مرقس 13 - تفسير إنجيل مرقس
علامات المنتهى الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي
5. رجسة الخراب
يقدم لنا السيد المسيح "رجسة الخراب" التي تحدث عنها دانيال النبي (دا 12: 11، راجع 9: 27، 11: 31) كعلامة خراب الهيكل، وأيضًا علامة من علامات نهاية الأزمنة ومجيء السيد المسيح الأخير.ويمكننا تلخيص الآراء في رجسة الخراب هكذا:
أولًا: يرى بعض الآباء والدارسين أن رجسة الخراب تشير إلى دخول العدو بجنوده إلى الهيكل وتدنيسه قبل هدمه وحرق المدينة بالنار. يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [ربما يعني برجسة الخراب دخول الأعداء إلى المدينة بالقوة.]
ثانيًا: جاء في سفر المكابيين الأول (1: 54) إلى تحقيق رجسة الخراب هذه عندما أقام أنتيخوس ابيفانيوس تمثال زيوس أولمبياس على مذبح المحرقة في الهيكل عام 167 ق.م[315] (راجع أيضًا 2 مك 6: 2).ويرى البعض أن هذه الرجسة تكررت، فوضع بيلاطس تمثال قيصر في الهيكل، وحاول كالجولا Caligula أن يقيم لنفسه تمثالًا في هيكل أورشليم عام 40م تقريبًا، كما أقيم أيضًا تمثال لأدريان في قدس الأقداس نفسه لوقت طويل.
ثالثًا: رفض فريق من المفسرين الرأيين السابقين إذ يروا أن النص اليوناني لا يشير إلى رجسة خراب خلال إقامة تمثال أو دخول جنود وثنيين، إنما إلى ظهور شخص حقيقي ضد المسيح يقيم نفسه إلهًا في الهيكل كقول الرسول بولس في الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي.وكأن هذه العلامة تشير إلى ظهور ضد المسيح الذي يقيم نفسه في هيكل الرب معبودًا.
6. وصايا للدخول في الملكوت
إذ قدم السيد لكنيسته علامات المنتهى من حلول ضيقات كالحروب والمجاعات والأوبئة والزلازل، وحلول مضايقات خاصة من أجل الكرازة بالإنجيل، وأعلن عن ظهور أنبياء كذبة ومسحاء خاصة ضد المسيح، وهبها وصايا خاصة تسندها في هذا الجو الصعب حتى يجتاز الضيقة المستمرة وتعبر به إلى ملكوته. سبق لنا الحديث عن هذه الوصايا في دراستنا لإنجيل متى الإصحاح الرابع والعشرين، لكننا نقول هنا أن هذا النص يحمل معنيين:
أولًا: المعنى الحرفي، فقد قيل أن المسيحيين إذ رأوا علامات اقتراب خراب الهيكل هربوا من اليهودية وانطلقوا إلى الجبال كوصية سيدهم، فخلصوا من محاصرة تيطس لأورشليم ولم يسقطوا تحت الضيق الذي تمرر به اليهود.
ثانيًا: المعنى الرمزي وهو لقاؤنا مع السيد المسيح القادم إلى قلوبنا ليتجلى كما على سحاب السماء، فيلزمنا أن ننطلق من يهودية الحرف القاتل إلى جبال الروح، لنعيش في حرية الإنجيل لا عبودية حرف الناموس. إن كان الرب يعلن لتلاميذه انه لا جدوى من مقاومة الرومان ولا من مسالمتهم ولا يمكن الاختفاء منهم في مدينة بل يلزم الهرب منهم على الجبال، هكذا يليق بنا إذ تشتد حروب الشيطان علينا ألا نقف أمامه ولا نهادنه بل نهرب إلى الرب نفسه بكونه الجبل المقدس الذي يحملنا فيه.
في نص منسوب للقديس جيروم جاء: [هروبنا إلى الجبال يعني الصعود إلى أعالي الفضيلة حتى لا نهبط إلى أعماق الخطية.]
