لوقا 24 - تفسير إنجيل لوقا
صديقنا القائم من الأموات الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي
3. ظهوره لتلاميذه
إذ قام السيد المسيح من الأموات لم يعد يمارس الحياة البشرية اليومية، ولا صار بين اليهود يكرز ويبشر ويصنع عجائب ومعجزات، فقد قام يحمل جسده بذاته، لكنه ممجد، بمعنى آخر صار وضعه الطبيعي الجديد أن يصعد إلى السماوات ينتظر عروسه المقدسة لترتفع معه. لكنه بقي أربعين يومًا من قيامته حتى صعوده، يظهر لأحبائه المشتاقين إليه ليسحب قلوبهم نحو السماء.
حقًا كان السيد المسيح ينتهز كل فرصة لكي يعلن قيامته ويؤكدها في حياة محبيه المؤمنين به. بشر النساء القادمات إلى القبر بحبٍ، يطلبن تقديم الحنوط للجسد المقدس، فأعلن لهن بملائكته عن قيامته، ومشى مع التلميذين اللذين كانا يتكلمان ويتحاوران في طريق عمواس عن أمر قيامته، والآن إذ رجع التلميذان إلى أورشليم ليخبرا التلاميذ بما حدث معهما وكيف عرفاه عند كسر الخبز.
"وفيما هم يتكلمون بهذا،
وقف يسوعنفسه في وسطهم وقال لهم: سلام لكم،
فجزعوا وخافوا، وظنوا إنهم نظروا روحًا،
فقال لهم: ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟
انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو.
جسّوني، وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي.
وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه،
وبينما هم غير مصدّقين من الفرح ومتعجّبون،
قال لهم: أعندكم ههنا طعام؟
فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل،
فأخذ وأكل قدامهم" [36-43].
يلاحظ في هذا اللقاء الآتي:
أولا: إذ كانوا يتحدثون عن القيامة التهب الكل شوقًا نحو التمتع به كما تمتع بطرس الرسول وتلميذا عمواس وبعض النساء، فحقق لهم السيد شهوة قلوبهم إذ وقف بنفسه في وسطهم.
حقًا بحلوله في وسطهم تحولت العُليَّة إلى كنيسة مقدسة في بهاءٍ ومجد فائقين، أو قل صارت العُليَّة في هذه اللحظات تمثل نموذجًا حيًا لما ينبغي أن تكون عليه الكنيسة، ألا وهو التهاب أعضائها بالتمتع بالمسيّا المقام، وحلول المسيّا في وسطها كرأس حيّ يهب قوة القيامة لأعضاء جسده.
* جاء ذاك الذي كان مُشتهى جدًا، معلنًا ذاته لطالبيه ومنتظريه، لا بطريقة يمكن أن يُشك فيها، وإنما حّل بشهادة واضحة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
ثانيًا: في أول لقاء للسيد القائم من الأموات بتلاميذه المجتمعين، ممثلي كنيسته، قدم لهم "سلامه" الفائق، لا كعطية خارجية، إنما هبه تمس الأعماق في الداخل، إذ "قال لهم: سلام لكم" [36]ٍ. لقد حقق لهم ما وعدهم به في ليلة آلامه، قائلًا: "سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا" (يو 14: 27).
* لنكرم عطية السلام التي تركها المسيح لنا عند رحيله... فالسلام، على وجه الخصوص يخص الله الذي يوحّد كل الأشياء معًا في واحد، والذي إليه لا يُنسب شيء مثل وحدة الطبيعة والسلام الذي يحلّ به في الإنسان[943].
القديس غريغوريوس النزينزي
* لقد كشف لهم أيضًا آثار الجراحات بوضوح، وقد ثبت صوته في أذهانهم القلقة، إذ قيل: "فقال لهم يسوع أيضًا سلام لكم"، أي لا تضطربوا. وبقوله هذا ذكّرهم بكلماته التي نطق بها قبل الصلب: "سلامي أترك لكم" (يو 14: 37)، "ليكون لكم فيّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق" (يو 16: 33).
