لوقا 21 - تفسير إنجيل لوقا
صديقنا السماوي ومجيئه الأخير الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي
4. أخبار الحروب
"فإذا سمعتم بحروب وقلاقل فلا تجزعوا،
لأنه لابد أن يكون هذا أولًا،
ولكن لا يكون المنتهى سريعًا.
ثم قال لهم: تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة" [9-10].
يسبق نهاية العالم سلسلة من الحروب، حتى تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة ويتحول العالم إلى كتلة من الحروب لا تنقطع، وقد سمح الله بذلك لكي يدرك الإنسان أن العالم المادي غير خالد، إنما يسير في طريق الدمار يومًا بعد يوم... "ولكن لا يكون المنتهى سريعًا"، إذ توجد أحداث وعلامات لابد أن تتحقق قبل مجيئه.
لقد سبق فأخبرنا السيد عن هذه الأمور حتى يكون أثرها أخف، ولكي لا يفقد المؤمنون سلامهم الداخلي، إذ هم متوقعون حدوثها. ولعل إعلان السيد عن هذه الحروب كان من أجل المؤمنين لئلا يتشككوا. فقد أعلنت الملائكة يوم مجيء الرب"على الأرض السلام"، بينما الحروب تتزايد يومًا بعد يوم. لقد جاء لسلام أرضنا الداخلية، يحل فينا فيجعل من قلبنا (أرضنا) مملكة سماوية تمتلئ سلامًا فائقًا وسط اضطرابات العالم الخارجية.
5. الزلازل والمجاعات والأوبئة
"وتكون زلازل عظيمة في أماكن ومجاعات وأوبئة،
وتكون مخاوف عظيمة من السماء" [11].
إذ تنقسم البشرية على ذاتها، فتقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، تعلن الأرض والسماء غضبهما عليها؛ فتصرخ الأرض ضد البشرية خلال الزلازل العظيمة، كما حدث يوم صلبوا رب المجد (مت 27: 51)، وتمتنع عن إعطاء غلتها، فتحدث مجاعات، وتثور الطبيعة فتكثر الأوبئة القاتلة، وتعلن السماء أيضًا غضبها خلال المخاوف العظيمة.
إن كان الله قد خلق العالم من أجل الإنسان لينعم بسلامٍ وفرحٍ في الرب، فحين يهيج الإنسان على بنى جنسه، ويفقد غايته يثور العالم المنظور أيضًا ضده، لا ليعلن غضبه عليه فحسب، وإنما ليلجمه ما استطاع. بمعنى آخر أن الزلازل والمجاعات والأوبئة والمخاوف العظيمة التي تحل من السماء، وإن كانت أمورًا مرعبة لكنها هي اللغة التي تحذر البشرية من تهورها ضد نفسها.
هذا الإعلان الإلهي أو قل التحذير الرباني ينطبق على ثلاثة مستويات. ففي المستوى الأول على نهاية العالم كله إذ يتم ذلك حرفيًا، والثاني على مستوى دمار الهيكل اليهودي وخراب أورشليم. وقد وصف يوسيفوس المؤرخ اليهودي ما حلّ بأورشليم قبيل دمارها خاصة المجاعة التي أصابت السكان حتى كانوا يأكلون البذار التي في بواقي الحيوانات. وأيضًا على المستوى الشخصي، فإنه إذ يقوم في الإنسان أمة على أمة، ومملكة على مملكة. أي حين يفقد الإنسان سلامه الداخلي ووحدته بالروح القدس يضطرب فكره وقلبه حتى جسده، وكأن زلازل قد حلت به لتهدم كل كيانه، وتصير فيه مجاعات، إذ لا يجد شبعًا من العالم بكل كراماته وملذاته، فيبقى محرومًا من كلمة الله الخبز النازل من السماء كسّر شبع للمؤمنين، وتحل به أوبئة متنوعة تصيب نفسه الأمراض الروحية القاتلة، وتكون مخاوف عظيمة من السماء، أي تتحول نفسه التي كان يليق بها أن تكون سماءً إلى علة مخاوف، بمعنى سرّ قلقه واضطرابه لا يكون من الخارج بل من داخل نفسه. هكذا إذ يفقد الإنسان شركته مع الآب في ابنه بالروح القدس، يفقد كل سلام للجسد والنفس والروح، ويصير هو نفسه علة تحطيمه لنفسه!
