لوقا 22 - تفسير إنجيل لوقا
الصديق المتألم الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
في الأصحاحات السابقة نرى كلمة الله المتجسد قد جاء إلينا يقدم لنا صداقته الإلهية، كاشفًا لنا عن ملامح طريق صداقته، ومحذرًا إيانا من معوقات الطريق، والآن يقدم بنفسه ثمن هذه الصداقة، فنراه الكاهن الأعظم الذي يقدم حياته المبذولة فصحًا، ليعبر بنا من حالة العداوة إلى الشركة مع الآب؛ إنه الكاهن والذبيحة في نفس الوقت، يقدم دم نفسه كفارة عن خطايانا.
يمكننا أن نقول بكل ثقة ويقين أن معلمنا لوقا الإنجيلي إذ يصور لنا أحداث آلام الرب وصلبه إنما يقدم لنا صديقنا الذي يحملنا إلى قدس أقداسه، ليسير بنا في مقدساته السماوية بلا حجاب أو عائق.
من أجلنا افتقر فلم يكن يملك "علية" يأكل فيها الفصح مع تلاميذه، مع أنه يقدم حياته فصحًا فريدًا قادرًا على خلاص البشرية. ومن أجلنا اجتاز وادي الدموع والألم وحيدًا مع أنه والآب واحد، يضمنا بالحب إليه؛ لقد قبل أن يكون موضع خيانة أحد تلاميذه، وموضع محاكمة أمام خليقته، يُحاكم دينيًا ومدنيًا!
1. اقتراب عيد الفصح
1-2.
2. خيانة يهوذا
3-6.
بماذا باع يهوذا سيده؟
3. الإعداد للفصح
7-13.
4. الفصح الجديد
14-23.
5. مناقشة حول الأعظم
24-30.
6. تحذيره لبطرس
31-34.
7. تحذير عام
35-38.
8. صلاته على جبل الزيتون
39-46.
9. تسليمه
47-53.
10. محاكمته دينيًا في بيت رئيس الكهنة
54.
11. إنكار بطرس له
55-62.
12. جلده والاستهزاء به
63-65.
13. محاكمته في المجمع
66-71
1. اقتراب عيد الفصح
"وقرب عيد الفطير الذي يُقال له الفصح.
وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه،
لأنهم خافوا الشعب" [1-2].
كان اليهود يحتفلون بعيد الفصح في الرابع عشر من الشهر الأول "نيسان" حيث يذكرون عبور الملاك المهلك على بيوت آبائهم في مصر دون أن يمس أبكارهم، إذ يرى علامة الدم على القائمة والعارضتين. هذا وكلمة "فصح" أو "بصخة" معناها "عبور". أمّا عيد الفطير فكان يبدأ في اليوم التالي (الخامس عشر من نيسان) ولمدة 7 أيام فيه لا يأكل اليهود خبزًا مختمرًا بل فطيرًا. وقد امتزج العيدان معًا، حتى أصبحا في عصر السيد المسيح عيدًا واحدًا يُدعى "عيد الفطير" أو "عيد الفصح".
لا أريد الدخول في تفاصيل عيدي الفصح والفطير إذ سبق لنا الحديث عنهما في أكثر من موضع خاصة في تفسير سفر الخروج (ص 12) وتفسير سفر اللاويين (لا 23). إنما ما نقوله هنا أنه قد جاء صديقنا ليقدم نفسه فصحًا عنّا، حتى بدمه يعبر عنّا الملاك المهلك، فلا يقتل أبكار حياتنا، أو بمعنى آخر به نعبر إلى الحياة السماوية، وننتقل من الفكر الترابي إلى الملائكي.
