لوقا 21 - تفسير إنجيل لوقا
صديقنا السماوي ومجيئه الأخير الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
إذ دخل السيد المسيح أورشليم ليقدم حياته ثمنًا لصداقته معنا، لاحظ التلاميذ هياج كل القيادات اليهودية ضده، وكأن الجو قد صار ملبدًا بالغيوم. لهذا رفع السيد المسيح أنظار تلاميذه إلى مجيئه الأخير، مقدمًا لهم علامات مجيئه بما تحمله من مرارةٍ وضيقٍ شديدٍ ليوضح لهم أن كل طاقات الظلمة ومقاومة عدو الخير لن تبطل هذه الصداقة الإلهية مع بني البشر. وكأن رب المجد بحديثه في هذا الأصحاح يطمئن كل نفس تُصاب بصغر نفس بسبب ما يحل بالعالم من أتعاب خاصة بالنسبة للمؤمنين، فالرب عالم بأحداث التاريخ كله التي يسخرها كعلامات لمجيئه.
إذن نسمع من فم ربنا يسوع عن مصارعة الظلمة ضد النور، والأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة ضد ملكوته. هذا كله يعطينا رجاءً، بأن الله سبق فأعلمنا به وهو محقق بخطته الإلهية حتمًا، حتى يضم أصدقاؤه إلى ملكوته يشاركونه أمجاده الأبدية. هذا وقد سبق لنا الحديث عن هذه العلامات بتوسع في تفسيرنا مت 24 ومر 13، لذا ألتزم بالاختصار الشديد ما استطعت حرصًا على عدم التكرار.
1. فِلسا الأرملة
1-4.
2. سؤال حول أبنية الهيكل
5-7.
3. المسحاء المضللون
8.
4. أخبار الحروب
9-10.
5. الزلازل والمجاعات والأوبئة
11.
6. اضطهاد المؤمنين
12-19.
7. حصار أورشليم
20-24.
8. علامات في الشمس...
25-26.
9. مجيء ابن الإنسان
27-28.
10. مثل التينة والصيف
29-33.
11. دعوة للسهر
34-36.
12. بياته في جبل الزيتون
37-38.
1. فلسا الأرملة
ربما يدهش البعض أن الإنجيلي يقدم لنا قصة قبول رب المجد يسوع لفلسي الأرملة أكثر من كل ما قدمه الأغنياء من قرابين قبل عرضه لموضوع غاية في الخطورة والأهمية ألا وهو حديث رب المجد يسوع عن علامات مجيئه. بمعنى آخر كيف يمكن أن تكون قصة هذه الأرملة أشبه بمقدمة لهذا الحديث الرباني الخطير عن علامات المنتهى؟ وأي ارتباط بين الموضوعين؟ قبل أن نجيب على ذلك نعرض ما قاله الإنجيلي لوقا:
"وتطلع فرأى الأغنياء يلقون قرابينهم في الخزانة.
ورأى أيضًا أرملة مسكينة ألقت هناك فلسين.
فقال: بالحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع.
لأن هؤلاء من فضلتهم ألقوا في قرابين الله،
وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل المعيشة التي لها"[1-4].
يبدو لي أن هذه القصة تعتبر أنسب مقدمة يمكن أن تناسب حديث رب المجد عن علامات مجيئه. فقد قدم لنا العلامات لا لنعرف الأزمنة ونتنبأ عنها ونهتم بحساباتها، وإنما لكي يُلهب قلبنا وسط قسوة الحياة التي نعيشها نحو مجيئه، فتكون أغنيتنا المستمرة في كل عبادتنا وسلوكنا وأحاسيسنا وأحلام يقظتنا الخ. هي "تعال أيها الرب يسوع". نترقب مجيئه فينا قبل مجيئه على السحاب في يومه الأخير. أما قصة الأرملة فنجد فيها السيد يترقب أيضًا قبولنا له، إذ يقول: "تطلع فرأى الأغنياء... ورأى أيضًا أرملة". إنه دائم التطلع إلينا، سواء كنا أغنياء أو فقراء، رجالًا أم نساءٍ، رعاة أم رعية، ينظر إلينا لا ليديننا أو ينتقدنا، إنما ليرى هل من مسكنٍ فينا يمكن أن يستريح فيه؟! هل من قلب فد تجاوب مع محبته؟ يمكننا أن نقول إنه مبادر بالحب والشوق إلينا، قبل أن يطالبنا بترقب مجيئه، ينظر هو مترقبًا قلبًا واحدًا بسيطًا يقبله ليبيت فيه.
