مرقس 12 - تفسير إنجيل مرقس مقاومته في أورشليم الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي
********
المفهوم الرمزي للمرأة التي تزوجت سبعة رجال
في دراستنا لحديث السيد المسيح مع الصدوقيين أثناء دراستنا لإنجيل متى (22: 23-33)، رأينا هذه المرأة التي تزوجت السبعة إخوة ولم تنجب تشير إلى الكنيسة التي عاشت زمانًا (رقم 7) بأعمال الناموس. لكنها لم تأتِ بثمر روحي حتى ماتت عن أعمال الناموس لتحيا بالنعمة على مستوى ملائكي روحي. ويقدم لنا أحد النصوص المنسوبة للقديس جيروم تفسيرًا رمزيًا آخر، جاء فيه [من هي هذه المرأة التي لم تنجب من الإخوة السبعة والتي ماتت في النهاية إلا المجمع اليهودي الذي فارقه الروح السباعي (إش 11: 2) الذي ملأ السبعة آباء البطاركة، والتي لم يُترك لها نسل إبراهيم أي يسوع المسيح! فمع أنه وُلد لهم لكنه وُهب للأمم! لقد ماتت هذه المرأة عن المسيح، فلا ترتبط في القيامة بأي واحد من البطاركة السبعة، وإني أقصد برقم سبعة صحبة المؤمنين جميعًا. على العكس هذا قيل بإشعياء أن سبع نساء يمسكن برجلٍ واحدٍ (إش 4: 1)، أي السبعة كنائس التي يحبها الرب وينتهرها ويؤدبها، فتتعبد له بإيمان واحد[297].]
4. الكتبة والوصية
"فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون،
فما رأى أنه أجابهم حسنًا، سأله:
أية وصية هي أول الكل.
فأجابه يسوع: أن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل،
الرب إلهنا رب واحد.
وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك،
هذه الوصية الأولى.
وثانية مثلها، هي تحب قريبك كنفسك،
ليس وصية أعظم من هاتين" [28-32].
إن كان الفريسيون والصدوقيون والهيرودسيون قد جاءوا إلى السيد بخبثٍ ليجربوه، كي يصطادوه بكلمة كمثير فتنة ضد الحاكم الروماني أو ككاسرٍ للناموس الموسوي، فإن محاوراتهم للسيد جذبت كثيرين للتمتع بمفاهيم جديدة، الأمر الذي أثار هذا الكاتب ليقدم سؤالًا كثيرًا ما تناقش فيه رجال الدين المتعلمون خاصة الكتبة، ولعله أيضًا في عرضه السؤال أراد أن يجرب السيد (مت 22: 34-35؛ لو 10: 25)، إذ حسبه يميز بين وصايا الناموس وبعضها البعض، أو يقدم وصية من عنده كأعظم مما ورد في الناموس. وإن كان السيد لم يوبخ هذا الكاتب بل بالحري أجابه بحكمة إلهية فائقة مقدمًا أساسًا روحيًا لمفهوم الوصية، يمكن تلخيصه في الآتي:
أولًا: أن الوصايا تمثل وحدة واحدة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، فبينما يطلب الكاتب وصية أول الكل يقدم السيد المسيح وصيتين على مستوى واحد، ملتحمتين معًا، تمسان علاقتنا بالله خلال إيماننا به واعترافنا بوحدانيته، وحبنا له بلا حدود، وعلاقتنا بقريبنا الذي نحبه كأنفسنا. وقد كشف لنا إنجيل لوقا من هو قريبنا بمثل السامري الصالح (لو 10).
بمعنى آخر لا انفصال بين الإيمان بالله والاعتراف به وبين حبنا له، ولا انفصال بين علاقتنا بالله وعلاقتنا بإخوتنا. وكأن الوصية هي تمتع بسمة حياة داخلية يعيشها الإنسان في أعماقه وتُعلن خلال إيمانه وشوقه نحو الله ومعاملاته مع الناس.
في نص منسوب للقديس جيروم[298] جاء: [هذا السؤال يمثل وحدة مشكلة عامة للمتعلمين في الناموس، وهو أن الوصايا الواردة في الخروج واللاويين والتثنية مختلفة. وقد قدم السيد وصيتين وليس وصية واحدة وكأنهما ثديان على صدر العروس بهما تنتعش طفولتنا... لقد أشار إلى أول الوصايا العظمى التي يجب على كل واحد منا أن يعطيها المكان الأول في قلبه، كأساس للتقوى، وهي معرفة وحدة اللاهوت والاعتراف بها مع ممارسة العمل الصالح الذي يكمل بحب الله والقريب.]