لقد "فرح التلاميذ إذ رأوا الرب" (يو20: 21). انظر كيف تحقق ذلك؟ ما قاله قبل صلبه: "ولكنني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 16: 22)، قد تمّ الآن في تلك اللحظة. كل هذا قد جلب فيهم إيمانًا أكيدًا ثابتًا...
هذه هي كلمات الرب الأولى التي حدثهم بها بعد قيامته... أما بالنسبة للنساء فأعطاهن الفرح (مت 28: 9)، لأن النسوة كن في حزن، لذلك وهبهن أولًا الفرح. بلياقة وهب السلام للرجال، ووهب النسوة الفرح بسبب حزنهن...
أنه يقدم ثمار الصليب أولًا، وهو:"السلام"[944].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* هذا هو السلام الحقيقي وتحية الخلاص، إذ تأخذ التحية اسمها من الخلاص[945].
القديس أغسطينوس
ثالثًا: يقول الإنجيلي: "فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحًا" [37]. لقد عاش التلاميذ مع السيد المسيح زمانًا وأدركوا أنه بالحقيقة تأنس، يحمل ناسوتًا حقيقيًا، والآن إذ سمعوا عن قيامته لم يكونوا يتوقعون أنه يحّل هكذا في وسطهم والأبواب مغلقة، لذا جزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحًا. وكان عمل السيد المسيح بعد أن وهبهم سلامه الحقيقي أن يؤكد لهم أنه ليس روحًا مجردًا بل بالحقيقة يحمل جسدًا، مبرهنًا على ذلك بأن يلمسوه ويتناول معهم.
* لا نستطيع أن نعتقد بأن بطرس ويوحنا قد شكا (بعد تأكدهما من قيامته بدخولهما القبر)، فلماذا يقول لوقا بأن التلاميذ خافوا؟
أولًا: بسبب إعلان الأغلبية (عن شكهم) الذي طغى على الأقلية.
ثانيًا: ولو أن بطرس آمن بالقيامة، لكنه دُهش إذ رأى يسوع حاضرًا فجأة بجسده، بينما الأبواب مغلقة.
القديس أمبروسيوس
رابعًا: لقد كشف لهم السيد المسيح عن شخصه أولًا بإعلانه لهم أنه عارف بما في أفكارهم وقلوبهم، إذ قال لهم: "ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ [38]، ثم عاد يؤكد لهم أنه المسيا المصلوب، قائلًا لهم: "انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو؛ جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي" [39].
يقول القديس أغسطينوس إن السيد المسيح ترك آثار جراحاتهبعد القيامة ليشفي بها جراحات التلاميذ، إذ لم يصدقوا قيامته عندما أظهر ذاته لهم وظنوه روحًا. فأظهر لهم يديه ورجليه، إذ يقول: [مع أن جراحاته شُفيت، فإن آثارها قد بقيت! إذ حكم هو بأن هذا نافع للتلاميذ، أن يستبقي آثار جراحاته لكي يشفي جروح أرواحهم، جراحات عدم إيمانهم! فقد ظهر أمام عيونهم، وأظهر لهم جسده الحقيقي، ومع هذا ظنوه روحًا...! وماذا قال لهم الرب؟ "ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟" [38]، إن كانت هناك أفكار قد صعدت إلى قلوبكم فهي قادمة من الأرض. الأفضل للإنسان ألا تصعد الأفكار إلى قلبه، بل يرتفع قلبه إلى الأعالي، حيث يود الرسول من المؤمنين أن يضعوا قلوبهم هناك، إذ يقول: "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق، لا بما على الأرض، لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 1-4)، أي مجد هذا؟ إنه مجد القيامة! أي مجد؟ اسمع ما يقوله الرسول عن هذا الجسد: "يزُرع في هوان، ويقوم في مجد" (1 كو 15: 43)[946].]
