لوقا 20 - تفسير إنجيل لوقا
مقاومو الصداقة الإلهية الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي
33. سؤاله بخصوص الجزية
حاول القادة تشكيك الجمع من جهة سلطان السيد المسيح، فسألهم السيد عن معمودية يوحنا المعمدان إن كانت من السماء أم من الأرض، فارتبكوا وتحيروا ليظهروا أمام الشعب غير مدركين الحق. جاء مثل الكرامين يحثهم علي التوبة حتى ولا ينزع الكرم منهم لكنهم عوض التوبة أرادوا أن يلقوا الأيادي عليه في تلك الساعة ولكنهم خافوا الشعب [19]. الآن صاروا يراقبونه ليصطادوه بكلمة، وبخداع سألوه بخصوص دفع الجزية، لا ليعرفوا رأيه، وإنما لكي إذا ما نادى بدفع الجزية حُسب في أعين الشعب مجاملًا للسلطات الرومانية المستعمرة، فيفقدوا ثقتهم فيه كمخلص من الحكم الروماني، وإن نادى بعدم دفعها اشتكوا عليه لدى السلطات كمثير فتنة بين الجماهير.
يقول الإنجيلي: "فشعر بمكرهم،
وقال لهم: لماذا تجربونني؟
أروني دينارًا! لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا: لقيصر
فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب،
وتعجبوا من جوابه وسكتوا" [23-26].
في تقديم فكر الآباء لمثل هذا النص في إنجيليّ متى ومرقس قلنا أن السيد المسيح هنا يقدم للإنسان مبدأ وطنيًا هامًا. فلكي يتمجد الله فيه يلزمه أن يقدم ما لقيصر لقيصر، يعطي للدولة حقها عليه، بل ويلتزم بإعطاء كل من يتعامل معهم حقوقهم المادية والمعنوية والاجتماعية. عبادتنا لله لا تكون علي حساب الآخرين، بل حبنا وخضوعنا وعطاؤنا للغير هو جزء لا يتجزأ من حياتنا الروحية، يتكامل مع عبادتنا لله. نعطي الآخرين، ليس خوفًا منهم، ولا مداهنة لهم، ولكن شهادة حق داخلي لأمانتنا وحبنا للرب نفسه.
لنعطِ أيضًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، بمعنى أننا نقدم للجسد ما له من التزام نحونا وما للروح للروح. فحياتنا الروحية ليست تحطيمًا لجسدنا (قيصر) وإنما هي تقديس له.
أيضًا يرى بعض الآباء مثل العلامة أوريجينوس أن قيصر هنا يشير إلى العالم أو عدو الخير، فإن تركنا في القلب محبة العالم يجد العالم فينا حقًا له فيغتصبنا، وهكذا إن كان لإبليس موضع فينا يقتحمنا. لذا يليق بنا ألا يجد قيصر العالم له شيء في قلبنا فلا يسحبنا إليه، بهذا نتمثل بربنا يسوع المسيح القائل إن رئيس هذا العالم آت وليس له فيه شيء! ليأتِ رئيس هذا العالم وليعمل العدو الشرير بكل طاقاته ضدنا، فإنه لا يجد في داخلنا شيئًا لحسابه فيهرب مغلوبًا منا!
سيأتي يوم الرب العظيم فيتقدم الله يأخذ من هم له، ويأخذ عدو الخير أيضًا من هم له. لنكن لله لا لإبليس، فيقتنينا الله أبناءً لملكوته. على حدّ تعبير كثير من الآباء نحن "عملة الله" أو "ديناره" قد نقُشت صورته علينا، فإن كانت صورته قد فُقدت فينا يلزمنا أن نغتسل بمياه المعمودية لتظهر صورته على عملته من جديد، ونبقى محتفظين بهذه الصورة الإلهية فينا خلال التوبة المستمرة حتى متى جاء الرب وجدنا ديناره الحامل صورته.
