مرقس 15 - تفسير إنجيل مرقس
أحداث الصليب الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي
7. السخرية
"وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين:
آه يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام.
خلص نفسك وانزل عن الصليب.
وكذلك رؤساء الكهنة وهم مستهزئون فيما بينهم مع الكتبة قالوا:
خلص آخرين أما نفسه فما يقدر أن يخلصها.
لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن.
واللذان صُلبا معه كانا يعيرانه" [29-32].
اتفقت كل القوى على السخرية بالصليب، فكان المجتازون يجدفون ويهزون رؤوسهم، وأيضًا رؤساء الكهنة والكتبة حتى اللصان كان يعيرانه.إذ لم يكن ممكنًا لهم أن يدركوا سرّ الخلاص، ولا أن يتفهموا عمل الله.حسبوا الصليب نهايته، فصار في أعينهم مضللًا ومخادعًا لا يقدر على خلاص نفسه، فكيف يقيم نفسه ملكًا؟
لعل عدو الخير قد بدأ يدرك الخطر يحدق به حين ارتفع السيد على الصليب، وشعر السماء والأرض كلها تترقب الأحداث، فأسرع يحث تابعيه أن يطلبوا آية منظورة ألا وهي أن ينزل عن الصليب فيؤمنوا به،لكن السيد الذي رفض في أكثر من موقف أن يصنع آية استعراضية لم يعطِ اهتمامًا لسخريتهم التي تصير شاهدًا عليهم، ويحكم عليهم خلال تصرفاتهم ذاتها، من نواحٍ كثيرة، منها:
أولًا: كان المجتازون يجدفون قائلين: "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام"، فانتشرت هذه العبارة سريعًا خلال الأحداث، حتى متى تمت القيامة لا يستطيع أحد أن ينكر قوله أنه يقيم هيكل جسده في ثلاثة أيام! هكذا نشر المجدفون الشهادة لقيامته في أمرّ لحظات الصليب.
ثانيًا: اعترف رؤساء الكهنة مع الكتبة أنه "خلص آخرين"، وهذه شهادة القيادات اليهودية الدينية في لحظات الضعف عينها.
ثالثًا: قال هؤلاء المسئولون: "لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن".في تعليق منسوب للقديس جيروم: [لقد رأوه قائمًا من القبر ومع ذلك لم يريدوا أن يؤمنوا أنه كان قادرًا أن ينزل من خشبة الصليب.أين هو افتقاركم للإيمان أيها اليهود؟ فإنني أستدعيكم أنتم أنفسكم قضاة لأنفسكم! كم بالأكثر يكون مستحقًا للدهشة أن يقوم ميت من بين الأموات عن أن يختار الحيّ أن ينزل من الصليب! لقد طلبتم أمرًا صغيرًا فحدث ما هو أعظم، لكن افتقاركم للإيمان لم يكن ممكنًا أن يُشفى بالآيات أكثر مما رأيتم[369].]
8. حدوث الظلمة
"ولما كانت الساعة السادسة كانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة" [33].
إذ ارتفع الخالق على الصليب بيدي خليقته التي أرادت الخلاص منه بجحودها، حرمت نفسها من شمس البرّ، فسادت الظلمة داخل القلوب، أعلنها احتجاب الشمس من وقت الساعة السادسة حتى التاسعة.
يذكر سفر التكوين أن آدم وحواء بعد السقوط "سمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة" (تك 3: 8)، أي عند الظهيرة، ويرى بعض المفسرين أنه سمع الحكم بالموت في وقت الساعة التاسعة.وكأنه في اللحظات التي اختفى فيها أبونا من وجه الرب وأدركا أنهما تحت حكم الموت، سادت الظلمة على الأرض ليحمل آدم الجديد ذات الحكم وهو معلق على الشجرة! لهذا فإن الظلمة هنا تشير إلى السلطان الذي أُعطى للظلمة على السيد المسيح إلى حين، كقوله: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لو 22: 53).
في حديث العلامة ترتليان لليهود قال: [حدثت ظلمة في وسط النهار، وهكذا تحولت أعيادكم إلى نوح وجميع أغانيكم مراثي (عا 8: 10).فإنه بعد آلام المسيح أُخذتم كما إلى السبي والتشتت، كما سبق فأنبأ الروح القدس[370].]
