لوقا 20 - تفسير إنجيل لوقا
مقاومو الصداقة الإلهية الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي
في الأصحاح السابق تقدم رب المجد يسوع إلى أورشليم ليقدم حياته المبذولة ثمنًا لصداقتنا معه، هذه الصداقة التي كلفته كل هذا الثمن قبلها البسطاء وتجاوبوا معها، أما القادة مدَّعو الحكمة فقاوموا السيد بكل وسيلة. تارة قاوموه في تعليمه مشككين في سلطانه، وأخرى باتهامه كمثيرٍ للشعب ضد السلطات ومحرض علي عدم دفع الجزية الخ. هذه المقاومة في حقيقتها إخفاء لرعايتهم لأنفسهم عوض رعاية الشعب، واهتمامهم بمصالحهم الخاصة عوض المصلحة العامة. وكما سبق فأعلن حزقيال النبي على لسان الرب: "ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم، ألا يرعى الرعاة الغنم؟ تأكلون الشحم وتلبسون الصوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم، المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وعنف تسلطتم عليهم... هاأنذا أسأل عن غنمي وافتقدها... أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب، وأطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح، وأبيد السمين القوي وأرعاها بعدل" (حز 34: 2-16).
هكذا يكشف الرب للرعاة عن فشلهم التام في رعايتهم لغنمه العاقل ليتسلم بنفسه رعاية شعبه، معلنًا محبته العملية الباذلة على الصليب. هذا الخط يظهر واضحًا في الأناجيل الأربعة في الفترة ما بين دخول السيد المسيح أورشليم حتى صلبه، وفي قراءات أسبوع الآلام، حيث يكشف روح الله عن فشل الرعاية اليهودية الجاحدة وعجزها، ليتسلم الرب بنفسه رعاية شعبه خلال الصليب.
1. مقاومة تعليمه بإنكار سلطانه
1-8.
2. مقاومة الكرّام (مثل الكرامين)
9-19.
3. سؤال بخصوص الجزية
20-26.
4. سؤال بخصوص القيامة
27-40.
5. ابن داود وربه
41-44.
6. تحذير من الكتبة المرائين
45-47.
1. مقاومة تعليمه بإنكار سلطانه
قلنا أن السيد المسيح جاء يقدم صداقته للبشرية لا خلال المشاعر المجردة، إنما خلال رفع الإنسان إلي شبهه وتمتعه بحياته فيه، لذا قام بطرد الباعة وتطهير الهيكل ثم وقف يعلم. فصار يجتذب النفوس إليه بالحب الحقّ في حياة مقدسة.
أمام هذا المنظر وقف المقاومون من رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ مبهورين، فقد جذب الشعب بسلطان مع أنه ليس من سبط هرون وليس له دور رسمي في الهيكل، فصاروا يسألونه عن سرّ سلطانه، لا كاستفسار، وإنما بدافع الحسد والتخوف على مراكزهم. هذا ما قاله الإنجيلي هكذا:
"وفي أحد تلك الأيام إذ كان يعلم الشعب في الهيكل ويبشر،
وقف رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ.
وكلموه، قائلين: قل لنا بأي سلطان تفعل هذا؟
أو من هو الذي أعطاك هذا السلطان؟
فأجاب وقال لهم: وأنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة، فقولوا لي:
معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟
فتآمروا فيما بينهم قائلين: إن قلنا من السماء، يقول فلماذا لم تؤمنوا به؟
وإن قلنا من الناس فجميع الشعب يرجمونا، لأنهم واثقون بأن يوحنا نبي.
فأجابوا إنهم لا يعلمون من أين.
فقال لهم يسوع: ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا" [1-8].
لقد سبق لنا الحديث عن هذا الحوار بين قادة اليهود والسيد المسيح في تفسيريّ إنجيل متى 21: 23-27 وإنجيل مرقس 11: 27-33.
وإنني أكتفي هنا بعرض النقاط التالية:
أولًا: يقول القديس أغسطينوس إن الإنجيلي لوقا لم يذكر ذهاب السيد المسيح إلى بيت عنيا بعد تطهيره للهيكل وعودته منها، وتصرفه بالنسبة لشجرة التين العقيمة وحديثه مع تلاميذه الذين دهشوا إذ رأوا التينة قد يبست، إنما يتحدث عن هذا الحوار بين السيد المسيح وهؤلاء القادة.
