لوقا 21 - تفسير إنجيل لوقا
صديقنا السماوي ومجيئه الأخير الجزء(3) للقمص تادرس يعقوب ملطى
8. علامات في الشمس...
"وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم،
وعلى الأرض كربُ أمم بحيرةٍ، البحر والأمواج تضج،
والناس يُغشى عليهم من خوف وانتظار ما يأتي على المسكونة،
لأن قوات السماوات تتزعزع" [25-26].
بلا شك سيتم ذلك حرفيًا قبل مجيء السيد المسيح الأخير، إذ تحدث علامات في الشمس والقمر والنجوم، الأمور التي يتوقعها علماء الفضاء أنفسهم.
ماذا يعني بالشمس والقمر والنجوم والأرض والبحر؟
أولًا: ربما قصد بالعلامات التي تظهر قبل مجيء المسيح ظهور ضد المسيح، هذا الذي يقوم بدور خطير في حياة العالم في أواخر الدهور، فإن كانت الشمس ترمز للسيد المسيح، فستظهر علامة ألا وهو اختناق الإيمان به. وكأن الشمس تصير مختفية في حياة البشر. وقد أعلن السيد ذلك بمرارة إنه إن أمكن أن يضل حتى المختارين، كما تساءل: ألعل ابن الإنسان يجد الإيمان عند مجيئه؟!
أما القمر فيشير إلى الكنيسة التي تستمد نورها من السيد المسيح شمس البرّ، فستحمل أيضًا علامة خاصة بها، إذ تدخل في ضيق شديد، وتصير هاربة في البرية، يتعقبها ضد المسيح برجاله أينما وجدت.
تشير النجوم إلى مؤمنين بما لهم من مواهب ومراكز روحية. فللأسف سيسقط كثيرون حتى من أصحاب المواهب والمراكز في جحد مسيحهم وتكون حركة ارتداد مُرة.
تشير الأرض التي تمتلئ بالكوارث إلى فساد الجسد (الأرض)، إذ ينتشر الفساد، وتعم الرجاسات، ويتحول البشر إلى أفكار جسدانية حيوانية محطمة للعمل الروحي.
يشير البحر وأمواجه إلى الشعوب والأمم، فسيكون الضيق لا على مستوى الأفراد فحسب، وإنما على مستوى الأمم أيضًا.
ثانيًا: نستطيع أيضًا القول بأنه إذ يرفض الإنسان عمل السيد المسيح فيه تظهر هذه العلامات فيه، فيفقد استنارته بشمس البرّ، أي بالإيمان بالسيد المسيح. ويظلم قمره أي لا يمارس عضويته الحقيقية في الكنيسة كجسد المسيح المستنير به. وتتساقط نجومه حيث تنهار مواهبه وتنحل طاقاته وتتحول إمكانياته لتحطيمه عوض بنيانه ومجده. وتصير أرضه بكل أممها في كربٍ وحيرةٍ، أي يفسد جسده عوض تقديسه، وترتبك حواسه لتكون سرّ اضطراب له، ويضج بحره بأمواجه، أي يفقد سلامه ليعيش في قلقٍ غير منقطعٍ كأمواج البحر التي لا تهدأ.
ثالثًا: مجيء ابن الإنسان الأخير يدخل بنا إلى حياة سماوية جديدة، وصفها القديس يوحنا اللاهوتي، قائلًا: "ثم رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد" (رؤ 21: 1). نقول لتتحطم السماء المادية الحالية والأرض أيضًا، ولتنتهِ البحار، ولتتساقط كل الكواكب بلا رجعة. فإننا ننتظر السماء الجديدة، شمسها رب المجد يسوع، وقمرها الكنيسة أورشليم العليا أمنا، وكواكبها القديسون. لننعم بأرض ليست مادية تنبت شوكًا وحسكًا، بل حياة جديدة حيث "لا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت" (رؤ 21: 4). ليُمح البحر، فلا يوجد اضطراب بعد!
رابعًا: تفرح السماء بخاطئٍ واحدٍ يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة (لو 15: 7)، فمن يستطيع أن يعبر عن ألمها حين تجد النفوس تنهار بسبب ضد المسيح؟! لذا يقول رب المجد: "قوات السماوات تتزعزع" [26].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [قوات السماوات تتزعزع... عندما ترى جماهير بلا عدد تسقط تحت الدينونة[846]!]