يقول القديس كيرلس الكبير: [جعلوا عملهم تسليم رئيس الحياة للموت، فصلبوا رب المجد. لكنهم إذ سمروا رب الكل على الصليب انسحبت الشمس من فوق رؤوسهم والتحف النور في وسط النهار بالظلمة كما سبق فأنبأ عاموس بالوحي الإلهي (عا 5: 18)...وكانت هذه علامة واضحة لليهود أن أذهان صالبيه قد التحفت بالظلمة الروحية لأن "العمى قد حصل جزئيًا لإسرائيل" (رو 11: 25). وقد لعنهم داود في محبته لله، قائلًا: "لتظلم عيونهم عن البصر" (مز 69: 23).نعم، انتحبت الخليقة ذاتها ربها، إذ أظلمت الشمس، وتشققت الصخور، وبدأ الهيكل نفسه كمن اكتسى بالحزن، إذ انشق الحجاب من أعلى إلى أسفل.وهذا ما عناه الله على لسان إشعياء: "أُلبس السماوات ظلامًا وأُجعل المسح غطاءها" (إش 50: 3)[371].]
9. تسليم الروح
"وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلًا:
ألوي ألوي لما شبقتني،
الذي تفسيره: إلهي إلهي لماذا تركتني.
فقال قوم من الحاضرينلما سمعوا:
هوذا ينادي إيليا.
فركض واحد وملأ إسفنجة خلًا،
وجعلها على قصبة وسقاه، قائلًا:
اتركوا، لنَرَ هل يأتي إيليا لينزله.
فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح" [34-37].
بحسب الجسد كان السيد المسيح قد أُنهمك تمامًا، ولم يكن ممكنًا في ذلك الوقت أن يصرخ هكذا، لكنه صرخ ليُعلن أنه ما يتم الآن بين أيديهم ليس عن ضعف، بل تحقيقًا لعمله الإلهي الذي سبق فأعلنه بأنبيائه.
جاءت الكلمات "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" لا تحمل لهجة اليأس كما قد يظن البعض فإن الابن لن ينفصل قط عن الآب، إنما أراد أن يبرز بشاعة الخطية التي حملها على كتفيه نيابة عنا، فجعلته كمن يسقط تحت الغضب وهو الابن المحبوب لديه.
بهذه الصرخة أيضًا يذكرهم بالمزمور الثاني والعشرين بكونها افتتاحيته، وقد جاء المزمور يصف أحداث الصلب.إنه بهذه الصرخة يقدم انذرًا أخيرًا لليهود كي يعيدوا النظر فيما يفعلون قبيل تسليم روحه، لعلهم يدركوا أنه المسيا محقق النبوات فيرجعون.
أما ظنهم أنه يطلب إيليا، فقد ارتبط شخص إيليا النبي بالمسيح كسابق له يهيئ له الطريق، ولأن اليهود كانوا يرون في إيليا المعين في السماء يشفع في المتضايقين والمظلومين، فهو يطلب شفاعته!
10. انشقاق حجاب الهيكل
"وانشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل" [38].
لماذا انشق حجاب الهيكل عندما أسلم السيد المسيح الروح؟
أولًا: سبق فأعلن السيد المسيح أنه يسلم الروح بسلطان، ويتقبلها ثانية بسلطان وليس عن ضعف، إذ قال: "ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي، لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 10: 8).وقد جاءت أحداث الصلب تعلن ذلك، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه الصرخة شقت الحجاب وفتحت القبور وجعلت البيت خرابًا.فعل ذلك ليس إهانة للَّهيكل، وإنما إعلانًا عن أنهم غير مستحقين لسكناه، كما سبق فسلمه قبلًا للبابليين[372].]بصرخته أعلن سلطانه، فشق حجاب الهيكل، مؤكدًا حزن الهيكل على ما يفعله العابدون فيه، معلنًا رفضه لعبادتهم بعد أن لطخوا أيديهم بالدم البريء في قسوة وتجاسر وحسد!