ثانيًا :قدم رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ سؤالين لا للاستفسار رغبة في المعرفة وإنما للإثارة رغبة في التحطيم، إذ قالوا: "قل لنا بأي سلطان تفعل هذا؟" وكانوا يقصدون بهذا أنه ليس من سبط لاوي، ولا ينتمي إلى أية جماعة قيادية لها حق التعليم، فكيف يتجاسر ويعلم هكذا في الهيكل؟ وكان يمكن للسيد أن يجيبهم من كتب الشريعة عينها التي يحسبونه كاسرًا لها بتعليمه وهو من سبط يهوذا لا سبط لاوي، وأيضًا من كتب الأنبياء. ففي كتب الشريعة (الأسفار الخمسة)، يوضح أن لاوي وهو في صلب أبيه إبراهيم انحنى لملكي صادق - الذي هو مجرد رمز للسيد المسيح - يقدم له العشور، أفلا يليق بالمرموز إليه أن يعلم أولاد إبراهيم؟ وكان يمكن أن يستعرض نبوات بلا حصر عن صدق رسالته وتأكيد أنه المسيا.
لو أن هؤلاء القادة جاءوا يستفسرون طالبين الحق لما بخل عليهم السيد بالكشف عن نفسه من كتبهم، لكنه يعلم أنهم جاءوا للمناقشات الغبية غير المجدية بقصد الانشغال بعيدًا عن الخدمة الجوهرية، لذا لم يجبهم عن أسئلتهم إلا بسؤال يفحمهم. الخادم الذي يحمل روح سيده لا يدخل في مناقشات غبية تفسد ذهنه وتسحب وقته عن العمل الرئيسي الجاد لخلاص إخوته، إنما يفعل كما صنع نحميا حينما جاءه الأعداء يطلبون معه الحوار، فأجابهم بأن اليوم هو يوم عمل (نح 6: 3 ،9).
أما السؤال الثاني فهو: "من هو الذي أعطاك هذا السلطان؟" فقد سبقوا فاتهموه أنه ببعلزبول يخرج الشياطين، لذا أرادوا تشكيك الشعب فيه أنه في تعليمه لا يستمد السلطان من الله بل من الشيطان. وهنا أيضًا أفحمهم بسؤالهم عن معمودية يوحنا. فقد أعلن يوحنا بعماده عن سرّ سلطان السيد المسيح حين شهد الآب علانية عن المسيا لحظات عماده في الأردن.
2. مقاومة الكرام (مثل الكرامين الأشرار)
في حوارهم أرادوا اتهام السيد المسيح أن تعليمه لا يقوم على أساس ناموس شرعي إذ هو ليس بكاهنٍ أو معلمٍ رسميٍ، وأن مصدر سلطانه مشكوك فيه، فسألهم السيد عن معمودية يوحنا ليفحمهم. الآن إذ يقدم مثل الكرامين الأشرار الذين أرادوا اغتصاب الكرم من صاحبه، فضح هؤلاء المعلمين بطريقة رمزية أدركوها حتى أرادوا قتله لولا خوفهم من الشعب. لقد أظهر لهم أنه ليس هو المتعدي على السلطان الإلهي بل هو الابن الوارث الذي يقاومه الكرامون الذين أقامهم الله في كرمه للعمل، فأرادوا اغتصاب الكرم لحسابهم الذاتي.
لقد سبق لنا دراسة هذا المثل في دراستنا لإنجيل متى 21: 33 الخ. ولإنجيل مرقس 12: 1-12، لذا أكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:
أولًا: "أبرز السيد المسيح تكريمه للإنسان من جانبين رئيسيين، الجانب الأول أنه شبّه الله - صاحب الكرم- بإنسان، مكرمًا إيانا بهذا التشبيه، أما من الجانب الآخر فهو حديثه عن تسليم الكرم لكرامين وسفره إلى بلد بعيد. الله لم يترك كرمه وينطلق إلى بلد بعيد مكانيًا لأنه حاّل في كل موضع فكم بالأكثر في كرمه، ولا رعويًا فإن عنايته قائمة بلا انقطاع، إنما قوله إنه مسافر إلى بلد بعيد إنما تعبير عن تقديسه للحرية الإنسانية، فقد سلم الكرم للكرامين، واهبًا إياهم كمال الحرية للتصرف كمن قد تركهم وانطلق بعيدًا لا لكي لا يسندهم،وإنما لا يلزمهم بسلوك معين في الرعاية. إنه لا يضغط على الرعاة ليسلكوا في رعايتهم لاإراديًا.
ثانيًا :ما هو الثمر الذي يطلبه صاحب الكرم من كراميه؟ يجيب الأب ثيؤفلاكتيوس: ]ماذا يربح الله منا إلا معرفته التي هي لنفعنا نحن.]