* كانت أعمال اليهود ظلًا لأعمالنا. لذلك أن سألت يهوديًا عن الفصح أو عيد الفطير، فلا يقدم لك أمرًا ذا قيمة إنما يشير إلى الخلاص من مصر، بينما إذ يطلب أحد منّي ذلك لا يسمع عن مصر وفرعون، بل يسمع عن التحرر من الخطية وظلمة الشيطان، لا بواسطة موسى بل بابن الله[854]
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذ كانت جماهير اليهود في العالم كله تتجه نحو أورشليم لتقدم ذبيحة الفصح بطقسها الرائع الذي يصور عمل المسيح الخلاصي، إذا برؤساء الكهنة والكتبة [2]، وهما حزبان متزاحمان في مجمع السنهدرين، يجتمعون معًا غالبًا في دار رئيس الكهنة قيافا "دار المؤامرة"، ليبحثوا كيف يتخلصون من يسوع سرًا، خشية هياج الشعب عليهم.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[855] أنه بحسب الشريعة الموسوية لا يوجد إلا رئيس كهنة واحد، لا يُقام آخر إلا بموته، لكنه إذ انحدر اليهود روحيًا، صار لهم أكثر من رئيس كهنة. في الواقع كان اليهود يقيمون في كل عام رئيس كهنة يمارس وظيفته لمدة عام، يلزم أن تكون السلطات الرومانية راضية عنه، بل وغالبًا ما تقوم باختياره مع قادة اليهود. على أي الأحوال كان يليق بهم أن يكون لهم رئيس كهنة واحد يرمز لأسقف نفوسنا ربنا يسوع، يقبل المشورة من الله وحسب وصيته، يخاف الله لا الناس، أمّا هؤلاء فكانوا رؤساء كهنة كثيرين يسلكون بمشورة إنسانية، يخافون الشعب لا الله.
يقول القديس كيرلس الكبير: [لننظر الدور الذي مارسه إبليس بحسده، وما هي نتائج خطته الماكرة ضد السيد. لقد غرس في رؤساء مجمع اليهود حسدًا ضد المسيح أنتج قتلًا. فإن هذا المرض (الحسد) غالبًا ما يدفع إلى جريمة القتل. هذا هو الطريق الطبيعي لهذه الرذيلة، كما حدث مع قايين وهابيل، وأيضًا ظهر بوضوح في حالة يوسف وإخوته. لهذا السبب يجعل بولس الرسول هاتين الرذيلتين متجاورتين بوضوح، كأنهما يمتان بصلة قرابة لبعضهما البعض، إذ يتحدث عن أناس مملوءين "حسدًا وقتلًا" (رو 1: 29). هكذا طلب هؤلاء قتل يسوع بإيحاء من الشيطان الذي غرس الشر فيهم، وكان قائدهم في تدابيرهم الشريرة[856].]
2. خيانة يهوذا
اجتاز السيد المسيح آلامًا من كل نوع، اشترك فيها اليهود بكل فئاتهم وأيضا اشترك واحد من تلاميذه معهم، كما اشترك الأمم. يحدثنا الإنجيلي لوقا عن خيانة يهوذا، قائلًا: "فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي وهو من جملة الإثني عشر. فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم. ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة. فواعدهم، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلوًا من جمع" [3-6].
دخل الشيطان في يهوذا ليس إكراهًا، إنما وجد الباب مفتوحًا لديه، وجد فيه الطمع بابًا للخيانة، بالرغم من كونه أحد الإثني عشر تلميذًا. نسمع في إنجيل يوحنا: "فبعد اللقمة دخله الشيطان" (يو 13: 27)، فهل دخله الشيطان قبل الفصح أم أثناءه؟! بلا شك كان يهوذا قد سلم نفسه كإناء للشيطان مع كل فرصة ينفتح الباب بالأكثر للتجاوب مع إبليس كسيد له يملك قلبه ويوجه فكره ويدير كل تصرفاته. بمعنى آخر يمكن القول بأن يهوذا في خضوعه للعدو الشرير كان ينمو كل يوم في تجاوبه معه وممارسته أعماله الشيطانية. بمعنى آخر كما يشتاق الله أن يحل في قلوب أولاده بلا توقف ليملأهم من عمله الإلهي، هكذا يشتاق عدو الخير أن يدخل قلوب المستجيبين له بلا توقف، لينطلق بهم إلى نهاية شره، بكونهم أداته الخاصة ورعيته ومملكته.
* أنتم ترون أن الشيطان قد دخل بالفعل في يهوذا؛ دخل أولًا عندما زرع في قلبه فكر خيانة المسيح، ثم جاء إلى العشاء يحمل هذا الروح فيه. وإذ أخذ الجسد دخله أيضًا الشيطان، لا ليجرب شخصًا (غريبًا عنه) مرتبطًا بآخر، وإنما ليملك على من هو له[857].