ثانيًا: إن كان الحب هو جوهر الوصية، فإن هذا الحب ليس تصرفًا خارجيًا نبرزه فحسب، إنما يمثل حياة تمس كل إمكانياتنا، وتمس كياننا "نحب من كل النفس"، وتمس عواطفنا وأحاسيسنا الداخلية "من كل القلب"، وتمس فكرنا "من كل الفكر" وأيضًا تمس تصرفاتنا الظاهرة "من كل قدرتك". وكأن الحب يعني تقديس الإنسان بكليته بروح الله القدوس ليحمل صورة طبيعة خالقه في داخله، بكون "الله محبة" (1 يو 4: 8)، نحمل حياته وسماته عاملة في النفس والقلب والفكر والجسد وكل الطاقات والمواهب!
الوصية هي تمتع وتجاوب مع روح الله القدوس الذي يشكلنا على الدوام، ويرفعنا من مجد إلى مجد، لعلنا نبلغ قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13).
يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [انظر كيف يعدد كل قوى النفس، إذ توجد القوة الحية في النفس التي شرحها بقوله "من كل النفس"، لهذه القوة ينسب الغضب والرغبة هذه التي يجب تسليمها للحب الإلهي. كما توجد قوة أخرى تسمى "القوة الطبيعية"، ولها يُنسب النمو والانتعاش، والتي يجب أيضًا تسليمها لله إذ قيل: "من كل قلبك". وأيضًا قوة ثالثة هي العليقة والتي تدعى "الفكر" التي يجب تسليمها أيضًا بالكامل.]
على أي الأحوال يبدو أن خلافًا دار بين فئات اليهود أنفسهم، فالبعض ركز على أهمية الشرائع الطقسية خاصة تقديم الذبائح، والآخر على الجانب الإيماني، وثالث على الجانب السلوكي العملي. وقد جاء السيد المسيح ليؤكد الحاجة إلى تغيير شامل في النفس والقلب والفكر مع تجاوب كل طاقات الإنسان وإمكانياته مع هذا التغير الداخلي. وقد أعجب الكاتب بالإجابة، قائلًا: "بالحق قلت لأنه (الله) واحد وليس آخر سواه. ومحبته من كل القلب، ومن كل الفهم، ومن كل النفس ومن كل القدرة، ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح" [32-33]. أجابه السيد: "لست بعيدًا عن ملكوت الله" [34]، لكنه لم يقل له: "في داخلك ملكوت الله"، إذ عرف الكاتب ملامح الطريق، لكن لم يكن قد دخله بعد ولا تمتع به.
************
المسيح كابن داود وربه:
إذ توقفت الحوارات كقول الإنجيلي: "ولم يجسر أحد بعد ذلك أن يسأله" [34]، بدأ السيد يحدث الجماهير من خلال كلمات الكتبة أنفسهم ليكشف لهم عن طريق خلاصهم به، إذ يقول الإنجيلي:
"ثم أجاب يسوع وقال وهو يعلم في الهيكل:
كيف يقول الكتبة أن المسيح ابن داود؟
لأن داود نفسه قال بالروح القدس:
قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك.
فداود نفسه يدعوه ربًا، فمن أين هو ابنه؟" [35-37]
يتحدث الآن السيد المسيح عن نفسه علانية ولأول مرة ليعلن الآتي:
أولًا: أنه المسيا ابن داود وفي نفس الوقت ربه. تعرف عليه داود منذ أجيال طويلة، لا من ذاته وإنما بالروح القدس إنه موضوع النبوات ومشتهى الآباء!
ثانيًا: إن كانت القوى قد تكاتفت لا لمحاورته فحسب، وإنما أيضًا لقتله صلبًا، فإنهم يقاومون الآب أيضًا الذي يضع الأعداء تحت قدمّي الابن، ليس عن ضعف في الابن، وإنما عن وحدة العمل بين الآب والابن. وكأن السيد يطالبهم قبل الدخول في أحداث الطريق أن يراجع كل إنسان نفسه لئلا تسحبه الأحداث ليصير مقاومًا للحق ومعاندًا لله. أما قوله "اجلس عن يميني" فيعني أنه يحمل قوته، ولا يعني تفاوتًا في الكرامة. فإن كان الآب يخضع الأعداء تحت قدمي الابن، فالابن أيضًا يخضع الأعداء تحت قدمي الآب، إذ يمجد أباه على الأرض (يو 15: 4).