ثانيًا: يقدم لنا الرسول بولس مفهومًا لاهوتيًا لانشقاق الحجاب في رسالته إلى العبرانيين ألا وهو انفتاح المقادس السماوية أمامنا بذبيحة الصليب.فالحجاب الذي يفصل قدس الأقداس عن القدس يشير إلى عجز الإنسان عن تمتعه بالأقداس الإلهية السماوية، وقد جاء السيد المسيح يفتح طريق السماء بدمه، ويدخل بنا إلى حضن أبيه ننعم بمقدساته. فمن كلماته: "الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب، حيث دخل يسوع كسابقٍ لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد" (عب 6: 19-20).مرة أخرى يقول: "ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديًا" (عب 9: 12؛ راجع عب 9: 10).
في نص منسوب للقديس جيروم جاء [انشق حجاب الهيكل وانفتحت السماوات.]
يقول القديس أمبروسيوس: [انشق حجاب الهيكل حتى تعبر نفوسنا وأرواحنا إلى الله وتراه وجهًا لوجه، وتعاين الأسرار الخفية[373].]
ثالثًا: لعل انشقاق حجاب الهيكل يعني انفتاح الباب للأمم، الذين لم يكن ممكنًا لهم أن يشتركوا مع اليهود في العبادة داخل الهيكل. هذا ما أعلنه الرسول بولس بقوله: "لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا، ونقض حائط سياج المتوسط، أي العداوة، مبطلًا بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا، ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلًا العداوة به" (أف 2: 14-16).
11. إيمان قائد المئة
"ولما رأى قائد المئة الواقف أمامه أنه صرخ هكذا وأسلم الروح، قال: حقًا كان هذا الإنسان ابن الله" [39].
يا للعجب آمن قائد المئة الروماني بالسيد المسيح المصلوب حين رآه يصرخ ويسلم الروح، وكأنه قد أدرك خلال صرخته وتسليم روحه أنه لم يمت عن ضعف وإنما في قوة وبسلطان. يقول القديس أغسطينوس: [أظهرت نفس الشفيع أنه لم يكن لعقوبة الخطية سلطان عليها ليموت الجسد، إذ لم تترك الجسد بغير إرادتها إنما بإرادتها، فقد اتحدت النفس مع كلمة الله أقنوميًا[374].]
وجاء في نص منسوب للقديس جيروم: [آخرون صاروا أولين.الشعب الأممي اعترف، والشعب اليهودي الأعمى أنكر، فصار شرهم الأخير أقسى من الأول[375].]
12. التفاف النسوة حوله
"وكانت أيضًا نساء ينظرن من بعيد،
بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي، وسالومة.
اللواتي أيضًا تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل،
وأخر كثيرات اللواتي صعدن معه إلى أورشليم" [40-41].
يقول العلامة أوريجينوس أنه قد يبدو ظهور ثلاث نساء ذكرن بالاسم هن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب والثالثة التي دعاها متى "أم ابني زبدي" ودعاها مرقس "سالومة".على أي الأحوال بينما هرب التلاميذ من متابعة المصلوب ولو من بعيد، كانت النسوة يتبعنه، وصار لبعضهن شرف التمتع بالمسيح القائم من الأموات قبل التلاميذ.بهذا ردّ الإنجيل للمرأة كرامتها، وأعلن قدسيتها بعد نظرة مرة عاشها العالم لأجيال طويلة من جهتها.
13. دفنه
تجاسر يوسف الذي من الرامة وهو مشير شريف ودخل إلى بيلاطس يطلب جسد الرب يسوع، فتعجب بيلاطس أنه مات هكذا سريعًا، وإذ تأكد من قائد المئة أنه مات وهب ليوسف الجسد، فاشترى كتانًا وأنزله وكفنه بالكتان ووضعه في قبر منحوتًا في صخرة، ودحرج حجرًا على باب القبر. وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسى تنظران أين وُضع [43-47].
كان لابد من إنزال الجسد قبل الغروب، لأنه كان يوم الصلب هو "الاستعداد"، إذ اعتاد اليهود أن يلقبوا يوم الجمعة بالاستعداد، إذ فيه يستعدون ليوم السبت للراحة.في هذا اليوم صُلب السيد، في اليوم السادس.فكما أعد الله كل الخليقة في ستة أيام ليستريح في السابع، هكذا ارتفع على الصليب مجددًا خليقته في ذات اليوم السادس ليدخل بخليقته إلى سرّ الراحة الحقيقية.
