اعمال الرسل 18 - تفسير سفر أعمال الرسل
في كورنثوس الجزء(1)للقمص تادرس يعقوب ملطي
لم نسمع عن مضايقات كثيرة واضطهادات للقديس بولس في أثينا، ولا طُرد منها بمعاملة رديئة كما في مواضع أخرى، لكنهم التقوا به في برودٍ ودون اعتبارٍ أو اهتمامٍ من جانبهم لخلاص نفوسهم.
انطلق بولس الرسول من أثينا معقل الفلسفة إلى كورنثوس المركز التجاري، وكأنه قد انطلق من أكاديمية علمية إلى سوق مزدحم.ترك الاهتمام بالمؤمنين هناك في رعاية ديونيسيوس. جاء ليقيم كنيسة لها اعتبارها في كورنثوس.
1. بولس في كورنثوس
1.
2. بولس يعمل لأجل معيشته
2-3.
3. خدمته في المجمع
4-5.
4. خدمته في بيت يوستس
6-11.
5. مقاومة اليهود له
12-17.
6. عودته إلى إنطاكية
18-22.
7. بدء رحلته الثالثة
23-28.
من وحي أع 18
1. بولس في كورنثوس
"وبعد هذا مضى بولس من أثينا،
وجاء إلى كورنثوس". [1]
كانت كورنثوس المدينة الرئيسية في أخائية، تتسم بالغنى والفخامة، لم يكن يسمح لأي إنسان أيا كان أن يرى كورنثوس Non cuivis homini contingit adire Corinthum.
ذهب الرسول إلى كورنثوس حيث ترقب وصول تيموثاوس وسيلا من مكدونية.
في كورنثوس تفرغ الرسول لكتابة أول رسالة له، سجل رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي حيث لا يوجد بين أعضاء الكنيسة كثيرون من أصل يهودي، لهذا جاءت الرسالة لا تحمل طابع الدفاع والمحاجاة، وإنما الكشف عن شخصية السيد المسيح ومجيئه الثاني، كما عن الفداء بآلام المسيح، كشف عن أبوته الحانية وتعلقه بهم. فقد كان لشعب تسالونيكي مكانة خاصة في قلب الرسول. كتب بهذا الأسلوب الرقيق وسط آلام ومعاناة ومقاومة اليهود له.
2. بولس يعمل لأجل معيشته
"فوجد يهوديًا اسمه أكيلا بنطي الجنس،
كان قد جاء حديثًا من إيطالية وبريسكلاّ امرأته،
لأن كلوديوس كان قد أمر أن يمضي جميع اليهود من رومية،
فجاء إليهما". [2]
وجد رجلًا يهوديًا مولودًا في بنطس يدعى أكيلا، جاء مع زوجته بريسكلا من روما حيث أصدر كلوديوس أمرًا أن يترك كل اليهود روما. أشير لي في مواضع أخرى كصديقي للقديس بولس (رؤ 16: 3؛ 2 تي 4: 19؛ 1 كو 16: 9). كان يهوديًا بالميلاد وقد قبل الإيمان المسيحي.
ملك كلوديوس كإمبراطور على روما عام 41 ومات مسمومًا عام 54، ولا نعرف متى طرد اليهود من روما؛ بعض اليهود فضلوا ترك إيطاليا كلها لعدم الاطمئنان لموقف كلوديوس. يروي لنا سيوتوينوس Suetonius المؤرخ الروماني في كتابه "حياة كلوديوس" فصل 25، عن طرد اليهود من روما بسبب بعض المشاغب التي حدثت تحت قيادة خريستوس Chrestus، وهو يهودي أجنبي، كان مهتمًا بشئون اليهود ويحسبونه قائدًا لهم.
طًرد أكيلا وبريسكلا مع أنهما مسيحيان، لأنه كان ينظر إلى المسيحيين كطائفة يهودية.
"ولكونه من صناعتهما أقام عندهما،
وكان يعمل لأنهما كانا في صناعتهما خيّاميْن". [3]
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يجب ألا ندهش أن الرسول بولس يقيم مع صانعي الخيام أكيلا وبريسكلا يعملان معهما.