يقول القديس أمبروسيوس: [كل ما للآب هو للابن.. نحن نميز الآب عن الابن في اختلاف الأقانيم لكنهما واحد في القدرة، الواحد في الآخر... مجد الآب لا يضمحل في الابن، وجمال الابن أن يرى فيه كمال الآب، إنهما واحد في القدرة[299].] ويقول القديس كيرلس الكبير: [ونحن أيضًا نضع ذات السؤال لفريسي الأزمنة الأخيرة (النساطرة)، ليت هؤلاء الذين ينكرون أن المولود من القديسة العذراء هو بعينه ابن الله الآب وأنه هو الله، مقسمين المسيح إلى ابنين، ليشرحوا لنا كيف يكون ابن داود ربه، ليس لربوبيه بشرية بل لاهوتية. فإن جلوسه عن يمين الآب هو تأكيد وعربون المجد الأسمى. فإذ لهما عرش واحد لهما كرامة واحدة، والمتوجان بكرامة واحدة لهما طبيعة واحدة[300].]
ثالثًا: إن كان السيد قد أُتهم باتهامات كثيرة أثناء خدمته، لكنه يتمجد بخضوع أعدائه تحت قدميه في يومه العظيم، وكما يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح قصد بهذا الحديث أن يسحب قلوب تلاميذه من الفكر الفريسي الذي يهتم بالمجد الزمني ليطلبوا المجد الأبدي مع مسيحهم. بمعنى آخر إن كان السيد قاومه كثيرون في خدمته للبشرية وإعلان مجده الأبدي، هكذا من يتبعه يحتمل المقاومات هنا من أجل الأبديات. لهذا السبب، يكمل الإنجيلي حديثه هكذا:
"وقال لهم في تعليمه:
تَحَرَّزوا من الكتبة الذين يرغبون المشي بالطيالسة، والتحيات في الأسواق.
والمجالس الأولى في المجامع،
والمتكآت الأولى في الولائم.
الذين يأكلون بيوت الأرامل، ولِعِلَّةٍ يُطيلون الصلوات.
هؤلاء يأخذون دينونة أعظم" [38-40].
حذر تلاميذه من أن يضعوا قلوبهم في ثيابهم أي في المظاهر الخارجية، فقد اعتاد أن يخفي بعض رجال الدين اليهودي شرهم وخبثهم تحت الزيّ الخارجي، فينالون الكرامة الزمنية وهم يحملون قلوب ذئبية. لهذا نجد القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا ما يوبخ نفسه، قائلًا: "عجبي من أسقف يخلص!"، حتى يكون -وهو رئيس أساقفة- في حذرٍ دائمٍ من ذاته. بمعنى آخر ثياب الكهنوت في ذاتها لا تبرره، بل بالحري تدينه إن لم يحمل في قلبه مجدًا داخليًا. بذات الروح قال الراهب المتوحد القديس يوحنا سابا: [يا رجل الله حتى متى بالسواد فقط (ربما قصد الزي الرهبنة) تعزى نفسك؟ كن كلك لهيبًا وأحرق جميع الذين حولك لترى المجد الخفي داخلك[301]]، [ويل لي، لأني إلى الآن أعزي نفسي بالسواد فقط[302].]
يقول القديس ثيؤفلاكتيوس: [لقد اعتادوا أن يسيروا مرتدين ثيابًا مكرمة لكي ينالوا تكريمًا عظيمًا بسببها، ويتبعون نفس الأمر في أشياء كثيرة تقودهم للمجد الزمني.]
وما يقوله السيد المسيح بخصوص الرغبة في المشي بالطيالسة يذكره بخصوص الرغبة في التمتع بتحيات الناس ونوال المتكآت الأولى، وفي إطالة الصلوات عمدًا. غير أن السيد لم يهاجم الملبس في ذاته، ولا تحيات الناس، ولا الجلوس في المتكآت الأولى أو إطالة الصلوات، إنما هاجم الفكر الداخلي والشهوة العميقة للتصرف هكذا من أجل المجد الباطل، بينما يحمل الإنسان قلبًا قاسيًا حتى يستبيح لنفسه أن يأكل حق الأرامل.