لعل صلب السيد في اليوم السادس، يوم الاستعداد، يعلن التزامنا نحن فيه أن يحملنا الصليب إليه مادمنا في هذا العالم بكون حياتنا كلها هي يوم الاستعداد. نبقى معه على الصليب حتى النفس الأخير، فإذا ما غربت حياتنا الزمنية أرسل إلينا ملاكه، وكأنه بيوسف الرامي ليستريح جسدنا قليلًا حتى يقوم ثانية في يوم الرب العظيم.
لم يسمح الرب أن يكفنه التلاميذ حتى لا يقوم الاتهام بأنهم سرقوه دون دفنه، بل كفنه رجل شريف بار.وقد تأكد الكل من دفنه حينما خُتم القبر.
يعلق القديس أمبروسيوس على تكفين السيد بالقول:
[كفن البار جسد المسيح بالطيب ولفه بالطيب! البرّ هو لباس الكنيسة (جسد المسيح) والبراءة هو جمالها.فألبس أنت أيضًا جسد الرب بمجده فتكون بارًا! إن آمنت بموته فكفنه بملء لاهوته، ادهنه بالمر والحنوط رائحة المسيح الذكية (2 كو 2: 15).
كفنه يوسف بكفنٍ جديدٍ، ربما كان هو الملاءة الجديدة التي رآها بطرس نازلة من السماء وقد حوت كل حيوانات الأرض ودوابها (أع 40: 11).فقد تكفنت بها الكنيسة سريًا ووحدت الشعوب المختلفة في شركة إيمانها...
وُضع في قبر جديد، في قبر يوسف إذ لم يكن للمسيح مقبرة خاصة به، لأن القبر يُقام من أجل الذين يتعرضون لقانون الموت، أما غالب الموت فليس له مقبرة ملكًا له.
موت المسيح له طابعه الخاص المختلف عن موت عامة البشر، لذا لا يُدفن مع آخرين، بل يُدفن في القبر وحده.فيتجسد الرب اتحد بكل البشرية لكنه وجد بعض الاختلاف.شابهنا في ميلاده، لكنه اختلف عنا في الحبل به من العذراء...
من هو يوسف هذا الذي وُضع المسيح في قبره؟ بالتأكيد هو ذاك البار الذي سلم للمسيح مقبرته ليجد ابن الإنسان أين يسند رأسه (لو 9: 58) وهناك يستريح...
الحنجرة هي قبر مفتوح (مز 5: 11)، هذه هي حنجرة الإنسان عديم الإيمان الذي ينطق بكلمات ميتة، لكنه يُوجد قبر في أعماق الإنسان يحفره البار ليدخل كلمة الله في قلوب الأمم بالإيمان...
يُوضع حجر على القبر حتى لا يكون مفتوحًا، لأنه متى كُفّن المسيح جيدًا في نفوسنا يجب حفظه بعناية كي لا نفقده.
كان القبر محفورًا في صخرة أي مؤسسًا على الإيمان بالله الثابت...
لا يستطيع كل أحد أن يكفن المسيح، لذا فالنساء التقيَّات بقين من بعيد، لكنهن كن ينظرن بعناية أين وُضع حتى يأتين إليه بالطيب ويسكبنه.ومع ذلك ففي محبتهن كن آخر من ترك القبر وأول من رجعن إليه[376].]
أخيرًا فإن دفن السيد المسيح بواسطة يوسف الرامي يمثل خبرة روحية تقوية يليق بنا أن نعيشها كل يوم.فيوسف هذا جاء من الرامة يقال أنها راماتيم صوفيم (1 صم 1: 1) وأنها رام الله الحالية، ولما كانت كلمة "رامة" في العبرية تعني مرتفعة، فإنه لا يستطيع أحد أن يتمتع بهذا الشرف ما لم يأتِ من المرتفعات السماوية، أي يكون من الرامة، ينعم بالحياة السماوية كموطنٍ له ومكان نشأته، إذ كيف يحمل على يديه جسد الرب ما لم يكن له السمة الروحية السماوية.
ما هو هذا الجسد الذي نحمله إلا حياتنا بكوننا أعضاء جسده نكفنها في الكتان، أي في النقاوة الحقيقية، ونطيّبها برائحة المسيح، وندخل بها إلى السيد المسيح نفسه، كما في داخل الصخرة، فتحمل حياتنا قوة قيامته، وتكون في صحبة الملائكة، كما كان الملائكة في قبر السيد.
