أعمال الرسل 2 - تفسير سفر أعمال الرسل
ميلاد الكنيسة في يوم البنطقستي الجزء(1)للقمص تادرس يعقوب ملطي
في الأصحاح الأول قدم لنا الإنجيلي لوقا صورة حية عن الإعداد لميلاد كنيسة العهد الجديد خلال أحاديث السيد المسيح القائم من الأموات عن ملكوت الله، ووعده لهم بنوالهم قوة من الأعالي، ثم صعوده لتدرك الكنيسة طبيعتها الجديدة باتحادها مع السماوي، وإلهاب قلوب المؤمنين نحو مجيء السيد المسيح الأخير، وأخيرًا اختيار التلميذ الثاني عشر عوض يهوذا الخائن. الآن يقدم لنا مشهدًا رائعًا حقيقيًا لميلاد الكنيسة في يوم البنطقستي أو الخمسين، إذ نال التلاميذ العماد بالروح القدس، وصار للكنيسة القائد السماوي، الروح القدس المعزي الذي يهب البشر تجديدًا في طبيعتهم، لكي يحملوا أيقونة العريس السماوي، ويتمتعوا بعلاقات جديدة فائقة مع الثالوث القدوس.
١. لقاء جماعي
١.
٢. حلول الروح القدس
٢-٤.
٣. موقف الحاضرين
٥-١٣.
٤. خطاب بطرس للشعب
١٤-٣٦.
٥. جاذبية الروح القدس
٣٧-٤١.
٦. كنيسة روحية متهللة
٤٢-٤٦.
٧. كنيسة ولود
٤٧.
من وحي أعمال الرسل ٢
1. لقاء جماعي
"ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنفس واحدة". [1]
جاء النص اليوناني يعني: "لما اكتمل يوم الخمسين"، أي لما بلغ الزمن إلى يوم الخمسين، أي بعد سبعة أسابيع حيث يأتي يوم الخمسين، ويسمى "عيد الأسابيع" (سبوعات) أو "عيد الباكورات" حيث يُقدم بكور القمح، يُحتفل به في اليوم الخمسين من أول يوم بعد عيد الفصح[72].
يُدعى البنطقستي penthkosth مشتقة من penthkonta ومعناها خمسون، ورد في لا 23: 15-22؛ خر 34: 22؛ تث 16: 10. وباسم عيد الباكورات في عد 28: 26؛ خر 23: 16، وهو عيد شكر لله على بركة الحصاد. مؤخرًا حسبه اليهود يوم نزول الشريعة في سيناء في اليوم الخمسين من خروجهم من مصر. لهذا يدعونه torah shimchath،أي فرح التوراة.كما يعتبرونه تذكارًا للعجائب التي صنعها الله معهم ليحررهم من عبودية فرعون. يرى لايتفوت Lightfoot أن الروح القدس حلّ على التلاميذ في مناسبة نزول الشريعة على جبل سيناء منذ ١٤٤٧ عامًا.
كان اليهود يعتزون بهذا العيد، بكونه يومًا فريدًا، احتفلت به الطبيعة نفسها حيث هبوب الريح وظهور النار والزلازل والبرق والرعود تكشف عن جبروت الله وحضوره المهيب في وسط شعبه.
حلّ الروح القدس في يوم عيدٍ له قدسيته عند اليهود والدخلاء، حيث يحتفل به جمهور عظيم من كل الدول، حتى إذ يُسمع عنه في أورشليم يسرع الكل ويصير من بينهم شهود يقبلون الإيمان ويعودون إلى الدول التي يعيشون فيها يكرزون بالحق الإنجيلي.
وقد حلّ الروح القدس في اليوم الأول من الأسبوع "الأحد" ليكون هذا اليوم هو السبت الجديد، الذي فيه قام السيد المسيح، وفيه تم ميلاد الكنيسة. فمع كل عبادة أسبوعية نتذكر في سرّ الإفخارستيا الحياة الجديدة المقامة التي صارت لنا بقيامة السيد المسيح بعمل روحه القدوس.
إذ حلّ الروح القدس على كنيسة العهد الجديد في اليوم الخمسين من قيامة السيد المسيح، صار هذا العيد إعلانًا عن حضور الروح القدس الدائم في وسط كنيسة المسيح، يهبها طاقاته الإلهية للشهادة للسيد المسيح، وليتمتع العالم بخبرة الحياة المقامة.