* كان الموضع مناسبًا له أفضل من قصر ملكي. لا تسخروا عندما تسمعون عن هذا العمل، فإنه من الأفضل له كمصارع أن يكون في الجمينازيم عن أن الأماكن المفروشة بالسجاد الفاخر؛ وكمحارب يستخدم سيفًا من الحديد وليس من الذهب. لنخجل إن كنا لا ننشغل بعمل كرازي ونعيش في بطالة[766].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أقام الرسول معهما وكان يعمل معهما بيديه لمعيشته، يصنع الخيام للرعاة، وربما الخيام الخاصة بالجنود، وهي إما من القماش أو الجلود أو شعر الماعز. وكما يقول د. لايتفوت أن اليهود كانوا يعلمون أولادهم مهنة يعيشون منها عند الضرورة، مهما بلغ تعليمهم أو مركزهم الاجتماعي. ويقول الربي يهوذا: "من لا يُعلم ابنه حرفة يكون كمن علمه أن يكون لصًا". وقال آخر: "من لديه حرفة معينة يشبه كرمة محصنة بسور". لم يكن يحتقر اليهود أية حرفة شريفة يعيش منها الإنسان. فشاول الطرسوسي مع كونه فريسيًا وتعلم عند قدمي غمالائيل تعلم منذ صباه حرفة صناعة الخيام، وصار يمارسها عند الضرورة.
كانت الكنائس تمده وله أصدقاء كثيرون، لكنه كان يفضل أن يعمل بيديه ليسد احتياجات معيشته، وأحيانا معيشة الذين معه. كان كسيده يود أن يخدم الآخرين لا أن يطلب منهم أن يخدموه.
ما كان يربط الرسول بهذين الشخصين ليس فقط عملهما كخيامين يمارسان ذات حرفته، وإنما ما حملاه من غيرة في الإيمان، والعمل لحساب ملكوت الله (رو 16: 3).
كان يعمل ليس فقط في كورنثوس، وإنما أيضا في أفسس (أع 20: 34)، وفي تسالونيكي (2 تس 3: 9-10). هنا نقف في دهشة أمام العمل الجبار الذي لا يستطيع مئات من الكهنة والكارزين أن يعملوه، قد تممه هذا الرسول ومع هذا وجد وقتًا للعمل بيديه لكي لا يمد يده يطلب الزمنيات لمعيشته.
إنها صورة رائعة للخادم عفيف النفس، الذي لا يطلب ما لنفسه، بل ما هو للآخرين، متنازلًا عن حقوقه أن يأكل من الإنجيل حتى لا يُعثر أحدًا. وقد أوضح الرسول فلسفته هذه وحكمته العجيبة في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس.
يقدم لنا القديس يوحنا كاسيان صورة حيَّة لنظرة الرهبان المصريين لأهمية العمل حتى في حياة الراهب، فيقول الأب إبراهيم:
[بفضل الزهد في كل غنى، نختار الحصول على قوتنا اليومي بعمل أيدينا، دون أن نعتمد على غنى أقربائنا، لئلا نميل إلى التأمل في الكتاب المقدس مع كسل، فتصير قراءتنا عقيمة. لكن الأفضل أن يكون لنا الفقر العامل. حقًا لو أن الرسل علمونا هذا بمثالهم أو رأينا هذا في قوانين آبائنا لكان هذا مبهجًا لنا.
هذا ويجدر بك أن تعلم أن هناك خطر آخر لا يقل عن السابق، وهو أنك تقتات بمعونة الغير وأنت سليم الجسد، قوي البنية، وهذا لا يليق إلا بالضعفاء... لذا يلزم بالكل أن يعيشوا بالعمل اليومي الذي من أيديهم، ويجدر بنا أن نعود إلى وصية المحبة التي أوصانا بها الرسول الذي يمنع مساعدة الأغنياء للكسالى، قائلًا: "فإننا أيضًا حينَ كُنَّا عندكم أوصيناكم بهذا أنه إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا" (2 تس 10:3).