* في كل موضع نحن أكثر استعدادًا من الناس في دفع الضريبة المفروضة علينا، سواء العادية (السنوية) أو الطارئة... نحن نرد العبادة لله، أما الأمور الأخرى فنقدمها بسرور، نخدمكم ونتعرف عليكم كملوك وولاة على الناس، ونصلي لأجل سلطانكم الملوكي لكي يكون حكمكم عادلًا[824]
القديس يوستين الشهيد
* لترجع صورة قيصر التي على العملة لقيصر، وصورة الله التي على الإنسان (تك 1: 26، 27؛ 9: 6؛ 1كو 11: 7) ترجع لله. هكذا بالحق يُرد المال لقيصر وأما نفوسكم فلله[825].
العلامة ترتليان
* لنتبع كلام المخلص لا كمعنى أدبي صرف وبسيط "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، أي ادفعوا الضريبة التي عليكم، لكن من منا يعترض على دفع الضريبة الخاصة بقيصر؟! إذن هذه العبارة تحوي أسرارًا ومعنى خفيًا.
للإنسان صورتان، صورة قبلها من الله وقت الخليقة كما جاء في التكوين: "على صورة الله خلقه" (تك 1: 27)، والثانية أي صورة الإنسان الترابي (الأرضي) (1 كو 15: 49)، أخذها خلال عصيانه وخطيته عندما طرد من الفردوس إذ أغواه رئيس هذا العالم (يو 12: 31).
كما أن العملة تحمل صورة سلطان هذا العالم، هكذا الذي يكمل أعمال ملك الظلمة (أف 6: 12) يحمل صورته عليها.
يأمرنا يسوع أن نرد هذه الصورة وننتزعها لكي نحمل الأصل الذي خُلقنا عليه، فنكون مشابهين لله. بهذا نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله...
بنفس المعنى يقول بولس: "كما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضا صورة السماوي" (1 كو 15: 49). فالقول: "أعطوا ما لقيصر لقيصر" إنما يعني: "اتركوا صورة الإِنسان الأرضي". القوا الصورة الأرضية لتنالوا صورة السماوي وبهذا تعطوا ما لله لله[826]
العلامة أوريجينوس
هذا وقد قدم لنا القديس ساويرس الأنطاكي مقالًا مطولًا ورائعًا تحت عنوان "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، قام الشماس يوسف حبيب بترجمته ونشره ونرجو الرجوع إليه. وقد أبرز القديس أن الفريق الذي جاء للسيد المسيح يحمل اتجاهين متناقضين. الأول يمثله تلاميذ الفريسيين والثاني يمثله الهيرودسيون (مت 22: 16)، يسألونه إن كانوا يدفعون الجزية للحاكم الروماني أم يمتنعون.
يقول القديس ساويرس الأنطاكي أن الفريسيين كانوا يحرضون الشعب علي عدم دفع الجزية، حاسبين أنه ليس لهم ملك إلا الله وحده، وأن من يدفع الجزية يكون مقاومًا للناموس ومستبدلًا الله بقيصر غريب الجنس، معتمدين على التفسير الحرفي لبعض العبارات الكتابية مثل:
"إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه" (تث 32: 9)
"فإنك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك؛ من وسط إخوتك تجعل عليك ملكًا، لا يحل لك أن تجعل عليك رجلًا أجنبيًا ليس هو أخاك" (تث 17: 15).
"فإن الرب قاضينا، الرب شارعنا، الرب ملكنا هو يخلصنا" (إش 32: 22). وكما يذكر سفر الأعمال أن "يهوذا الجليلي" (أع 5: 37) جمع شعبًا غفيرًا ورائه يقودهم للثورة علي قيصر ورفض دفع الجزية له
وكان يهوذا هذا فريسيًا.
وعلى العكس كان الهيرودسيون ينصحون إخوتهم اليهود أن يبقوا في خضوع للرومان وأن يدفعوا الجزية المفروضة عليهم من أجل تمتعهم بالهدوء والسلام.
