لوقا 6 - تفسير إنجيل لوقا
الصديق المعلِّم للقمص تادرس يعقوب ملطي
كان اليونانيُّون يحبُّون أن يسمعوا على الدوام شيئًا جديدًا لإشباع الفكر لكن بدون جدوى، أم المعلِّم السماوي فقبْلَ أن يقدِّم التعليم الجديد قدَّم الإمكانيّة الجديدة، فرفع الإنسان فوق الحرف القاتل بإعلانه عن نفسه أنه رب السبت، فيه لا ينحني المؤمن لحرفيَّة حفظ السبت بطريقة جافة، بل يحمل قوَّة الروح؛ كما شفى صاحب اليد اليُمنى اليابسة ليُطلِقها للعمل الروحي، واختار الاثنى عشر تلميذًا للكرازة والعمل، عندئذ قدَّم عظاته وتعاليمه.
1.المسيح رب السبت
1-5.
2. شفاء اليد اليُمنى
6-11.
3. دعوة التلاميذ
12-16.
4. تعاليمه
أ. حديث شخصي للمتألِّمين
17-26.
ب. دعوة حب فائق
27-46.
ج. الحاجة للبناء على الصخر
47-49.
1. المسيح رب السبت
ذكر الإنجيليُّون الثلاثة: متَّى (12: 1)، ومرقس (2: 43) ولوقا كيف كان قوم من الفرِّيسيِّين يمثِّلون جوًا من المعارضة للسيِّد، فإنَّهم إذ رأوا التلاميذ في جوعهم يقطفون السنابل ويأكلونها وهم يفركونها بأيديهم حسبوا ذلك كسرًا للناموس، إذ حسبوهم كمن قاموا بعمليَّتيّ الحصاد والدرْس بطريقة مصغَّرة. لذلك احتجُّوا قائلين: لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت؟ وإذ سبق لنا الحديث عن ذلك في دراستنا لإنجيلي متى ومرقس، لنا هنا بعض الملاحظات التاليّة:
أولًا: يذكر الإنجيلي لوقا: "وفي السبت الثاني بعد الأول" [1]، ماذا يعني بهذا؟
اختلف الدارسون في تفسير هذه العبارة، ويمكن تلخيص آرائهم في الآتي:
أ. يقصد بالسبت الأول عيد الفصح اليهودي، والثاني بعده يقصد به عيد الباكورات أو الخمسين، عيد الأسابيع (سبعة أسابيع من بدء الفصح)، والذي يوافق السادس من شهر سيوان (حزيران).
ب. إذ جاءت الترجمة عن اليونانيّة: "السبت الثاني بعد الأول"، لهذا يرى البعض أنه يقصد السبت الثاني بعد الفصح، وبالتالي يكون السبت الأول بعد عيد الفطير[205]، ويُعرف بسبت "العومر" أو سبت "الأغمار".
ج. ربَّما يعني بالسبت الأول هو سبت الشهر الأول من السنة اليهوديّة، بينما السبت الثاني هو سبت الشهر الثاني. أو أن السبت الأول هو السبت الذي يقع فيه رأس السنة المدنيّة (شهر تشري، أو تشرين الأول أو ليثانيم) بينما السبت الثاني هو الذي يقع فيه رأس السنة الدينيّة (نيسان[206])
د. يري البعض أن السبت الثاني يعني أول سبت يقع في السنة الحوليّة، أي في السنة السابقة بعد سنة اليوبيل.
ه. الرأي الأرجح لدى كثير من المسيحيِّين هو السبت الثاني بعد عيد الفصح مباشرة.
و. يرى بعض الآباء المهتمِّين بالتفسير الروحي أن السبت الأول يشير إلى السبت الناموسي بمفهومه الحرفي اليهودي، وأن السبت الثاني هنا إنما هو السبت الجديد، حيث انطلق بنا السيِّد من الراحة الحرفيّة الجسديّة إلى الراحة الحقيقية فيه خلال إنجيله. لذلك ما فعله تلاميذه حيث اجتاز بهم إلى الحقول، إنما يشير إلى الدخول بهم إلى حقول أسفار العهد القديم ليقتطفوا سنابل الرموز والنبوات، ويفركونها بروحه القدِّوس، ليجدوا فيها طعام الروح الإنجيلي واهب الشبع الحق.