مرقس 15 - تفسير إنجيل مرقس أحداث الصليب الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي 7. السخرية "وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: آه يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام. خلص نفسك وانزل عن الصليب. وكذلك رؤساء الكهنة وهم مستهزئون فيما بينهم مع الكتبة قالوا: خلص آخرين أما نفسه فما يقدر أن يخلصها. لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن. واللذان صُلبا معه كانا يعيرانه" [29-32]. اتفقت كل القوى على السخرية بالصليب، فكان المجتازون يجدفون ويهزون رؤوسهم، وأيضًا رؤساء الكهنة والكتبة حتى اللصان كان يعيرانه.إذ لم يكن ممكنًا لهم أن يدركوا سرّ الخلاص، ولا أن يتفهموا عمل الله.حسبوا الصليب نهايته، فصار في أعينهم مضللًا ومخادعًا لا يقدر على خلاص نفسه، فكيف يقيم نفسه ملكًا؟ لعل عدو الخير قد بدأ يدرك الخطر يحدق به حين ارتفع السيد على الصليب، وشعر السماء والأرض كلها تترقب الأحداث، فأسرع يحث تابعيه أن يطلبوا آية منظورة ألا وهي أن ينزل عن الصليب فيؤمنوا به،لكن السيد الذي رفض في أكثر من موقف أن يصنع آية استعراضية لم يعطِ اهتمامًا لسخريتهم التي تصير شاهدًا عليهم، ويحكم عليهم خلال تصرفاتهم ذاتها، من نواحٍ كثيرة، منها: أولًا: كان المجتازون يجدفون قائلين: "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام"، فانتشرت هذه العبارة سريعًا خلال الأحداث، حتى متى تمت القيامة لا يستطيع أحد أن ينكر قوله أنه يقيم هيكل جسده في ثلاثة أيام! هكذا نشر المجدفون الشهادة لقيامته في أمرّ لحظات الصليب. ثانيًا: اعترف رؤساء الكهنة مع الكتبة أنه "خلص آخرين"، وهذه شهادة القيادات اليهودية الدينية في لحظات الضعف عينها. ثالثًا: قال هؤلاء المسئولون: "لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن".في تعليق منسوب للقديس جيروم: [لقد رأوه قائمًا من القبر ومع ذلك لم يريدوا أن يؤمنوا أنه كان قادرًا أن ينزل من خشبة الصليب.أين هو افتقاركم للإيمان أيها اليهود؟ فإنني أستدعيكم أنتم أنفسكم قضاة لأنفسكم! كم بالأكثر يكون مستحقًا للدهشة أن يقوم ميت من بين الأموات عن أن يختار الحيّ أن ينزل من الصليب! لقد طلبتم أمرًا صغيرًا فحدث ما هو أعظم، لكن افتقاركم للإيمان لم يكن ممكنًا أن يُشفى بالآيات أكثر مما رأيتم[369].] 8. حدوث الظلمة "ولما كانت الساعة السادسة كانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة" [33]. إذ ارتفع الخالق على الصليب بيدي خليقته التي أرادت الخلاص منه بجحودها، حرمت نفسها من شمس البرّ، فسادت الظلمة داخل القلوب، أعلنها احتجاب الشمس من وقت الساعة السادسة حتى التاسعة. يذكر سفر التكوين أن آدم وحواء بعد السقوط "سمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة" (تك 3: 8)، أي عند الظهيرة، ويرى بعض المفسرين أنه سمع الحكم بالموت في وقت الساعة التاسعة.وكأنه في اللحظات التي اختفى فيها أبونا من وجه الرب وأدركا أنهما تحت حكم الموت، سادت الظلمة على الأرض ليحمل آدم الجديد ذات الحكم وهو معلق على الشجرة! لهذا فإن الظلمة هنا تشير إلى السلطان الذي أُعطى للظلمة على السيد المسيح إلى حين، كقوله: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لو 22: 53). في حديث العلامة ترتليان لليهود قال: [حدثت ظلمة في وسط النهار، وهكذا تحولت أعيادكم إلى نوح وجميع أغانيكم مراثي (عا 8: 10).