1: 4)، قائلًا: "يُبلع الموت إلى الأبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض" (إش 25: 8). عار الشعب هو الخطية، إذ تُنزع يبطل الموت ويرحل الفساد من وسط الشعب، وإذ ينتهي الموت تُنزع دموع كل أحد ويتوقف النحيب، فلا توجد علة بعد للبشر من جهة البكاء والنحيب.
هكذا لدينا الكثير من الأسانيد في تفنيد جحود اليهود، لكننا لننظر إلى ما قاله لهم المسيح: حقًا إن أبناء هذا العالم الذين يعيشون الحياة الجسدانية العالمية مليئة بالشهوات من أجل الإنجاب، لذا يزوَّجون ويزوَّجون، أما الذين يبلغون الحياة المختارة المكرمة والحاملة كل سمو والمتأهلة للقيامة المجيدة العجيبة فبالضرورة تفوق حياة البشر في هذا العالم. إنهم يعيشون في حضرة الله كقديسين، يصيرون مساوين للملائكة، أبناء الله. إذ تُنزع عنهم كل شهوة جسدية ولا يكون للذة الجسد موضع فيهم بل يتشبهون بالملائكة القديسين يمارسون الخدمة الروحية لا المادية كأرواح مقدسة، وفي نفس الوقت يتأهلون لمجدٍ كذاك الذي يتمتع به الملائكة.
برهن المخلص على جهل الصدوقيين المطّبق، مقدمًا لهم موسى معلمهم الديني كمعلم بالقيامة من الأموات بطريقة واضحة تمامًا، إذ يقدم لنا الله القائل في العليقة: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب". إله من هو أن كان هؤلاء - كما يظنون - لا يعيشون بعد؟ إنه إله أحياء، لذلك سيقومون عندما تجلبهم يمين الله القدير، ليس وحدهم بل وكل الذين هم على الأرض. عدم الإيمان بهذا يليق بجهل الصدوقيين، لا بمحبي المسيح. أما نحن فنؤمن بالقائل: "أنا هو القيامة والحياة" (يو 11: 25)، هذا الذي يقيم الأموات: "في لحظة، في طرفة عين عند البوق الأخير، فإنه سيبوق، فيُقام الأموات عديمي الفساد ونحن نتغير" (1 كو 15: 52). سيغيرنا مخلصنا كلنا إلى عدم الفساد، إلى المجد والحياة غير الفاسدة، هذا الذي به وله المجد والحمد والسلطان مع الله الآب والروح القدس إلى أبد الأبد، آمين[296].]
مرقس 12 - تفسير إنجيل مرقس مقاومته في أورشليم الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي دخل السيد المسيح إلى أورشليم ليحمل الصليب من أجلنا، فتجمعت القيادات الشريرة وتكاتفت ضده، إذ في صراحته كشف لهم عن فساد رعايتهم وحبهم للسلطة، مفحمًا إياهم. لكنه وسط هذا الجو الصعب وُجدت أرملة مجهولة فتحت قلبها البسيط بالحب لله، فقدمت أعظم من الجميع، فلسين هما كل أعوازها. 1. الكرامون المغتصبون 1-12. 2. سؤال بخصوص الجزية 13-17 3. الصدوقيون والقيامة 18-27. المفهوم الرمزي للمرأة التي تزوجت سبعة رجال 4. الكتبة والوصية 28-40. المسيح كابن داود وربه 5. الأرملة المحبة والفلسان 41-44. 