خامسًا: يقول القديس أغسطينوس: [قوات السماء تتزعزع، لأنه عندما يثير الأشرار الاضطهاد يرتعب بعض المؤمنين الأقوياء[847].]
9. مجيء ابن الإنسان
"وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحابة بقوةٍ ومجدٍ كثيرٍ.
ومتى ابتدأت هذه تكون، فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم، لأن نجاتكم تقترب" [27-28].
* سيبصره المؤمنون، وغير المؤمنين، فسيكون هو وصليبه أكثر بهاءً من الشمس ويلاحظه الكل.
الأب ثيؤفلاكتيوس
* الكلمات "أتيًا في سحابة" تفهم بطريقتين؛ يأتي في كنيسته كما في سحابة (عب 12: 1)، إذ هو لا يكف عن أن يأتي الآن فيها، أما فيما بعد فيتحقق مجيئه بسلطان أعظم وجلال إذ يظهر لقديسيه بقوة ليهبهم فضيلة عظيمة حتى يغلبوا ذاك الاضطهاد المريع. كما سيأتي بجسده... الذي صعد به[848]
القديس أغسطينوس
إن كانت الأحداث كلها مؤلمة للغاية، لكن ظهور ابن الإنسان يرد للكنيسة فرحها وبهجتها ومجدها على مستوى الشركة مع عريسها في فرحه ومجده. ملاقاتنا مع ابن الإنسان تنسينا كل الأحداث السابقة المرة، بل تصير علة مكافأتنا ومجدنا بالرب. لهذا يقول: "انتصبوا" بمعنى اثبتوا، قفوا كرجال روحيين بلا تراخ ولا كسل. "ارفعوا رؤوسكم" أي ارفعوا عقولكم نحو السماويات، وانتظروا مجيئه، لأن نجاتكم على مستوى أبدي يقترب.
يأتي رب المجد لنجاتنا، ليس فقط على مستوى خلاص النفس، وإنما قيامة الجسد أيضًا، فيتمجد الإنسان بكليته!
10. مثل التينة والصيف
"وقال لهم مثلًا: انظروا إلى شجرة التين وكل الأشجار.
متى أفرخت تنظرون وتعلمون من أنفسكم أن الصيف قد قرب.
هكذا أنتم أيضًا متى رأيتم هذه الأشياء صائرة،
فاعلموا أن ملكوت الله قريب.
الحق أقول لكم أنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل.
السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول" [29-33].
* أكد بمقارنة حكيمة الالتزام بأن نطأ بأقدامنا (محبة) العالم ونحتقرها، قائلًا: "انظروا إلى شجرة التين وكل الأشجار، متى أفرخت (قدَّمت ثمرًا) تنظرون وتعلمون من أنفسكم أن الصيف قد قرب". كأنه يقول: كما أنه بثمر الشجرة يُدرك اقتراب الصيف، هكذا بسقوط العالم يُعرف أن ملكوت الله قد اقترب. هنا واضح أن ثمرتنا هي سقوط العالم (من قلوبنا)...
حسنًا يُقارن ملكوت الله بالصيف حيث يزول سحاب حزننا، وتشرق أيام الحياة بنور الشمس الأبدي الساطع[849].
البابا غريغوريوس (الكبير)
لقد أكد رب المجد "اعلموا أن ملكوت الله قريب" [31]. فالضيق يحل لكن إلى حين، أما الملكوت فأبدي.
* ملكوت السماوات أيها الإخوة بدأ يقترب، حيث مكافأة الحياة والفرح بالخلاص الأبدي والطوباوية الدائمة واقتناء الفردوس المفقود. هذه الأمور قادمة مع عبور العالم. ها السماوات تحل عوض الأرض، والأمور العظيمة عوض الدنيا، والأبديات عوض الزمنيات[850].
الشهيد كبريانوس
ماذا يقصد بقوله: "الحق أقول لكم أنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل"؟ ما قاله الرب تحقق في جيل التلاميذ بالنسبة لخراب أورشليم ودمار الهيكل، الأمر الذي كان مستبعدًا جدًا، لذا أكده السيد بقوله: "الحق أقول لكم". وأيضًا يتحقق كل ما قاله السيد في جيل كنيسته، إذ نعلم أن التاريخ من جهة الخلاص ينقسم إلى عدة أجيال:
أ. الجيل الأول من آدم إلى نوح حيث التجديد بالطوفان.