4. سؤاله بخصوص القيامة
في مثل الكرامين قال السيد المسيح عن الكرامين "تآمروا فيما بينهم" [14]. فإن كان الكرامون الأشرار منشقين علي أنفسهم، لكنهم يجتمعون معًا بروح المقاومة للسيد المسيح والتآمر ضده. الآن إذ فشل رؤساء الكهنة والكتبة في مؤامراتهم ضد السيد حين حاولوا تشويه سلطانه في التعليم [1-8]، وقام بعض الفريسيين وغالبًا معهم بعضًا من الهيرودسيين (مت 22: 15-16). يسألونه عن الجزية وقد فشلوا، قام قوم من الصدوقيين يجربونه في أمر القيامة من الأموات. وكان هؤلاء لا يؤمنون بقيامة الجسد بل ويظنون أن النفس تموت مع الجسد فلا تقوم.
قدموا له مثل امرأة تزوجت ولم تنجب وبعد موت رجلها أخذت الثاني فالثالث حتى السابع ومات الكل ولم تنجب، "ففي القيامة لمن منهم تكون زوجة؟ لأنها كانت زوجة للسبعة" [33].
جاءت إجابة السيد المسيح "أبناء هذا الدهر يُزوجون ويُزوجُّون. ولكن الذين حُسبوا أهلًا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوجون ولا يزوجَّون. إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضًا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة. وأما أن الموتى يقومون فقد دّل عليه موسى أيضًا في أمر العليقة كما يقول: الرب إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. وليس هو إله أموات بل إله أحياء، لأن الجميع عنده أحياء" [34-38].
سبق لنا تقديم تفسير آبائي لهذه العبارات في تفسير مت 22: 23-33، مر 12: 18-27، لذا أكتفي بالملاحظات التالية:
أولًا: أخطأ الصدوقيون الفهم فقد ظنوا الحياة الأبدية بفكر مادي، كل له زوجته وأولاده وحياته الجسدية المادية. لذا صحح الرب مفاهيمهم معلنًا أننا في الأبدية نعيش علي مستوى ملائكي، لا تحتاج أجسادنا إلي شبع مادي بصورة أو بأخرى، إذ تحمل طبيعة جديدة تليق بالسماء، فلا تأكل ولا تشرب ولا تمارس علاقات زوجية! كشف أيضا رب المجد أحد جوانب غاية الزواج ألا وهو الإنجاب، ففي هذا العالم توجد حاجة للزواج من أجل بقاء الجنس البشري، لكن في السماء إذ لا يوجد موت، فلا حاجة للإنجاب!
ثانيًا: يرى القديس أمبروسيوس أن المرأة التي تزوجت سبعة رجال ولم تنجب حتى ماتت هي المجمع اليهودي الذي التحم بالشريعة والنبوات وقُدمت له كل الإمكانيات للإِثمار ولم ينجب بسبب فهمه الحرفي لكلمة الله، لذا نال العطايا الإلهية دون أن ينتفع بها بل سقط تحت الموت.
يمكننا أيضًا أن نفهم المرأة التي تزوجت بالرجال السبعة ولم تنجب حتى ماتت أنها تشير إلى الإنسان الذي ارتبط بالزمن والزمنيات أو بمحبة العالم الذي يُرمز له برقم 7 إشارة إلى أيام الأسبوع السبعة. فإنه لا يستطيع أن ينجب ثمر الروح ويحيا ما لم يتخطى الرجال السبعة ويقبل الثامن الذي يشير إلى "الأبدية"، أو ما فوق الزمن بالمعمودية نقبل الختان الروحي الذي كان يُمارس جسديًا في اليوم الثامن. فنُدفن مع المسيح ونقوم معه في جدة الحياة (رو 6: 4). هذا هو الرجل الثامن: الارتباط بالمسيّا القائم من الأموات في أول الأسبوع أو اليوم الثامن من الأسبوع السابق، بحياته ننعم بالحياة المقامة ونحمل ثمار روحه القدوس فينا فلا يحطمنا الموت ولا يمسك بنا القبر، بل بقوة ننشد مع الرسول بولس: "ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هاوية؟! أما شوكة الموت فهي الخطية" (1 كو 15: 54-56).