6. اضطهاد المؤمنين
"وقبل هذا كله يلقون أيديهم عليكم ويطردونكم،
ويسلمونكم إلى مجامع وسجون،
وتُساقون أمام ملوك وولاة لأجل اسمي،
فيؤول ذلك لكم شهادة،
فضعوا في قلوبكم أن لا تهتموا من قبل لكي تحتجوا.
لأني أنا أعطيكم فمًا وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها.
وسوف تُسلمون من الوالدين والإخوة والأقرباء والأصدقاء ويقتلون منكم.
وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي.
ولكن شعرة واحدة من رؤوسكم لا تهلك.
بصبركم اقتنوا أنفسكم" [12-19].
لعل السيد المسيح أراد أن يميز بين ما يحل بالبشرية من متاعب وضيقات لأسباب طبيعية أو بسبب انحرافها وبين الضيق الذي يحل بالمؤمنين لا لسبب سوى إيمانهم بالسيد المسيح، فإن العدو لا يكف عن المقاومة بكل طريقة مستخدمًا من لهم السمة الدينية (المجامع اليهودية) وأيضًا السلطات الزمنية، بل ومن الأقرباء حسب الجسد مثل الوالدين والأخوة والأقرباء. وفي هذا كله يرى الله أن هذه المقاومة هي ضده شخصيًا، فهو الذي يعطي الكلمة والحكمة لمؤمنيه، ومسئول حتى عن كل شعرة من رؤوسهم. لكن ليس بسلبية من جهة المؤمنين، إذ يقول: "بصبركم اقتنوا أنفسكم" [19].
في اختصار نلاحظ في النص السابق الآتي:
أولا: الخط الواضح في هذا الوعد الإلهي، إن الله نفسه هو موضوع مقاومة عدو الخير، لذا فهو الذي يقوم بالمقاومة وبطرقه الإلهية اللائقة به. يقول البابا غريغوريوس (الكبير): [كما لو أن الرب يقول لتلاميذه: لا تخافوا، أدخلوا المعركة، فإني أنا الذي أحارب، أنتم تنطقون وأنا الذي أتكلم[840].] ويقول القديس كبريانوس: [عمله أن نغلب... هنا نرى الثقة العظيمة التي للمؤمنين، والخطأ الشنيع الذي يرتكبه غير المؤمنين حين لا يثقون في ذاك الذي وعد بغلبة من يعترفون به ولا يخافون من تهديداته بالعقوبة الأبدية لمن ينكره[841].]
ثانيًا: إن كان عدو الخير يستخدم كل الوسائل خاصة العنف الجسدي على المؤمنين، فالمؤمنون يتقبلون من مسيحهم فمًا وحكمة حتى يشعر المقاومون بالضعف أمام المُضطهدين.
ثالثًا: يسمح الله للمؤمنين بالضيق، لكنه كأب يعلن اهتمامه بهم فلا تهلك شعرة واحدة منهم، وكما يقول القديس أغسطينوس: [تأكدوا يا إخوة أنه ليس للأعداء سلطان على المؤمنين إلا بالقدر الذي يفيدهم بتجربتهم وامتحانهم[842].] كما يقول: [عندما حث الرب يسوع شهداءه على الصبر وعدهم أن ينال الجسد نفسه كمالًا تامًا في المستقبل بلا فقدان، لا أقول فقدان عضو منه، وإنما دون فقدان شعرة واحدة[843].]
رابعًا: يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على قول السيد: "بصبركم اقتنوا أنفسكم" [19]، هكذا: [وضع اقتناء النفس في فضيلة الصبر، لأن الصبر هو أصل كل الفضائل والحامي لها. الصبر هو احتمال الشرور التي تسقط علينا من الآخرين بهدوء، دون أن نحمل مشاعر سخط ضد من يسقطها علينا[844].]
7. حصار أورشليم
"ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش،
فحينئذ اعلموا أنه قد اقترب خرابها.
حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال،
والذين في وسطها فليفروا خارجًا،
والذين في الكُورِ فلا يدخلوها.