هكذا من ارتفع إلى السطح، أي صعد على سلم الفضيلة، وصار على السطح، يرى مع الرسول بطرس الملاءة النازلة من السماء (أع 10: 11) لا يعود ينزل إلى الطبقات السفلى، ولا يطلب السفليات. بمعنى آخر من ارتفع فوق الأعمال الجسدانية وعاش في الروحيات يتنسم هواء الحرية النقي ويرى السماوات مفتوحة أمام عينيه فلا ينزل إلى مناقشاته القديمة ولا يطلب شهوات الجسد وأمور هذا العالم الزمني.
هكذا من انطلق إلى حقل الكرازة فلا يرجع عن الخدمة ولا يعود يهتم بثوبه، أي بالجسديات.
أما عن قوله "ويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام"، فيقول الأب ثيؤفلاكتيوس أنه يشير إلى ما فعلته اليهوديات في ذلك الوقت إذ طبخ النساء أطفالهن من شدة الجوع. ولعل الحبالى والمرضعات يشرن إلى النفوس التي لا تنضج بعد ولا أنجبت ثمار الروح، فلا تحتمل الضيقة ولا تقدر على الهروب بل تكون مثقلة كالحامل أو المرضعة.
يُطلب منا أن نصلي ألا يكون هربنا في شتاء، وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [يلزمنا أن نتجنب الخطية بحرارة لا ببرود وخمول.]
7. الضيقة العظمى
"لأنه يكون في تلك الأيام ضيق
لم يكن مثله منذ ابتداء الخليقة التي خلقها الله إلى الآن ولن يكون.
ولو لم يقصر الرب تلك الأيام لم يخلص جسد،
ولكن لأجل المختارين الذين اختارهم قصّر الأيام" [19-20].
حقًا إنها الضيقة العظمى التي يشهدها العالم بظهور ضد المسيح مقاومًا الكنيسة في العالم، لكنها ضيقة بسماح من الله لا تفلت من عنايته.يقصرّها الله من أجل مختاريه حتى لا تنهار نفوسهم.
في العهد القديم كان الله يسمح بالضيقات تشتد لأجل توبة الساقطين، لكنه يعود فيترفق حتى لا تنحل الباقية التي التصقت بالرب وسط جيل ملتوٍ وشعب معاند.وفي أيام خراب الهيكل اشتدت الضيقة جدًا وقد وصفها المؤرخ يوسيفوس المعاصر لها بكلمات مرة وقاسية فذكر أن الرومان كانوا يأتون باليهود ويصلبونهم بالمئات في هزء وسخرية حتى ضاقت الساحات بالصلبان، واشتد الجوع بالنساء حتى طبخن أطفالهن. وكانوا يلقون بالكهنة عراة في الوحل ويقدمونهم طعامًا للحيوانات المفترسة.وقد قصرّ الرب الأيام من أجل المسيحيين الهاربين من اليهودية إلى الجبال حتى لا تلحق بهم.أما في أواخر الأيام حين يأتي ضد المسيح، فيحارب الكنيسة في كل موضع ولا يسمح لمؤمن أن يبيعٍ أو يشتري ما لم يضع سمة الوحش على جبهته أو يده اليمنى.ويقصرّ الله أيضًا الأيام من أجل المختارين.
بنفس الروح في حياة كل واحد منا يسمح الله لنا بالضيق يشتد حتى الهزيع الأخير وحين نظن أنه لا نجاة، يتجلى على المياه محطمًا الأمواج، معلنًا ذاته لنا كمخلص للنفس والجسد معًا.
8. ظهور أنبياء كذبة
"حيئنذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هوذا هناك فلا تصدقوا.
لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة،
ويعطون آيات وعجائب لكي يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا.
فانظروا أنتم، ها أنا قد سبقت وأخبرتكم بكل شيء" [21-23].