5. الأرملة المحبة والفلسان
إن كانت كل قوى القيادات اليهودية قد تكاتفت معًا لمقاومة السيد، فقد وُجدت أرملة فقيرة مملوءة حبًا لله والناس قدمت كل أعوازها -أي فلسين- في خزانة الهيكل، فحسبها الرب أفضل من مقدمي الذهب الكثير والفضة، إذ قال: "الحق أقول لكم أن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة. لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل ما عندها كل معيشتها" [44-43].
في نص منسوب للقديس جيروم[303] يرى الكاتب في نفسه أنه هو الأرملة الفقيرة إذ يقدم في قلوب الناس كما في خزانة الهيكل فلسين هما الشرح المبسط للإيمان التابع عن العهدين القديم والجديد، يجد له مكانًا في قلوب سامعيه بالروح القدس ليترجمه الروح إلى حياة عملية في الفكر والقول والعمل.
ويرى الأب ثيؤفلاكتيوس هذه المرأة رمزًا للنفس المؤمنة التي ترملت إذ مات رجلها الأول الذي باعت نفسها له أي إبليس، وتقدمت لعريسها الجديد بالفلسين أي النفس والجسد، تقدمهما خلال التواضع والنسك، تهبه كل حياتها ليعمل فيها.
ويرى القديس أغسطينوس في الفلسين (رقم 2) إشارة للحب، فإننا لا نستطيع نقترب إلى مقدسات الله، ولا يتطلع الرب إلى تقدماتنا أن لم تنبع عن قلب متسم بالحب لله والناس. بالحب ننعم بالمقدسات وتكريم الرب لنا.
هذا وقد فتحت هذه الأرملة الباب أمام جميع المؤمنين لإدراك مفهوم العطاء الحقيقي. إنه عطاء القلب الداخلي الذي يفرح قلب الله، وليس مجرد العطاء الظاهر، فمن كلمات الآباء في هذا الشأن:
* ألم تفق (هذه الأرملة) فيض غناك بسبب استعدادها الداخلي؟ كتب الحكيم بولس شيئًا من هذا النوع: "لأنه إن كان النشاط موجودًا (الإرادة حاضرة)، فهو مقبول على حسب ما للإنسان، لا على حسب ما ليس له" (2 كو 8: 12). ليس فقط الغني ينال نعمة من الله بتقديمه ثمرًا للإخوة، فإن مخلص الجميع يقبل ذبيحته، وإنما أيضًا يهب نعمة للذي يقدم قليلًا لأنه يملك القليل، ولا يخسر الأخير شيئًا بسبب قلة ما يملكه. فإن الله ناظر الكل يمدح استعداده الداخلي ويقبل نيته ويجعله مساويًا للغني، بل بالحري يهبه إكليلًا أعظم كرامة مما للغني[304].
القديس كيرلس الكبير
* أتقول ليس لك قدرة على تقديم أعمال رحمة...؟ فَلَكَ لسان، أيا كان فقرك فلك قدمان بهما تزور المريض وتفتقد في السجن. لك سقف تستقبل تحته غرباء. ليس هناك عذر قط لمن لا يمارس عمل الرحمة[305].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* ما اشترت به الأرملة بفلسين اشتراه بطرس بتركه الشباك (مت 4: 20)، وزكا بتقديمه نصف أمواله (لو 19: 8).
* أي شيء يا إخوة أكثر قدرة من أنه ليس فقط زكا اشترى ملكوت السماوات بنصف أمواله (لو 19: 8)، وإنما اشترته الأرملة بفلسين، ليملك الاثنان نصيبًا متساويًا؟ أي شيء أقدر من هذا أن ذات الملكوت الذي يتأهل له الغني بتقديم كنوزه يناله الفقير بتقديم كأس ماء بارد! (مت 10: 42)
* قليل هو مالها، لكن عظيم هو حبها[306].
القديس أغسطينوس
* من يقدم نفسه لله إنما يقدم كل شيء له دفعة واحدة.
* مع كونها أرملة فقيرة، لكنها كانت أغنى من كل شعب إسرائيل.
* مثل هذه التقدمات لا تُقدر بوزنها، بل بالإرادة الصالحة التي قُدمت بها[307].