لأن هذه أيام انتقام ليتم كل ما هو مكتوب.
وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام،
لأنه يكون ضيق عظيم على الأرض، وسخط على هذا الشعب.
ويقعون بفم السيف، ويسبون إلى جميع الأمم،
وتكون أورشليم مدوسة من الأمم، حتى تكمل أزمنة الأمم" [20-24].
يتحدث السيد المسيح بكل وضوح عما كان سيحل بأورشليم بعد ذلك بحوالي 40 عامًا على يديّ تيطس الروماني، وكان حديث السيد المسيح أشبه بتحذير للمؤمنين الذين كانوا في أورشليم ليتذكروا قول السيد، فيهربوا من أورشليم ولا يسقطوا تحت الحصار. وكما قلت أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي قدم وصفًا تفصيلًا عما حدث في هذا الحصار.
ويلاحظ في هذا النص الآتي:
أولًا: يقول القديس أغسطينوس[845] بأن كلمات ربنا هذه كما رواها لوقا الإنجيلي تُظهر أن رجسة الخراب التي تنبأ عنها دانيال قد تحققت بحصار أورشليم.
ثانيًا: "لأن هذه أيام انتقام" [22]، فإن كان الرب قد سمح لهم أن يصلبوه دون مقاومة من جانبه، لكن دمه الذي قُدم كفارة للعالم وخلاصًا للمؤمنين يصير علة دينونتهم. ما حدث في حصار أورشليم كان إنذارًا لليهود ليدركوا ما ارتكبته أيديهم الأثيمة لعلهم يرجعون إلى الله بالتوبة، ويقبلون المسيّا المخلص.
ثالثًا: "ويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام" [23]. يرى البعض في هذا القول نبوة عما رواه يوسيفوس المؤرخ أن النساء الشريفات طبخن أطفالهن بسبب شدة الجوع.
رابعًا: ماذا يعني بقوله: "وتكون أورشليم مدوسة من الأمم، حتى تكمل الأزمنة" [24]؟ إن كانت أورشليم هي مركز اليهود، فستبقى إسرائيل مدوسة بالجحود وعدم الإيمان حتى تكمل كنيسة الأمم، وفي أواخر الدهور يتخلى إسرائيل عن تعصبه الصهيوني، ويقبل الإيمان بالسيد المسيح الذي صلبه، كقول الرسول بولس: "إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26).
خامسًا: ماذا يعني حصار أورشليم روحيًا؟ بلا شك أن أورشليم إنما هي مركز العبادة اليهودية، تحوي الهيكل وملحقاته بما يضمه من طقوس غير منقطعة، خاصة الذبائح الدموية فكانت المدينة تمثل الكيان اليهودي بكل قوميته وعبادته وثقافته الخ. لذا يمكننا أن نقول بأننا لا نستطيع أن ننعم بأورشليم العليًا معلنة في قلوبنا ما لم تحاصر أورشليمنا القديمة فينا. لا مجال للتمتع بنعمة الروح البنَّاءة مع التقوقع حول الحرف اليهودي القاتل، ولا لقاء بين الكيان الكنسي السماوي مع إقامة فكر ضيق يهودي! إذن لنهرب من اليهودية إلى الجبال، أي من الحرف اليهودي إلى جبال الإنجيل العالية والراسخة بالروح.
"الذين في وسطها فليفروا خارجًا"... إن أمسك بنا الحرف واقتنصنا في سجنه، نطلب الهروب منه، لنحيا بحرية الروح منطلقين خارجًا!
"الذين في الكُورِ فلا يدخلوها"... بمعنى إن كان الروح قد أعتقنا منها وأطلقنا إلى كُورِ (مدن) الإنجيل لنحيا بروحه، فلا نشتهي العودة إلى الحرف.
"ويل للحبالى والمرضعات"... إذ لا يستطيعون من هم بلا ثمر روحي ناضج كأولاد لهم أن ينطلقوا من ضيق الحرف. ويل للنفوس الضعيفة التي لم تثمر بعد بل هي أشبه بالحبالى، أو ثمرها ضعيف أشبه بالمرضعات، فإنه يصعب عليها التمتع بالحرية الحقيقية في الرب.