فإنه بعد آلام المسيح أُخذتم كما إلى السبي والتشتت، كما سبق فأنبأ الروح القدس[370].] يقول القديس كيرلس الكبير: [جعلوا عملهم تسليم رئيس الحياة للموت، فصلبوا رب المجد. لكنهم إذ سمروا رب الكل على الصليب انسحبت الشمس من فوق رؤوسهم والتحف النور في وسط النهار بالظلمة كما سبق فأنبأ عاموس بالوحي الإلهي (عا 5: 18)...وكانت هذه علامة واضحة لليهود أن أذهان صالبيه قد التحفت بالظلمة الروحية لأن "العمى قد حصل جزئيًا لإسرائيل" (رو 11: 25). وقد لعنهم داود في محبته لله، قائلًا: "لتظلم عيونهم عن البصر" (مز 69: 23).نعم، انتحبت الخليقة ذاتها ربها، إذ أظلمت الشمس، وتشققت الصخور، وبدأ الهيكل نفسه كمن اكتسى بالحزن، إذ انشق الحجاب من أعلى إلى أسفل.وهذا ما عناه الله على لسان إشعياء: "أُلبس السماوات ظلامًا وأُجعل المسح غطاءها" (إش 50: 3)[371].] 9. تسليم الروح "وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلًا: ألوي ألوي لما شبقتني، الذي تفسيره: إلهي إلهي لماذا تركتني. فقال قوم من الحاضرينلما سمعوا: هوذا ينادي إيليا. فركض واحد وملأ إسفنجة خلًا، وجعلها على قصبة وسقاه، قائلًا: اتركوا، لنَرَ هل يأتي إيليا لينزله. فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح" [34-37]. بحسب الجسد كان السيد المسيح قد أُنهمك تمامًا، ولم يكن ممكنًا في ذلك الوقت أن يصرخ هكذا، لكنه صرخ ليُعلن أنه ما يتم الآن بين أيديهم ليس عن ضعف، بل تحقيقًا لعمله الإلهي الذي سبق فأعلنه بأنبيائه. جاءت الكلمات "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" لا تحمل لهجة اليأس كما قد يظن البعض فإن الابن لن ينفصل قط عن الآب، إنما أراد أن يبرز بشاعة الخطية التي حملها على كتفيه نيابة عنا، فجعلته كمن يسقط تحت الغضب وهو الابن المحبوب لديه. بهذه الصرخة أيضًا يذكرهم بالمزمور الثاني والعشرين بكونها افتتاحيته، وقد جاء المزمور يصف أحداث الصلب.إنه بهذه الصرخة يقدم انذرًا أخيرًا لليهود كي يعيدوا النظر فيما يفعلون قبيل تسليم روحه، لعلهم يدركوا أنه المسيا محقق النبوات فيرجعون. أما ظنهم أنه يطلب إيليا، فقد ارتبط شخص إيليا النبي بالمسيح كسابق له يهيئ له الطريق، ولأن اليهود كانوا يرون في إيليا المعين في السماء يشفع في المتضايقين والمظلومين، فهو يطلب شفاعته! 10. انشقاق حجاب الهيكل "وانشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل" [38]. لماذا انشق حجاب الهيكل عندما أسلم السيد المسيح الروح؟ أولًا: سبق فأعلن السيد المسيح أنه يسلم الروح بسلطان، ويتقبلها ثانية بسلطان وليس عن ضعف، إذ قال: "ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي، لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 10: 8).وقد جاءت أحداث الصلب تعلن ذلك، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه الصرخة شقت الحجاب وفتحت القبور وجعلت البيت خرابًا.فعل ذلك ليس إهانة للَّهيكل، وإنما إعلانًا عن أنهم غير مستحقين لسكناه، كما سبق فسلمه قبلًا للبابليين[372].]بصرخته أعلن سلطانه، فشق حجاب الهيكل، مؤكدًا حزن الهيكل على ما يفعله العابدون فيه، معلنًا رفضه لعبادتهم بعد أن لطخوا أيديهم بالدم البريء في قسوة وتجاسر وحسد! ثانيًا: يقدم لنا الرسول بولس مفهومًا لاهوتيًا لانشقاق الحجاب في رسالته إلى العبرانيين ألا وهو انفتاح المقادس السماوية أمامنا بذبيحة الصليب.