هذا هو مركز الحديث،أن عدو الخير لا يتوقف عبر الأزمنة عن مقاومة ملكوت الله بكل قوة، خاصة في الأيام الأخيرة، مستخدمًا كل وسيلة للتضليل، كما فعل السحرة في أيام موسى. في الأيام الأخيرة يتفنن عدو الخير في عمل الآيات والعجائب لكي يضل لو أمكن المختارين،لكن الله يحفظ مختاريه.
* كثيرون ينسبون لأنفسهم اسم المسيح ليخدعوا إن أمكن حتى المؤمنين.
الأب ثيؤفلاكتيوس
* عندئذ سُيحل الشيطان، فيعمل بكل قوته خلال ضد المسيح بطريقة باطلة ومدهشة...إنه يخدع الحواس الميتة بأوهام فيظهر كمن يعمل أعمالًا في الحقيقة هو لم يعملها؛ أو ربما يفعل عجائب حقيقية لكنها تضلل الناس عن الحق، إذ يحسبونها قوة إلهية[316].
القديس أغسطينوس
* لماذا يقول: "إن أمكن" كما لو كان يُشك فيهم مع أن الرب يعرف مقدمًا ما سيحدث؟ فإنه يحدث أحد أمرين: إن كانوا مختارين لا يمكن أن يضلوا وإن أمكن أن يضلوا فهم ليسوا مختارين... (قال هذا لإبراز مدى تضليل هؤلاء الكذبة[317]).
البابا غريغويوس (الكبير)
9انهيار الطبيعة
"وأما في تلك الأيام بعد ذلك الضيق فالشمس تظلم،
والقمر لا يعطى ضوءه.
ونجوم السماء تتساقط،
والقوات التي في السماوات تتزعزع" [24-25].
يرى كثير من الآباء أن هذه الأمور تتحقق بطريقة حرفية قبيل مجيء السيد المسيح على السحاب، فينهار العالم المادي تمامًا ليظهر الملكوت السماوي الأبدي.
جاءت هذه الصورة معلنة في سفر إشعياء النبي (ص 13: 9-13) تعلن عن يوم الرب القريب كيومٍ قاسٍ بسخط وحمو غضب، يبيد كل ما هو أرضي وما هو مادي! ولعله إذ يربط خراب الأرض وزعزعتها بزلزلة السماوات وفقدان كواكبها نورها، يود أن يعلن أن الذين في مجدهم حسبوا أنفسهم قد صاروا شمسًا أو قمرًا أو كواكب متلألئة لن يفلتوا من غضب الرب وإدانته لهم. هذا الفكر واضح ليس في إشعياء وحده ولكن في كثير من الأنبياء:
"فإن نجوم السماوات وجبابرتها لا تبرز نورها.تظلم الشمس عند طلوعها، والقمر لا يلمع بضوئه، وأعاقب المسكونة على شرها والمنافقين على إثمهم، وأبطل تعظم المستكبرين وأضع تجبر العتاة...لذلك أزلزل السماوات، وتتزعزع الأرض من مكانها في سخط رب الجنود" (إش 13: 10-13).
"ويفنى كل جند السماوات، وتلتف السماوات كدرج، وكل جندها ينتثر كانتثار الورق من الكرمة والسُقاط من التينة" (إش 34: 4).
"وعند إطفائي إياك أحجب السماوات، وأظلم نجومها، وأغشي الشمس بسحاب، والقمر لا يعطي ضوءه، وأظلم فوقك كل أنوار السماء المنيرة، وأجعل الظلمة على أرضك يقول السيد الرب" (حز 32: 7-8).لعله هنا يشير إلى المؤمن وقد رفض نعمة الله بإصراره على الشر وقبوله خداعات العدو الشرير لم يعد مستحقًا أن يتمتع بنور شمس البرّ أي عمل المسيح فيه، ويحرم من نور القمر وضوئه أي من البركات الكنسية، كما يفقد التمتع بأنوار نجوم السماء إذ لا ينعم بشركة مع السمائيين أو القديسين.هكذا يفقد كل بركة وكل استنارة وتتحول أعماقه كما إلى أرض مظلمة لا ترى بصيصًا من النور السماوي.]