يقول القديس أمبروسيوس: [ظن التلاميذ في اضطرابهم إنهم يروا روحًا، لهذا فلكي يُظهر لهم الرب حقيقة القيامة قال لهم: "جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي"... كيف يمكن أن يكون ليس في الجسد وقد ظهرت فيه علامات الجروح وآثار الطعنة التي أظهرها الرب...؟! لقد قبل الرب أن يرتفع إلى السماء بالجراحات التي تحمّلها لأجلنا، ولم يشأ أن يمحوها، حتى يظهر لله الآب ثمن تحريرنا. بهذا يجلس عن يمين الآب وهو حامل لواء خلاصنا[947].]
السبب الرئيسي لإبقاء آثار الجراحات كما يقول القديس كيرلس الكبير[948] هو الشهادة لتلاميذه أن الجسد الذي قام هو بعينه الذي تألم. أما البابا غريغوريوس (الكبير)[949]، فيقدم أربعة مبرّرات لهذه الجراحات، وهي:
أ. لكي يبني تلاميذه في الإيمان بقيامته.
ب. تبقى هذه الجراحات تعلن شفاعته الكفارية لدي الآب عنا.
ج. لكي يتذكر المؤمنين حبه لهم ورحمته تجاههم.
د. تبقى لإدانة الأشرار في يوم الرب العظيم.
خامسًا: "وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون،
قال لهم أعندكم ههنا طعام؟
فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل،
فأخذ و أكل قدامهم"[41-43].
من شدة الفرح لم يصدقوا أنفسهم إنهم يرون الرب، لهذا أراد أن يؤكد لهم أنه ليس خيالًا، بطلبه طعامًا يأخذه من أيديهم ويأكله قدامهم.
* لم يكن جائعًا لكنه طلب أن يأكل، فأكل بسلطانه لا عن الضرورة، حتى يدرك التلاميذ حقيقة جسده، ويتعرف العالم عليه خلال كرازتهم[950].
القديس أغسطينوس
* وإن كان بعد القيامة العامة للكل، لا يكون أكل ولا شرب، ولا إذا كان أحد به جرح يقوم به... إنما صنع الرب هذا ليحقق لنا أجمعين أن الجسد الذي تألم ومات هو الذي انبعث من بين الأموات[951].
الأنبا بولس البوشي
* بحسب أمر الناموس كان الفصح يؤكل حقًا مع أعشاب مُرّة لأن مرارة العبودية كانت لا تزال قائمة، أما بعد القيامة فالطعام حلو بعسل النحل[952].
القديس غريغوريوس النيسي
سادسًا: إذ حّل السيد المسيح القائم من الأموات في وسط تلاميذه، وقدم لهم نفسه خلال الحواس حتى يرفعهم بالإيمان إلى ما هو فوق الحواس، فتح أذهانهم ليدركوا ما كُتب عنه في الناموس والأنبياء، خاصة عن صلبه وقيامته.
"وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم،
أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير.
حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب.
وقال لهم: هكذا هو مكتوب،
وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث" [44-46].
إن كان قد دخل إلى العُليَّة والأبواب مغلقة ليعلن قيامته لهم، فإنه جاء ليدخل أذهانهم ويعلن تجليه فيها فتتمتع ببهجة قيامته وقوتها، وتدرك مفاهيم إنجيله وتختبر ملكوته في داخلها.
4. إرساله التلاميذ
إن كان قد أعلن السيد قيامته لتلاميذه، إنما يعلن قيامة الرأس من أجل الجسد، قام ليقيمنا معه. بمعنى آخر إن كان قد قام، إنما ليرسل تلاميذه يقدمون قوة قيامته للبشرية، فيتمتعون بالعضوية الحقيقية في جسده القائم. لذا إن كان قد بدأ عطاياه هنا بمنحه سلامه، يختمها بدعوتهم للكرازة بقوة روحه القدوس ليضموا أعضاء جددًا في جسده المقدس القائم من الأموات.
جاءت وصيته لهم: "هكذا كان ينبغي...
