لوقا 18 - تفسير إنجيل لوقا
الصلاة الحية والصداقة الإلهية الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي
3. العودة إلى بساطة الطفولة
إذ قدم لنا مثلًا عن التواضع كطريق حق به تُستجاب صلواتنا، فننعم لا بطلبات مادية، إنما ما هو أعظم الصداقة مع عريسنا السماوي المتواضع، الآن يقدم درسًا عمليًا ليكشف عن تواضعه وبساطته، موضحًا أنه يبسط ذراعيه للأطفال الصغار، أي للنفوس البسيطة المحبة للتواضع، إذ يقول الإنجيلي:
"فقدموا إليه الأطفال أيضًا ليلمسهم،
فلما رآهم التلاميذ انتهروهم.
أما يسوع فدعاهم، وقال:
دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم،
لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله.
الحق أقول لكم من لا يقبل ملكوت الله مثل ولدٍ فلن يدخله" [15-17].
لقد جاء السيد المسيح للبشرية جميعها، لليهود كما الأممي، للرجال كما النساء والشيوخ والأطفال والشبان الخ.، جاء للكل ليقيم صداقة معهم. لقد تذوق آباء الكنيسة حلاوة صداقة المسيح، فشعروا بحقٍ أنه لا يليق أن يُمنع أحد ولو كان طفلًا عن اللقاء معه، لينعم بمخلصه -حتى وإن كان لم يرتكب خطية فعلية- وإنما ليقدس طبيعته التي تسلمها فاسدة، فتتجدد بالسيد المسيح في مياه المعمودية، ويقبل الرب صديقًا له.
* ليأتِ الصغار، ليأتِ المرضى إلى الطبيب، ليأتِ الذين هم مفقودون لمخلصهم، ليأتوا ولا يُمنع أحد عن المجيء.
إن كانت الفروع (الأطفال) لم ترتكب أية خطية بعد، لكنهم هلكوا بسبب أصلهم، "يبارك الرب الصغار مع الكبار" (مز 115: 13). ليلمس الطبيب الصغار مع الكبار...
إذ كان الفقدان شاملًا هكذا ليكن الخلاص عامًا. كلنا قد ضعنا، لنوجد جميعنا في المسيح... ليته لا يُعزل أحد عن خلاصه[774]
القديس أغسطينوس
4. التحرر من عبودية المال
إن كان هذا الأصحاح يركز على الصلاة كطريقٍ رئيسيٍ للتمتع بالصداقة الإلهية، فقد رأينا أن الصلاة تلتحم بالإيمان الذي يدفعنا إليها لنمارسها بلا انقطاع ولا ملل، هذا وحياة الصلاة ليست حياة تعبدية مجردة وإنما تلتحم مع سمة المؤمن الذي يلزم أن يكون بسيطًا كالأطفال في حكمة الروح. الآن يحذرنا من عدو خطير يفقدنا روح الصلاة ألا وهو التعبد للمال. لقد التقى شاب بالسيد المسيح وكان يود أن يتبعه، قائلًا له: "أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟"... وقد وقف حبه للغنى عقبة في تبعيته للسيد المسيح.
سبق لنا في شيء من التفصيل أن عرضنا لهذا اللقاء والحوار الذي تم بين السيد المسيح وهذا الشاب الرئيس عند دراستنا للإنجيل بحسب مرقس 10: 17-25، وأوردت بعض أقوال للآباء في هذا الشأن، أرجو الرجوع إليها، مكتفيًا هنا بعرض مقتطفات أخرى لأقوال بعض الآباء القليلة مكملة للسابقة.
* لا أتردد في دعوة هذا الرئيس طماعًا، منتهرًا إياه مع السيد المسيح، لكنني لا أقول إنه مجرِب للسيد (كالفريسيين)[775]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لم يخبرنا أن نبيع ما لنا لأنها أشياء شريرة بطبعها، وإلا ما كانت من صنع الله. لم يأمرنا أن نلقيها عنا كأمور رديئة بل نوزعها. لا يُدان أحد لأنه يملك شيئًا وإنما لأنه يفسد ما يملكه. بهذا فإنه بحسب وصية الله نلقي عنا ما لنا لغفران خطايانا والتمتع بالملكوت[776].