القديس أغسطينوس
* بالطمع صار يهوذا ما هو عليه... الطمع يولِّد أهواء شريرة، يجعل البشر مجدّفين، ويدفعهم إلى فقدان معرفة الله مع أنهم ينالون منه آلاف العطايا[858]
القديس يوحنا الذهبي الفم
إن كان العدو قد اصطاد يهوذا الذي تجاوب معه في حب المال، فبث فيه السرقة (يو 12: 6)، ثم دفعه للخيانة، فصار أداته التي يستخدمها كيفما شاء، إذ سلّم يهوذا نفسه بنفسه له، لهذا يحذّرنا الرسول بولس قائلًا: "لئلا يطمع فينا الشيطان" (2 كو 2: 11). بنفس الروح يقدم لنا القديس مرقس الناسك نصيحته ألا نفتح الباب ولو قليلًا للعدو، فإنه إذ يدخل يملك ويصعب التحرر منه. لنحاربه بالرب وهو خارج عنّا يحاول خداعنا، ولا نتركه يدخل ويملك!
يقول القديس كيرلس الكبير[859] إن الشيطان دخل في قلب يهوذا دون بطرس أو يعقوب أو يوحنا. لأن قلوبهم كانت راسخة ومحبتهم للمسيح ثابتة، لكن الشيطان وجد له موضعًا في الخائن من أجل مرض الطمع المرّ، الذي يقول عنه الطوباوي بولس: "أصل كل الشرور" (1 تي 6: 10). هذا وقد أكّد الإنجيلي أن يهوذا "واحد من الإثنى عشر" ليوضح خطية الخيانة بكل جلاء. فإن الذي كرَّمه مساويًا إيّاه بالبقية، وزيَّنه بالكرامات الرسولية، وجعله المحبوب، وضمه للمائدة المقدسة صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح.
بماذا باع يهوذا سيده؟
باعه بالفضة، وكما يقول القديس ديديموس السكندري أنه يوجد نوعان من الفضة: الفضة الأصيلة المصفاة سبع مرات، وهي كلمة الله؛ والفضة الغاشة التي هي كلمة إبليس. إن كان السيد المسيح هو كلمة الله المتجسد، الفضة الحقيقية، فقد باعه يهوذا بالغاشة. هذه الخيانة يمارسها الهراطقة عبر العصور، حين يُسيئون شرح كلمة الله، مستخدمين الكتاب المقدس للتدليل على تعاليمهم الفاسدة، وكأنهم يستبدلون الفضة الإلهية الخالصة والأصيلة بفضتهم الغاشة. هذا وقول الإنجيلي "عاهدوه أن يعطوه فضة" [5]، يعني أن يعطوه مالًا بوجه عام، وقد حُدد الثمن بثلاثين من الفضة كما سبق فأنبأ عاموس النبي (2: 6) كثمنٍ لبيع البار، وهو ثمن بخس يُدفع كدية عبدٍ إذا نطحه ثور وقتله (خر 21: 32). ويقال أن هذه القطعة الفضية كانت تحمل على أحد وجهيها صورة غصن زيتون، رمز السلام، وعلى الوجه الآخر صورة مبخرة علامة العبادة، وفي أسفلها نُقش "أورشليم المقدسة".
3. الإعداد للفصح
حان وقت الفصح فكان يليق بذاك الذي جاء "فصحًا عن العالم" أن يقدم جسده ودمه المبذولين ذبيحة شكر لله الآب، وسرّ حياة لتلاميذه، ذبيحة حقيقية قادرة على المصالحة بين الآب والبشرية عبر كل العصور.
اختلف الدارسون في تحديد موعد الفصح اليهودي، هل كان يوم الخميس حيث قدم السيد المسيح، نفسه فصحًا بعد الرمز اليهودي مباشرة ليعلن تحقيقه في كمال غايته، أما أراد السيد أن يقدم فصحه مسبقًا بيوم واحد ليصلب يوم الجمعة في لحظات الفصح اليهودي. ولكل فريق جهوده لتأكيد وجهة نظره. إنما ما يشغلنا أن الفصح اليهودي قد كمل وانتهى بتحقيق فصح المسيح، سواء مارس اليهود طقس فصحهم في خميس العهد أو أثناء لحظات الصلب!
"وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.
فأرسل بطرس ويوحنا، قائلًا:
اِذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل.
فقالا له: أين تريد أن نُعد؟
فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء،
اِتبعاه إلى البيت حيث يدخل.