"يكون في ذلك اليوم، يقول السيد الرب، إني أغيب الشمس في الظهر، وأقتم الأرض في يوم نور.وأحوّل أعيادكم نوحًا وجميع أغانيكم مراثي" (عا 8: 9-10).
"قدامه ترتعد الأرض وترجف السماء.الشمس والقمر يظلمان، والنجوم تحجز لمعانها" (يؤ 2: 10).
على أن الأحوال إذ يظهر السيد المسيح شمس البرّ، والكنيسة عروسه القمر السماوي، والمؤمنون كواكب أبدية، تختفي الشمس وتظلم القمر وتحجز النجوم لمعانها أمام هذا المنظر السماوي الأبدي الجديد.
في نص منسوب للقديس جيروم يرى انهيار الطبيعة هنا هو انهيار روحي للنفوس التي قبلت ضد المسيح وسقطت تحت سلطانه الشرير ففقدت في حياتها كل استنارة داخلية، إذ يقول: [تظلم الشمس بسبب برود قلوبهم كما في فصل الشتاء، ولا يعطى القمر ضوءه بصفاء في ذلك الوقت، ونجوم السماء تحجز ضوءها عندما يختفي كل نسل إبراهيم الذي يشبّه بنجوم السماء (تك 22: 17)، وقوات السماء تثور للانتقام عندما يأتون مع ابن الإنسان في مجيئه.]
10. مجيء ابن الإنسان
"وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحاب بقوة كثيرة ومجد،
فيرسل حينئذ ملائكته ويجمع مختاريه من الأربع الرياح
من أقصاء الأرض إلى أقصاء السماء" [27].
إذ ينحل العالم المنظور المادي يُعلن العالم الجديد غير المنظور السماوي وذلك بحضور كلمة الله المتجسد في سحاب بقوة كثيرة ومجد.يرى القديس أغسطينوس[318] أن مجيئه في السحاب إنما يعني مجيئه في كنيسته كل يوم التي حملت السمة السماوية وارتفعت عن الفكر الزمني فصارت سحابًا سماويًا.يأتي الرب محمولًا على سحابة القديسين التي تحدث عنها الرسول بولس، قائلًا: "لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا" (عب 12: 1).
يأتي رب المجد مع ملائكته كحصّادين يجمعون الثمار من أربع جهات المسكونة، ويرى القديس أغسطينوس أن الرب يجمع بملائكته آدم الذي سبق فتشتت في العالم فصار في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، فكلمة آدم في اليونانية تحوي أربعة حروف هي الحروف الأولى للجهات الأربع:
الشرق Amatole، الغرب Dysis، الشمال Arctos، الجنوب .Mesembria
كأن الله يرى آدم وقد صار مبعثرًا في كل جهات المسكونة يجمعه ليرده لا إلى جنة عدن وإنما إلى الملكوت السماوي الأبدي[319].
من كلمات الآباء عن هذا المجيء:
* بحق نؤمن أنه سيأتي ليس فقط بذات الجسد، وإنما على السحاب، يأتي كما صعد إذ استقبلته سحابة عند صعوده (أع 10: 11)[320].
* رؤية ابن الإنسان (الناسوت) تظهر للأشرار، أما اللاهوت فلا يظهر إلا لأنقياء القلب وحدهم هؤلاء الذين يعاينونه الله (مت 5: 8). لا يستطيع الأشرار أن يروا ابن الله بكونه مساويًا للآب، لكن ينظره الكل الأبرار والأشرار وهو يدين الأحياء والأموات[321].
القديس أغسطينوس
* لا يأتي المسيح خفية ولا بطريقة غامضة بل بكونه الله الرب، يأتي في مجد يليق باللاهوت ليحوّل كل شيء إلى ما هو أفضل.إنه يجدد الخليقة ويعيد تشكيل طبيعة الإنسان[322].
