اعمال الرسل 5 - تفسير سفر أعمال الرسل
حنانيا وسفيرة الجزء(2)للقمص تادرس يعقوب ملطي
يرى لايتفوت Lightfoot أن "الآخرين" هنا تشير إلى بقية المائة والعشرين، إذ كان حنانيا أحدهم. وإن كان كثير من الدارسين لم يقبلوا هذا التفسير. يرى البعض أن الآخرين هنا هم مجموعة من المسيحيين واليهود التصقوا بالرسل على مستوى الصداقة أو حب الاستطلاع أو مجرد الدهشة لما يحدث، فخشوا أن تنكشف نياتهم الداخلية كما كشف الروح القدس ما يحمله حنانيا وسفيرة من غشٍ خفيٍ في القلب. ويرى آخرون أن تعبير الآخرين يشير إلى بقية الأغنياء وأصحاب السلطة الذين كان من بينهم حنانيا، فما حدث لحنانيا يُعتبر درسًا رادعًا لمن تسوله نفسه أن يخدع الرسل البسطاء. ويبرر أصحاب الرأي الأخير ذلك بأن القديس لوقا يميز بين هؤلاء الآخرين وبين الشعب في نفس الآية. فالآخرون هم الأغنياء والعظماء، بينما البقية هم عامة الشعب الذين في بساطة القلب لم يخشوا ما حدث، بل كانوا يعظمون الرسل. فما حدث لحنانيا هو مرعب للأغنياء العظماء وحدهم.
التصق الجميع معا بروح العبادة في رواق سليمان، وكانت الآيات والعجائب على أيدي الرسل تعطي قوة للشهادة. وكانت القيادات الدينية في موقف لا يحسدون عليه؛ فهم يخططون للإيقاع بهم وفي نفس الوقت يخشون الجموع، إذ آمن كثيرون علانية، كما أدركوا أن كثيرين في طريقهم للإيمان إلا أنهم يخشون المجاهرة بذلك خوفا منهم (أي من الرئاسات).
"وكان مؤمنون ينضمّون للرب أكثر،
جماهير من رجال ونساء". [14]
كان المسيحيون يدعون تلاميذ أو مؤمنين، لأنهم يتبعون السيد المسيح كمعلمٍ ومربٍ لهم، ولأن حياتهم تقوم على الإيمان به.
لقد فقد رؤساء الكهنة والكهنة الكثير من إيراداتهم، إذ تحول الكثيرون من تقديم ذبائح حيوانية ومالية للهيكل إلى خدمة الفقراء والمحتاجين، حيث كانوا يلقون بالمال عند أرجل الرسل. بجانب ذلك فقدوا أيضًا الكثير من مجدهم الزمني وسلطانهم الطاغي.
"حتى أنهم كانوا يحملون المرضى خارجًا في الشوارع،
ويضعونهم على فِرَش وأسرّة،
حتى إذا جاء بطرس يُخيم ولو ظلّه على أحدٍ منهم". [15]
كلمة فرش klinoon تشير عادة إلى الأسرة الفاخرة الناعمة التي غالبًا ما يستخدمها الأغنياء. هذا معناه أن كثير من الأغنياء المرضى كانوا راقدين على أسرّة في الشوارع في طريق القدّيس بطرس ومن معه من الرسل. وأما الأسرّة krabatoon، فتشير إلى الفراش الخشن الرخيص الذي يستخدمه الفقراء (مر 2: 4، 9: 11-12؛ يو 5: 8-12). فقد التقى الفقراء مع الأغنياء في الشعور بالحاجة إلى عمل اللَّه في حياة الرسل.
كانوا يحملون المرضى في الشوارع، ربما لأن الكهنة لم يسمحوا لهم أن يأتوا بهم إلى رواق سليمان، ولم يكن لدى الرسل من الوقت ليذهبوا إلى بيوت المرضى. كانوا يضعونهم على فرش وأسرة، ربما لأنهم كانوا عاجزين عن الوقوف أو الجلوس في الشوارع يترقبون مرور أحد الرسل.
صورة رائعة لعمل الله الذي لا يُحد بمكانٍ معين؛ أينما حلّ أولاد الله يتقدس الموضع بروح الله الساكن فيهم ليمارسوا عمل الله حتى في الشوارع.