ثالثًا:يقارن رب المجد بين أبناء هذا الدهر وبين الحياة في الدهر الآتي، معلنًا أنه في هذا الدهر نرتبط بأعمال جسدية مؤقتة مثل الزواج، أما في الدهر الآتي فتبطل هذه الأعمال الجسدية لتمارس حياة علي مستوى ملائكي. هذه المقارنة ألهبت قلوب الكثيرين للتدريب علي عربون الحياة الأبدية بالروح القدس وهم بعد في الجسد مثل العفة والنسك بفكرٍ روحيٍ سليمٍ؛ ففي رفضهم للزواج مثلًا أو نسكهم في الطعام لا ينظرون إلى هذه الأمور كأشياء دنسة أو محرمة، وإنما كأمورٍ زمنية تنتهي يليق بنا ضبطها ما استطعنا.
* ليته لا يعجب غير المؤمنين من أن الله سينزع أعمال أعضائنا الجسدية في الدهر الآتي، فإنها تبطل حتى في هذا الدهر[827].
الشهيد يوستين
* (في حديثه للعذارى المتبتلات)
لقد بدأتن فعلًا فيما ستكونون عليه!
لقد ملكتن فعلًا في هذا العالم مجد القيامة!
لقد عبرتن هذا العالم... إذ استمررتن طاهرات وعذارى، وصرتن علي قدم المساواة مع ملائكة الله[828].
الشهيد كبريانوس
* آمن أنك وإن مت فستحيا، فإن لم تؤمن بذلك فإنك وإن عشت تموت[829].
القديس أغسطينوس
رابعًا: إننا إذ نفكر في القيامة يلزمنا أن نترجى حياة سماوية فائقة، خلالها ننعم بصحبة السمائيين وننعم برؤية الله وجها لوجه مثلهم.
* عندما نصير مساويين لملائكة الله سنراه وجهًا لوجه كما يرون هم، ويكون لنا سلام عظيم نحوهم كما هم نحونا، فسنحبهم كما هم يحبوننا.
* إننا نتطلع إلي ما وعد به برجاء، أننا نصير مساوين لملائكة الله، ونجتمع معهم، وننعم برؤية الثالوث القدوس أما الآن فنحن نسير بالإيمان[830].
القديس أغسطينوس
* ]في تعزيته لأوستخيوم لنياحة والدتها باولا Paula يقول:[
لا نحزن لأننا خسرناها، بل بالحري نشكر الله أنها كانت لنا ولا تزال لنا، لأن الكل أحياء لله، والذين يرجعون إلى الرب لا يزالوا يُحسبون أعضاء عائلته.
لقد خسرناهم، هذا حق، لكن المساكن السماوية قد ربحتها. فإنها إذ كانت في الجسد كانت متغربة عن الرب (2 كو 5: 6)، كانت تشكو بدموع: "ويل لغربتي في ماشك، لسكني في خيام قيدار، طال على نفسي رحلتها" (راجع مز 120: 5-6)[831].
القديس جيروم
يرى العلامة ترتليان[832] في حديث الرب هنا عن عدم الزواج في الدهر الآتي لا يعني أن الإنسان يفقد كيانه كإنسان أو يخسر جسده، فكما يُسمح للملائكة أن تظهر على شكل بشر دون أن يفقدوا طبيعتهم الملائكية هكذا نصير نحن كملائكة الله دون فقدان لجسدنا البشري، وإنما لا تكون له متطلبات زمنية، بل يحمل طبيعة جديدة تليق بالحياة السماوية.