لم يكن ينظر إلى العطايا أيُا كانت قيمتها، لكنه كان ينظر الأغنياء وأيضًا الأرملة، مهتمًا بالقلب لا العطية، طالبًا الثمر الروحي الداخلي لا العطاء المادي المنظور! وقد سبق لنا عرض أقوال كثير من الآباء في أمر هذه الأرملة أثناء تفسير مر 12: 41-44، لذا أكتفي هنا بالتعليقات التالية:
أولًا: بينما يحذر السيد المسيح تلاميذه من الإقتداء بالكتبة لأنهم "يأكلون بيوت الأرامل" (20: 47)، إذا به يمتدح أرملة على سخاء قلبها. هكذا قد يُحرم بعض قادة الفكرالديني من ملكوت السماوات بسبب طمعهم، بينما يتلألأ نجم فقراء وأرامل في الملكوت من أجل انفتاح قلبهم بالحب، وسخائهم في العطاء، لا من جهة كمية ما قدموه، وإنما من جهة ثمرهم الروحي الداخلي. لهذا يكتب القديس بولس إلى أهل فيلبي: "ليس إني أطلب العطية، بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم" (في 4: 17).
* إنها النية هي التي تجعل العطية قيّمة أو زهيدة[835].
القديس أمبروسيوس
* ليس الاعتبار في الكمية التي قدمتها وإنما في الكمية التي تركتها لنفسها، فإنه لم يعطِ أحد أكثر منها إذ لم تترك لنفسها شيئًا[836].
القديس أمبروسيوس
* كانت هذه الأرملة غنية، لأنها ألقت فلسين في الخزانة، وقد قال عنها المسيح: هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع ؛ لأن الله يطلب الإيمان لا المال[837]
القديس أمبروسيوس
* وُجدت أرملة في عوز من جهة الوسيلة لكنها كانت غنية في العمل. مع أن ما يُقدم يُوزع على الأرامل والأيتام لكن التي كان يليق بها أن تأخذ أعطت[838].
الشهيد كبريانوس
ثانيًا: من هم هؤلاء الأغنياء الذين ألقوا قرابينهم في الخزانة إلا اليهود الذين انتفخوا ببرهم الذاتي كحافظي الناموس. أما الأرملة الفقيرة، فهي كنيسة العهد الجديد التي جاء أعضاؤها في أغلبيتهم من الأمم الذين عاشوا كمن هم في ترمل ليس لهم معرفة بالله كعريسٍ لهم، فقراء لم يستلموا الناموس، ولا عرفوا العهود والوعود ولا قام بينهم أنبياء قديسون. لقد قدموا فلسين هما الإيمان العامل بالمحبة، جاء إيمانهم بربنا يسوع ملتحمًا بالحب العملي، وكأنهما فلسان يتقبلهما الرب رائحة سرور.
سبق أن كررنا بأن رقم 2 يشير إلى الحب فالفلسان ليسا إلا عطية الحب التي يتقبلها ربنا يسوع بفرح... حب لله وللقريب!
2. سؤال حول أبنية الهيكل
كان رب المجد منطلقًا نحو صليب يقدم لنا مفهومًا أعمق للصداقة الإلهية، ألا وهو تلاقي الإنسان الداخلي مع الله فيه، لذا سأل تلاميذه الهروب من رياء الفريسيين وطلب المتكآت الأولى والتستر وراء الصلوات بقلب يأكل بيوت الأرامل (20: 45-47). إنه يطلب القلب مسكنًا له، فيجد في أرملة تقدم فلسين أفضل من أغنياء كثيرين يلقون قرابينهم في الخزانة. لكن التلاميذ لم يفهموا حتى تلك اللحظات ما قصده رب المجد فتحدث قوم منهم معه عن عظمة أبنية الهيكل (مت 24: 1؛ مر 13: 1).