ظل بطرس: وعد السيد المسيح تلاميذه أن باسمه يتممون العجائب التي يعملها وأعظم منها (يو ١٤: ١٢). فما فعله السيد أن المرأة نازفة الدم لمست هدب ثوبه فشُفيت، لأن قوة قد خرجت منه (مت ٩: ٢٠). أما بالنسبة لبطرس فوهبه السيد المسيح أن بظله يشفي الذين يرقدون في الشوارع على فرش وأسرة مرضى. لكن ما فعله السيد كان بقوته وسلطانه، أما ما تحقق ببطرس وغيره من الرسل فكان باسم يسوع الناصري. حقًا إنه لحساب مجد المسيح تمت المعجزات الأعظم.
السيد المسيح هو شمس البرّ (ملا ٤: ٢)، إذ يشرق بنوره على رسله فإن ظل الرسل يحمل قوة للشفاء، فماذا تكون الشمس ذاتها؟ لذلك يقول ملاخي النبي: "ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البرّ والشفاء في أجنحتها" (ملا ٤: ٣).
هذا وإن كان ظل بطرس يحمل تقديسًا ليعلن قوة الله بشفاء المرضى، كم بالأكثر يكون جسده نفسه؟! هكذا يقدم لنا السيد المسيح نظرة مقدسة للجسد، فلا نظن أنه عنصر ظلمة كما كان يظن الغنوصيون وأمثالهم. كل ما خلقه فينا الرب صالح يتقدس بعمل روحه القدوس فينا.
* هذا لم يحدث في تاريخ المسيح، لكن انظروا هنا ما قد أخبرهم قد تحقق أن الذين يؤمنون بي، فالأعمال التي أنا أعملها يعملونها هم أيضًا ويعملون أعظم منها (يو 14: 12)[257].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"واجتمع جمهور المدن المحيطة إلى أورشليم،
حاملين مرضى ومعذبين من أرواح نجسة،
وكانوا يبرأون جميعهم". [16]
إذ تقدس الرسل كان روح الله يعمل بهم حتى خلال ظلهم أو الخرق التي يضعونها على أجسامهم. إذ كان قلب الرسول متسعًا بالحب، مشتاقًا إلى راحة الجميع، لهذا كان يعمل بهم الروح القدس بكل وسيلة ليهبهم سؤل قلوبهم.
كما كان الرسل يشتاقون إلى خدمة الجميع، كان المؤمنون أيضًا من جانبهم في حالة إيمان ويقين أن الله يهب نعمه وخيراته خلال الكنيسة، فكانوا يأتون بالمرضى والمعذبين من أرواح نجسة من المدن المحيطة بأورشليم، وقد آمنوا أن الله يعمل ولو بظل الرسول. تحولت الشوارع إلى مستشفي عام ممتلئة بالمرضى، وامتلأت تسبيحًا وشكرًا لله على عمله معهم.
3. إلقاء الأيدي على الرسل
"فقام رئيس الكهنة وجميع الذين معه الذين هم شيعة الصدوقيين،
وامتلأوا غيرة". [17]
بينما كانت الكنيسة، خاصة الرسل، تمتلئ من الروح القدس (4: 8) للشهادة للسيّد المسيح واهب الخلاص للعالم، إذا بالعدو يقف بالمرصاد. وجد في أحد الخدّام المرائيّين، حنانيا، فرصة فملأ قلبه [3] ليكذب على الروح القدس واهب التوبة، وقائد موكب الكنيسة. الآن يعمل خلال رئيس الكهنة ومن معه (شيعة الصدّوقيّين) الذين ملأ الحسد (الغيرة) قلوبهم. لقد أعلنوا عداوتهم للسيّد المسيح ولإنجيله وكنيسته، فخطّطوا للقبض على الرسل، ولم يدركوا إنّما بهذا يقتلون أنفسهم. يُقال "الحسد يذبح السخفاء". لقد تصرّفوا في سخافة لا تليق بهم كقادة روحيّين.
لم يستطع رئيس الكهنة ومن معه من شيعة الصدوقيين أن يروا رواق سليمان قد اكتظ بجمهور المؤمنين بالسيد المسيح كما امتلأت الشوارع والميادين بالتسبيح والتشكرات التي يقدمها المرضى الذين تمتعوا بالشفاء. إن كانوا قد تخلصوا من يسوع الناصري بصلبه، فهوذا قد قام وتحولت الجماهير إلى الإيمان به.