القديس جيروم
مرقس 12 - تفسير إنجيل مرقس مقاومته في أورشليم الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي ******** المفهوم الرمزي للمرأة التي تزوجت سبعة رجال في دراستنا لحديث السيد المسيح مع الصدوقيين أثناء دراستنا لإنجيل متى (22: 23-33)، رأينا هذه المرأة التي تزوجت السبعة إخوة ولم تنجب تشير إلى الكنيسة التي عاشت زمانًا (رقم 7) بأعمال الناموس. لكنها لم تأتِ بثمر روحي حتى ماتت عن أعمال الناموس لتحيا بالنعمة على مستوى ملائكي روحي. ويقدم لنا أحد النصوص المنسوبة للقديس جيروم تفسيرًا رمزيًا آخر، جاء فيه [من هي هذه المرأة التي لم تنجب من الإخوة السبعة والتي ماتت في النهاية إلا المجمع اليهودي الذي فارقه الروح السباعي (إش 11: 2) الذي ملأ السبعة آباء البطاركة، والتي لم يُترك لها نسل إبراهيم أي يسوع المسيح! فمع أنه وُلد لهم لكنه وُهب للأمم! لقد ماتت هذه المرأة عن المسيح، فلا ترتبط في القيامة بأي واحد من البطاركة السبعة، وإني أقصد برقم سبعة صحبة المؤمنين جميعًا. على العكس هذا قيل بإشعياء أن سبع نساء يمسكن برجلٍ واحدٍ (إش 4: 1)، أي السبعة كنائس التي يحبها الرب وينتهرها ويؤدبها، فتتعبد له بإيمان واحد[297].] 4. الكتبة والوصية "فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فما رأى أنه أجابهم حسنًا، سأله: أية وصية هي أول الكل. فأجابه يسوع: أن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، هذه الوصية الأولى. وثانية مثلها، هي تحب قريبك كنفسك، ليس وصية أعظم من هاتين" [28-32]. إن كان الفريسيون والصدوقيون والهيرودسيون قد جاءوا إلى السيد بخبثٍ ليجربوه، كي يصطادوه بكلمة كمثير فتنة ضد الحاكم الروماني أو ككاسرٍ للناموس الموسوي، فإن محاوراتهم للسيد جذبت كثيرين للتمتع بمفاهيم جديدة، الأمر الذي أثار هذا الكاتب ليقدم سؤالًا كثيرًا ما تناقش فيه رجال الدين المتعلمون خاصة الكتبة، ولعله أيضًا في عرضه السؤال أراد أن يجرب السيد (مت 22: 34-35؛ لو 10: 25)، إذ حسبه يميز بين وصايا الناموس وبعضها البعض، أو يقدم وصية من عنده كأعظم مما ورد في الناموس. وإن كان السيد لم يوبخ هذا الكاتب بل بالحري أجابه بحكمة إلهية فائقة مقدمًا أساسًا روحيًا لمفهوم الوصية، يمكن تلخيصه في الآتي: أولًا: أن الوصايا تمثل وحدة واحدة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، فبينما يطلب الكاتب وصية أول الكل يقدم السيد المسيح وصيتين على مستوى واحد، ملتحمتين معًا، تمسان علاقتنا بالله خلال إيماننا به واعترافنا بوحدانيته، وحبنا له بلا حدود، وعلاقتنا بقريبنا الذي نحبه كأنفسنا. وقد كشف لنا إنجيل لوقا من هو قريبنا بمثل السامري الصالح (لو 10). بمعنى آخر لا انفصال بين الإيمان بالله والاعتراف به وبين حبنا له، ولا انفصال بين علاقتنا بالله وعلاقتنا بإخوتنا. وكأن الوصية هي تمتع بسمة حياة داخلية يعيشها الإنسان في أعماقه وتُعلن خلال إيمانه وشوقه نحو الله ومعاملاته مع الناس. في نص منسوب للقديس جيروم[298] جاء: [هذا السؤال يمثل وحدة مشكلة عامة للمتعلمين في الناموس، وهو أن الوصايا الواردة في الخروج واللاويين والتثنية مختلفة. وقد قدم السيد وصيتين وليس وصية واحدة وكأنهما ثديان على صدر العروس بهما تنتعش طفولتنا... لقد