القديس باسيليوس الكبير
* حتى إن كنتَ غنيًا، فالطبيب قادر أن يشفيك. إنه لن ينزع الغنى، إنما ينزع العبودية للغنى ومحبة الطمع في الربح[777]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يستطيع الله أن يشبع الفقراء دون أن نحنو نحن عليهم، لكنه يطلب من الذين يقدمون العطاء أن يرتبطوا بالحب مع من يقبلون منهم العطاء[778]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الله صالح، كامل الصلاح وحده، وإذ أنت صورته يليق بك أن تكون صالحًا. إنه سخي مع الجميع، فينبغي عليك أن تكون كريمًا، تتجنب الجشع، ولا تبخل على قريبك بأي شيء مادي زائل، فإن هذا أعظم كارثة وجهالة.
الأب يوحنا من كرونستادت
* رجل الله هو من مات عن حاجاته الضرورية لرأفته الكثيرة. من يرحم فقيرًا تتلقفه عناية الله، ومن يفتقر من أجل الله يجد كنوزًا لا تفرغ[779]
مار إسحق السرياني
والعجيب أنه حينما يخلع الإنسان عنه محبة العالم ويتحرر من قيود عبودية حب الغنى وشهوة المال يهبه الرب أضعافًا كثيرة من البركات حتى الزمنية مع المجد الأبدي. هذا ما أكده صديقنا الحقيقي بإجابته على بطرس القائل: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك" [28]، قائلًا: "الحق أقول لكم إن ليس أحد ترك بيتًا أو والدين أو إخوة أو امرأة أو أولادًا من أجل ملكوت الله، إلا ويأخذ في هذا الزمان أضعافًا كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية" [29-30]. وقد سبق لنا عرض أقوال بعض الآباء وتعليقاتهم على كلمات السيد المسيح هذه في تفسير (مت 19: 26-27؛ مر10: 28-30)، أرجو الرجوع إليها.
5. قبول الصليب
إن كان يليق بالمسيحي أن يتحرر من عبودية محبة المال وقيود طلب الغنى الزمني لترتفع نفسه بالروح القدس متحررة نحو السماويات، تعيش مع عريسها الأبدي تحمل سماته، فإنه لا يمكن التمتع بالمسيح المصلوب في أمجاده دون مشاركته الصليب، لهذا كان السيد المسيح يوجه أنظار تلاميذه نحو صليبه وآلامه وموته كطريق حقيقي للمجد.
"وأخذ الاثني عشر، وقال لهم: ها نحن صاعدون إلى أورشليم،
وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان.
لأنه يُسلم إلى الأمم ويُستهزأ به ويُشتم ويُتفل عليه.
ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم.
وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئًا،
وكان هذا الأمر مخفي عنهم،
ولم يعلموا ما قيل" [31-34].
سبق لنا التعليق - بأقوال الآباء - على هذه الكلمات المقدسة في تفسير مت 20: 17؛ مر 10: 32-34؛ مر 8: 31-33). على أي الأحوال إن كان السيد قد سبق فأعلن لتلاميذه عن آلامه لكي يهيئهم لقبولها كسمة رئيسية في حياة صديقهم السماوي، فإنه يعلن دومًا وبصراحة عن التزامنا بقبول آلامه لنحمل سمته فينا، فنتأهل أن ندخل شرف دائرة صليبه ونكون شركاء المصلوب!
* إذ سبق فرأى المخلص قلوب تلاميذه تضطرب لآلامه سبق فأخبرهم بما يحتمله من آلام ومجد قيامته[780]
البابا غريغوريوس (الكبير)
* تحدث مع تلاميذه عن آلامه منفردًا، إذ لم يكن لائقًا أن يعلن ذلك للجماهير لئلا يضطربوا، إنما سبق فأخبر تلاميذه حتى إذ يتوقعونها يقدرون أن يحتملونها...