كان الفريسيون يبغضون الصدوقيين بغضة شديدة، أشد تأصلًا في نفوسهم من مقاومتهم للمسيحيين. وقد استغل الرسول بولس ذلك حين وقف يحتج في غرفة المحاكمات بالهيكل (أع 33: 6-9).
لقد حسد رئيس الكهنة ورجاله والصدوقيون الرسل، وامتلأوا سخطًا عليهم، خاصة وقد أدركوا تزايد عدد القابلين للإيمان المسيحي، والذين لم يعودوا يبالون بسلطة مجمع السنهدرين.
"فألقوا أيديهم على الرسل،
ووضعوهم في حبس العامة". [18]
بدأت حرب عدوّ الخير في الداخل كما في الخارج مبكّرة جدًا، منذ بدء انطلاق الكنيسة. هذه هي المرّة الأولى التي فيها أُلقي الرسل في السجن؛ قبلًا اكتفى القادة بتهديد الرسولين بطرس ويوحنّا (أع4: 21)، أما الآن فألقوا القبض على الرسل وسجنوهم في الحبس العام. لم يبالِ رئيس الكهنة ومن معه بما يحدث إن ألقوا القبض على الرسل، فإنهم حسبوا أنه لن يحدث لهم أسوأ مما هم عليه.
أُلقي القبض عليهم ووُضعوا في السجن، حتى لا يلتف الشعب حولهم. هذا وبإلقائهم في الحبس العام يجعلونهم في عارٍ مع المجرمين، فلا يعود الشعب يعظمهم.
غالبًا ما يقصد برئيس الكهنة قيافا، وجميع الذين معه، أي الحاملين ذات أفكاره من جهة كراهيته للسيد المسيح وعدم قدرته أن يرى الكرازة بالإنجيل تنتشر. وأما الصدوقيون فكانوا في ذلك الوقت يمثلون غالبية في مجمع السنهدرين، قادرين على أخذ القرار. وقد التجأ إليهم رئيس الكهنة، ولم يلتجئ إلى الفريسيين الذين أخذوا دورًا خطيرًا في مقاومة السيد المسيح ومحاكمته، ذلك لأن الفريسيين مع كراهيتهم للسيد المسيح إلا أن الكرازة بقيامته تحطم تعاليم الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة من الأموات. لهذا السبب لم يكن الفريسيون متحمسين لمقاومة الرسل.
"ولكن ملاك الرب في الليل فتح أبواب السجن،
وأخرجهم وقال". [19]
جاء التعبير اليوناني هنا يشير إلى أحد الملائكة وليس إلى ملاكٍ معينٍ.
إذ ملأ عدوّ الخير قلوب رئيس الكهنة ومن معه بالغيرة الشرّيرة، أحكم إغلاقها حتى يملك عليها تمامًا، ويسيطر بظلمته عليها، فيقاوموا نور الإنجيل المفرح. وقد ظن هؤلاء أنّهم قادرون على حبس الرسل في عارٍ وفضيحة وإغلاق الأبواب أمامهم لكي لا يلتقوا بأحدٍ، ولم يدركوا أن الرب حال فيهم، والسمائيّون يشتهون العمل لحسابهم في الرب. لا يوجد سجن مظلم وأبوابه محكمة وحرّاسة أقوياء أمام الرب. فكما لم يستطع القبر أن يحبس جسده، ولا الجحيم أن تغلق أبوابها على نفسه، هكذا لا تستطيع سجون العالم أن تحبس جسده، الذي هو الكنيسة.
أغلقوا عليهم في السجن، فانفتحت أمامهم أبواب السماء. لم يكن ممكنًا للعالم أن يقيد كلمة الله، إذ أرسل السيد المسيح ملاكه، وفتح أبواب السجن وأخرجهم، وطلب منهم أن يتكلموا في الهيكل مجاهرة. في وسط ظلمة الليل، انفتحت أبواب الظلمة، السجن، إذ لم يكن ممكنًا أن تقيد أبناء النور وتحبسهم.
خرجوا ليشهدوا لقيامة السيد المسيح، لا ببراهين خارجية، بل في أجسادهم حيث انحلت عنهم القيود، وتركوا السجن فارغًا والأبواب مغلقة، كما خرج الرب من القبر والحجر عليه بختومه.
وقفت قوات الظلمة تحاربهم، وحارب أب الأنوار لحسابهم، فأرسل ملاك النور يظهر براءتهم أمام مقاوميهم كما أمام الشعب. لن يقف الرب مكتوف الأيدي ولا يتخلى عن الشاهدين له بل يعزيهم ويدافع عنهم ويحملهم كما بذراعيه!