هذه هي كلمات الطوباوي أنطونيوس التي نطق بها مع هذا الإنسان، وقد علمنا الطوباوي هذا بمثاله.[767]]
من أجل العثرة التزم الرسول بولس أن يعمل بيديه لأجل احتياجاته الضرورية له ولمن يعمل معه. لكن كما يقول القديس أغسطينوس: [يؤكد بولس الحقيقة أن زملاءه الرسل لم يخطئوا بأي حال عندما لم ينشغلوا بعملٍ يدويٍ لأجل إشباع احتياجاتهم الضرورية للحياة، وإنما كما وجههم الرب أن يعيشوا من الإنجيل. فقد قبلوا من الذين يخدمونهم روحيًا الأمور الجسدية دون أجرة، إذ قدموا لهم الروحيات بلا مقابل[768].]
كما يقول: [يقول بولس هذا (في 2 تي 2: 3-6) لكي يدرُك تيموثاوس أن ما يأخذه من أولئك الذين يحارب من أجلهم، ويزرع كرمهم، ويرعى قطيعهم، ليس هو صدقة من جانبهم، بل هو حق له[769].]
غير أن القديس يوحنا الذهبي الفم يؤكد أن الخادم الروحي يطلب الضروريات لا الكماليات، [أنت جندي روحي. مثل هذا الجندي، لا ينام على فراش من العاج، بل على الأرض. لا يدهن نفسه بروائح عطرية، فإن هذا من اهتمام الفاسدين الذين يغازلون الشريرات، والذين يمارسون التمثيل على المسارح، ويحيون بغير مبالاة[770].]
3. خدمته في المجمع
"وكان يحاج في المجمع كل سبت،
ويقنع يهودًا ويونانيين". [4]
كان يعمل طوال الأسبوع ربما ماعدا السبت والأحد، فيكرس السبت للعبادة مع اليهود في المجمع لكي يتحدث عن بشارة الإنجيل، والأحد للعبادة مع أكيلا وبريسكلا، وربما وجد أفرادًا قليلين مسيحيين يشاركونه العبادة.
كان يلتقي مع اليهود والدخلاء في الاجتماعات العامة يوم السبت في المجمع اليهودي، وربما كانت له لقاءات فردية مع بعضهم أثناء الأسبوع.
استطاع أن يقنع بعضًا من اليهود والدخلاء (اليونانيين الذين تهودوا) بالإيمان المسيحي.
"ولمّا انحدر سيلا وتيموثاوس من مكدونية،
كان بولس منحصرًا بالروح،
وهو يشهد لليهود بالمسيح يسوع". [5]
إذ طلب الرسول بولس سيلا وتيموثاوس حضرا من مكدونية ليصحباه مرة أخرى، إذ لم يكن ممكنًا أن يذهب هو إلى مكدونية، فوجداه منحصرًا بالروح، منشغلًا بالكرازة بالمسيح يسوع، بكونه المسيا الذي وعد الله به الآباء وكانوا يترقبون مجيئه.
إذ بقى الرسول سنة كاملة وستة أشهر يؤسس الكنيسة وافاه سيلا وتيموثاوس هناك ليعملا معه وسط مكائد اليهود. في اختصار قدم الرسول تقريرًا عن خدمته في كورنثوس بقوله: "وأنا كنت عندكم في ضعفٍ وخوفٍ ورعدةٍ كثيرةٍ، وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة..." (1 كو2: 3-4). إذ كان يحرص على عمل اليدين غير مبالٍ بالتعب والسهر كان يشهد للسيد المسيح، لا بكلمات فلسفية بل بقوة الروح.
* لو أن أسفارنا المقدسة اجتذبت الناس للإيمان لأنها مكتوبة ببلاغة ومهارة فلسفية، لقيل دون شك أن إيماننا قام على فن الكتابة وعلى الحكمة البشرية، وليس على قوة الله[771].
العلامة أوريجينوس
كما قال في رسالته إليهم: "لأننا لما أتينا إلى مكدونية لم يكن لجسدنا شيء من الراحة، بل كنا مكتئبين في كل شيء، من خارج خصومات، من داخل مخاوف، لكن الله الذي يعزي المتضعين عزانا" (2 كو 7: 5-6). وسط المر الذي عاشه الرسول في كورنثوس كانت تعزيات الله تسنده بعمل النعمة الإلهية فيهم إذ يقول: "بالتعزية التى تعزي بها (تيطس) بسببكم، وهو يخبرنا لشوقكم ونوحكم وغيرتكم لأجلي حتى إني فرحت أكثر" (2 كو7: 6-7).