وقولا لرب البيت يقول لك المعلم:
أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي؟
فذاك يريكما عُليّة كبيرة مفروشة، هناك أعدّا.
فانطلقا، ووجدا كما قال لهما، فأعدّا الفصح" [7-13].
يلاحظ في هذا النص:
أولًا: يرى البعض في القول: "جاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح" تأكيدًا أن العشاء الأخير قد تم في يوم الفصح، وأن السيد المسيح قدم جسده ودمه بعد ذبح الخروف الرمزي. غير أن الفريق الآخر يرى أنه بحسب الطقس اليهودي كانوا يستعدون للعيد في اليوم السابق، حيث يقوم اليهود بتنظيف البيت والبحث أكثر من مرة في جوانب الحجرات لئلا يوجد خمير، فيحسبون كاسرين للناموس، ولا يُقبل الفصح عنهم. وكأن السيد قد اجتمع مع تلاميذه في اليوم السابق لذبح الخروف كما للتهيئة للفصح، لكنه عوض التفتيش في أركان العُليّة قدم الفصح الروحي غير المادي. ويُضاف إلى ذلك أنه لو كان السيد قد اجتمع بتلاميذه لممارسة طقس الفصح اليهودي فأين أصحاب البيت أنفسهم؟!
في تفسيرنا للإنجيل حسب متى تحدث عن تأسيس السيد للعشاء الأخير بعد ممارسة السيد المسيح وتلاميذه لطقس الفصح الناموسي، لكنني أكرر أن ما يشغلنا هو الفكر اللاهوتي ذاته لا تفاصيل الأزمنة.
ثانيًا: لم يحدد السيد المسيح اسم صاحب العُليّة، وكما جاء في التقليد الكنسي أنه مرقس الرسول؛ وأنه هو الشاب الذي كان يحمل الجرة. وكان يعرف السيد تمام المعرفة، لكن الرب لم يذكر اسمه ربما كما يقول القديس أمبروسيوس ليُظهر أنه يقيم فصحه في عُليّة لإنسان غير مشهور، فهو لا يطلب أصحاب المراكز والشهرة، أو كما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس لكي لا يعرف يهوذا الموضع، فيخبر رؤساء الكهنة والكتبة، ويُلقوا القبض عليه قبل تقديم فصحه الإلهي.
ثالثًا: في تفسيرنا لإنجيل مرقس (14: 12-16)، رأينا القديسين كيرلس الكبير وأمبروسيوس يتطلعان إلى جرة الماء كعلامة لسرّ العماد، فإنه لا يسمح لنا بالتمتع بسرّ الإفخارستيا ما لم نكن قد التقينا أولا بسرّ المعمودية وتمتعنا بالتجديد الكامل الداخلي.
إن كانت الجرة من التراب والخزف، لكنها تحمل في داخلها ماءً، هكذا وإن كنا ترابيين لكننا نتقبل مياه النعمة الإلهية وعمل الروح القدس في داخلنا، حتى نستطيع أن نرتفع بالروح مع مخلصنا، ونقبل من يديه سرّ خلاصنا، أي جسده ودمه المبذولين عنّا.
رابعًا: ارتفع السيد بتلاميذه إلى العُليّة المفروشة، التي لا يوجد فيها خمير، والمتسعة لتحوي السيد وتلاميذه. هكذا يود الرب أن يحملنا كما إلى الأعالي "في عُليّة مفروشة، حيث نسكن في الأمجاد الإلهية الخفية، مرتفعين فوق دنس هذا العالم ورجاسات شهوات الجسد. هناك نلتقي به، حيث لا يوجد فينا خمير الخُبث والشر، بل زينة الروح الفاضلة، والمتِّسعة بالحب الإلهي لنحمل في داخلنا السيد وتلاميذه.
* لنصعد مع الرب، متحدين معه، إلى العُليّة...
لتكن عُليّة بيوتنا متّسعة لتستقبل في داخلها يسوع كلمة الله، الذي لا يُدرَك إلا بواسطة من لهم الفهم العظيم...
لتُعد هذه العُليّة بواسطة صاحب البيت الصالح ليأتي فيها ابن الله فيجدها مغسولة ونقية من كل خبث.