أن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم،
مبتدأ من أورشليم،
وأنتم شهود لذلك.
وها أنا أرسل إليكم موعد أبي،
فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلبسوا قوة من الأعالي" [46-49].
إن كان قد قدم حياته المبذولة القائمة من الأموات، إنما لتكون وديعة ورصيدًا للكرازة بعدما تسلموا "الروح القدس" كسرّ قوتهم العلوية، في تأسيس الكنيسة جسد المسيح المقام.
يعلق القديس أغسطينوس على هذا الظهور الإلهي المختتم بإرسالية التلاميذ، قائلًا:
[أظهرَ ذاته للتلاميذ بكونه رأس كنيسته.
كانت الكنيسة منظورة فيه مقدمًا... إذ ظهر الرأس ووعد بالجسد... رأوا الرأس وآمنوا به، متلامسًا مع الجسد. أما نحن فنرى الجسد ونؤمن بالرأس... رؤيتهم للمسيح أعانتهم على الإيمان بكنيسة المستقبل، أما بالنسبة لنا فرؤيتنا للكنيسة تعيننا على الإيمان بالمسيح القائم. إيمانهم كمل، وأيضا إيماننا نحن قد كمل. إيمانهم كمل خلال رؤيتهم للرأس، ونحن إيماننا كمل برؤيتنا للجسد... هم رأوا الرأس وآمنوا بالجسد، أما نحن فرأينا الجسد وآمنا بالرأس. ليس أحد ينقصه المسيح، فهو كامل في الكل بالرغم من أن جسده لم يكمل بعد حتى اليوم[953].]
يقول أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن القائد لا يسمح لجنوده أن يواجهوا كثيرين ما لم يتسلحوا أولًا، هكذا لم يسمح الرب لتلاميذه أن ينزلوا للصراع ما لم يحل الروح أولًا[954].]
الآن إذ التقى السيد المسيح بتلاميذه أكثر من مرة وأكد لهم قيامته، ووعدهم بإرسال روحه القدوس عليهم انطلق إلى السماء لكي تنطلق معه قلوبهم وتحمل سمته السماوية.
5. صعوده إلى السماء
"وأخرجهم خارجًا إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم.
وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء.
فسجدوا له، ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم" [50-52].
قلنا أن "بيت عنيا" تعني "بيت العناء" أو"بيت الطاعة"، فإنه قد أراد أن يصعد إلى السماء عند بيت عنيا، عند جبل الزيتون، حتى كل من يود أن يرتفع قلبه إلى السماء يلزمه أن يحتمل معه "العناء" ويشاركه الألم، كما يحمل سمة الطاعة التي للابن نحو أبيه. يمكننا أن نقول بأنه من أجل عصياننا نزل من السماء، وبطاعته رفعنا إلى سماواته.
لقد رفع يديه الحاملتين لآثار الجراح ببركة صليبه، مقدّمًا دمه المبذول ثمنًا لرفعهم معه.
العجيب أن التلاميذ لم يحزنوا على صعود الرب ومفارقته لهم حسب الجسد، إنما رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ، إذ أدركوا أنه حيث يوجد الرأس تكون الأعضاء، وما تمتع به السيد المسيح إنما هو باسم الكنيسة كلها ولحسابها.
6. ارتباطهم بالهيكل
"وكانوا كل حين في الهيكل، يسبحون ويباركون الله، آمين" [53].
كانوا مرتبطين بالهيكل، لا يريدون أن يتركوه بل أن يسحبوا كل قلب لإدراك المفاهيم الروحية الإنجيلية للناموس. وكانت حياتهم تسبيحًا بلا انقطاع، حتى عندما طُردوا من الهيكل وذاقوا أمر الاضطهادات على أيدي اليهود ثم الرومان.
هذه هي نهاية السفر، فيه نجد الصديق السماوي قد ارتفع ليرفع أصدقاءه، واهبًا إياهم حياة التسبيح حتى يكملوا جهادهم بفرح داخلي ويلتصقوا به أبديًا.