في عيد البنطقستي اليهودي كان الشعب يعتز بنزول الشريعة على موسى حيث اهتزت الطبيعة أمام هذا التنازل الإلهي، أما في عيد البنطقستي المسيحي فيقف العالم في دهشة حيث ينزل روح الله القدوس نفسه على الكنيسة، فتهتز طبيعة الإنسان الداخلي، ويتقبل كلمة الله منقوشة، لا على لوحين حجريين، بل على القلب وفي أعماق النفس. يسجلها الروح القدس، فيحول القلب الحجري إلى ملكوت إلهي سماوي، لا لتقف الطبيعة الجامدة في دهشة، بل يقف السمائيون في تهليلٍ وبهجةٍ أمام العمل الإلهي الفائق.
إذ تحقق ميلاد الكنيسة في يوم عيد الخمسين تقدست كل الأيام لكي يتمتع المؤمن بالعماد أو الميلاد الجديد أو الإتحاد بالكنيسة في أي يومٍ دون تمييز بين الأيام، إذ صارت أيامنا كلها عيدًا لا ينقطع. وقد منعت الكنيسة نذر عماد طفلٍ ما في كنيسةٍ معينة أو بواسطة كاهنٍ معين.
* عندما يقول ارميا: أجمعهم معًا من أقاصي الأرض إلى يوم عيد (إر 38: 8) يعني عيد الفصح والبنطقستي، الذي هو بحق يوم عيد. على أي الأحوال كل يوم هو للرب، كل ساعة، وكل وقت مناسب للعماد. إن وجد اختلاف في التكريم لليوم لكن لا يوجد تمييز في النعمة[73].
العلامة ترتليان
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن كلمة "الجميع" تشير إلى المائة والعشرين. إذ يقول [هل حلّ على الإثنى عشر؟ ليس كذلك، بل على المائة وعشرين، فإنه ما كان لبطرس أن يقتبس شهادة النبي بلا هدف، قائلًا: "يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبابكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلامًا" (أع 2: 17، يوئيل 2: 28). "وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أع 2: 4)[74].]
ويرى البعض أن كلمة "الجميع" جاءت بعد اختيار التلميذ الثاني عشر، مما يوضح أنها لا تعني هنا المائة والعشرين بل الإثني عشر. وقد تم اختيار التلميذ الثاني عشر قبل حلول الروح القدس، لأن الكنيسة ممثلة في الإثني عشر تستقبل الروح القدس وتتمتع بالمعمودية الأولى، كقول السيد المسيح لتلاميذه: "فستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير" (أع 1: 5). أما ما ورد في سفر يوئيل عن حلول الروح القدس على العبيد والإماء والشيوخ والشباب، فهذا حق، تم خلال الرسل، وليس من السماء مباشرة كما حدث مع الإثني عشر. فإنه حتى مع ظهور السيد المسيح لشاول الطرسوسي والدخول في حوار معه لم ينل حلول الروح القدس مباشرة من السماء، بل من خلال الكنيسة، حيث وجهه السيد المسيح إلى حنانيا.
الحالة الوحيدة الشاذة هي حالة حلول الروح القدس على كرنيليوس وأهل بيته أثناء صلاة القديس بطرس، وذلك لكي يعلن الله انفتاح أبواب السماء على الأمم لقبول الإيمان بالسيد المسيح.
"كان الجميع معًا بنفسٍ واحدةٍ"، فقد حملوا غيرة متقدة نحو هدفٍ واحدٍ ورغبةٍ واحدةٍ، فكان الكل ملتهبين في الداخل نحو تحقيق وعد السيد المسيح بنوال قوة من الأعالي (أع ١: ٨).
٢. حلول الروح القدس
"وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة،
وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين". [2]
كان التلاميذ يترقبون تحقيق الوعد الإلهي بحلول الروح القدس عليهم ليهبهم قوة من الأعالي، لكن يبدو أنهم لم يكونوا يتوقعون حلوله خلال هذه المظاهر، لذلك كان الأمر مفاجئًا لهم: "وصار بغتة". تم الحلول هكذا لكي لا يفارق هذا الحدث أذهان التلاميذ، ولا يغرب عن عيني الكنيسة عبر كل الأجيال، لأنه حدث يمس كيانها كله ووجودها أو عدمه.