لم يكن ممكنًا لأبواب السجن وحصونه المنيعة ولا للقيود ولا للحراس بكل أسلحتهم أن تقف أمام ملاك الرب السماوي.
"اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل،
بجميع كلام هذه الحياة". [20]
ظهور الملاك وخروجهم من السجن كان من أجل القيادات اليهودية القادمة لتدرك أنها إنما تقاوم ملك السماء باطلًا، وأن كل مقاومة حتمًا تحقق مجدًا لانجيل المسيح. وفي نفس الوقت يعطي دفعة للرسل وللمحيطين بهم للعمل بالأكثر لحساب ملكوت الله. هذا وأن ما حدث يؤكد للشعب صدق الإنجيل وتحقيق مواعيده.
كانت الرسالة الصادرة للرسل هي الشهادة العلنية في الهيكل، أي في بيت أبيهم، الذي تشتهي السماء ألا يخرب، بل يبقى مصدر إشعاع للحب الإلهي وكرازة بالخلاص للعالم كلّه.
وجّهتهم السماء إلى الكرازة للشعب، وليس للكهنة ولا للقيادات التي تهوى الحوار الغبي، وتحمل في الداخل مقاومة غبيّة للحق، مع كبرياء واعتداد بالذات. إنها تطالبهم للكرازة للشعب، فإن كل نفس ثمينة في عينيّ اللَّه دون تمييز بين القادة والشعب.
تسألهم السماء أن ينطقوا "بجميع كلام هذه الحياة"، أي الحياة الأبدية. كلمة "الحياة" هنا تحوي الإيمان كله الذي غايته الدخول إلى الحياة الأبدية. أي يقدّموا خبرة قيامتهم مع المسيح، وتمتّعهم بالحياة السماويّة الجديدة، التي لم يكن ممكنًا لرئيس الكهنة ومن معه أن يذوقوها، مادام عدوّ الخير قد ملك بالحسد على قلوبهم. موضوع كرازتهم ليس التباهي بالمعجزات، ولا قدرة السماء على فتح أبواب السجن، ولا الدخول في مناقشات غبيّة، وإنّما تقديم خبرة عذوبة الحياة في المسيح يسوع كما يعيشونها تحت أي ظرف وفي أي موضع.
لم يخرجوا من السجن لكي يهربوا إلى موضع آمن، بل لينطلقوا إلى الهيكل يسبحون الله، ويشهدون للحق. لقد خرجوا لتترنم نفوسهم، قائلة: "لتُحي نفسي وتسبحك وأحكامك لتُعني" (مز 119: 175). "اخرج من الحبس نفسي لتحميد اسمك؛ الصديقون يكتنفونني، لأنك تحسن إليّ" (مز 142 : 7). "لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين، من بيت السجن الجالسين في الظلمة (إش 42 : 7).
"فلما سمعوا دخلوا الهيكل نحو الصبح،
وجعلوا يعلِّمون.
ثم جاء رئيس الكهنة والذين معه،
ودعوا المجمع وكل مشيخة بني إسرائيل،
فأرسلوا إلى الحبس ليُؤتى بهم". [21]
ظن رئيس الكهنة ومن معه أنّهم قد أحكموا الخطّة، وأنّهم قد قضوا تمامًا على هذه الحركة الجديدة، فدعوا المجمع وكل المشيخة لاستعراض بطولتهم في العمل، وغيرتهم على مجد إسرائيل. يقدّر البعض عدد الحاضرين بمائة وستة عشر قاضيًا.
لو أن الرسل كانوا قد هربوا من السجن، لكانوا قد اختفوا حتى لا يُلقى القبض عليهم، أما أن يعودوا للتعليم داخل الهيكل، فلا تفسير له سوى أن خروجهم كان بقوة سماوية تتحدى القوات المقاومة، لا تهاب السجن أو القيود.
لم يخرج الرسل من السجن ليكرزوا في مكانٍ خفيٍ بعيدٍ عن الهيكل، لكن صدر إليهم الأمر من السماء أن يذهبوا إلى الهيكل ليكرزوا علانية وسط الجماهير. تريد السماء أن تعطي لليهود فرصة جديدة لاستخدام بيت الرب في الشهادة لله وعمله الخلاصي، بعد أن صيروه بيت تجارة ومغارة لصوص.