فالحجاب الذي يفصل قدس الأقداس عن القدس يشير إلى عجز الإنسان عن تمتعه بالأقداس الإلهية السماوية، وقد جاء السيد المسيح يفتح طريق السماء بدمه، ويدخل بنا إلى حضن أبيه ننعم بمقدساته. فمن كلماته: "الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب، حيث دخل يسوع كسابقٍ لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد" (عب 6: 19-20).مرة أخرى يقول: "ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديًا" (عب 9: 12؛ راجع عب 9: 10). في نص منسوب للقديس جيروم جاء [انشق حجاب الهيكل وانفتحت السماوات.] يقول القديس أمبروسيوس: [انشق حجاب الهيكل حتى تعبر نفوسنا وأرواحنا إلى الله وتراه وجهًا لوجه، وتعاين الأسرار الخفية[373].] ثالثًا: لعل انشقاق حجاب الهيكل يعني انفتاح الباب للأمم، الذين لم يكن ممكنًا لهم أن يشتركوا مع اليهود في العبادة داخل الهيكل. هذا ما أعلنه الرسول بولس بقوله: "لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا، ونقض حائط سياج المتوسط، أي العداوة، مبطلًا بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا، ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلًا العداوة به" (أف 2: 14-16). 11. إيمان قائد المئة "ولما رأى قائد المئة الواقف أمامه أنه صرخ هكذا وأسلم الروح، قال: حقًا كان هذا الإنسان ابن الله" [39]. يا للعجب آمن قائد المئة الروماني بالسيد المسيح المصلوب حين رآه يصرخ ويسلم الروح، وكأنه قد أدرك خلال صرخته وتسليم روحه أنه لم يمت عن ضعف وإنما في قوة وبسلطان. يقول القديس أغسطينوس: [أظهرت نفس الشفيع أنه لم يكن لعقوبة الخطية سلطان عليها ليموت الجسد، إذ لم تترك الجسد بغير إرادتها إنما بإرادتها، فقد اتحدت النفس مع كلمة الله أقنوميًا[374].] وجاء في نص منسوب للقديس جيروم: [آخرون صاروا أولين.الشعب الأممي اعترف، والشعب اليهودي الأعمى أنكر، فصار شرهم الأخير أقسى من الأول[375].] 12. التفاف النسوة حوله "وكانت أيضًا نساء ينظرن من بعيد، بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي، وسالومة. اللواتي أيضًا تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل، وأخر كثيرات اللواتي صعدن معه إلى أورشليم" [40-41]. يقول العلامة أوريجينوس أنه قد يبدو ظهور ثلاث نساء ذكرن بالاسم هن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب والثالثة التي دعاها متى "أم ابني زبدي" ودعاها مرقس "سالومة".على أي الأحوال بينما هرب التلاميذ من متابعة المصلوب ولو من بعيد، كانت النسوة يتبعنه، وصار لبعضهن شرف التمتع بالمسيح القائم من الأموات قبل التلاميذ.بهذا ردّ الإنجيل للمرأة كرامتها، وأعلن قدسيتها بعد نظرة مرة عاشها العالم لأجيال طويلة من جهتها. 13. دفنه تجاسر يوسف الذي من الرامة وهو مشير شريف ودخل إلى بيلاطس يطلب جسد الرب يسوع، فتعجب بيلاطس أنه مات هكذا سريعًا، وإذ تأكد من قائد المئة أنه مات وهب ليوسف الجسد، فاشترى كتانًا وأنزله وكفنه بالكتان ووضعه في قبر منحوتًا في صخرة، ودحرج حجرًا على باب القبر. وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسى تنظران أين وُضع [43-47]. كان لابد من إنزال الجسد قبل الغروب، لأنه كان يوم الصلب هو "الاستعداد"، إذ اعتاد اليهود أن يلقبوا يوم الجمعة بالاستعداد، إذ فيه يستعدون ليوم السبت للراحة.