هذا أيضًا ما أكده القديس أغسطينوس بقوله: [كل المؤمنين الذين تعينوا أن يملكوا مع المسيح سيقومون بنفس الجسد بطريقة بها يُحسبون أهلًا أن يتغيروا إلي عدم الفساد الملائكي. إذ يصيرون مساوين لملائكة الله كما وعد الرب نفسه، ولكي يسبحونه بلا أي تراخٍ أو قلق. إنهم يعيشون في الرب ومعه أبديًا، ويتمتعون بفرح وطوباوية لا يمكن لإِنسان أن يعبر عنها أو يدركها[833].[
5. ابن داود وربه
إذ وقفت كل فئات اليهود القيادية تقاوم صداقة رب المجد يسوع بطريق أو آخر، وكان السيد يرد عليهم، لا رغبة في المجادلة، ولا دفاعًا عن نفسه، وإنما شوقًا في تصحيح مفاهيمهم لعله يوجد من بينهم من يقبل صداقته ويتجاوب مع محبته. الآن وقد دخل أورشليم واقترب وقت الآلام والصلب لذا صار إمكانية ارتباكهم في فهم المسيا المخلص أكبر. لأنهم إن كانوا قد تعثروا فيه وهو يصنع أعمالًا فائقة وبلا عدد فماذا يكون حالهم حينما يرونه تحت الآلام أو معلقًا علي الصليب؟! هذا كله دفعه لإعلان لاهوته من خلال كلمات المرتل، لعلهم يتداركون الأمر ويتفهمون سره.
"وقال لهم: كيف يقولون أن المسيح ابن داود،
وداود نفسه يقول في كتاب المزامير،
قال الرب لربي اجلس عن يميني
حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟!
فإذًا داود يدعوه ربًا، فكيف يكون ابنه"[41-44].
* لقد أعلن عن لاهوته في تواضع وليس في افتخار أو مباهاة، فقد قدم لهم السؤال وإذ صاروا في حيرة تركهم يبلغون النتيجة... لقد أبرز أنه ليس معارضًا للآب بل هو متفق معه، إذ يقاوم أعداء الابن الآب.
الأب ثيؤفلاكتيوس
* بالحق داود كان الأب والعبد بالنسبة للمسيح، فهو أبوه حسب الجسد، وعبده في الروح.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لا يُفهم الجلوس هنا بوضع معين لأعضاء جسدية كما لو كان الآب جالسًا عن اليسار والابن عن اليمين، إنما يُفسر "اليمين" بمعنى السلطان الذي يناله بالآب فيأتي ليدين بعد أن جاء ليُدان.
القديس أغسطينوس
* يوصي الرب بالإيمان به بكونه المسيح الرب إلهنا الذي يجلس عن يمين الله، فلا يُفهم الجلوس جسديًا، إذ هو حال في كل مكان، وهو في الآب... واحد معه في القوة والقدرة.
* الجلوس عن يمينه لا يجعله أعلى منه، كما أن إرساله من الآب لا يحط من شأنه لأنه حيث ملء اللاهوت لا يوجد مجال للبحث عن درجات في الكرامة[834]
القديس أمبروسيوس
(راجع أيضًا أقوال الآباء في تفسير الإنجيل بحسب متى ص 473، وبحسب مرقس ص 220-222).
6. تحذير من الكتبة المرائين
صديقنا السماوي في محبته الصادقة قدم للقادة تساؤلًا أربكهم لكي يردهم إلى النبوات التي بين أيديهم ويدركوا شخصه كرب داود الذي جاء ابنًا له حسب الجسد من أجلهم. الآن بذات الحب ولنفس الغاية يتكلم مع تلاميذه في حضرة الشعب البسيط بلغة البساطة العملية، محذرًا إياهم من رياء الكتبة، لا ليدينوا الكتبة، وإنما ليعيشوا في بساطة الإيمان.
"وفيما كان جميع الشعب يسمعون قال لتلاميذه:
احذروا من الكتبة الذين يرغبون المشي بالطيالسة،
ويحبون التحيات في الأسواق والمجالس الأولى في المجامع
والمتكآت الأولى في الولائم.