يمكننا أيضًا أن نقول بأن ما فعله التلاميذ كان باسم الكنيسة كلها حيث تدخل بالروح القدس إلى المذبح الإلهي، لتتقبَّل سنبلة "الإفخارستيا" كعطيّة إلهيّة تقتات بها، لكي تبلغ إلى الكمال، فتتهيَّأ للمسيح يسوع عريسها الأبدي[207]. ويرى القديس أمبروسيوس[208] أن السيِّد المسيح قاد تلاميذه كما إلى حقل هذا العالم الحاضر لينعموا بثمار الكنيسة التي هي من عمل روحه القدِّوس خلال الخدمة الرسوليّة. فقد جاع التلاميذ إلى خلاص البشر وأرادوا التمتَّع بحصاد الروح، الأمر الذي رفضه اليهود.
ثانيًا: كان تساؤل الفرِّيسيِّين "لماذا تفعلون ما لا يحلْ فعله في السبوت؟" [2]، كما قلنا ليس عن غيرة على الشريعة، وإنما بدافع النقد وتشويه خدمة السيِّد المسيح، وكانت إجابة السيِّد المسيح لهم لا لإفحامهم، إنما بالحري للكشف عن أسرار العهد الجديد، لعلَّهم يُدركون الحق ويرجعون إليه. أراد السيِّد بإجابته أن يرفعهم إلى العهد الجديد الروحي عِوض حرف الناموس القديم، وكما يقول الرسول بولس: "لأنه يقول لهم لائمًا: أيام تأتي يقول الرب حين أُكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا... فإذ قال جديدًا عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال" (عب 8: 8، 13)، وقد اقتبس الرسول هذه النُبوَّة عن سفر إرميا الذي بين أيديهم (إر 31: 31).
يقول القديس كيرلس الكبير:
[لكننا نرى أن الكتبة والفريسيين جهلوا هذا العهد الجديد كل الجهل، لأنهم حجبوا عيونهم عن رؤية الأسفار المقدَّسة، وهم يحدّقون النظر في تعاليم المسيح السماويّة لعلَّهم يجدون فيها نقصًا أو عيبًا للإيقاع به. لذلك تربَّصوا لتلاميذ المخلِّص، وخاطبوه قائلين: "ألا ترى كيف أن تلاميذك يفعلون ما لا يحلْ فعْلة في السبوت، فبينما الناموس يفرض على الناس الراحة في السبت، نجد تلاميذك يقطفون السنابل ويفركونها بأيديهم ويأكلون؟" ولكن قل لي أيها المعترض ألا تكسر خبزك وأنت تتناول طعامك يوم السبت، فلماذا تعيب على غيرك ما تقوم به أنت؟ وحتى نكون على بيِّنة بجهلهم الكتب المقدَّسة قرع المسيح حجَّتهم بما يأتي:
فأجاب المسيح: "وقال لهم أما قرأتم ولا هذا الذي فعله داود حين جاع" [3]. فمع أن داود سلك مسلكًا مُغايرًا للناموس، ولكن له في نفوسنا كل إكبار وإجلال، فهو قدِّيس ونبي. وحيث أن شريعة موسى توصينا بالقضاء بالحق بين الإنسان وأخيه، فلماذا تعتبرون إذن داود نبيًا وقدِّيسا بينما تبكِّتون تلاميذي وتسلقونهم بألسنة حداد ولم يفعلوا أمرًا أردأ؟
يجب أن نلاحظ أن خبز التقدِّمة الوارد ذكره في رواية داود يشير إلى الخبز النازل من السماء الذي تراه على موائد الكنائس المقدَّسة، وأن جميع أمتعة المائدة التي نستعملها في خدمة المائدة السرِّيَّة لهي رمز للكنوز الإلهيّة الفائقة[209].]
إن كان قد جاز لداود أن يكسر حرف الناموس ويأكل مع رجاله خبز التقدِّمة الذي يُرفع يوم السبت ليأكله الكهنة وحدهم ويوضع عوضه خبزًا جديدًا، وقد أكله داود ورجاله في السبت كما يظهر من قول الكتاب: "فأعطاه الكاهن المقدَّس لأنه لم يكن هناك خبز إلا خبز الوجوه المرفوع من أمام الرب، لكي يوضع خبز سخن في يوم أخذه" (1 صم 21: 6)، فكم بالحري يليق برب داود أن يسمح لتلاميذه أن يأكلوا من السنبلة الجديدة في السبت؟! حقًا لقد ثار شاول الملك ضد الكاهن أخيمالك الذي قدَّم خبز الوجوه لداود ورجاله وأرسل ليقتله مع الكهنة، وها هو عدو الخير يثير الفريسيِّين ضد السيِّد المسيح رب داود وتلاميذه، لأن السيِّد سمح لتلاميذه أن يتمتَّعوا بطعام جديد!