القديس كيرلس الكبير
مرقس 13 - تفسير إنجيل مرقس علامات المنتهى الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي 5. رجسة الخراب يقدم لنا السيد المسيح "رجسة الخراب" التي تحدث عنها دانيال النبي (دا 12: 11، راجع 9: 27، 11: 31) كعلامة خراب الهيكل، وأيضًا علامة من علامات نهاية الأزمنة ومجيء السيد المسيح الأخير.ويمكننا تلخيص الآراء في رجسة الخراب هكذا: أولًا: يرى بعض الآباء والدارسين أن رجسة الخراب تشير إلى دخول العدو بجنوده إلى الهيكل وتدنيسه قبل هدمه وحرق المدينة بالنار. يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [ربما يعني برجسة الخراب دخول الأعداء إلى المدينة بالقوة.] ثانيًا: جاء في سفر المكابيين الأول (1: 54) إلى تحقيق رجسة الخراب هذه عندما أقام أنتيخوس ابيفانيوس تمثال زيوس أولمبياس على مذبح المحرقة في الهيكل عام 167 ق.م[315] (راجع أيضًا 2 مك 6: 2).ويرى البعض أن هذه الرجسة تكررت، فوضع بيلاطس تمثال قيصر في الهيكل، وحاول كالجولا Caligula أن يقيم لنفسه تمثالًا في هيكل أورشليم عام 40م تقريبًا، كما أقيم أيضًا تمثال لأدريان في قدس الأقداس نفسه لوقت طويل. ثالثًا: رفض فريق من المفسرين الرأيين السابقين إذ يروا أن النص اليوناني لا يشير إلى رجسة خراب خلال إقامة تمثال أو دخول جنود وثنيين، إنما إلى ظهور شخص حقيقي ضد المسيح يقيم نفسه إلهًا في الهيكل كقول الرسول بولس في الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي.وكأن هذه العلامة تشير إلى ظهور ضد المسيح الذي يقيم نفسه في هيكل الرب معبودًا. 6. وصايا للدخول في الملكوت إذ قدم السيد لكنيسته علامات المنتهى من حلول ضيقات كالحروب والمجاعات والأوبئة والزلازل، وحلول مضايقات خاصة من أجل الكرازة بالإنجيل، وأعلن عن ظهور أنبياء كذبة ومسحاء خاصة ضد المسيح، وهبها وصايا خاصة تسندها في هذا الجو الصعب حتى يجتاز الضيقة المستمرة وتعبر به إلى ملكوته. سبق لنا الحديث عن هذه الوصايا في دراستنا لإنجيل متى الإصحاح الرابع والعشرين، لكننا نقول هنا أن هذا النص يحمل معنيين: أولًا: المعنى الحرفي، فقد قيل أن المسيحيين إذ رأوا علامات اقتراب خراب الهيكل هربوا من اليهودية وانطلقوا إلى الجبال كوصية سيدهم، فخلصوا من محاصرة تيطس لأورشليم ولم يسقطوا تحت الضيق الذي تمرر به اليهود. ثانيًا: المعنى الرمزي وهو لقاؤنا مع السيد المسيح القادم إلى قلوبنا ليتجلى كما على سحاب السماء، فيلزمنا أن ننطلق من يهودية الحرف القاتل إلى جبال الروح، لنعيش في حرية الإنجيل لا عبودية حرف الناموس. إن كان الرب يعلن لتلاميذه انه لا جدوى من مقاومة الرومان ولا من مسالمتهم ولا يمكن الاختفاء منهم في مدينة بل يلزم الهرب منهم على الجبال، هكذا يليق بنا إذ تشتد حروب الشيطان علينا ألا نقف أمامه ولا نهادنه بل نهرب إلى الرب نفسه بكونه الجبل المقدس الذي يحملنا فيه. في نص منسوب للقديس جيروم جاء: [هروبنا إلى الجبال يعني الصعود إلى أعالي الفضيلة