1. الكرامون المغتصبون إذ سّد السيد المسيح أفواه مجربيه بسؤالهم عن معمودية يوحنا أراد أن يظهر شرهم ومقاومتهم له وما تحمله من نتائج بتقديمه مثل الكرامين المغتصبين، ويُلاحظ في هذا المثل الذي سبق لنا الحديث عنه في تفسير مت 21: 33 الآتي: أولًا: لعل أول ما يلفت أنظارنا في المثل أنه يشَّبه الله الآب بإنسان غارس كرم، إذ يقول: "إنسان غرس كرمًا، وأحاطه بسياج، وحفر حوض معصرة، وبنى برجًا حصينًا، وسلمه إلى كرامين وسافر" [1]. محبة الله للإنسان فائقة، فهو خليقته الأرضية الفائقة والمدلّلة، وهبها صورته مثاله وحتى بعد معاندتها بحث عنها وجرى وراءها، وقدم لها كل إمكانية للعودة إلى أحضانه، مقدمًا ابنه فدية عنها، والآن يشبّه الله الآب بالإنسان، الأمر الذي فيه تُعلن عن نظرته المكرمة للإنسان. ثانيًا: أبرز المثل تقديس الله الإنسانية، فإذ يشَّبه نفسه بالإنسان الذي غرس كرمًا يقول، "سلمه إلى كرامين وسافر" [1]. لا بمعنى ترك المكان، إذ هو حاضر في كل موضع، ولا تُنزع رعايته عن كرمه إذ هو مهتم بكل صغيرة وكبيرة، إنما "سافر" بمعنى ترك الكرامين يعملون بكمال حريتهم، أعطاهم المسئولية كاملة علامة حبه للنضوج مع تقديره للحرية الإنسانية، فقد أقام كرامين ليعملوا كرجال ناضجين مسئولين أمامه. ثالثًا: في هذا المثل أعلن السيد المسيح لمقاوميه أنه ليس فقط يعرف ما بداخلهم من روح مقاومة للحق، وإنما يعرف مقدمًا ما سيحل به منهم بكونه الوارث الذي لا يطيقه الكرامون الأردياء. فهو لا يخاف اضطهادهم له، بل جاء لكي يكمل كأسهم الشرير، وينزع عنهم الكرم ليُسلم إلى آخرين [9]. لقد دعا نفسه بالحجر المرفوض من البنائين، لكن هذا الرفض لا يقلل من شأنه، إذ صار رأس الزاوية [10]. يرى القديس أغسطينوس[287] في هذا المثل أنه إذ ثار الأشرار على الابن الوارث، وأرادوا قتله لم يقاوم، بل قال: "أنا اضطجعت" (مز 3: 5). نام مسلمًا جسده في أيدي مضطهديه ليسمروه على الصليب، ويطعنوه بالحربة في جنبه لكي تقوم الكنيسة فيه كما قامت حواء من جنب آدم عندما كان في سُبات. رابعًا: قدم لنا كثير من الآباء تفسيرًا تفصيليًا لهذا المثل، وقد سبق لي ترجمة تفسير القديس كيرلس الكبير له في دراستنا لإنجيل متى مع بعض آباء آخرين. لذا أكتفي هنا بعرض آراء آباء آخرين. ففي نص منسوب للقديس جيروم [الكرمة هي بيت إسرائيل، والسور هو حراسة الملائكة، والبرج هو الهيكل، والكرامون هم الكهنة[288]]، بينما يرى الآب ثيؤفلاكتيوس أن [السور هو الشريعة التي منعت امتزاجهم بالغرباء.] ويقدم لنا القديس أمبروسيوس التعليق التالي: [يذكر إشعياء بوضوح أن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل (إش 5: 7)، موجد هذا الكرم هو الله الذي سلمه وسافر بعيدًا، لا بمعنى أن الرب سافر إلى مكان آخر، إذ هو دائمًا حاّل في كل مكان، لكنه يظهر وجوده واضحًا جدًا في الذين يحبون، ويظل بعيدًا عن الذين يتركونه. يذكر إنجيل متى أنه أحاطه بسياج (مت 21: 33؛ مر 12: 1)، أي قوّاه بسياج العناية الإلهية ليحفظه من هجوم الوحش الروحي. حفر معصرة، لأن أسرار آلام المسيح تبدو كالخمر الجديدة... وقد ظن الجمع أن التلاميذ سكارى حين نالوا الروح القدس (أع 2: 13). حفر حوض معصرة لكي يُسكب فيه الثمر الداخلي. بنى برجًا، إذ وهبهم الناموس. في زمن الإثمار أرسل عبيده؛ حسنًا فعل إذ أرسلهم في زمن الإثمار لا زمن الحصاد، لأن اليهود لم يقدموا أي ثمر... ولم تمتلئ معاصر اليهود من الخمر، بل سُفك دم نابوت في هذه الكرمة (1 مل 21: 13)، وتنبأ دمه أنه سيكون لهذه الكرمة شهداء كثيرون... أرسل الله