الذين يأكلون بيوت الأرامل ولعلة يطيلون الصلوات،
هؤلاء يأخذون دينونة أعظم" [45-47].
* إذ هو يرسلهم ليعلموا العالم بحق حذرهم من الإقتداء بكبرياء الفريسيين.
* هذا (المشي بالطيالسة وحب التحيات...) هو طريق الذين يقتنصون الشهرة من أجل جمع المال.
* إنهم ليس فقط يمارسون الشر وإنما يتظاهرون بالصلوات والفضيلة ليُبرروا خطيتهم.
الأب ثيوفلاكتيوس
(راجع أقوال الآباء في تفسير مت 23، مر 12: 38).
لوقا 20 - تفسير إنجيل لوقا مقاومو الصداقة الإلهية الجزء(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي 33. سؤاله بخصوص الجزية حاول القادة تشكيك الجمع من جهة سلطان السيد المسيح، فسألهم السيد عن معمودية يوحنا المعمدان إن كانت من السماء أم من الأرض، فارتبكوا وتحيروا ليظهروا أمام الشعب غير مدركين الحق. جاء مثل الكرامين يحثهم علي التوبة حتى ولا ينزع الكرم منهم لكنهم عوض التوبة أرادوا أن يلقوا الأيادي عليه في تلك الساعة ولكنهم خافوا الشعب [19]. الآن صاروا يراقبونه ليصطادوه بكلمة، وبخداع سألوه بخصوص دفع الجزية، لا ليعرفوا رأيه، وإنما لكي إذا ما نادى بدفع الجزية حُسب في أعين الشعب مجاملًا للسلطات الرومانية المستعمرة، فيفقدوا ثقتهم فيه كمخلص من الحكم الروماني، وإن نادى بعدم دفعها اشتكوا عليه لدى السلطات كمثير فتنة بين الجماهير. يقول الإنجيلي: "فشعر بمكرهم، وقال لهم: لماذا تجربونني؟ أروني دينارًا! لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا: لقيصر فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب، وتعجبوا من جوابه وسكتوا" [23-26]. في تقديم فكر الآباء لمثل هذا النص في إنجيليّ متى ومرقس قلنا أن السيد المسيح هنا يقدم للإنسان مبدأ وطنيًا هامًا. فلكي يتمجد الله فيه يلزمه أن يقدم ما لقيصر لقيصر، يعطي للدولة حقها عليه، بل ويلتزم بإعطاء كل من يتعامل معهم حقوقهم المادية والمعنوية والاجتماعية. عبادتنا لله لا تكون علي حساب الآخرين، بل حبنا وخضوعنا وعطاؤنا للغير هو جزء لا يتجزأ من حياتنا الروحية، يتكامل مع عبادتنا لله. نعطي الآخرين، ليس خوفًا منهم، ولا مداهنة لهم، ولكن شهادة حق داخلي لأمانتنا وحبنا للرب نفسه. لنعطِ أيضًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، بمعنى أننا نقدم للجسد ما له من التزام نحونا وما للروح للروح. فحياتنا الروحية ليست تحطيمًا لجسدنا (قيصر) وإنما هي تقديس له. أيضًا يرى بعض الآباء مثل العلامة أوريجينوس أن قيصر هنا يشير إلى العالم أو عدو الخير، فإن تركنا في القلب محبة العالم يجد العالم فينا حقًا له فيغتصبنا، وهكذا إن كان لإبليس موضع فينا يقتحمنا. لذا يليق بنا ألا يجد قيصر العالم له شيء في قلبنا فلا يسحبنا إليه، بهذا نتمثل بربنا يسوع المسيح القائل إن رئيس هذا العالم آت وليس له فيه شيء! ليأتِ رئيس هذا العالم وليعمل العدو الشرير بكل طاقاته ضدنا، فإنه لا يجد في داخلنا شيئًا لحسابه فيهرب مغلوبًا منا! سيأتي يوم الرب العظيم فيتقدم الله يأخذ من هم له، ويأخذ عدو الخير أيضًا من هم له. لنكن