لقد انطلقوا في الصباح المبكر إلي الهيكل دون دخولٍ في حوارٍ فيما بينهم، لأن الأمر صادر من السماء للعمل لحساب ملكوت الله، وللشهادة بجميع كلام الحياة الأبدية. ليس من وقت لأي حوار فيما بينهم، بل الوقت مقصر والأيام شريرة، فيلزم استغلال كل فرصة للعمل الكرازي. صاروا يعلمون في رواق سليمان عن خلاص كل نفس، وعن عمل الله من أجل البشرية. لم يتحدثوا عن أنفسهم كأبطال احتملوا السجن، وإنما عن الله كمحبٍ للبشر.
"ولكن الخدام لمّا جاءوا لم يجدوهم في السجن،
فرجعوا وأخبروا". [22]
غالبًا ما قدّم رئيس الكهنة خطابًا افتتاحيًا حماسيًا يقدّم فيه موجزًا لأعماله وجهاد من معه في حسم الموقف. وإذ انتهى الخطاب، دخل خدّام الهيكل يقدّمون نبأ عدم وجود الرسل في الحبس العام. ظن رئيس الكهنة أنّه ومن معه في أوج عظمتهم، فقد سحقوا هذه البدعة، ولم يدركوا أن الساكن في السموات يضحك، الرب يستهزئ بهم" (مز 2: 4). لقد صاروا في حالة إحباطٍ شديدةٍ وأصاب الخزيّ وجوههم.
"قائلين إننا وجدنا الحبس مغلقًا بكل حرص،
والحراس واقفين خارجًا أمام الأبواب،
ولكن لمّا فتحنا لم نجد في الداخل أحدًا". [23]
التأم مجمع السنهدرين ومعه كل مشيخة بني إسرائيل، وإذ طلبوا الرسل لمحاكمتهم فوجئوا بالسجن فارغًا والأبواب مغلقة والرسل غير موجودين. الآن حدثت معجزة لها خطورتها، فقد بلغ التحدي بين اتباع المصلوب وصالييه الذروة.
عجيبة هي أعمال اللَّه، فإنّه فتح أبواب السجن، وأخرج الرسل معًا بواسطة ملاكه، بينما كان الحرّاس واقفين. ألم يروا الملاك يفتح الأبواب؟ ألم يروا البواب مفتوحة؟ وكيف يخرج هذا العدد ولم يروهم؟
وجود الحبس مغلقًا، أي الأبواب سليمة لا معنى له سوى تدخّل السماء في الأمر، لأنّه ما كان يمكن للشعب أو لأصدقاء الرسل أن يخرجوهم من الحبس دون كسر الأبواب أو هدم الأسوار والدخول في معركة مع الحرّاس. لكن شيئًا من هذا القبيل لم يحدث.
لو أن الحرّاس تعاطفوا معهم أو أخذوا رشوة لما وقفوا في حراسة مشدّدة والحبس فارغ.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما حدث هنا يشبه ما حدث في قبر السيد المسيح، فقد كانت الأختام موضوعة والحراس ساهرين والقبر فارغًا، لأن يسوع قام. هكذا وهب تلميذيه أن ينطلقا ويبقى السجن كأنه قبر فارغ بينما كانت الأبواب مغلقة والحراس واقفين خارجًا!
هذا هو عمل القيامة اليومي في حياة الكنيسة، فالعالم مصمم أن يدفنها في مقبرة، أو يكتم أنفاسها في سجنٍ، لكن تبقى الأختام موضوعة والحراس واقفين خارجًا وتنطلق الكنيسة للشهادة للقائم من بين الأموات.
جاءت شهادة الجند أن أبواب السجن مغلقة، حتمًا كان خروجهم بيدٍ إلهيةٍ تتحدى قوانين الطبيعة. ليس من خيانة ولا رشوة، فالحراس كانوا واقفين في الخارج في يقظة وتحفظ، ليس من يقدر أن يدخل سوى قائد جند الهيكل ومعه جنوده.
* لاحظوا كيف أنهم يحاربون الله! قولوا لي هل ما حدث معهما هو من عمل إنسان؟ من الذي أطلقهما بينما كانت الأبواب مغلقة؟ كيف خرجوا والحراس واقفون خارجًا أمام الباب؟ حقًا إن الذين يقولون هذا هم مجانين أو سكرى. هنا أناس لم يقدر السجن ولا القيود ولا الأبواب المغلقة أن تحبسهم في الداخل، ومع هذا يظنون أنهم يقدرون أن يغلبوهم، يا لها من غباوة طفولية! لقد جاء خدامهم (الجند) واعترفوا بما حدث، وكأنهم عن عمدٍ يحذروهم من كل تصرف بدون تعقل[258].