كثيرين، فردهم اليهود بلا كرامة ولا منفعة، لا يحملون منهم ثمرًا. أخيرًا أرسل إليهم ابنه الوحيد، فأرادوا التخلص منه بكونه الوارث، فأنكروه وقتلوه صَلْبًا[289].] انتقل القديس أمبروسيوس من الحديث عن اليهود ككرم الرب الذي أهمله قادته الروحيون إلى الحديث عن النفس أو حياة المؤمن في كنيسة العهد الجديد بكونها كرم الرب الذي قدم له السيد كل إمكانيات للإثمار. وها هو يطلب الثمر! فمن كلماته: [اعتاد الكرَّام الرحوم أن يهتم بهذا الكرم ويشذّبه وينقيه مما تكدس من كتل الحجارة. تارة يحرق بالشمس خبايا (شهوات) جسدنا، وأخرى يروي الكرم بالمطر، ويسهر عليه حتى لا تنبت الأرض شوكًا ولا يكسوها أوراق كثيرة، فيضغط غرور الكلمات الباطلة على الفضائل وينزع نموها، ويبطل نضوج البساطة وكل سمة صالحة. ليحفظنا الله من أجل نهاية هذا الكرم الذي يسنده الرب المخلص، حارسًا إياه ضد كل خداع الدهر بسياج الحياة الأبدية... هوذا حصادنا! ففي غمار السعادة والأمان يملأ البعض أحشاءهم الداخلية من عنب الكرم اللذيذ. وليدقق آخرون في هبات السماء، وليبصر الكثيرون ثمار البركات الإلهية عند أقدام إرادتهم بعد خلع نعالهم فيصبغوا أقدامهم العارية بالخمر الذي ينهمر عليهم، لأن الموضع الذي هم فيه أرض مقدسة (حز 3: 5)... سلام لك أيها الكرم الثمين من أجل هذا الحارس، فقد تقدست بدم الرب الثمين، وليس بدم نابوت، ولا بدم أنبياء بلا حصر. مات نابوت ولم يتهاون في ميراث آبائه، أما أنت فلأجلنا غرست استشهاد جموع الشهداء، ولأجلنا ذاق الرسل صليب الرب، لهذا أثمروا إلى أقاصي الأرض[290].] 2. سؤال بخصوص الجزية في دراستنا لإنجيل متى (22: 15-22) رأينا القادة اليهود وقد أدركوا أن أمثال السيد المسيح تكشف جراحاتهم الخفية لم يلجأوا إلى الطبيب الحقيقي لإبرائهم، بل تكاتفوا معًا بالأكثر على مقاومته، فاتفق بعض من الفريسيين والهيرودسيين أن يسألوه بخصوص الجزية، هل تقدم لقيصر أم لا، حتى إذا ما رفض تقديمها حُسب مثير فتنة ضد الدولة الرومانية، وإن قبل تقديمها نفرت منه الجموع، وفقدت ثقتها فيه كمخلص لهم من المستعمر الغريب الجنس. وقد جاءت إجابة السيد المسيح تمس أعماق نفوسنا من جهة الآتي: أولًا: يقول القديس أمبروسيوس: [يعملنا الرب في هذا المكان الحكمة في إجابتنا على الهراطقة أو اليهود. يقول في موضع آخر: "كونوا حكماء كالحيات" (مت 10: 16). ويفسر الكثيرون هذه العبارة هكذا: كما كانت الحية النحاسية (عد 21: 8) تعلن عن صليب المسيح الذي نزع سم الحية الشريرة، هكذا يليق بنا أن نكون حكماء كالمسيح، بسطاء كالروح (رمزه الحمامة)[291].] ثانيًا: لقد ظن هؤلاء الأشرار أنه يهين السلطات، فيجدوا فرصة لتسليمه، والعجيب أن السيد بحكمة حث سامعيه على الخضوع للسلطان الزمني في الرب، وتقديم الكرامة لمن له الكرامة، والجزية لمن لهم الجزية (رو 7: 1-7)، ومع ذلك كان اتهامه أمام بيلاطس: "إننّا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تُعطي جزية لقيصر، قائلًا أنه هو مسيح ملك" (لو 23: 2). وفي هذا لم يدافع السيد عن نفسه. لقد قدم مبدأ الخضوع للسلطات، ليس عن خوف، ولا للدفاع