الرؤيا 2 - تفسير سفر الرؤيا
رسائل إلى أربع كنائس الجزء(2)للقمص تادرس يعقوب ملطي
3. حال الكنيسة
"أنا عارف أعمالك وأين تسكن حيث كرسي الشيطان،
وأنت متمسك باسمي ولم تنكر إيماني
حتى في الأيام التي فيها كان أنتيباس شهيدي الأمين،
الذي قٌتل عندكم، حيث كرسي الشيطان يسكن" [13].
يعرف الرب الظروف القاسية التي تجتازها هذه الكنيسة،إذ توجد حيث يقيم "الروح الشيطاني"، لهذا فإن الرعاية فيها صعبة ومؤلمة.
لكن أذكروا أن عندكم "أنتيباس الشهيد الأمين"،شاهدًا أنه يمكن للمؤمن أن يثبت إلى الموت من أجل الإيمان مهما تكن الظروف قد حدثنا المؤرخ أندريا عن هذا الشهيد كشخصٍ معروف لديه وأنه استشهد حرقًا، وقد عرض عليه أن ينقذوه فأبى.
إذن في وسط الظروف القاسية يوجد من بينكم شهداء أشهد لهم عن أمانتهم.
"لكن عندي عليك قليل.
أن عندك هناك قومًا متمسكين بتعليم بلعام
الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل
أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا.
هكذا عندك أنت أيضًا قوم متمسكون بتعاليم النيقولاويين الذي أبغضه"[14-15].
كعادته يوبخ بحزم، لكن في لطف "عندي عليك قليل". أما تعليم النيقولاويين فقد سبق التعرض له. غير أنه في هذه الكنيسة بدأت جماعة تتقبل هذه التعاليم الغريبة دون أن تبلغ إلى تنفيذ المبادئ، وهؤلاء يعثرون الكنيسة كما أعثر بالاق الشعب قديمًا (عد 25: 1، 2، 3؛ 31: 16).
وهنا نلاحظ الآتي:
أ. يبدأ بالتوبيخ على أكل ما ذبح للأوثان قبل الزنا [14]. لأنه كما يقول لنا الآباء[37] أن خطية النهم يتبعها حتمًا سقوط في الزنا.
ب. عندما يؤدب كنيسته على تعاليم النيقولاويين يكفيه أن يقول لها إن القوم متمسكون بما يبغضه. وهذا يكفي دون حاجة إلى مجادلة أو مباحثة لأنه يلزم ألا يتمسك بما يبغضه ولا تتراخي عما يحبه.
ج. يوبِّخ الرب الراعي بسبب القلة المنّحرفة، وكما يقول القديس أغسطينوس:[إننا (كأساقفة) نوبَّخ بسبب جرائم الأشرار، وليس بسبب جرائمنا، بالرغم من أن بعضًا منهم لا يعرفوننا[38].]
4. العلاج والمكافأة
"فتب وإلاّ فإني آتيك سريعًا وأحاربهم بسيف فمي.
من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس.
من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المنّ المخفي،
وأعطيه حصاة بيضاء،
وعلى الحصاة اسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذي يأخذ" [16-17].
يلتزم الأسقف أن يتوب سريعًا من أجل خطايا هؤلاء القلة وانحرافهم، لأنهم أولاده وهو مسئول عنهم أمام الله. أما مكافأة الغلبة على هذه العثرات فهي أكل المنّ المخفي!
يا للعجب أن الله يقدم لنا جسده ودمه الأقدسين، المنّ السماوي (يو 6: 49-51)، لنتناوله عربونًا. إنه يمتعنا ونحن على الأرض بغذاء الغالبين السماوي.
يا لها من مكافأة عظيمة ينالها الكاهن والشعب عندما يتقدمون بعد جهاد طويل وأتعاب في الحياة ومثابرة في العبادة لينعموا بجسد الرب السرائري، وكأس الخلاص، في وحدة الحب للشركة والثبوت في الله!
وفي نفس الوقت بتناول هذا المنّ تبتهج النفس فتعوف كل تعليم غريب يقدم لذات أرضيّة وإباحيات كتعليم النيقولاويين. لهذا تحرص الكنيسة أن تغذي أولادها منذ طفولتهم بالمنّ المخفي كمكافأة لهم وكدواء.