ثالثًا: من هم هؤلاء العبيد الثلاثة الذين سبقوا الوارث، الذين اضطهدوا الكرامين عوض تقديم الثمار لحساب صاحب الكرم؟
* العبد الأول الذي أرسله الرب ليجمع لحسابه هو الناموس الطبيعي الذي وهبه الله للبشرية حتى قبل الناموس الموسوي، وقد كسر الإنسان هذا الناموس الطبيعي، الأمر الذي وضح بقوة في قتل هابيل، فقدم قايين رائحة الحسد الملطخة بدم برئ عوض الحب الأخوي، وقد عاش رجال الإِيمان قبل الناموس تحت ضيقات كثيرة من قِبل الأشرار.
* العبد الثاني الذي بعث به الرب هو الناموس الموسوي على يدي موسى، ومع هذا فقد عانى موسى الأمرين من قبل اليهود بتذمرهم غير المنقطع. كما عاش الناموس الموسوي مُضطهدًا من كل القيادات اليهودية بتحويله من الروح إلى الحرف القاتل. فإن كان قادة اليهود قد ظهروا كغيورين على الشريعة ومحافظين عليها، إنما في المظهر الخارجي البرّاق، أما بحياتهم وسلوكهم فقد قتلوها وأفسدوا غايتها ورسالتها بتعليمهم الحرفي.
* العبد الثالث الذي قدمه صاحب الكرم هو النبوة، فقد بُعث مجموعة من الأنبياء يحثوا الشعب على التوبة ويعلنوا عن مجيء المسيا المخلص، وكان نصيب الأنبياء الضيق والاضطهاد والقتل.
يمكننا أن نقول بأن السيد المسيح وهو يحدث اليهود خاصة قادتهم، فإن هؤلاء الحاضرين أنفسهم مسئولون عن قتل هؤلاء العبيد الثلاثة. فالقادة الحاضرون في عصر السيد المسيح كانوا يعملون ضد الناموس الطبيعي، كما ضد الناموسالموسوي، وأيضًا ضد النبوة. فمن جهة حياتهم وسلوكهم لم يراعوا حتى الناموس الطبيعي نفسه، ومن جهة تعليمهم قتلوا الناموس الموسوي بتطبيقه بطريقة حرفية جامدة فتمسكوا بالظل والرمز دون الاهتمام بالحق والمرموز إليه، ومن جهة النبوات رفضوها لأنهم رفضوا المخلص غاية الناموس وموضوع النبوات.
رابعًا :ربما يستصعب البعض دعوة السيد المسيح نفسه بالوارث، فهل مات الآب ليرثه الابن؟ حاشا، إنما تقدم الوارث لا ليسحب من الأب ماله، إذ ما هو للآب فهو للابن، لكنه دعي نفسه وارثًا بكونه قد ترك مجده بإرادته مخليًا ذاته ليكون ممثلًا لنا ونائبًا عنا، حتى متى مات السيد المسيح بالجسد وقام نال باسمنا ماله كميراثٍ لنا بشركتنا معه في المجد. لقد حمل هذا اللقب "وارثًا" كرأس للكنيسة لكي ترث باسم رأسها ومعه وفيه ما هو له. لذلك يقول القديس أمبروسيوس :[المسيح هو وارث وفي نفس الوقت وصي.]
خامسًا :يمكننا أن نفهم من العبارة التالية: "فلما رآه الكرامون، تآمروا فيما بينهم قائلين: هذا هو الوارث، هلموا نقتله لكي يصير لنا الميراث" [14]. أراد السيد المسيح أن يوضح لهم أن ما يرتكبوه ضده لا يتم عن عدم معرفةٍ، وإنما عن حسدٍ. إنهم خلال الناموس والأنبياء يدركون أنه المسيا، لكنه ليس حسب أهوائهم، لذا قتلوه عمدًا على الصليب.