أشار إلى أول الوصايا العظمى التي يجب على كل واحد منا أن يعطيها المكان الأول في قلبه، كأساس للتقوى، وهي معرفة وحدة اللاهوت والاعتراف بها مع ممارسة العمل الصالح الذي يكمل بحب الله والقريب.] ثانيًا: إن كان الحب هو جوهر الوصية، فإن هذا الحب ليس تصرفًا خارجيًا نبرزه فحسب، إنما يمثل حياة تمس كل إمكانياتنا، وتمس كياننا "نحب من كل النفس"، وتمس عواطفنا وأحاسيسنا الداخلية "من كل القلب"، وتمس فكرنا "من كل الفكر" وأيضًا تمس تصرفاتنا الظاهرة "من كل قدرتك". وكأن الحب يعني تقديس الإنسان بكليته بروح الله القدوس ليحمل صورة طبيعة خالقه في داخله، بكون "الله محبة" (1 يو 4: 8)، نحمل حياته وسماته عاملة في النفس والقلب والفكر والجسد وكل الطاقات والمواهب! الوصية هي تمتع وتجاوب مع روح الله القدوس الذي يشكلنا على الدوام، ويرفعنا من مجد إلى مجد، لعلنا نبلغ قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13). يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [انظر كيف يعدد كل قوى النفس، إذ توجد القوة الحية في النفس التي شرحها بقوله "من كل النفس"، لهذه القوة ينسب الغضب والرغبة هذه التي يجب تسليمها للحب الإلهي. كما توجد قوة أخرى تسمى "القوة الطبيعية"، ولها يُنسب النمو والانتعاش، والتي يجب أيضًا تسليمها لله إذ قيل: "من كل قلبك". وأيضًا قوة ثالثة هي العليقة والتي تدعى "الفكر" التي يجب تسليمها أيضًا بالكامل.] على أي الأحوال يبدو أن خلافًا دار بين فئات اليهود أنفسهم، فالبعض ركز على أهمية الشرائع الطقسية خاصة تقديم الذبائح، والآخر على الجانب الإيماني، وثالث على الجانب السلوكي العملي. وقد جاء السيد المسيح ليؤكد الحاجة إلى تغيير شامل في النفس والقلب والفكر مع تجاوب كل طاقات الإنسان وإمكانياته مع هذا التغير الداخلي. وقد أعجب الكاتب بالإجابة، قائلًا: "بالحق قلت لأنه (الله) واحد وليس آخر سواه. ومحبته من كل القلب، ومن كل الفهم، ومن كل النفس ومن كل القدرة، ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح" [32-33]. أجابه السيد: "لست بعيدًا عن ملكوت الله" [34]، لكنه لم يقل له: "في داخلك ملكوت الله"، إذ عرف الكاتب ملامح الطريق، لكن لم يكن قد دخله بعد ولا تمتع به. ************ المسيح كابن داود وربه: إذ توقفت الحوارات كقول الإنجيلي: "ولم يجسر أحد بعد ذلك أن يسأله" [34]، بدأ السيد يحدث الجماهير من خلال كلمات الكتبة أنفسهم ليكشف لهم عن طريق خلاصهم به، إذ يقول الإنجيلي: "ثم أجاب يسوع وقال وهو يعلم في الهيكل: كيف يقول الكتبة أن المسيح ابن داود؟ لأن داود نفسه قال بالروح القدس: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك. فداود نفسه يدعوه ربًا، فمن أين هو ابنه؟" [35-37] يتحدث الآن السيد المسيح عن نفسه علانية ولأول مرة ليعلن الآتي: أولًا: أنه المسيا ابن داود وفي نفس الوقت ربه. تعرف عليه داود منذ أجيال طويلة، لا من ذاته وإنما بالروح القدس إنه موضوع النبوات ومشتهى الآباء! ثانيًا: إن كانت القوى قد تكاتفت لا لمحاورته فحسب، وإنما أيضًا لقتله صلبًا، فإنهم يقاومون الآب أيضًا الذي يضع الأعداء تحت قدمّي الابن، ليس عن ضعف في الابن، وإنما عن وحدة العمل بين الآب والابن. وكأن السيد يطالبهم قبل الدخول