عن نفسه، وإنما كمبدأ يمارسه المسيحي حتى وإن أُتهم بخلاف ما يمارس! ثالثًا: يرى كثير من القديسين أن مبدأ "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" [17]، وإن كان في معناه الظاهر يعني التزام المؤمنين بتقديم واجباتهم بأمانة نحو الدولة والحاكم، لا عن خوف، ولا عن مضض، وإنما كتنفيذ للوصية الإلهية، فإن هذا المبدأ يحمل فهمًا روحيًا عميقًا. إن كانت نفوسنا تحمل صورة الله، نصير نحن عملته يتقبلها بفرح. وإن حملت صورة العالم نصير عملة العالم، ولا يجد الرب له فينا موضع راحة أو سرور. يقول القديس أمبروسيوس: [طلب دينارًا وسألهم عن الصورة، لأن صورة الله تختلف عن صورة العالم. هكذا ينذرنا الرسول: "كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كو 15: 49)... لا تجد صورة قيصر في بطرس القائل ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك (مر 3: 13)، ولا تجدها عند يعقوب ولا يوحنا لأنهما ابنا الرعد، لكنك تجدها في البحر. إن كان بطرس لا يحمل صورة قيصر، فلماذا دفع الجزية؟ إنه لم يدفعها مما له (بل من البحر) حيث أرجع للعالم ما كان للعالم. وأنت أيضًا إن أردت أن لا يكون لقيصر شيء عليك فلا تقتني ما للعالم بل اقتن البركات... إن أردت ألا تكون مدينًا للملك الأرضي أترك كل أموالك واتبع المسيح[292].] رابعًا: يقول العلامة أوريجينوس في هذا المبدأ الإلهي أنه يليق بنا أن نقدم للجسد (قيصر) جزيته أي ضرورياته، أما لله فنهبه نفوسنا مقدسة بالكامل. 3. الصدوقيون والقيامة من هؤلاء الصدوقيون الذين جاءوا إلى السيد المسيح يجربوه؟ هم فرقة يهودية دينية أرستقراطية، رأى بعض الربانيين أنهم ينتسبون إلى مؤسس فرقتهم صادوق الذي عاش حوالي عام 300 ق.م.[293]، لكن الرأي السائد أنهم ينتسبون إلى صادوق رئيس كهنة في عصر داود وسليمان، وفي عائلته حُفظت رئاسة الكهنوت حتى عصر المكابيين، فدُعي خلفاؤه وأنصاره صدوقيين. هذه الفرقة كما يقول المؤرخ يوسيفوس كانت مناقضة للفريسيين[294]، كانوا متعلمين وأغنياء أصحاب مراكز[295]. كانوا يحتلون مركز القيادة في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، في العصرين الفارسي واليوناني. أحبوا الثقافة اليونانية، واهتموا بالسياسة أكثر من الدين، وكان من أثر هذا إنهم أنكروا قانونيه أسفار العهد القديم بخلاف أسفار موسى الخمسة، كما استخفوا بالتقليد على خلاف الفريسيين الذين حسبوا أنفسهم حراسًا لتقليد الشيوخ. ظن الصدوقيون أن أسفار موسى الخمسة ليس فقط لا تذكر شيئًا عن القيامة من الأموات، وإنما ما جاء بخصوص الزواج الناموسي حينما يموت رجل فتلتزم زوجته أن ترتبط بأخيه أو وليه متى كانت بلا أطفال، حتى تنجب للميت طفلًا يرثه ويقيم اسمه؛ ظنوا في هذا إعلانًا وتأكيدًا لعدم القيامة من الأموات. وكما يقول سفر الأعمال: "لأن الصدوقيين يقولون أنه ليس قيامة و ملاك ولا روح، وأما الفريسيون فيقرون بكل ذلك" (أع 23: 8). إتفق الصدوقيون مع الفريسيين على مقاومة السيد، لكن كل واحد بطريقته. جاءه الصدوقيون يقدمون له قصة خيالية، فيها يتصورون امرأة تزوجت ومات رجلها دون أن تنجب أولادًا، فتزوجت أخاه وإذ مات تزوجت بالأخ الثاني فالثالث حتى السابع، ولم تنجب، وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا، ففي القيامة متى قاموا لمن منهم تكون زوجة، لأنها كانت زوجة للسبعة؟ جاءت إجابة السيد المسيح مزدوجة: أولًا: في العدد 25 لم يظهر لهم غباوتهم بإنكار القيامة، وإنما في فهمهم للقيامة، فقد تعلق قلبهم بالسياسة والعالم فحسبوا القيامة حياة زمنية مادية، مع أنه "متى قاموا لا يُزوِّجون ولا يَتزوًّجون، بل يكونون كملائكة في السماوات" [25]. لا وجه للمقارنة بين حياة نعيشها هنا حسب الجسد بفكر مادي، وحياة ننتظرها على مستوى ملائكي سماوي. ثانيًا: إذ ظنوا أن أسفار موسى الخمسة تنكر القيامة، أكدها لهم من ذات الأسفار، حيث دعت إبراهيم وإسحق ويعقوب أحياء بعد موتهم بنسب الله لهم. يقول: "أفما قرأتم في كتاب موسى في أمر العليقة كيف كلمه الله قائلًا: أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. ليس هو إله أموات بل إله أحياء" [26-27]. يعلق القديس كيرلس الكبير على تصرف الصدوقيين هذا بقوله: [اقتربوا من المسيح مخلصنا كلنا، الذي هو الحياة والقيامة، وكانوا يسعون لتحطيم القيامة بكونهم أناسًا متكبرين وغير مؤمنين، اخترعوا قصة مشحونة جهلًا، ونظموا افتراضات جامدة، بها سعوا بطريقة شريرة وعنيفة أن يفسدوا رجاء العالم كله نحن نؤكد أن رجاء كل العالم في القيامة من الأموات التي المسيح هو بكرها وأول ثمارها، لذلك إذ يجعل الحكيم بولس قيامتنا تقوم على قيامة السيد يقول: "لأنه إن كان الموتى لا يقومون، فلا يكون المسيح قد قام" (1 كو 15: 16)، كما يقدم فكرًا عكسيًا فيقول: "إن كان المسيح يُكرز به أنه قام من الأموات، فكيف يقول قوم بينكم ليس قيامة أموات؟" (1 كو 15: 12). الذين قالوا بهذا هم الصدوقيون الذين نتحدث عنهم الآن. على أي الأحوال كان سؤال الصدوقيون بلا معنى، السؤال برمته لا يتفق مع الكتب المقدسة الموحى بها، وجاءت إجابة مخلصنا تؤكد تمامًا غباوة قصتهم وتجعلنا نستخف بوهمهم والفكرة التي يقوم عليها هذا الوهم... قال الله عن الذين رقدوا: "من يدّ القبر أفديهم، من الموت أخلصهم، أين دينونتك يا موت؟ أين شوكتك يا قبر؟" (هو 13: 14 الترجمة السبعينية). الآن ما يقصده بدينونة الموت وشوكته قد أخبرنا به الطوباوي بولس بقوله: "أما شركة الموت فهو الخطية، وقوة الخطية هي الناموس" (1كو 15: 56)، إذ يقارن الموت بالعقرب، شوكتها هي الخطية وبسمها تقتل النفس. يقول أن الناموس هو قوة الخطية، إذ في موضع آخر يعترض: "بل لم أعرف الخطية إلا بالناموس" (رو 7: 7)، "إذ حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعدٍ" (رو 4: 15). لهذا السبب يستبعد مؤمنيه من وصاية الناموس الذي يدين ويبطل شوكة الموت التي هي الخطية، فإنه إذ ينزع الخطية بالتبعية يرحل الموت معها، إذ الموت صادر عنها وبسببها جاء إلى العالم. إذ أعطى الله وعدًا: "من يدّ القبر أفديهم، من الموت أخلصهم"، اتفق الأنبياء الطوباويون مع هذا المرسوم العلوي، فتحدثوا معنا لا برؤيا قلبهم ولا بمشيئة إنسان بل عن فم الله كما هو مكتوب (راجع إر 