القديس يوحنا الذهبي الفم
4. تهمة الاسم
"فلما سمع الكاهن وقائد جند الهيكل ورؤساء الكهنة هذه الأقوال،
ارتابوا من جهتهم ما عسى أن يصير هذا". [24]
رجع الخدام أو جند الهيكل في عارٍ وخزيٍ، لأن الساكن في السماوات الرب يستهزئ بهم (مز 2: 4). يمكن أن نتصور رئيس الكهنة كرئيس لمجمع السنهدرين وقد اجتمع بالأعضاء باكرًا في جدية، في استخفافٍ عن الجليليين الأميين البسطاء، وحسبهم أنهم في خزيٍ وعارٍ لأنهم في السجن العام، وأن هذه الحركة لن تدوم! لكن سرعان ما عاد الجند في خيبة أملٍ، فأبواب السجن مغلقة والمتاريس سليمة والحراس في يقظة يحرسون السجن، وكل المساجين في أماكنهم أما الرسل فغير موجودين!
حتمًا حدث ارتباك عظيم، كل يقدم ظنونه وأفكاره: ألعلهم سحرة استطاعوا الخروج من السجن والأبواب مغلقة؟ أو لعلهم رشوا حارس السجن وهربوا؟ وإلى أين يهربون؟ هل انطلقوا خارج أورشليم ليكرزوا من وراء أعيننا؟ ألعلهم رجال الله وما نفعله هو مقاوم للحق؟
"ثم جاء واحد وأخبرهم قائلًا:
هوذا الرجال الذين وضعتموهم في السجن هم في الهيكل،
واقفين يعلِّمون الشعب". [25]
سقط أعضاء المجمع وشيوخ إسرائيل في حالة ارتياب وحيرة، ما عسى أن يكون الأمر. هل توجد خيانة بين المسئولين عن السجن. وكيف يمكن لخائنٍ أن يتمم خطته دون اكتشافها؟ ثم كيف خرجوا؟ هل اخترقوا الجدران؟ هل هذا عمل سماوي فائق؟ ثم ما موقف المجمع ومن معه؟
"حينئذ مضى قائد الجند مع الخدام،
فأحضرهم لا بعنفٍ،
لأنهم كانوا يخافون الشعب لئلاّ يُرجموا". [26]
بلا شك بدأت قصة خروجهم على يد ملاك الرب تنتشر، وتجمهر الشعب حولهم. أما قائد الجند مع الخدام فأحضر الرسل بغير استخدام العنف خوفًا لئلا يرجمهم الشعب. لم يخشوا مقاومتهم لله والحق، إنما خشوا على أنفسهم من الشعب.
لم يستخدموا اللطف في استدعائهم للمجمع عن توقير للهيكل وقدسيّته، ولا عن احترام للقانون ألا يستخدموا العنف حتى تثبت الاتهامات ضدّهم، ولا لأنّهم خشوا غضب السماء فيحل عليهم ما حلّ على رئيس الخمسين، الذي أراد استدعاء إيليّا بالعنف، فنزلت نار من السماء وأكلته هو والخمسين الذين له (2 مل 1: 10). وتكرّر الأمر مع رئيس الخمسين الآخر ومن معه (2 مل 1: 12).
لم يستغل الرسل الفرصة، فيقاومون قائد جند الهيكل، معتمدين على إمكانية قيام الشعب بالثورة ضده هو وجنوده، لكن إذ طلب القائد الذهاب معهم لاستجوابهم انطلقوا معه في بساطة قلب. إنها فرصة رائعة للشهادة من جديد أمام مجمع السنهدرين!
* يا لهم من أغبياء! يقول: "كانوا يخافون الشعب" [26]. لماذا؟ كيف كان يمكن للشعب أن يسندوا التلاميذ؟ مع أنه كان يجب عليهم أن يخافوا الله الذي كان يخلصهم على الدوام كأنهم خليقة مجنحة وينقذهم من سلطانهم، لكنهم عوض هذا "كانوا يخافون الشعب"[259].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فلما أحضروهم، أوقفوهم في المجمع،