في هذا اليوم صُلب السيد، في اليوم السادس.فكما أعد الله كل الخليقة في ستة أيام ليستريح في السابع، هكذا ارتفع على الصليب مجددًا خليقته في ذات اليوم السادس ليدخل بخليقته إلى سرّ الراحة الحقيقية. لعل صلب السيد في اليوم السادس، يوم الاستعداد، يعلن التزامنا نحن فيه أن يحملنا الصليب إليه مادمنا في هذا العالم بكون حياتنا كلها هي يوم الاستعداد. نبقى معه على الصليب حتى النفس الأخير، فإذا ما غربت حياتنا الزمنية أرسل إلينا ملاكه، وكأنه بيوسف الرامي ليستريح جسدنا قليلًا حتى يقوم ثانية في يوم الرب العظيم. لم يسمح الرب أن يكفنه التلاميذ حتى لا يقوم الاتهام بأنهم سرقوه دون دفنه، بل كفنه رجل شريف بار.وقد تأكد الكل من دفنه حينما خُتم القبر. يعلق القديس أمبروسيوس على تكفين السيد بالقول: [كفن البار جسد المسيح بالطيب ولفه بالطيب! البرّ هو لباس الكنيسة (جسد المسيح) والبراءة هو جمالها.فألبس أنت أيضًا جسد الرب بمجده فتكون بارًا! إن آمنت بموته فكفنه بملء لاهوته، ادهنه بالمر والحنوط رائحة المسيح الذكية (2 كو 2: 15). كفنه يوسف بكفنٍ جديدٍ، ربما كان هو الملاءة الجديدة التي رآها بطرس نازلة من السماء وقد حوت كل حيوانات الأرض ودوابها (أع 40: 11).فقد تكفنت بها الكنيسة سريًا ووحدت الشعوب المختلفة في شركة إيمانها... وُضع في قبر جديد، في قبر يوسف إذ لم يكن للمسيح مقبرة خاصة به، لأن القبر يُقام من أجل الذين يتعرضون لقانون الموت، أما غالب الموت فليس له مقبرة ملكًا له. موت المسيح له طابعه الخاص المختلف عن موت عامة البشر، لذا لا يُدفن مع آخرين، بل يُدفن في القبر وحده.فيتجسد الرب اتحد بكل البشرية لكنه وجد بعض الاختلاف.شابهنا في ميلاده، لكنه اختلف عنا في الحبل به من العذراء... من هو يوسف هذا الذي وُضع المسيح في قبره؟ بالتأكيد هو ذاك البار الذي سلم للمسيح مقبرته ليجد ابن الإنسان أين يسند رأسه (لو 9: 58) وهناك يستريح... الحنجرة هي قبر مفتوح (مز 5: 11)، هذه هي حنجرة الإنسان عديم الإيمان الذي ينطق بكلمات ميتة، لكنه يُوجد قبر في أعماق الإنسان يحفره البار ليدخل كلمة الله في قلوب الأمم بالإيمان... يُوضع حجر على القبر حتى لا يكون مفتوحًا، لأنه متى كُفّن المسيح جيدًا في نفوسنا يجب حفظه بعناية كي لا نفقده. كان القبر محفورًا في صخرة أي مؤسسًا على الإيمان بالله الثابت... لا يستطيع كل أحد أن يكفن المسيح، لذا فالنساء التقيَّات بقين من بعيد، لكنهن كن ينظرن بعناية أين وُضع حتى يأتين إليه بالطيب ويسكبنه.ومع ذلك ففي محبتهن كن آخر من ترك القبر وأول من رجعن إليه[376].] أخيرًا فإن دفن السيد المسيح بواسطة يوسف الرامي يمثل خبرة روحية تقوية يليق بنا أن نعيشها كل يوم.فيوسف هذا جاء من الرامة يقال أنها راماتيم صوفيم (1 صم 1: 1) وأنها رام الله الحالية، ولما كانت كلمة "رامة" في العبرية تعني مرتفعة، فإنه لا يستطيع أحد أن يتمتع بهذا الشرف ما لم يأتِ من المرتفعات السماوية، أي يكون من الرامة، ينعم بالحياة السماوية كموطنٍ له ومكان نشأته، إذ كيف يحمل على يديه جسد الرب ما لم يكن له السمة الروحية السماوية. ما هو هذا الجسد الذي نحمله إلا حياتنا بكوننا أعضاء جسده نكفنها في الكتان، أي في النقاوة الحقيقية، ونطيّبها برائحة المسيح، وندخل بها إلى السيد المسيح نفسه، كما في داخل الصخرة، فتحمل حياتنا قوة قيامته، وتكون في صحبة الملائكة، كما كان الملائكة في قبر السيد.