سادسًا: يُفهم من العبارة: "فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه" [15]، من الجانب الحرفي أنه صُلب على جبل الجلجثة خارج أورشليم، كما يمكن أيضًا أن يُفهم بأن اليهود - وهو كرم الرب - سلموا الوارث لبيلاطس والجند الرومان ليقتلوه، سلموه خارج الكرم! ويمكننا أيضًا أن نفهم أن إخراجه خارج الكرم لقتله يعني رفضه. أخرجه الجاحدون الأشرار خارج قلوبهم، كرم الرب الداخلي، فقدموا له الآلام عوض الحب! بهذا يمكننا أن نفهم عبارة الرسول بولس: "فلنخرج إذًا إليه خارج المحلة حاملين عاره" (عب 13: 13) بمعنى أننا إذ صرنا أتباع المصلوب، نُرفض نحن أيضًا من العالم، فلا يكون لنا موضع في القلوب. فنُطرد خارج قلوبهم ونُسلم لبغضتهم حاملين كل تعييراتهم ومتاعبهم من نحونا. بمعنى آخر لا ينتظر المؤمن وهو يقدم كل الحب للعالم أن يرد له العالم الحب بالحب، وإنما يرد له محبته بالطرد خارجًا ليحمل مع فاديه صليبه ويقبل عاره!
سابعًا: جاء سؤال السيد المسيح لهم: "فماذا يفعل بهم صاحب الكرم؟!" [15]، لا لينتظر الإجابة فيبرر ما سيحل بها من هلاك وانتزاعهم من العمل الرعوي، فقد كانت الإجابة واضحة تمامًا ولا تحتاج إلى نقاش: "يأتي ويهلك هؤلاء الكرامين ويعطي الكرم لآخرين" [16]، إنما قال القديس باسيليوس الكبير أنه أراد لهم مراجعتهم لأنفسهم وتوبتهم. كأن السيد المسيح حتى اللحظات الأخيرة قبل صلبه أراد من القيادات اليهودية مراجعتها لحساباتها الروحية، مشتاقًا إلى توبة الكل ورجوعهم إلى الحق.
أما قوله "يأتي"، هنا فيشير بالأكثر إلى حلول الروح القدس علي الكنيسة، إذ حّل عليها ليشكلها من جديد تحت قيادة تلاميذ الرب ورسله عوض الكرامين القدامى.
وكأن هذا المثل يقدم ملخصًا رمزيًا لعمل الله الخلاصي وتدبيره ورعايته للإنسان غير المنقطعة، فتحدث عن عطية الناموس الطبيعي، والناموس الموسوي، والأنبياء (الثلاثة عبيد الذين أرسلهم صاحب الكرم) ثم تحدث عن التجسد الإلهي (مجيء الوارث) وصلبه خارج المحلة، وطرده للكرامين القدامى، وإقامة كرامين جدد يعمل الروح القدس فيهم.
ثامنًا: إذ تحدث عن رفض الوارث وقتله خارج المحلة عاد ليعلن أنه الحجر المرفوض هو حجر الزاوية، إذ يقول: "الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، كل من يسقط على ذلك الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" [17-18]. ويلاحظ في هذا التشبيه الآتي:
أ. أنه مقتبس من العهد القديم (مز 118: 22) وقد تحقق الآن. فما يرتكبه هؤلاء القادة الأشرار الذين كان يلزمهم إقامة البناء الروحي على شخص المسيا - حجر الزاوية - إنما سبق فرآه المرتل وأعلنه. وكأن السيد المسيح يقول لهم ما تفعلونه الآن إنما سبق فأعلنه أنبياؤكم بحزن ومرارة.
ب. لُقب السيد المسيح "حجرًا" علامة التجسد الإلهي، والإخلاء، فقد قبل طبيعتنا الترابية، لم يأتِ كملك عظيم مجيد وإنما كإنسان أخلى ذاته فصار حجرًا مرذولًا من البنائين. هذا الحجر سبق فأعلن عنه دانيال النبي (2: 34) أنه ليس مقطوع بالأيدي، حجر صغير يصير جبلًا يملأ كل المسكونة.
ج. هذا الحجر المرذول الذي يُطرح خارج المحلة، يصير حجر الزاوية الذي تقوم عليه الكنيسة التي تضم أعضاء من اليهود وأعضاء من الأمم، يجتمعون معًا ويتحدون كما على حجر الزاوية.