في رسالته إلى أهل رومية أشار إلى كثيرين من كورنثوس (مقاطعة اخائية) معطيًا لكل منهم لقبًا خاصًا يعتز به الرسول. كما كان يعتز بأنه عمَّد كريسبس رئيس المجمع (1 كو 1: 14).
لم تمضِ شهور كثيرة حتى بعث من كورنثوس رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي إذ قام البعض بتأويل ما كتبه الرسول عن مجيء السيد المسيح الأخير.
4. خدمته في بيت يوستس
"وإذ كانوا يقاومون ويجدفون نفض ثيابه، وقال لهم:
دمكم على رؤوسكم،
أنا بريء،
من الآن أذهب إلى الأمم". [6]
كالعادة في بلاد كثيرة كان اليهود يقاومون الكلمة، فيعلن الرسول أنه بريء من دمهم وينطلق لخدمة الأمم والكرازة بينهم.
حقًا، لم يكونوا قادرين على الدخول في حوار مع الرسول، مع أنه كان يفتح لهم باب الحوار. كثيرًا ما يلجأون إلى التجديف وإساءة المعاملة للرسول عوض الحوار المفتوح معه، وربما وجد الرسول نفسه غير قادرٍ بعد أن يتحدث في المجمع بحرية، إذ أصروا على موقفهم، فنفض الغبار عن ثيابه إشارة إلى تبرئة نفسه منهم، معلنًا دينونة الله لهم بسبب عنادهم. فمن جانبه بذل كل الجهد وتمم ما يليق به أن يفعله. وأنه ليس لهم أن يلوموه إذ يتركهم ويكرز بين الأمم. هكذا صار سقوط اليهود غنى للأمم. وتحولت الخدمة إلى الأمم لإغارة اليهود (رو 11: 12، 14).
لعل نفض ثيابه أمامهم يشير إلى أن الله ينفضهم كالتراب المتعلق بثيابه، فلا موضع لهم بعد في كنيسته، التي هي ثوبه المقدس.
"فانتقل من هناك وجاء إلى بيت رجل اسمه يوستس،
كان متعبدًا للَّه،
وكان بيته ملاصقًا للمجمع". [7]
يوستس: كان بيته ملتصقا بمبنى المجمع، وكان أمميًا تقيًا، قبل الإيمان المسيحي. كان يعبد الله كما كان كرنيليوس، وربما تعرف على الله خلال اليهود، أما إن كان قد صار يهوديًا دخيلًا أم لا، فلا نعرف. وربما كان يستضيف بعض اليهود بعد خروجهم من المجمع كعمل محبة ويسمع لهم، خاصة الذين بدأوا يتجاوبون مع الرسول بولس في كرازته.
"وكريسبس رئيس المجمع آمن بالرب،
مع جميع بيته،
وكثيرون من الكورنثيين
إذ سمعوا آمنوا واعتمدوا". [8]
كريسبس: رئيس المجمع اليهودي، آمن بربنا يسوع، هو وكل أهل بيته. قبل كلمة الإنجيل بدراسته للكتاب المقدس (نبوات العهد القديم ورموزه) وغيرته على خلاص نفسه، وربما قام الرسول بعمادهم (1 كو 1: 14).
إيمانه هو وأهل بيته حتمًا سبب سخطًا في الدوائر اليهودية، كما شجع كثير من الكورنثيين على الإيمان بالسيد المسيح.
العجيب أن كورنثوس التي اتسمت بالفساد ضمت نفوسًا متعطشة لمعرفة الحق والتمتع بالخلاص، فإذ سمعوا بقبول كريسبس رئيس المجمع الإيمان آمنوا واعتمدوا بعد أن التقوا بالرسول بولس وسمعوا تعاليمه. لعلهم جاءوا أولًا بغرض حب الاستطلاع، لكن لقاءهم مع الرسول حوَّلهم إلى الجدية.
"فقال الرب لبولس برؤيا في الليل:
لا تخف، بل تكلم ولا تسكت". [9]