لله لا لإبليس، فيقتنينا الله أبناءً لملكوته. على حدّ تعبير كثير من الآباء نحن "عملة الله" أو "ديناره" قد نقُشت صورته علينا، فإن كانت صورته قد فُقدت فينا يلزمنا أن نغتسل بمياه المعمودية لتظهر صورته على عملته من جديد، ونبقى محتفظين بهذه الصورة الإلهية فينا خلال التوبة المستمرة حتى متى جاء الرب وجدنا ديناره الحامل صورته. * في كل موضع نحن أكثر استعدادًا من الناس في دفع الضريبة المفروضة علينا، سواء العادية (السنوية) أو الطارئة... نحن نرد العبادة لله، أما الأمور الأخرى فنقدمها بسرور، نخدمكم ونتعرف عليكم كملوك وولاة على الناس، ونصلي لأجل سلطانكم الملوكي لكي يكون حكمكم عادلًا[824] القديس يوستين الشهيد * لترجع صورة قيصر التي على العملة لقيصر، وصورة الله التي على الإنسان (تك 1: 26، 27؛ 9: 6؛ 1كو 11: 7) ترجع لله. هكذا بالحق يُرد المال لقيصر وأما نفوسكم فلله[825]. العلامة ترتليان * لنتبع كلام المخلص لا كمعنى أدبي صرف وبسيط "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، أي ادفعوا الضريبة التي عليكم، لكن من منا يعترض على دفع الضريبة الخاصة بقيصر؟! إذن هذه العبارة تحوي أسرارًا ومعنى خفيًا. للإنسان صورتان، صورة قبلها من الله وقت الخليقة كما جاء في التكوين: "على صورة الله خلقه" (تك 1: 27)، والثانية أي صورة الإنسان الترابي (الأرضي) (1 كو 15: 49)، أخذها خلال عصيانه وخطيته عندما طرد من الفردوس إذ أغواه رئيس هذا العالم (يو 12: 31). كما أن العملة تحمل صورة سلطان هذا العالم، هكذا الذي يكمل أعمال ملك الظلمة (أف 6: 12) يحمل صورته عليها. يأمرنا يسوع أن نرد هذه الصورة وننتزعها لكي نحمل الأصل الذي خُلقنا عليه، فنكون مشابهين لله. بهذا نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله... بنفس المعنى يقول بولس: "كما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضا صورة السماوي" (1 كو 15: 49). فالقول: "أعطوا ما لقيصر لقيصر" إنما يعني: "اتركوا صورة الإِنسان الأرضي". القوا الصورة الأرضية لتنالوا صورة السماوي وبهذا تعطوا ما لله لله[826] العلامة أوريجينوس هذا وقد قدم لنا القديس ساويرس الأنطاكي مقالًا مطولًا ورائعًا تحت عنوان "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، قام الشماس يوسف حبيب بترجمته ونشره ونرجو الرجوع إليه. وقد أبرز القديس أن الفريق الذي جاء للسيد المسيح يحمل اتجاهين متناقضين. الأول يمثله تلاميذ الفريسيين والثاني يمثله الهيرودسيون (مت 22: 16)، يسألونه إن كانوا يدفعون الجزية للحاكم الروماني أم يمتنعون. يقول القديس ساويرس الأنطاكي أن الفريسيين كانوا يحرضون الشعب علي عدم دفع الجزية، حاسبين أنه ليس لهم ملك إلا الله وحده، وأن من يدفع الجزية يكون مقاومًا للناموس ومستبدلًا الله بقيصر غريب الجنس، معتمدين على التفسير الحرفي لبعض العبارات الكتابية مثل: "إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه" (تث 32: 9) "فإنك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك؛ من وسط