في أحداث الطريق أن يراجع كل إنسان نفسه لئلا تسحبه الأحداث ليصير مقاومًا للحق ومعاندًا لله. أما قوله "اجلس عن يميني" فيعني أنه يحمل قوته، ولا يعني تفاوتًا في الكرامة. فإن كان الآب يخضع الأعداء تحت قدمي الابن، فالابن أيضًا يخضع الأعداء تحت قدمي الآب، إذ يمجد أباه على الأرض (يو 15: 4). يقول القديس أمبروسيوس: [كل ما للآب هو للابن.. نحن نميز الآب عن الابن في اختلاف الأقانيم لكنهما واحد في القدرة، الواحد في الآخر... مجد الآب لا يضمحل في الابن، وجمال الابن أن يرى فيه كمال الآب، إنهما واحد في القدرة[299].] ويقول القديس كيرلس الكبير: [ونحن أيضًا نضع ذات السؤال لفريسي الأزمنة الأخيرة (النساطرة)، ليت هؤلاء الذين ينكرون أن المولود من القديسة العذراء هو بعينه ابن الله الآب وأنه هو الله، مقسمين المسيح إلى ابنين، ليشرحوا لنا كيف يكون ابن داود ربه، ليس لربوبيه بشرية بل لاهوتية. فإن جلوسه عن يمين الآب هو تأكيد وعربون المجد الأسمى. فإذ لهما عرش واحد لهما كرامة واحدة، والمتوجان بكرامة واحدة لهما طبيعة واحدة[300].] ثالثًا: إن كان السيد قد أُتهم باتهامات كثيرة أثناء خدمته، لكنه يتمجد بخضوع أعدائه تحت قدميه في يومه العظيم، وكما يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح قصد بهذا الحديث أن يسحب قلوب تلاميذه من الفكر الفريسي الذي يهتم بالمجد الزمني ليطلبوا المجد الأبدي مع مسيحهم. بمعنى آخر إن كان السيد قاومه كثيرون في خدمته للبشرية وإعلان مجده الأبدي، هكذا من يتبعه يحتمل المقاومات هنا من أجل الأبديات. لهذا السبب، يكمل الإنجيلي حديثه هكذا: "وقال لهم في تعليمه: تَحَرَّزوا من الكتبة الذين يرغبون المشي بالطيالسة، والتحيات في الأسواق. والمجالس الأولى في المجامع، والمتكآت الأولى في الولائم. الذين يأكلون بيوت الأرامل، ولِعِلَّةٍ يُطيلون الصلوات. هؤلاء يأخذون دينونة أعظم" [38-40]. حذر تلاميذه من أن يضعوا قلوبهم في ثيابهم أي في المظاهر الخارجية، فقد اعتاد أن يخفي بعض رجال الدين اليهودي شرهم وخبثهم تحت الزيّ الخارجي، فينالون الكرامة الزمنية وهم يحملون قلوب ذئبية. لهذا نجد القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا ما يوبخ نفسه، قائلًا: "عجبي من أسقف يخلص!"، حتى يكون -وهو رئيس أساقفة- في حذرٍ دائمٍ من ذاته. بمعنى آخر ثياب الكهنوت في ذاتها لا تبرره، بل بالحري تدينه إن لم يحمل في قلبه مجدًا داخليًا. بذات الروح قال الراهب المتوحد القديس يوحنا سابا: [يا رجل الله حتى متى بالسواد فقط (ربما قصد الزي الرهبنة) تعزى نفسك؟ كن كلك لهيبًا وأحرق جميع الذين حولك لترى المجد الخفي داخلك[301]]، [ويل لي، لأني إلى الآن أعزي نفسي بالسواد فقط[302].] يقول القديس ثيؤفلاكتيوس: [لقد اعتادوا أن يسيروا مرتدين ثيابًا مكرمة لكي ينالوا تكريمًا عظيمًا بسببها، ويتبعون نفس الأمر في أشياء كثيرة تقودهم للمجد الزمني.] وما يقوله السيد المسيح بخصوص الرغبة في المشي بالطيالسة يذكره بخصوص الرغبة في التمتع بتحيات الناس ونوال المتكآت الأولى، وفي إطالة الصلوات عمدًا. غير أن السيد لم يهاجم الملبس في ذاته، ولا تحيات الناس، ولا الجلوس في المتكآت الأولى أو إطالة الصلوات، إنما هاجم الفكر الداخلي والشهوة العميقة للتصرف هكذا من أجل المجد الباطل، بينما يحمل الإنسان قلبًا قاسيًا حتى يستبيح لنفسه أن يأكل حق الأرامل. 