حتى لا نهبط إلى أعماق الخطية.] هكذا من ارتفع إلى السطح، أي صعد على سلم الفضيلة، وصار على السطح، يرى مع الرسول بطرس الملاءة النازلة من السماء (أع 10: 11) لا يعود ينزل إلى الطبقات السفلى، ولا يطلب السفليات. بمعنى آخر من ارتفع فوق الأعمال الجسدانية وعاش في الروحيات يتنسم هواء الحرية النقي ويرى السماوات مفتوحة أمام عينيه فلا ينزل إلى مناقشاته القديمة ولا يطلب شهوات الجسد وأمور هذا العالم الزمني. هكذا من انطلق إلى حقل الكرازة فلا يرجع عن الخدمة ولا يعود يهتم بثوبه، أي بالجسديات. أما عن قوله "ويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام"، فيقول الأب ثيؤفلاكتيوس أنه يشير إلى ما فعلته اليهوديات في ذلك الوقت إذ طبخ النساء أطفالهن من شدة الجوع. ولعل الحبالى والمرضعات يشرن إلى النفوس التي لا تنضج بعد ولا أنجبت ثمار الروح، فلا تحتمل الضيقة ولا تقدر على الهروب بل تكون مثقلة كالحامل أو المرضعة. يُطلب منا أن نصلي ألا يكون هربنا في شتاء، وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [يلزمنا أن نتجنب الخطية بحرارة لا ببرود وخمول.] 7. الضيقة العظمى "لأنه يكون في تلك الأيام ضيق لم يكن مثله منذ ابتداء الخليقة التي خلقها الله إلى الآن ولن يكون. ولو لم يقصر الرب تلك الأيام لم يخلص جسد، ولكن لأجل المختارين الذين اختارهم قصّر الأيام" [19-20]. حقًا إنها الضيقة العظمى التي يشهدها العالم بظهور ضد المسيح مقاومًا الكنيسة في العالم، لكنها ضيقة بسماح من الله لا تفلت من عنايته.يقصرّها الله من أجل مختاريه حتى لا تنهار نفوسهم. في العهد القديم كان الله يسمح بالضيقات تشتد لأجل توبة الساقطين، لكنه يعود فيترفق حتى لا تنحل الباقية التي التصقت بالرب وسط جيل ملتوٍ وشعب معاند.وفي أيام خراب الهيكل اشتدت الضيقة جدًا وقد وصفها المؤرخ يوسيفوس المعاصر لها بكلمات مرة وقاسية فذكر أن الرومان كانوا يأتون باليهود ويصلبونهم بالمئات في هزء وسخرية حتى ضاقت الساحات بالصلبان، واشتد الجوع بالنساء حتى طبخن أطفالهن. وكانوا يلقون بالكهنة عراة في الوحل ويقدمونهم طعامًا للحيوانات المفترسة.وقد قصرّ الرب الأيام من أجل المسيحيين الهاربين من اليهودية إلى الجبال حتى لا تلحق بهم.أما في أواخر الأيام حين يأتي ضد المسيح، فيحارب الكنيسة في كل موضع ولا يسمح لمؤمن أن يبيعٍ أو يشتري ما لم يضع سمة الوحش على جبهته أو يده اليمنى.ويقصرّ الله أيضًا الأيام من أجل المختارين. بنفس الروح في حياة كل واحد منا يسمح الله لنا بالضيق يشتد حتى الهزيع الأخير وحين نظن أنه لا نجاة، يتجلى على المياه محطمًا الأمواج، معلنًا ذاته لنا كمخلص للنفس والجسد معًا. 8. ظهور أنبياء كذبة "حيئنذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هوذا هناك فلا تصدقوا. لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات وعجائب لكي يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا. فانظروا أنتم، ها أنا قد