* يلزمنا أن ندرك أنه لا يرتفع أحد إلى العُليّة ممن يهتم بالولائم والاهتمامات الزمنية، ولا يكون له مع يسوع نصيب في حفظ الفصح[860]
العلامة أوريجينوس
لوقا 22 - تفسير إنجيل لوقا الصديق المتألم الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي في الأصحاحات السابقة نرى كلمة الله المتجسد قد جاء إلينا يقدم لنا صداقته الإلهية، كاشفًا لنا عن ملامح طريق صداقته، ومحذرًا إيانا من معوقات الطريق، والآن يقدم بنفسه ثمن هذه الصداقة، فنراه الكاهن الأعظم الذي يقدم حياته المبذولة فصحًا، ليعبر بنا من حالة العداوة إلى الشركة مع الآب؛ إنه الكاهن والذبيحة في نفس الوقت، يقدم دم نفسه كفارة عن خطايانا. يمكننا أن نقول بكل ثقة ويقين أن معلمنا لوقا الإنجيلي إذ يصور لنا أحداث آلام الرب وصلبه إنما يقدم لنا صديقنا الذي يحملنا إلى قدس أقداسه، ليسير بنا في مقدساته السماوية بلا حجاب أو عائق. من أجلنا افتقر فلم يكن يملك "علية" يأكل فيها الفصح مع تلاميذه، مع أنه يقدم حياته فصحًا فريدًا قادرًا على خلاص البشرية. ومن أجلنا اجتاز وادي الدموع والألم وحيدًا مع أنه والآب واحد، يضمنا بالحب إليه؛ لقد قبل أن يكون موضع خيانة أحد تلاميذه، وموضع محاكمة أمام خليقته، يُحاكم دينيًا ومدنيًا! 1. اقتراب عيد الفصح 1-2. 2. خيانة يهوذا 3-6. بماذا باع يهوذا سيده؟ 3. الإعداد للفصح 7-13. 4. الفصح الجديد 14-23. 5. مناقشة حول الأعظم 24-30. 6. تحذيره لبطرس 31-34. 7. تحذير عام 35-38. 8. صلاته على جبل الزيتون 39-46. 9. تسليمه 47-53. 10. محاكمته دينيًا في بيت رئيس الكهنة 54. 11. إنكار بطرس له 55-62. 12. جلده والاستهزاء به 63-65. 13. محاكمته في المجمع 66-71 1. اقتراب عيد الفصح "وقرب عيد الفطير الذي يُقال له الفصح. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه، لأنهم خافوا الشعب" [1-2]. كان اليهود يحتفلون بعيد الفصح في الرابع عشر من الشهر الأول "نيسان" حيث يذكرون عبور الملاك المهلك على بيوت آبائهم في مصر دون أن يمس أبكارهم، إذ يرى علامة الدم على القائمة والعارضتين. هذا وكلمة "فصح" أو "بصخة" معناها "عبور". أمّا عيد الفطير فكان يبدأ في اليوم التالي (الخامس عشر من نيسان) ولمدة 7 أيام فيه لا يأكل اليهود خبزًا مختمرًا بل فطيرًا. وقد امتزج العيدان معًا، حتى أصبحا في عصر السيد المسيح عيدًا واحدًا يُدعى "عيد الفطير" أو "عيد الفصح". لا أريد الدخول في تفاصيل عيدي الفصح والفطير إذ سبق لنا الحديث عنهما في أكثر من موضع خاصة في تفسير سفر الخروج (ص 12) وتفسير سفر اللاويين (لا 23). إنما ما نقوله هنا أنه قد جاء صديقنا ليقدم نفسه فصحًا عنّا، حتى بدمه يعبر عنّا الملاك المهلك، فلا يقتل أبكار حياتنا، أو بمعنى آخر به نعبر إلى الحياة السماوية، وننتقل من الفكر الترابي إلى الملائكي. * كانت أعمال اليهود ظلًا لأعمالنا. لذلك أن سألت يهوديًا عن الفصح أو عيد الفطير، فلا يقدم لك أمرًا ذا قيمة إنما يشير إلى الخلاص من مصر، بينما إذ يطلب أحد منّي ذلك لا يسمع عن مصر وفرعون، بل يسمع عن التحرر من الخطية وظلمة الشيطان، لا بواسطة موسى بل بابن الله[854] القديس يوحنا الذهبي الفم إذ كانت جماهير اليهود في العالم كله تتجه نحو أورشليم لتقدم ذبيحة الفصح بطقسها الرائع الذي يصور عمل المسيح الخلاصي، إذا برؤساء الكهنة والكتبة [2]، وهما حزبان متزاحمان في مجمع السنهدرين، يجتمعون معًا غالبًا في دار رئيس الكهنة قيافا "دار المؤامرة"، ليبحثوا كيف يتخلصون من يسوع سرًا، خشية هياج الشعب عليهم. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[855] أنه بحسب الشريعة الموسوية لا يوجد إلا رئيس كهنة واحد، لا يُقام آخر إلا بموته، لكنه إذ انحدر اليهود روحيًا، صار لهم أكثر من رئيس كهنة. في الواقع كان اليهود يقيمون في كل عام رئيس كهنة يمارس وظيفته لمدة عام، يلزم أن تكون السلطات الرومانية راضية عنه، بل وغالبًا ما تقوم باختياره مع قادة اليهود. على أي الأحوال كان يليق بهم أن يكون لهم رئيس كهنة واحد يرمز لأسقف نفوسنا ربنا يسوع، يقبل المشورة من الله وحسب وصيته، يخاف الله لا الناس، أمّا هؤلاء فكانوا رؤساء كهنة كثيرين يسلكون بمشورة إنسانية، يخافون الشعب لا الله. يقول القديس كيرلس الكبير: [لننظر الدور الذي مارسه إبليس بحسده، وما هي نتائج خطته الماكرة ضد السيد. لقد غرس في رؤساء مجمع اليهود حسدًا ضد المسيح أنتج قتلًا. فإن هذا المرض (الحسد) غالبًا ما يدفع إلى جريمة القتل. هذا هو الطريق الطبيعي لهذه الرذيلة، كما حدث مع قايين وهابيل، وأيضًا ظهر بوضوح في حالة يوسف وإخوته. لهذا السبب يجعل بولس الرسول هاتين الرذيلتين متجاورتين بوضوح، كأنهما يمتان بصلة قرابة لبعضهما البعض، إذ يتحدث عن أناس مملوءين "حسدًا وقتلًا" (رو 1: 29). هكذا طلب هؤلاء قتل يسوع بإيحاء من الشيطان الذي غرس الشر فيهم، وكان قائدهم في تدابيرهم الشريرة[856].] 2. خيانة يهوذا اجتاز السيد المسيح آلامًا من كل نوع، اشترك فيها اليهود بكل فئاتهم وأيضا اشترك واحد من تلاميذه معهم، كما اشترك الأمم. يحدثنا الإنجيلي لوقا عن خيانة يهوذا، قائلًا: "فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي وهو من جملة الإثني عشر. فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم. ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة. فواعدهم، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلوًا من جمع" [3-6]. دخل الشيطان في يهوذا ليس إكراهًا، إنما وجد الباب مفتوحًا لديه، وجد فيه الطمع بابًا للخيانة، بالرغم من كونه أحد الإثني عشر تلميذًا. نسمع في إنجيل يوحنا: "فبعد اللقمة دخله الشيطان" (يو 13: 27)، فهل دخله الشيطان قبل الفصح أم أثناءه؟! بلا شك كان يهوذا قد سلم نفسه كإناء للشيطان مع كل فرصة ينفتح الباب بالأكثر للتجاوب مع إبليس كسيد له يملك قلبه ويوجه فكره ويدير كل تصرفاته. بمعنى آخر يمكن القول بأن يهوذا في خضوعه للعدو الشرير كان ينمو كل يوم في تجاوبه معه وممارسته أعماله الشيطانية. بمعنى آخر كما يشتاق الله أن يحل في قلوب أولاده بلا توقف ليملأهم من عمله الإلهي، هكذا يشتاق عدو الخير أن يدخل قلوب المستجيبين له بلا توقف، لينطلق بهم إلى نهاية شره، بكونهم أداته الخاصة ورعيته ومملكته. * أنتم ترون أن الشيطان قد دخل بالفعل في يهوذا؛ دخل أولًا عندما زرع في قلبه فكر خيانة المسيح، ثم جاء إلى العشاء يحمل هذا الروح فيه. وإذ أخذ الجسد دخله أيضًا الشيطان، لا ليجرب شخصًا (غريبًا عنه) مرتبطًا بآخر، وإنما ليملك على من هو له[857]. القديس أغسطينوس * بالطمع صار