ب. الجيل الثاني من نوح إلى موسى حيث استلم الناموس المكتوب.
ج. الجيل الثالث من موسى إلى داود حيث بدأ عهد الملوك والأنبياء.
د. الجيل الرابع من موسى إلى سبي بابل.
خ. الجيل الخامس من سبي بابل إلى مجيء السيد المسيح.
و. الجيل السادس والأخير من مجيء المسيح متجسدًا حتى مجيئه الثاني أو الأخير. هذا هو جيل كنيسة العهد الجديد التي تعاصر كل ما نطق به السيد المسيح في هذا الأصحاح.
11. دعوة للسهر
"فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة،
فيصادفكم ذلك اليوم بغتة،
لأنه كالفخ يأتي على جميع الجالسين على وجه كل الأرض.
اسهروا إذًا وتضرعوا في كل حين،
لكي تُحسبوا أهلًا للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون،
وتقفوا قدام ابن الإنسان" [34-36].
بهذا الحديث الختامي يكشف لنا السيد المسيح عن غاية عرضه لعلامات مجيئه. إنه لا يريدنا أن نعرف الأزمنة وننشغل بحساباتها، بل بالحري أن نسهر بقلوبنا، مترقبين بالحياة الجادة مجيئه ليملك أبديًا.
* يحمل كل حيوان دوافع قُدمت له من الله لحفظ جنسه، لذلك قدم لنا المسيح هذا التحذير حتى ما يمارسه الحيوان بالطبيعة نمارسه نحن بالعقل والحكمة، فنهرب من الخطية كما تهرب الحيوانات من الطعام القاتل، ونطلب البر كأعشاب مفيدة.
يقول: "احذروا لأنفسكم"، أي ميزوا ما هو مميت مما هو صحّي.
لما كان هناك طريقان للحذر لأنفسنا، واحد خلال الأعين الجسدية والآخر خلال وظائف النفس، وإذ لا تستطيع العين الجسدية أن تبلغ الهدف لذا فإنه يتحدث هنا عن عمل النفس.
"احذروا"، بمعنى انظروا حولكم من كل جانب، بعين دائمة السهر لحراسة أنفسكم...
يوجد حولكم غنى وفنون وكل مباهج الحياة، يلزمكم ألا تهتموا إلا بنفوسكم اهتمامًا خاصًا[851].
القديس باسيليوس الكبير
* إذ تترك النفس الأمور السفلية المادية تنطلق نحو الأمور السماوية غير المنظورة[852].
الأب إسحق
ما هو غاية هذا السهر الروحي واليقظة في ملاقاة الرب القادم؟ يحول هذا السهر "يوم الرب" من فخ يسقط فيه جميع الجالسين على وجه كل الأرض إلى يوم نجاة ووقوف قدام ابن الإنسان. بمعنى آخر يوم الرب بالنسبة لغير الساهرين هؤلاء الذين يحسبون كجالسين على وجه كل الأرض أي كجسدانيين وترابيين يكون لهم فخًا، أما بالنسبة للساهرين الذين لا يرتبطون بمحبة الأرض بل ينطلقون كما بأجنحة الروح في السماويات لا يقتنصهم يوم الرب كفخ لهلاكهم وإنما يتمتعون بالنجاة على مستوى النفس والجسد معًا، وينعمون بالوقوف قدام ابن الإنسان كملائكة الله. يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [هذا هو مجد الملائكة أن يقفوا قدام ابن الإنسان، إلهنا، ويعاينون وجهه على الدوام[853].]
12. بياته في جبل الزيتون
"وكان في النهار يعلم في الهيكل،
وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدُعى جبل الزيتون.
وكان كل الشعب يبكرون إليه في الهيكل ليسمعوه" [37-38].
ختم الرب حديثه السابق بالسهر، وهو كممثلٍ للبشرية، ونائبٍ عنها قام بالسهر عمليًا، لا ليكون قدوة لنا فحسب، وإنما ليقدس سهرنا بسهره، كما قدس أعمالنا بعمله! في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل ينطلق للسهر على جبل الزيتون، مقدسًا الحياة العاملة المتألمة!