تاسعًا: يرى القديس أغسطينوس أن الذين يسقطون عليه فيترضضون هم الذين رفضوه حين جاء مخليًا ذاته كمن هو آخر الكل، فيسقط هؤلاء الجاحدون على ذاك الحجر المتواضع كمن هو على الأرض. أما الذين يسقط عليهم فيسحقهم فيشيرون إلى الذين ماتوا في شرهم بلا توبة فيأتي رب المجد كما على السحاب من فوق يسقط عليهم، إذ يقول: [يسقطون هم عليه بكونه نزل متواضعًا، أما لكونه هو العالي فسيسقط عليهم ويسحقهم عند مجيئه في مجده، هؤلاء الذين سبق فرضضهم في إتضاعه
لوقا 20 - تفسير إنجيل لوقا مقاومو الصداقة الإلهية الجزء(1) للقمص تادرس يعقوب ملطي في الأصحاح السابق تقدم رب المجد يسوع إلى أورشليم ليقدم حياته المبذولة ثمنًا لصداقتنا معه، هذه الصداقة التي كلفته كل هذا الثمن قبلها البسطاء وتجاوبوا معها، أما القادة مدَّعو الحكمة فقاوموا السيد بكل وسيلة. تارة قاوموه في تعليمه مشككين في سلطانه، وأخرى باتهامه كمثيرٍ للشعب ضد السلطات ومحرض علي عدم دفع الجزية الخ. هذه المقاومة في حقيقتها إخفاء لرعايتهم لأنفسهم عوض رعاية الشعب، واهتمامهم بمصالحهم الخاصة عوض المصلحة العامة. وكما سبق فأعلن حزقيال النبي على لسان الرب: "ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم، ألا يرعى الرعاة الغنم؟ تأكلون الشحم وتلبسون الصوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم، المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وعنف تسلطتم عليهم... هاأنذا أسأل عن غنمي وافتقدها... أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب، وأطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح، وأبيد السمين القوي وأرعاها بعدل" (حز 34: 2-16). هكذا يكشف الرب للرعاة عن فشلهم التام في رعايتهم لغنمه العاقل ليتسلم بنفسه رعاية شعبه، معلنًا محبته العملية الباذلة على الصليب. هذا الخط يظهر واضحًا في الأناجيل الأربعة في الفترة ما بين دخول السيد المسيح أورشليم حتى صلبه، وفي قراءات أسبوع الآلام، حيث يكشف روح الله عن فشل الرعاية اليهودية الجاحدة وعجزها، ليتسلم الرب بنفسه رعاية شعبه خلال الصليب. 1. مقاومة تعليمه بإنكار سلطانه 1-8. 2. مقاومة الكرّام (مثل الكرامين) 9-19. 3. سؤال بخصوص الجزية 20-26. 4. سؤال بخصوص القيامة 27-40. 5. ابن داود وربه 41-44. 6. تحذير من الكتبة المرائين 45-47. 1. مقاومة تعليمه بإنكار سلطانه قلنا أن السيد المسيح جاء يقدم صداقته للبشرية لا خلال المشاعر المجردة، إنما خلال رفع الإنسان إلي شبهه وتمتعه بحياته فيه، لذا قام بطرد الباعة وتطهير الهيكل ثم وقف يعلم. فصار يجتذب النفوس إليه بالحب الحقّ في حياة مقدسة. أمام هذا المنظر وقف المقاومون من رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ مبهورين، فقد جذب الشعب بسلطان مع أنه ليس من سبط هرون وليس له دور رسمي في الهيكل، فصاروا يسألونه عن سرّ سلطانه، لا كاستفسار، وإنما بدافع الحسد والتخوف على مراكزهم. هذا ما قاله الإنجيلي هكذا: "وفي أحد تلك الأيام إذ كان يعلم الشعب في الهيكل ويبشر، وقف رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ. وكلموه، قائلين: قل لنا بأي سلطان تفعل هذا؟ أو من هو الذي أعطاك هذا السلطان؟ فأجاب وقال لهم: وأنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة، فقولوا لي: معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟ فتآمروا فيما بينهم قائلين: إن قلنا من السماء، يقول فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس فجميع الشعب يرجمونا، لأنهم واثقون بأن يوحنا نبي. فأجابوا إنهم لا يعلمون من أين. فقال لهم يسوع: ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا" [1-8]. لقد سبق لنا الحديث عن هذا الحوار بين قادة اليهود والسيد المسيح في تفسيريّ إنجيل متى 21: 23-27 وإنجيل مرقس 11: 27-33. وإنني أكتفي هنا بعرض النقاط التالية: أولًا: يقول القديس أغسطينوس إن الإنجيلي لوقا لم يذكر ذهاب السيد المسيح إلى بيت عنيا بعد تطهيره للهيكل وعودته منها، وتصرفه بالنسبة لشجرة التين العقيمة وحديثه مع تلاميذه الذين دهشوا إذ رأوا التينة قد يبست، إنما يتحدث عن هذا الحوار بين السيد المسيح وهؤلاء القادة. ثانيًا :قدم رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ سؤالين لا للاستفسار رغبة في المعرفة وإنما للإثارة رغبة في التحطيم، إذ قالوا: "قل لنا بأي سلطان تفعل هذا؟" وكانوا يقصدون بهذا أنه ليس من سبط لاوي، ولا ينتمي إلى أية جماعة قيادية لها حق التعليم، فكيف يتجاسر ويعلم هكذا في الهيكل؟ وكان يمكن للسيد أن يجيبهم من كتب الشريعة عينها التي يحسبونه كاسرًا لها بتعليمه وهو من سبط يهوذا لا سبط لاوي، وأيضًا من كتب الأنبياء. ففي كتب الشريعة (الأسفار الخمسة)، يوضح أن لاوي وهو في صلب أبيه إبراهيم انحنى لملكي صادق - الذي هو مجرد رمز للسيد المسيح - يقدم له العشور، أفلا يليق بالمرموز إليه أن يعلم أولاد إبراهيم؟ وكان يمكن أن يستعرض نبوات بلا حصر عن صدق رسالته وتأكيد أنه المسيا. لو أن هؤلاء القادة جاءوا يستفسرون طالبين الحق لما بخل عليهم السيد بالكشف عن نفسه من كتبهم، لكنه يعلم أنهم جاءوا للمناقشات الغبية غير المجدية بقصد الانشغال بعيدًا عن الخدمة الجوهرية، لذا لم يجبهم عن أسئلتهم إلا بسؤال يفحمهم. الخادم الذي يحمل روح سيده لا يدخل في مناقشات غبية تفسد ذهنه وتسحب وقته عن العمل الرئيسي الجاد لخلاص إخوته، إنما يفعل كما صنع نحميا حينما جاءه الأعداء يطلبون معه الحوار، فأجابهم بأن اليوم هو يوم عمل (نح 6: 3 ،9). أما السؤال الثاني فهو: "من هو الذي أعطاك هذا السلطان؟" فقد سبقوا فاتهموه أنه ببعلزبول يخرج الشياطين، لذا أرادوا تشكيك الشعب فيه أنه في تعليمه لا يستمد السلطان من الله بل من الشيطان. وهنا أيضًا أفحمهم بسؤالهم عن معمودية يوحنا. فقد أعلن يوحنا بعماده عن سرّ سلطان السيد المسيح حين شهد الآب علانية عن المسيا لحظات عماده في الأردن. 2. مقاومة الكرام (مثل الكرامين الأشرار) في حوارهم أرادوا اتهام السيد المسيح أن تعليمه لا يقوم على أساس ناموس شرعي إذ هو ليس بكاهنٍ أو معلمٍ رسميٍ، وأن مصدر سلطانه مشكوك فيه، فسألهم السيد عن معمودية يوحنا ليفحمهم. الآن إذ يقدم مثل الكرامين الأشرار الذين أرادوا اغتصاب الكرم من صاحبه، فضح هؤلاء المعلمين بطريقة رمزية أدركوها حتى أرادوا قتله لولا خوفهم من الشعب. لقد أظهر لهم أنه ليس هو المتعدي على السلطان الإلهي بل هو الابن الوارث الذي يقاومه الكرامون الذين أقامهم الله في كرمه للعمل، فأرادوا اغتصاب الكرم لحسابهم الذاتي. لقد سبق لنا دراسة هذا المثل في دراستنا لإنجيل متى 21: 33 الخ. ولإنجيل مرقس 12: 1-12، لذا أكتفي هنا بإبراز النقاط التالية: أولًا: "أبرز السيد المسيح تكريمه للإنسان من جانبين رئيسيين، الجانب الأول أنه شبّه الله - صاحب الكرم- بإنسان، مكرمًا إيانا بهذا التشبيه، أما من الجانب الآخر فهو حديثه عن تسليم الكرم لكرامين وسفره إلى بلد بعيد. الله لم يترك كرمه وينطلق إلى بلد بعيد مكانيًا لأنه حاّل في كل موضع فكم بالأكثر في كرمه، ولا رعويًا فإن عنايته قائمة بلا انقطاع، إنما قوله إنه مسافر إلى بلد بعيد إنما تعبير عن تقديسه للحرية الإنسانية، فقد سلم الكرم للكرامين، واهبًا إياهم كمال الحرية للتصرف كمن قد تركهم وانطلق بعيدًا لا لكي لا يسندهم،وإنما لا يلزمهم بسلوك معين في الرعاية. إنه لا يضغط على الرعاة ليسلكوا في رعايتهم لاإراديًا. ثانيًا :ما هو الثمر الذي يطلبه صاحب الكرم من كراميه؟ يجيب الأب ثيؤفلاكتيوس: ]ماذا يربح الله منا إلا معرفته التي هي لنفعنا نحن.] ثالثًا: من هم هؤلاء العبيد الثلاثة الذين سبقوا الوارث، الذين اضطهدوا الكرامين عوض تقديم الثمار لحساب صاحب الكرم؟ * العبد الأول الذي أرسله الرب ليجمع لحسابه هو الناموس الطبيعي الذي وهبه الله للبشرية حتى قبل الناموس الموسوي، وقد كسر الإنسان هذا الناموس الطبيعي، الأمر الذي وضح بقوة في قتل هابيل، فقدم قايين رائحة الحسد الملطخة بدم برئ عوض الحب الأخوي، وقد عاش رجال الإِيمان قبل الناموس تحت ضيقات كثيرة من قِبل الأشرار. * العبد الثاني الذي بعث به الرب هو الناموس الموسوي على يدي موسى، ومع هذا فقد عانى موسى الأمرين من قبل اليهود بتذمرهم غير المنقطع. كما عاش الناموس الموسوي مُضطهدًا من كل القيادات اليهودية بتحويله من الروح إلى الحرف القاتل. فإن كان قادة اليهود قد ظهروا كغيورين على الشريعة ومحافظين عليها، إنما في المظهر الخارجي البرّاق، أما بحياتهم وسلوكهم فقد قتلوها وأفسدوا غايتها ورسالتها بتعليمهم الحرفي. * العبد الثالث الذي قدمه صاحب الكرم هو النبوة، فقد بُعث مجموعة من الأنبياء يحثوا الشعب على التوبة ويعلنوا عن مجيء المسيا المخلص، وكان نصيب الأنبياء الضيق والاضطهاد والقتل. يمكننا أن نقول بأن السيد المسيح وهو يحدث اليهود خاصة قادتهم، فإن هؤلاء الحاضرين أنفسهم مسئولون عن قتل هؤلاء العبيد الثلاثة. فالقادة الحاضرون في عصر السيد المسيح كانوا يعملون ضد الناموس الطبيعي، كما ضد الناموسالموسوي، وأيضًا ضد النبوة. فمن جهة حياتهم وسلوكهم لم يراعوا حتى الناموس الطبيعي نفسه، ومن جهة تعليمهم قتلوا الناموس الموسوي بتطبيقه بطريقة حرفية جامدة فتمسكوا بالظل والرمز دون الاهتمام بالحق والمرموز إليه، ومن جهة النبوات رفضوها لأنهم رفضوا المخلص غاية الناموس وموضوع النبوات. رابعًا :ربما يستصعب البعض دعوة السيد المسيح نفسه بالوارث، فهل مات الآب ليرثه الابن؟ حاشا، إنما تقدم الوارث لا ليسحب من الأب ماله، إذ ما هو للآب فهو للابن، لكنه دعي نفسه وارثًا بكونه قد ترك مجده بإرادته مخليًا ذاته ليكون ممثلًا لنا ونائبًا عنا، حتى متى مات السيد المسيح بالجسد وقام نال باسمنا ماله كميراثٍ لنا بشركتنا معه في المجد. لقد حمل هذا اللقب "وارثًا" كرأس للكنيسة لكي ترث باسم رأسها ومعه وفيه ما هو له. لذلك يقول القديس أمبروسيوس :[المسيح هو وارث وفي نفس الوقت وصي.] خامسًا :يمكننا أن نفهم من العبارة التالية: "فلما رآه الكرامون، تآمروا فيما بينهم قائلين: هذا هو الوارث، هلموا نقتله لكي يصير لنا الميراث" [14]. أراد السيد المسيح أن يوضح لهم أن ما يرتكبوه ضده لا يتم عن عدم معرفةٍ، وإنما عن حسدٍ. إنهم خلال الناموس والأنبياء يدركون أنه المسيا، لكنه ليس حسب أهوائهم، لذا قتلوه عمدًا على الصليب. سادسًا: يُفهم من العبارة: "فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه" [15]، من الجانب الحرفي أنه صُلب على جبل الجلجثة خارج أورشليم، كما يمكن أيضًا أن يُفهم بأن اليهود - وهو كرم الرب - سلموا