23: 16) إذ يعلن الروح القدس المتكلم فيهم حكم الله وإرادته القديرة غير المتغيرة في كل أمر. يحدثنا إشعياء النبي: "تحيا أمواتك، يقوم الذين في القبور، سيبتهج الذين في الأرض، لأن طلك يشفيهم" (إش 26: 19 الترجمة السبعينية). على ما أعتقد أن الطل هو قوة الروح القدس واهب الحياة، أو تلك الفاعلية التي تبطل الموت، الصادرة عن الله والحياة. يقول أيضًا داود الطوباوي في المزامير عن الذين على الأرض: "تأخذ روحهم فيموتون وإلى ترابهم يعودون. ترسل روحك فتخلقهم وتجدد وجه الأرض" (مز 104: 29). ألم تسمع عن عمل الروح القدس ونعمته واهبة الحياة، هذا الذي سيجدد وجه الأرض؟ فإنه يقصد بوجه الأرض جمالها، وبجمال طبيعة البشر عدم الفساد، إذ قيل: "يُزرع في فساد ويُقاوم في عدم فساد، يزرع في هوان ويقاوم مجد، يزرع في ضعف ويقاوم قوة" (1 كو 15: 42-43). مرة أخرى يؤكد لنا إشعياء النبي أن الموت الذي دخل بسبب الخطية لا يستعيد قوته على سكان الأرض أبديًا، إنما يبطل خلال قيامة المسيح من الأموات، حيث يجدد المسكنة، ويردها إلى ما كانت عليه، كما هو مكتوب: "خلق الله كل شيء في عدم فساد" (حك 1: 4)، قائلًا: "يُبلع الموت إلى الأبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض" (إش 25: 8). عار الشعب هو الخطية، إذ تُنزع يبطل الموت ويرحل الفساد من وسط الشعب، وإذ ينتهي الموت تُنزع دموع كل أحد ويتوقف النحيب، فلا توجد علة بعد للبشر من جهة البكاء والنحيب. هكذا لدينا الكثير من الأسانيد في تفنيد جحود اليهود، لكننا لننظر إلى ما قاله لهم المسيح: حقًا إن أبناء هذا العالم الذين يعيشون الحياة الجسدانية العالمية مليئة بالشهوات من أجل الإنجاب، لذا يزوَّجون ويزوَّجون، أما الذين يبلغون الحياة المختارة المكرمة والحاملة كل سمو والمتأهلة للقيامة المجيدة العجيبة فبالضرورة تفوق حياة البشر في هذا العالم. إنهم يعيشون في حضرة الله كقديسين، يصيرون مساوين للملائكة، أبناء الله. إذ تُنزع عنهم كل شهوة جسدية ولا يكون للذة الجسد موضع فيهم بل يتشبهون بالملائكة القديسين يمارسون الخدمة الروحية لا المادية كأرواح مقدسة، وفي نفس الوقت يتأهلون لمجدٍ كذاك الذي يتمتع به الملائكة. برهن المخلص على جهل الصدوقيين المطّبق، مقدمًا لهم موسى معلمهم الديني كمعلم بالقيامة من الأموات بطريقة واضحة تمامًا، إذ يقدم لنا الله القائل في العليقة: "أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب". إله من هو أن كان هؤلاء - كما يظنون - لا يعيشون بعد؟ إنه إله أحياء، لذلك سيقومون عندما تجلبهم يمين الله القدير، ليس وحدهم بل وكل الذين هم على الأرض. عدم الإيمان بهذا يليق بجهل الصدوقيين، لا بمحبي المسيح. أما نحن فنؤمن بالقائل: "أنا هو القيامة والحياة" (يو 11: 25)، هذا الذي يقيم الأموات: "في لحظة، في طرفة عين عند البوق الأخير، فإنه سيبوق، فيُقام الأموات عديمي الفساد ونحن نتغير" (1 كو 15: 52). سيغيرنا مخلصنا كلنا إلى عدم الفساد، إلى المجد والحياة غير الفاسدة، هذا الذي به وله المجد والحمد والسلطان مع الله الآب والروح القدس إلى أبد الأبد، آمين[296].]