5. الأرملة المحبة والفلسان إن كانت كل قوى القيادات اليهودية قد تكاتفت معًا لمقاومة السيد، فقد وُجدت أرملة فقيرة مملوءة حبًا لله والناس قدمت كل أعوازها -أي فلسين- في خزانة الهيكل، فحسبها الرب أفضل من مقدمي الذهب الكثير والفضة، إذ قال: "الحق أقول لكم أن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة. لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل ما عندها كل معيشتها" [44-43]. في نص منسوب للقديس جيروم[303] يرى الكاتب في نفسه أنه هو الأرملة الفقيرة إذ يقدم في قلوب الناس كما في خزانة الهيكل فلسين هما الشرح المبسط للإيمان التابع عن العهدين القديم والجديد، يجد له مكانًا في قلوب سامعيه بالروح القدس ليترجمه الروح إلى حياة عملية في الفكر والقول والعمل. ويرى الأب ثيؤفلاكتيوس هذه المرأة رمزًا للنفس المؤمنة التي ترملت إذ مات رجلها الأول الذي باعت نفسها له أي إبليس، وتقدمت لعريسها الجديد بالفلسين أي النفس والجسد، تقدمهما خلال التواضع والنسك، تهبه كل حياتها ليعمل فيها. ويرى القديس أغسطينوس في الفلسين (رقم 2) إشارة للحب، فإننا لا نستطيع نقترب إلى مقدسات الله، ولا يتطلع الرب إلى تقدماتنا أن لم تنبع عن قلب متسم بالحب لله والناس. بالحب ننعم بالمقدسات وتكريم الرب لنا. هذا وقد فتحت هذه الأرملة الباب أمام جميع المؤمنين لإدراك مفهوم العطاء الحقيقي. إنه عطاء القلب الداخلي الذي يفرح قلب الله، وليس مجرد العطاء الظاهر، فمن كلمات الآباء في هذا الشأن: * ألم تفق (هذه الأرملة) فيض غناك بسبب استعدادها الداخلي؟ كتب الحكيم بولس شيئًا من هذا النوع: "لأنه إن كان النشاط موجودًا (الإرادة حاضرة)، فهو مقبول على حسب ما للإنسان، لا على حسب ما ليس له" (2 كو 8: 12). ليس فقط الغني ينال نعمة من الله بتقديمه ثمرًا للإخوة، فإن مخلص الجميع يقبل ذبيحته، وإنما أيضًا يهب نعمة للذي يقدم قليلًا لأنه يملك القليل، ولا يخسر الأخير شيئًا بسبب قلة ما يملكه. فإن الله ناظر الكل يمدح استعداده الداخلي ويقبل نيته ويجعله مساويًا للغني، بل بالحري يهبه إكليلًا أعظم كرامة مما للغني[304]. القديس كيرلس الكبير * أتقول ليس لك قدرة على تقديم أعمال رحمة...؟ فَلَكَ لسان، أيا كان فقرك فلك قدمان بهما تزور المريض وتفتقد في السجن. لك سقف تستقبل تحته غرباء. ليس هناك عذر قط لمن لا يمارس عمل الرحمة[305]. القديس يوحنا الذهبي الفم * ما اشترت به الأرملة بفلسين اشتراه بطرس بتركه الشباك (مت 4: 20)، وزكا بتقديمه نصف أمواله (لو 19: 8). * أي شيء يا إخوة أكثر قدرة من أنه ليس فقط زكا اشترى ملكوت السماوات بنصف أمواله (لو 19: 8)، وإنما اشترته الأرملة بفلسين، ليملك الاثنان نصيبًا متساويًا؟ أي شيء أقدر من هذا أن ذات الملكوت الذي يتأهل له الغني بتقديم كنوزه يناله الفقير بتقديم كأس ماء بارد! (مت 10: 42) * قليل هو مالها، لكن عظيم هو حبها[306]. القديس أغسطينوس * من يقدم نفسه لله إنما يقدم كل شيء له دفعة واحدة. * مع كونها أرملة فقيرة، لكنها كانت أغنى من كل شعب إسرائيل. * مثل هذه التقدمات لا تُقدر بوزنها، بل بالإرادة الصالحة التي قُدمت بها[307]. القديس جيروم