الوارث لبيلاطس والجند الرومان ليقتلوه، سلموه خارج الكرم! ويمكننا أيضًا أن نفهم أن إخراجه خارج الكرم لقتله يعني رفضه. أخرجه الجاحدون الأشرار خارج قلوبهم، كرم الرب الداخلي، فقدموا له الآلام عوض الحب! بهذا يمكننا أن نفهم عبارة الرسول بولس: "فلنخرج إذًا إليه خارج المحلة حاملين عاره" (عب 13: 13) بمعنى أننا إذ صرنا أتباع المصلوب، نُرفض نحن أيضًا من العالم، فلا يكون لنا موضع في القلوب. فنُطرد خارج قلوبهم ونُسلم لبغضتهم حاملين كل تعييراتهم ومتاعبهم من نحونا. بمعنى آخر لا ينتظر المؤمن وهو يقدم كل الحب للعالم أن يرد له العالم الحب بالحب، وإنما يرد له محبته بالطرد خارجًا ليحمل مع فاديه صليبه ويقبل عاره! سابعًا: جاء سؤال السيد المسيح لهم: "فماذا يفعل بهم صاحب الكرم؟!" [15]، لا لينتظر الإجابة فيبرر ما سيحل بها من هلاك وانتزاعهم من العمل الرعوي، فقد كانت الإجابة واضحة تمامًا ولا تحتاج إلى نقاش: "يأتي ويهلك هؤلاء الكرامين ويعطي الكرم لآخرين" [16]، إنما قال القديس باسيليوس الكبير أنه أراد لهم مراجعتهم لأنفسهم وتوبتهم. كأن السيد المسيح حتى اللحظات الأخيرة قبل صلبه أراد من القيادات اليهودية مراجعتها لحساباتها الروحية، مشتاقًا إلى توبة الكل ورجوعهم إلى الحق. أما قوله "يأتي"، هنا فيشير بالأكثر إلى حلول الروح القدس علي الكنيسة، إذ حّل عليها ليشكلها من جديد تحت قيادة تلاميذ الرب ورسله عوض الكرامين القدامى. وكأن هذا المثل يقدم ملخصًا رمزيًا لعمل الله الخلاصي وتدبيره ورعايته للإنسان غير المنقطعة، فتحدث عن عطية الناموس الطبيعي، والناموس الموسوي، والأنبياء (الثلاثة عبيد الذين أرسلهم صاحب الكرم) ثم تحدث عن التجسد الإلهي (مجيء الوارث) وصلبه خارج المحلة، وطرده للكرامين القدامى، وإقامة كرامين جدد يعمل الروح القدس فيهم. ثامنًا: إذ تحدث عن رفض الوارث وقتله خارج المحلة عاد ليعلن أنه الحجر المرفوض هو حجر الزاوية، إذ يقول: "الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، كل من يسقط على ذلك الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" [17-18]. ويلاحظ في هذا التشبيه الآتي: أ. أنه مقتبس من العهد القديم (مز 118: 22) وقد تحقق الآن. فما يرتكبه هؤلاء القادة الأشرار الذين كان يلزمهم إقامة البناء الروحي على شخص المسيا - حجر الزاوية - إنما سبق فرآه المرتل وأعلنه. وكأن السيد المسيح يقول لهم ما تفعلونه الآن إنما سبق فأعلنه أنبياؤكم بحزن ومرارة. ب. لُقب السيد المسيح "حجرًا" علامة التجسد الإلهي، والإخلاء، فقد قبل طبيعتنا الترابية، لم يأتِ كملك عظيم مجيد وإنما كإنسان أخلى ذاته فصار حجرًا مرذولًا من البنائين. هذا الحجر سبق فأعلن عنه دانيال النبي (2: 34) أنه ليس مقطوع بالأيدي، حجر صغير يصير جبلًا يملأ كل المسكونة. ج. هذا الحجر المرذول الذي يُطرح خارج المحلة، يصير حجر الزاوية الذي تقوم عليه الكنيسة التي تضم أعضاء من اليهود وأعضاء من الأمم، يجتمعون معًا ويتحدون كما على حجر الزاوية. تاسعًا: يرى القديس أغسطينوس أن الذين يسقطون عليه فيترضضون هم الذين رفضوه حين جاء مخليًا ذاته كمن هو آخر الكل، فيسقط هؤلاء الجاحدون على ذاك الحجر المتواضع كمن هو على الأرض. أما الذين يسقط عليهم فيسحقهم فيشيرون إلى الذين ماتوا في شرهم بلا توبة فيأتي رب المجد كما على السحاب من فوق يسقط عليهم، إذ يقول: [يسقطون هم عليه بكونه نزل متواضعًا، أما لكونه هو العالي فسيسقط عليهم ويسحقهم عند مجيئه في مجده، هؤلاء الذين سبق فرضضهم في إتضاعه