يهوذا ما هو عليه... الطمع يولِّد أهواء شريرة، يجعل البشر مجدّفين، ويدفعهم إلى فقدان معرفة الله مع أنهم ينالون منه آلاف العطايا[858] القديس يوحنا الذهبي الفم إن كان العدو قد اصطاد يهوذا الذي تجاوب معه في حب المال، فبث فيه السرقة (يو 12: 6)، ثم دفعه للخيانة، فصار أداته التي يستخدمها كيفما شاء، إذ سلّم يهوذا نفسه بنفسه له، لهذا يحذّرنا الرسول بولس قائلًا: "لئلا يطمع فينا الشيطان" (2 كو 2: 11). بنفس الروح يقدم لنا القديس مرقس الناسك نصيحته ألا نفتح الباب ولو قليلًا للعدو، فإنه إذ يدخل يملك ويصعب التحرر منه. لنحاربه بالرب وهو خارج عنّا يحاول خداعنا، ولا نتركه يدخل ويملك! يقول القديس كيرلس الكبير[859] إن الشيطان دخل في قلب يهوذا دون بطرس أو يعقوب أو يوحنا. لأن قلوبهم كانت راسخة ومحبتهم للمسيح ثابتة، لكن الشيطان وجد له موضعًا في الخائن من أجل مرض الطمع المرّ، الذي يقول عنه الطوباوي بولس: "أصل كل الشرور" (1 تي 6: 10). هذا وقد أكّد الإنجيلي أن يهوذا "واحد من الإثنى عشر" ليوضح خطية الخيانة بكل جلاء. فإن الذي كرَّمه مساويًا إيّاه بالبقية، وزيَّنه بالكرامات الرسولية، وجعله المحبوب، وضمه للمائدة المقدسة صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح. بماذا باع يهوذا سيده؟ باعه بالفضة، وكما يقول القديس ديديموس السكندري أنه يوجد نوعان من الفضة: الفضة الأصيلة المصفاة سبع مرات، وهي كلمة الله؛ والفضة الغاشة التي هي كلمة إبليس. إن كان السيد المسيح هو كلمة الله المتجسد، الفضة الحقيقية، فقد باعه يهوذا بالغاشة. هذه الخيانة يمارسها الهراطقة عبر العصور، حين يُسيئون شرح كلمة الله، مستخدمين الكتاب المقدس للتدليل على تعاليمهم الفاسدة، وكأنهم يستبدلون الفضة الإلهية الخالصة والأصيلة بفضتهم الغاشة. هذا وقول الإنجيلي "عاهدوه أن يعطوه فضة" [5]، يعني أن يعطوه مالًا بوجه عام، وقد حُدد الثمن بثلاثين من الفضة كما سبق فأنبأ عاموس النبي (2: 6) كثمنٍ لبيع البار، وهو ثمن بخس يُدفع كدية عبدٍ إذا نطحه ثور وقتله (خر 21: 32). ويقال أن هذه القطعة الفضية كانت تحمل على أحد وجهيها صورة غصن زيتون، رمز السلام، وعلى الوجه الآخر صورة مبخرة علامة العبادة، وفي أسفلها نُقش "أورشليم المقدسة". 3. الإعداد للفصح حان وقت الفصح فكان يليق بذاك الذي جاء "فصحًا عن العالم" أن يقدم جسده ودمه المبذولين ذبيحة شكر لله الآب، وسرّ حياة لتلاميذه، ذبيحة حقيقية قادرة على المصالحة بين الآب والبشرية عبر كل العصور. اختلف الدارسون في تحديد موعد الفصح اليهودي، هل كان يوم الخميس حيث قدم السيد المسيح، نفسه فصحًا بعد الرمز اليهودي مباشرة ليعلن تحقيقه في كمال غايته، أما أراد السيد أن يقدم فصحه مسبقًا بيوم واحد ليصلب يوم الجمعة في لحظات الفصح اليهودي. ولكل فريق جهوده لتأكيد وجهة نظره. إنما ما يشغلنا أن الفصح اليهودي قد كمل وانتهى بتحقيق فصح المسيح، سواء مارس اليهود طقس فصحهم في خميس العهد أو أثناء لحظات الصلب! "وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح. فأرسل بطرس ويوحنا، قائلًا: اِذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل. فقالا له: أين تريد أن نُعد؟ فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء، اِتبعاه إلى البيت حيث يدخل. وقولا لرب البيت يقول لك المعلم: أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي؟ فذاك يريكما عُليّة كبيرة مفروشة، هناك أعدّا. فانطلقا، ووجدا كما قال لهما، فأعدّا الفصح" [7-13]. يلاحظ في هذا النص: أولًا: يرى البعض في القول: "جاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح" تأكيدًا أن العشاء الأخير قد تم في يوم الفصح، وأن السيد المسيح قدم جسده ودمه بعد ذبح الخروف الرمزي. غير أن الفريق الآخر يرى أنه بحسب الطقس اليهودي كانوا يستعدون للعيد في اليوم السابق، حيث يقوم اليهود بتنظيف البيت والبحث أكثر من مرة في جوانب الحجرات لئلا يوجد خمير، فيحسبون كاسرين للناموس، ولا يُقبل الفصح عنهم. وكأن السيد قد اجتمع مع تلاميذه في اليوم السابق لذبح الخروف كما للتهيئة للفصح، لكنه عوض التفتيش في أركان العُليّة قدم الفصح الروحي غير المادي. ويُضاف إلى ذلك أنه لو كان السيد قد اجتمع بتلاميذه لممارسة طقس الفصح اليهودي فأين أصحاب البيت أنفسهم؟! في تفسيرنا للإنجيل حسب متى تحدث عن تأسيس السيد للعشاء الأخير بعد ممارسة السيد المسيح وتلاميذه لطقس الفصح الناموسي، لكنني أكرر أن ما يشغلنا هو الفكر اللاهوتي ذاته لا تفاصيل الأزمنة. ثانيًا: لم يحدد السيد المسيح اسم صاحب العُليّة، وكما جاء في التقليد الكنسي أنه مرقس الرسول؛ وأنه هو الشاب الذي كان يحمل الجرة. وكان يعرف السيد تمام المعرفة، لكن الرب لم يذكر اسمه ربما كما يقول القديس أمبروسيوس ليُظهر أنه يقيم فصحه في عُليّة لإنسان غير مشهور، فهو لا يطلب أصحاب المراكز والشهرة، أو كما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس لكي لا يعرف يهوذا الموضع، فيخبر رؤساء الكهنة والكتبة، ويُلقوا القبض عليه قبل تقديم فصحه الإلهي. ثالثًا: في تفسيرنا لإنجيل مرقس (14: 12-16)، رأينا القديسين كيرلس الكبير وأمبروسيوس يتطلعان إلى جرة الماء كعلامة لسرّ العماد، فإنه لا يسمح لنا بالتمتع بسرّ الإفخارستيا ما لم نكن قد التقينا أولا بسرّ المعمودية وتمتعنا بالتجديد الكامل الداخلي. إن كانت الجرة من التراب والخزف، لكنها تحمل في داخلها ماءً، هكذا وإن كنا ترابيين لكننا نتقبل مياه النعمة الإلهية وعمل الروح القدس في داخلنا، حتى نستطيع أن نرتفع بالروح مع مخلصنا، ونقبل من يديه سرّ خلاصنا، أي جسده ودمه المبذولين عنّا. رابعًا: ارتفع السيد بتلاميذه إلى العُليّة المفروشة، التي لا يوجد فيها خمير، والمتسعة لتحوي السيد وتلاميذه. هكذا يود الرب أن يحملنا كما إلى الأعالي "في عُليّة مفروشة، حيث نسكن في الأمجاد الإلهية الخفية، مرتفعين فوق دنس هذا العالم ورجاسات شهوات الجسد. هناك نلتقي به، حيث لا يوجد فينا خمير الخُبث والشر، بل زينة الروح الفاضلة، والمتِّسعة بالحب الإلهي لنحمل في داخلنا السيد وتلاميذه. * لنصعد مع الرب، متحدين معه، إلى العُليّة... لتكن عُليّة بيوتنا متّسعة لتستقبل في داخلها يسوع كلمة الله، الذي لا يُدرَك إلا بواسطة من لهم الفهم العظيم... لتُعد هذه العُليّة بواسطة صاحب البيت الصالح ليأتي فيها ابن الله فيجدها مغسولة ونقية من كل خبث. * يلزمنا أن ندرك أنه لا يرتفع أحد إلى العُليّة ممن يهتم بالولائم والاهتمامات الزمنية، ولا يكون له مع يسوع نصيب في حفظ الفصح[860] العلامة أوريجينوس