هذا عن المنّ المخفي. أما الحصاة البيضاء فكما يقول القديس إيرونيموس إنها جوهرة تضيء ليلًا كضياء النهار، وهو بهذا يشير إلى الكلمة المتجسد. هذا هو مكافأتنا لا نقبل عنها بديلًا.
ويرى ابن العسال أن الحصاة أو الفص الأبيض يشير إلى الملكوت المكتوب عليه بلغة روحيّة جديدة لا يعرفها إلا أبناء الملكوت. ويرى البعض أنها الحصاة البيضاء التي كان يستخدمها القضاة الرومان واليونان لإعلان براءة المتهم. وظن البعض أنها أحد الحجارة الكريمة الموضوعة على صدر الحبر الأعظم (خر 28؛ لا 8).
أما الاسم الجديد فلا يعرفه إلا الذي يأخذ، لأن الفرح الداخلي السماوي "لا يشاركه غريب" (أم 14: 10)، ولا يدركه إلاّ من يحيا فيه ويتذوقه.
إذن المنّ المخفي والحصاة البيضاء والاسم الجديد هي إعلانات عن تمتع الغالب بالرب يسوع خبزنا السري وغنانا وفرحنا الذي فيه يستريح قلبنا.
ويرى الأسقف فيكتوريانوس أن:[المنّ المخفي هو الخلود، والحصاة البيضاء هي التبني لله، والاسم الجديد المكتوب على الحصاة هو "مسيحي"].
4. إلى ملاك كنيسة ثياتيرا[39]
1. من هو؟
"واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في ثياتيرا"، وهو القديس إيريناؤس تلميذ القديس بوليكاربوس وثاني من فسر السفر. كان حارًا بالروح وقد أساءت إليه إيزابل كما سنرى.
2. وصف الرب
"هذا يقوله ابن الله الذي له عينان كلهيب نار،
ورجلاه مثل النحاس النقي"[18].
إذ تسللت إيزابل بين الشعب تبث سمومها، لهذا يقدم الرب نفسه عينين ملتهبتين حتى يتفطن الراعي لكل صغيرة وكبيرة تمس حياة أولاده، وكرجلين من نحاسٍ حتى يحطم بكل حزم كل شر.
يقول ذهبي الفم:[يلزم أن يكون الأسقف حذرًا، له ألف من الأعين حوله، سريع النظر، أعين فكره غير مظلمة[40].] يلزمه أن يكون متيقظًا جدًا، حارًا في الروح، كما لو كان يستنشق نارًا. يلزمه أن يكون حريصًا على الكل ومهتمًا بالجميع.
أما عن الحزم فيقول القديس الدرجي: [من يرعى الخراف يلزمه ألاّ يكون أسدًا ولا نعجة.]
3. حال الكنيسة
"أنا عارف أعمالك ومحبتك وخدمتك وإيمانك وصبرك
وأن أعمالك الأخيرة أكثر من الأولى"[19].
هنا أيضًا يعرض محاسن الكنيسة الكثيرة وفضائلها ويكشف أنه لا ينسى أعمالها ومحبتها وخدمتها وإيمانها وصبرها ونموها المستمر. والعجيب أنه يضع الأعمال والمحبة والخدمة قبل الإيمان، لأن الله لا يقبل الإيمان النظري الجاف، ولا يميز الإيمان عن الأعمال أو العكس.
يعود الرب كعادته فيكشف الضعف قائلًا: "لكن عندي عليك قليل" وما هو هذا القليل؟ "أنك تسيب المرأة إيزابل التي تقول إنها نبيّة، حتى تعلم وتغوي عبيدي، أن يزنوا ويأكلوا ما ذبح للأوثان"[20]. ومن هي إيزابل هذه؟
أ. قيل إنها زوجة الأسقف كما جاء في النص اليوناني والسرياني "تسيب امرأتك إيزابل"، إذ اقتفت آثار إيزابل (1 مل18: 19) مدعية أنها خادمة وهي تبث فكر النيقولاويين.
ب. أنها سيدة وثنية ادعت المسيحية، وأظهرت غيرة في العبادة، مما جعل الأسقف يستأمنها على بعض الخدمات في الكنيسة فصارت تفسد وتضلل.
ج. إنها سيدة مسيحية غنية، استخدمت غناها ونفوذها في التضليل.