سبقت وأخبرتكم بكل شيء" [21-23]. هذا هو مركز الحديث،أن عدو الخير لا يتوقف عبر الأزمنة عن مقاومة ملكوت الله بكل قوة، خاصة في الأيام الأخيرة، مستخدمًا كل وسيلة للتضليل، كما فعل السحرة في أيام موسى. في الأيام الأخيرة يتفنن عدو الخير في عمل الآيات والعجائب لكي يضل لو أمكن المختارين،لكن الله يحفظ مختاريه. * كثيرون ينسبون لأنفسهم اسم المسيح ليخدعوا إن أمكن حتى المؤمنين. الأب ثيؤفلاكتيوس * عندئذ سُيحل الشيطان، فيعمل بكل قوته خلال ضد المسيح بطريقة باطلة ومدهشة...إنه يخدع الحواس الميتة بأوهام فيظهر كمن يعمل أعمالًا في الحقيقة هو لم يعملها؛ أو ربما يفعل عجائب حقيقية لكنها تضلل الناس عن الحق، إذ يحسبونها قوة إلهية[316]. القديس أغسطينوس * لماذا يقول: "إن أمكن" كما لو كان يُشك فيهم مع أن الرب يعرف مقدمًا ما سيحدث؟ فإنه يحدث أحد أمرين: إن كانوا مختارين لا يمكن أن يضلوا وإن أمكن أن يضلوا فهم ليسوا مختارين... (قال هذا لإبراز مدى تضليل هؤلاء الكذبة[317]). البابا غريغويوس (الكبير) 9انهيار الطبيعة "وأما في تلك الأيام بعد ذلك الضيق فالشمس تظلم، والقمر لا يعطى ضوءه. ونجوم السماء تتساقط، والقوات التي في السماوات تتزعزع" [24-25]. يرى كثير من الآباء أن هذه الأمور تتحقق بطريقة حرفية قبيل مجيء السيد المسيح على السحاب، فينهار العالم المادي تمامًا ليظهر الملكوت السماوي الأبدي. جاءت هذه الصورة معلنة في سفر إشعياء النبي (ص 13: 9-13) تعلن عن يوم الرب القريب كيومٍ قاسٍ بسخط وحمو غضب، يبيد كل ما هو أرضي وما هو مادي! ولعله إذ يربط خراب الأرض وزعزعتها بزلزلة السماوات وفقدان كواكبها نورها، يود أن يعلن أن الذين في مجدهم حسبوا أنفسهم قد صاروا شمسًا أو قمرًا أو كواكب متلألئة لن يفلتوا من غضب الرب وإدانته لهم. هذا الفكر واضح ليس في إشعياء وحده ولكن في كثير من الأنبياء: "فإن نجوم السماوات وجبابرتها لا تبرز نورها.تظلم الشمس عند طلوعها، والقمر لا يلمع بضوئه، وأعاقب المسكونة على شرها والمنافقين على إثمهم، وأبطل تعظم المستكبرين وأضع تجبر العتاة...لذلك أزلزل السماوات، وتتزعزع الأرض من مكانها في سخط رب الجنود" (إش 13: 10-13). "ويفنى كل جند السماوات، وتلتف السماوات كدرج، وكل جندها ينتثر كانتثار الورق من الكرمة والسُقاط من التينة" (إش 34: 4). "وعند إطفائي إياك أحجب السماوات، وأظلم نجومها، وأغشي الشمس بسحاب، والقمر لا يعطي ضوءه، وأظلم فوقك كل أنوار السماء المنيرة، وأجعل الظلمة على أرضك يقول السيد الرب" (حز 32: 7-8).لعله هنا يشير إلى المؤمن وقد رفض نعمة الله بإصراره على الشر وقبوله خداعات العدو الشرير لم يعد مستحقًا أن يتمتع بنور شمس البرّ أي عمل المسيح فيه، ويحرم من نور القمر وضوئه أي من البركات الكنسية، كما يفقد التمتع بأنوار نجوم السماء إذ لا ينعم بشركة مع السمائيين أو القديسين.هكذا يفقد كل بركة وكل استنارة وتتحول أعماقه كما إلى أرض مظلمة لا ترى بصيصًا من النور السماوي.] "يكون في ذلك اليوم، يقول السيد الرب، إني أغيب الشمس في الظهر، وأقتم الأرض في يوم نور.