في دراستنا لإنجيل مرقس (13: 1)، قلنا أن الهيكل كان في دور التجديد، وقد بدأوا هذا العمل منذ حوالي 20 عامًا قبل مجيء السيد. فكان هذا التجديد الضخم في نظر كثير من اليهود علامة رئيسية في أعينهم على رضا الله عنهم، حتى بعض التلاميذ كانوا مبهورين بهذه الأبنية، ولعلهم ظنوا أن السيد المسيح إذ يملك إنما يقيم مركز سلطانه في هذا الهيكل.
"وإذ كان قوم يقولون عن الهيكل أنه مزين بحجارة حسنة وتحف، قال:
هذه التي ترونها ستأتي أيام لا يُترك فيها حجر على حجر لا يُنقض.
فسألوه قائلين: يا معلم متى يكون هذا؟
وما هي العلامة عندما يصير هذا؟" [5-7].
ويلاحظ هنا الآتي:
أولًا: كانت الأنظار تتجه إلى المباني الضخمة والتحف، أما رب المجد فكان يطلب العابدين بالروح والحق. يطلب بالحري الساكنين في الهيكل، هؤلاء الذين - في عيني الله- يمثلون عظمة الهيكل وجماله إن صاروا مسكنًا له بقلوبهم، وتحولت حياتهم إلى عرشٍ ناريٍ ملتهبٍ بالحب.
ثانيًا: إذ كان المخلص قادمًا نحو الصليب، كان لابد أن يعلن عن خراب الهيكل حتى تتوقف الذبائح الدموية، إذ تحققت وكمل عملها خلال ذبيحة المسيح الفريدة.
ثالثًا: يرى القديس كيرلس الكبير أن التلاميذ لم يفهموا كلماته، فقد حسبوه يتحدث عن نهاية العالم، لذلك جاء تساؤلهم: "قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئه؟ وانقضاء الدهر؟" (مت 24: 3). كأنهم ربطوا هدم الهيكل بمجيء السيد الأخير ونهاية الأزمنة، ربما لأنه لم يكن ممكنًا في تصور يهودي أن هيكل أورشليم يخرب بعد، إنما يزداد قوة وزينة خاصة بمجيء المسيّا المنتظر ليملك خلاله، ويبقى الهيكل حتى نهاية الدهر.
3. المسحاء المضللون
إذ أراد السيد المسيح أن يعلن عن خراب الهيكل وبالأكثر عن مجيئه الأخير قدم أولًا تحذيرًا من المسحاء الكذبة، قائلًا: "انظروا لا تضلوا، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو. والزمان قد قرب، فلا تذهبوا وراءهم" [8].كأن السيد المسيح يقدم تحذيرًا لمؤمنيه عبر كل الأجيال ألا ينشغلوا بالأزمنة بل بالحري بالفكر الروحي المتيقظ لأن العدو يقف بالمرصاد للتضليل. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي[839] أن إبليس مخادع ينتحل لنفسه اسمًا محبوبًا للكل، يشبه رجلًا يريد أن يسرق أولادًا ليسوا له، فينتهز فرصة غياب والديهم ليجتذب نظراتهم ويسحبهم إليه بتقديم أمور يتوقون إليها. هكذا في كل هرطقة ينطق العدو مخادعًا: "أنا هو المسيح ومعي الحق".
لقد ظهر مسحاء كذبة حتى في أيام الرسل وما قبلها منهم سيمون الساحر الذي كان "يدهش شعب السامرة، قائلًا إنه شيء عظيم، وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير، قائلين: هذا هو قوة الله العظيمة" (أع 8: 9-10) وأيضًا ثوراس الذي قال عن نفسه إنه شيء والتصق به عدد من الرجال نحو أربعمائة (أع 5: 36)، ويهوذا الجليلي في أيام الاكتتاب، حيث أزاغ وراءه شعبًا غفيرًا (أع 5: 37).