د. يرى القديس أبيفانيوس أنها إشارة إلى تلميذات للمبتدع فنتانيوس وأسماؤهن: بريسكلا ومكسيملا وكنتيلا.
ه. إنها إشارة إلى جماعة من المبتدعين وقد دُعيَت إيزابل لمشابهتهم لها في الآتي:
أولًا: كما أفسدت إيزابل حكم آخاب، يفسد هؤلاء الأعمال الرعوية ببث الأفكار الغريبة.
ثانيًا: أنها كافرة ووثنية في فكرها الداخلي تدفع الآخرين تجاه الشر.
ثالثًا:أنها قاتلة للأنبياء وباغضة لهم.
رابعًا:تبث روح الزنا، إذ تفسد أذهان البسطاء وتدفعهم للزنا الروحي.
4. العلاج
أ. بالنسبة لإيزابل وعشاقها: "وأعطيتها زمانًا لكي تتوب عن زناها ولم تتب"[21].
يا لطول أناة الله! رغم ما صنعته من شرور في داخل الكنيسة مفسدة أذهان الكثيرين، لكنه كأب يهبها فرصًا للتوبة، وربما أطال في عمرها لعلها في شيخوختها تتفطن للحق لكنها كانت مصرة على الشر.
لهذا يؤدبها بالمرض قائلًا: "ها أنا ألقيها في فراش، والذين يزنون معها في ضيقة عظيمة، إن كانوا لا يتوبون عن أعمالهم".ليس لأجلها هي وأولادها بل ولأجل الباقين حتى لا ينحرفوا معها إذ يقول: "وأولادها اقتلهم بالموت، فستعرف جميع الكنائس إني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب، وسأعطي كل واحد حسب أعماله"[22-23].
وهذا عربون ما ينالونه في يوم الدينونة كقول الرسول: "أم تستهين بغنى لطفه وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة. الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله" (رو 2: 4-6).
ب. بالنسبة للباقين: "ولكنني أقول لكم وللباقين في ثياتيرا".
"الواو" قبل "للباقين" ليست للعطف بل للاختصاص، فكأنه يقول "أقول لكم أنتم الباقين في ثياتيرا الذين ليس لهم هذا التعليم" أي لم يسيروا وراء إيزابل.
أما قوله "والذين لم يعرفوا أعماق الشيطان كما يقولون" فسببه أن الغنوسيين المبتدعين ادعوا معرفة الأمور الإلهية أكثر من غيرهم، كما نادوا بضرورة اختبار حياة الشر والخير حتى يتعرف الإنسان على أعماق الشيطان.
هؤلاء الباقون يحدثهم قائلًا: "إني لا ألقي عليكم ثقلًا آخر. وإنما الذي عندكم تمسكوا به إلى أن أجيء"[24-25].وكما يقول الأسقف فيكتورينوس إنه لا يقدم لهم شرائع أخرى وواجبات كحمل أثقل. يكفيهم أن يتمسكوا بها عندهم حتى يجيء الرب. إنه بهذا يعلن لهم حبه أنه لا يريد الإثقال عليهم، كما يحثهم على المثابرة إلى النهاية.
5. المكافأة
إن مقاومة الأسقف لإيزابل وأتباعها قد يسبب إزعاجًا في الكنيسة، وربما يظن البعض أن مركز الأسقف يهتز، لكن الرب يؤكد العكس قائلًا: "ومن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية، فسأعطيه سلطانًا على الأمم، فيرعاهم بقضيبٍ من حديدٍ كما تكسر آنية من خزف، كما أخذت أنا أيضًا من عند أبي"[26-27].
هذا السلطان يوهب للأسقف بالرب يسوع الذي خاطبه الآب قائلًا: "اسألني، فأعطيك الأمم ميراثك لترعاهم بقضيب من حديد ومثل آنية الفخار تسحقهم" (مز 2).
وإذ يقاوم أعمال إيزابل إلى النهاية بغير كلل ولا خوف، يتمتع بالرب يسوع نفسه كوعد الرب "وأعطيه كوكب الصبح"[28]الذي يبدد أعمال إيزابل المظلمة.
وكما يقول الأسقف فيكتورينوس: [لقد وعد بكوكب الصبح الذي ينزع الليل ويعلن النور، أي بداية النهار.]
يكفي لمن يبتر الشر أن يتمتع بربنا يسوع الكوكب المنير (رؤ 22: 16).