ثالثًا: "وقال لهم: إن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا"[5].
بينما أرادوا إتمامه بكسْر السبت أعلن أنه "ابن الإنسان، رب السبت"، فمن جهة دعا نفسه "ابن الإنسان"، لأنه وهو واضع ناموس السبت وشريعته إنما من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت (مر 2: 27). إن كان "كلمة الله" قد صار ابنًا للإنسان من أجل الإنسان وهو ربه، فكم بالحري يليق أن يكون السبت لخدمة الإنسان؟!
لم يُحقّر السيِّد المسيح من الشريعة ولا حطَّمها، بل بالحري رفعها بالأكثر بدعوة نفسه "رب السبت". حقًا إنه هو "رب السبت" المسئول عن هذه الشريعة أو هذا العيد الأسبوعي، وضعه لا ليهدمه أو يحطِّمه، وإنما لكي يدخل بنا إلى مفاهيم أعمق لهذا العيد، بتحريرنا من حرفيّة السبت القاتلة إلى عيد الأحد المُفرح للنفس.
لقد قدَّم السيِّد نفسه "سبتًا" لنا، إذ هو سرْ راحتنا، وهو عيدنا، فيه ننعم بالحياة المُقامة ونتمتَّع بالمصالحة مع الآب.
2. شفاء اليدْ اليُمنى
في السبت الجديد انطلق السيِّد المسيح بتلاميذه وسط الزروع لكي يهبهم السنبلة الجديدة سِرْ شبع روحي لهم، مقدِّما فهمًا جديدًا للسبت، بكونه سِرْ راحة داخليّة وشبع عميق، يملأ النفس خلال التقائها بالله واتِّحادها معه. والآن إذ يدخل المجمع في سبت آخر أراد أن يكشف عن السبت أنه ليس يومًا للخمول والكسل، إنما هو راحة خلال العمل الروحي الحق، لذا التقى بصاحب اليدّ اليُمنى اليابسة ليردّ لها الحياة لكي تكون عاملة في الرب
يرى القديس أغسطينوس أن اليد اليُسرى تشير للعمل المادي، أما اليُمنى فتُشير للعمل الروحي. فالرجل ذو اليد اليمنى اليابسة يشير إلى المجمع اليهودي نفسه، وقد يبست يمينه عن العمل الروحي، إذ تحوَّل السبت إلى توقُّف عن العمل وممارسة حرفيَّات جامدة. وقد جاء السيِّد لينزع هذه اليبوسة، واهبًا للسبت فهمًا جديدًا روحيًا.
في تفسيرنا لإنجيل مرقس (3: 1-6) رأينا القديس أمبروسيوس يتحدَّث عن هذا الرجل بكونه يمثِّل آدم الأول الذي مدّ يده على الشجرة في عصيان لخالقه، فيبِست بالخطيّة واحتاجت إلى السيِّد أن يأتي ليشفيها، لتمتدْ سليمة تمارس الحياة الفاضلة، خلال محبَّة القريب وإنقاذ المظلوم. لقد يبست يدّ يربعام عندما أراد التبخير للأوثان وبسطها عندما صلَّي (1مل 13: 4-6). ورأينا القديس كيرلس الكبير في تعليقه على المعجزة كيف اِهتم السيِّد المسيح ليس فقط أن يشفي اليد اليابسة، وإنما أن يحاور الفريسيِّين في أمر السبت لعلَّهم يقبلون شفاء يُبوسِة فكرهم الحرفي.
يقول الإنجيلي: "ثم نظر حوله إلى جميعهم، وقال للرجل: مدّ يدك"، نظر إليهم السيِّد وهو يئن في داخله من أجل قسوة قلوبهم، فعِوض الاهتمام بشفاء أخيهم من يُبوسة يده والتمتَّع بالحياة العاملة اهتموا بالنقد، متربِّصين للسيِّد ليشتكوا عليه. فإنَّه حتى بعد تمتَّع الرجل بالشفاء عوض مشاركته فرحته "امتلأوا حمقًا، وصاروا يتكلَّمون فيما بينهم ماذا يفعلون بيسوع" [11]. وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [ألم تكن المعجزة كافية لغرس روح الإيمان؟ ينظرون المسيح يعمل بسلطانٍ إلهيٍ، فيشفي المريض بقوّة فائقة، ومع ذلك يقابلون رحمته بغلظة وقسوة بسبب الحسد والنميمة؟![210]]