وأحوّل أعيادكم نوحًا وجميع أغانيكم مراثي" (عا 8: 9-10). "قدامه ترتعد الأرض وترجف السماء.الشمس والقمر يظلمان، والنجوم تحجز لمعانها" (يؤ 2: 10). على أن الأحوال إذ يظهر السيد المسيح شمس البرّ، والكنيسة عروسه القمر السماوي، والمؤمنون كواكب أبدية، تختفي الشمس وتظلم القمر وتحجز النجوم لمعانها أمام هذا المنظر السماوي الأبدي الجديد. في نص منسوب للقديس جيروم يرى انهيار الطبيعة هنا هو انهيار روحي للنفوس التي قبلت ضد المسيح وسقطت تحت سلطانه الشرير ففقدت في حياتها كل استنارة داخلية، إذ يقول: [تظلم الشمس بسبب برود قلوبهم كما في فصل الشتاء، ولا يعطى القمر ضوءه بصفاء في ذلك الوقت، ونجوم السماء تحجز ضوءها عندما يختفي كل نسل إبراهيم الذي يشبّه بنجوم السماء (تك 22: 17)، وقوات السماء تثور للانتقام عندما يأتون مع ابن الإنسان في مجيئه.] 10. مجيء ابن الإنسان "وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحاب بقوة كثيرة ومجد، فيرسل حينئذ ملائكته ويجمع مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء الأرض إلى أقصاء السماء" [27]. إذ ينحل العالم المنظور المادي يُعلن العالم الجديد غير المنظور السماوي وذلك بحضور كلمة الله المتجسد في سحاب بقوة كثيرة ومجد.يرى القديس أغسطينوس[318] أن مجيئه في السحاب إنما يعني مجيئه في كنيسته كل يوم التي حملت السمة السماوية وارتفعت عن الفكر الزمني فصارت سحابًا سماويًا.يأتي الرب محمولًا على سحابة القديسين التي تحدث عنها الرسول بولس، قائلًا: "لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا" (عب 12: 1). يأتي رب المجد مع ملائكته كحصّادين يجمعون الثمار من أربع جهات المسكونة، ويرى القديس أغسطينوس أن الرب يجمع بملائكته آدم الذي سبق فتشتت في العالم فصار في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، فكلمة آدم في اليونانية تحوي أربعة حروف هي الحروف الأولى للجهات الأربع: الشرق Amatole، الغرب Dysis، الشمال Arctos، الجنوب .Mesembria كأن الله يرى آدم وقد صار مبعثرًا في كل جهات المسكونة يجمعه ليرده لا إلى جنة عدن وإنما إلى الملكوت السماوي الأبدي[319]. من كلمات الآباء عن هذا المجيء: * بحق نؤمن أنه سيأتي ليس فقط بذات الجسد، وإنما على السحاب، يأتي كما صعد إذ استقبلته سحابة عند صعوده (أع 10: 11)[320]. * رؤية ابن الإنسان (الناسوت) تظهر للأشرار، أما اللاهوت فلا يظهر إلا لأنقياء القلب وحدهم هؤلاء الذين يعاينونه الله (مت 5: 8). لا يستطيع الأشرار أن يروا ابن الله بكونه مساويًا للآب، لكن ينظره الكل الأبرار والأشرار وهو يدين الأحياء والأموات[321]. القديس أغسطينوس * لا يأتي المسيح خفية ولا بطريقة غامضة بل بكونه الله الرب، يأتي في مجد يليق باللاهوت ليحوّل كل شيء إلى ما هو أفضل.إنه يجدد الخليقة ويعيد تشكيل طبيعة الإنسان[322]. القديس كيرلس الكبير