لم تكن ريحًا طبيعية، لكن صوتًا من السماء ملأ كل البيت، سمعه كل من في البيت، وأدركوا أنه من السماء. لعله كان صوت رعدٍ يبشر بالحضرة الإلهية.
يرى القديس مار أفرام السرياني أنه قد صاحب الصوت السماوي رائحة عطرة، وأن الصوت لم يعبر من حجرة إلى حجرة، بل أدرك الكل أنه صوت صادر من السماء يملأ الكل دفعة واحدة. ملأ الروح القدس المكان ليدشنه، مقدسًا الحاضرين كنيسة مقدسة للمسيح. لم يملأ الصوت فقط الحجرة التي كان التلاميذ مجتمعين فيها للصلاة، إنما البيت كله. وكان للحدث صداه على مستوى المدينة كلها، ففي فترة قصيرة تجمعت جماهير كثيرة، كانوا قادمين إلى أورشليم للعيد.
وكما هيأت الزلزلة والنار قلب إيليا للتمتع بالحضرة الإلهية والدخول في حوارٍ مع الله أثناء الريح الهادئ (1 مل 9: 11 الخ.)، هكذا أعلنت هذه الظواهر عن حلول الروح القدس وميلاد كنيسة المسيح واستقراره فيها.
هكذا بنفس الكيفية عند مجيء السيد المسيح الأخير على السحاب ليدين المسكونة يصاحب مجيئه صوت بوق عظيم يهز كيان الأشرار ويُفرِّح قلوب المؤمنين.
كأن ذاك الذي يجلب الرياح من مخازنه (مز ١٣٥: ٧)، ويجمعها في يده (أم ٣٠: ٤) يصرخ بصوتٍ عالٍ: اقبلوا روحي القدوس! لقد سبق فأعلن ناحوم النبي: "الرب في الزوبعة، وفي العاصف طريقه، السحاب غبار رجليه" (نا ١: ٣)، وتحدث الرب مع أيوب من العاصفة (أي ٣٨: ١). هذا هو الرب نفسه، حاضر ليسكن في قلوب البشر!
هنا ينقلنا القديس غريغوريوس النيسي إلى سفر النشيد حيث يرى في ريح الجنوب الدافئة، وليس ريح الشمال الباردة، رمزًا لعطية الروح القدس الذي يلهب النفس بدفء الروح.
في منطقة الشرق الأوسط يخشى الناس، خاصة أصحاب الحقول، الريح الشمالية لأنها باردة، إن اشتدت تقضي على الزراعة تمامًا، بينما يطلبون الريح الجنوبية القادمة من خط الاستواء فهي دافئة تساعد على نضوج المحاصيل. في سفر النشيد تطلب العروس من ريح الجنوب أن تهب على جنتها (نش 4: 16)، وإذ تهب الريح التي هي الروح القدس في الحال تدعو جنتها جنة عريسها (نش 5: 16)، فعمل الروح القدس هو أن يحول قلوبنا إلى ملكية العريس السماوي، فتصير جنته. يرى العريس آلام عروسه آلامه، وثمار الروح فيها ثمره، وبفرح يقبل دعوتها لكي يدخل إلى جنته يأكل ويشرب، بل ويدعو أصدقاءه، الطغمات السمائية، ليفرحوا معه بجنته التي غرستها يمينه ويسقيها بروحه القدوس (نش 5: 1).
* "تعالي يا ريح الجنوب، هبي على جنتي فتقطر أطيابها" (نش 4: 16LXX)...
أصابت الملكة (الكنيسة العروس) حين أمرت بسلطانها دفع ريح الشمال بعيدًا، ونادت على ريح منتصف النهار الدافئ الذي تسميه ريح الجنوب، وبواسطته يفيض تيار جارف من السرور: "تعالي يا ريح الجنوب، هبي على جنتي فتقطر أطيابها". إنها تشبه الريح القوية التي سُمعت في العلية عندما كان التلاميذ فيها (أع 2:2) "وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم." وكأنهم نباتات حية، تساعد هذه الريح حديقة اللّه على إنتاج الأعشاب العطرة، وإصدار نبوات تفوح منها روائح زكية ووصايا الخلاص للإيمان بفم الرسل، ويخرج منها عطر تعاليمهم بكل اللغات. لقد جعلت ريح الجنوب هذه تعاليم المائة والعشرين تلميذًا الذين كانوا مغروسين في بيت الرب تفيض على كل أمم الأرض (أع 15:1).