لقد سبق فأنبأ إشعياء عن ذلك، قائلًا "بذلت ظهري للضاربين، وخدّي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق" (إش 50: 6)، كما أنبأ عن الصلب: "سكب للموت نفسه، وأُحصي مع آثمة" (إش 53: 12)... لكن داود أنبأ عن قيامة المسيح: "لا تترك نفسي في الجحيم" (مز 16: 10)[781]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* طريق الله صليب يومي. لم يصعد أحد إلى السماء براحة. إننا نعلم إلى أين يؤدي طريق الراحة، وأين ينتهي. أما من يكرس نفسه لله من كل قلبه فلن يتركه الله بدون اهتمام، بل يجعله يهتم من أجل الحقيقة، وعندئذ يدرك أن الأحزان المرسلة إليه ليست سوى دليل عناية الله به[782]
مار إسحق السرياني
6 . الاستنارة (تفتيح عينيّ الأعمى)
إن كان الرب قد طالبنا بالمثابرة على الصلاة بلا انقطاع لكي نبقى دومًا في حضرته ننعم بالحديث الحبّي معه، وأن حياة الصلاة يلازمها روح التواضع (كما فعل العشار) ممتزجة ببساطة الطفولة والتحرر من كل عبودية لمحبة المال، مع قبول للصليب بفرح، فإن غاية هذه الحياة هي تفتيح البصيرة الداخلية لمعاينة الصديق السماوي. هنا نسمع صلوات الأعمى الجالس على الطريق يستعطى، الفعّالة رغم قلة كلماتها، إذ "صرخ قائلًا: يا يسوع ابن داود ارحمني" [38].
لقد رذل المحيطون بالسيد هذه الكلمات أو الناطق بها، إذ انتهروه ليسكت، لكنه في لجاجة "صرخ أكثر كثيرًا يا ابن داود ارحمني" [39]. استطاع بصرخات قلبه المملوء إيمانًا أن يوقف الموكب كله ليجد السيد المسيح يأمر بأن يُقدم إليه، وإذ اقترب منه سمعه يقول: "ماذا تريد أن أفعل بك؟" [41]. بالصلاة الملتهبة تمتع الأعمى باقترابه من السيد وسماعه صوته ونوال نعمة البصيرة والتبعية للسيد، إذ يقول الإنجيلي: "وفي الحال أبصر، وتبعه وهو يمجد الله، وجميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله" [43]. انفتحت بصيرته لرؤية الرب، ولسانه لتمجيد الله، وكان علة تسبيح جميع الشعب لله.
لقد سبق لنا الحديث عن تفتيح عيني هذا الرجل في دراستنا لإنجيلي متى 20: 29 إلخ. ومرقس (10: 46 الخ)، مكتفيًا هنا ببعض تعليقات قليلة.
* لقد تمم ربنا المعجزة في الطريق ليظهر أنه لا يسير حتى في الطريق دون أن يفعل صلاحًا، مقدمًا نفسه مثالًا لتلاميذه، لنكون نافعين في كل الأشياء، ولا يكون شيء باطلًا فينا.
الأب ثيؤفلاكتيوس
* يرمز العمى للجنس البشري، الذي في أبينا الأول الذي لم يجد بهاء النور السماوي، فسادت الظلمة (على الجنس البشرى).
"أريحا" تعني "القمر"، هذا الذي يتضاءل كل شهر إشارة إلى ضعفنا كقابلين للموت. أما أن اقتراب خالقنا إلى أريحا قد وهب الأعمى بصيرة، فيعني أنه إذ أخذ ضعف جسدنا ردّ للبشرية البصيرة التي فقدتها...
الذين كانوا يتقدمون يسوع وهو قادم يمثلون الشهوات الجسدية والرذائل الكثيرة، التي تعمل في قلوبنا، وتشتت أفكارنا وتفسد صلواتنا. لكن الأعمى كان يصرخ أكثر كثيرًا، لأنه كلما هاجمتنا الأفكار التي لا تهدأ يلزمنا بالأكثر أن نصلي في حرارة[783].
البابا غريغوريوس (الكبير)