إخوتك تجعل عليك ملكًا، لا يحل لك أن تجعل عليك رجلًا أجنبيًا ليس هو أخاك" (تث 17: 15). "فإن الرب قاضينا، الرب شارعنا، الرب ملكنا هو يخلصنا" (إش 32: 22). وكما يذكر سفر الأعمال أن "يهوذا الجليلي" (أع 5: 37) جمع شعبًا غفيرًا ورائه يقودهم للثورة علي قيصر ورفض دفع الجزية له وكان يهوذا هذا فريسيًا. وعلى العكس كان الهيرودسيون ينصحون إخوتهم اليهود أن يبقوا في خضوع للرومان وأن يدفعوا الجزية المفروضة عليهم من أجل تمتعهم بالهدوء والسلام. 4. سؤاله بخصوص القيامة في مثل الكرامين قال السيد المسيح عن الكرامين "تآمروا فيما بينهم" [14]. فإن كان الكرامون الأشرار منشقين علي أنفسهم، لكنهم يجتمعون معًا بروح المقاومة للسيد المسيح والتآمر ضده. الآن إذ فشل رؤساء الكهنة والكتبة في مؤامراتهم ضد السيد حين حاولوا تشويه سلطانه في التعليم [1-8]، وقام بعض الفريسيين وغالبًا معهم بعضًا من الهيرودسيين (مت 22: 15-16). يسألونه عن الجزية وقد فشلوا، قام قوم من الصدوقيين يجربونه في أمر القيامة من الأموات. وكان هؤلاء لا يؤمنون بقيامة الجسد بل ويظنون أن النفس تموت مع الجسد فلا تقوم. قدموا له مثل امرأة تزوجت ولم تنجب وبعد موت رجلها أخذت الثاني فالثالث حتى السابع ومات الكل ولم تنجب، "ففي القيامة لمن منهم تكون زوجة؟ لأنها كانت زوجة للسبعة" [33]. جاءت إجابة السيد المسيح "أبناء هذا الدهر يُزوجون ويُزوجُّون. ولكن الذين حُسبوا أهلًا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوجون ولا يزوجَّون. إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضًا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة. وأما أن الموتى يقومون فقد دّل عليه موسى أيضًا في أمر العليقة كما يقول: الرب إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. وليس هو إله أموات بل إله أحياء، لأن الجميع عنده أحياء" [34-38]. سبق لنا تقديم تفسير آبائي لهذه العبارات في تفسير مت 22: 23-33، مر 12: 18-27، لذا أكتفي بالملاحظات التالية: أولًا: أخطأ الصدوقيون الفهم فقد ظنوا الحياة الأبدية بفكر مادي، كل له زوجته وأولاده وحياته الجسدية المادية. لذا صحح الرب مفاهيمهم معلنًا أننا في الأبدية نعيش علي مستوى ملائكي، لا تحتاج أجسادنا إلي شبع مادي بصورة أو بأخرى، إذ تحمل طبيعة جديدة تليق بالسماء، فلا تأكل ولا تشرب ولا تمارس علاقات زوجية! كشف أيضا رب المجد أحد جوانب غاية الزواج ألا وهو الإنجاب، ففي هذا العالم توجد حاجة للزواج من أجل بقاء الجنس البشري، لكن في السماء إذ لا يوجد موت، فلا حاجة للإنجاب! ثانيًا: يرى القديس أمبروسيوس أن المرأة التي تزوجت سبعة رجال ولم تنجب حتى ماتت هي المجمع اليهودي الذي التحم بالشريعة والنبوات وقُدمت له كل الإمكانيات للإِثمار ولم ينجب بسبب فهمه الحرفي لكلمة الله، لذا نال العطايا الإلهية دون أن ينتفع بها بل سقط تحت الموت. يمكننا أيضًا أن نفهم المرأة التي تزوجت بالرجال السبعة ولم تنجب حتى ماتت أنها تشير إلى الإنسان الذي ارتبط بالزمن والزمنيات أو بمحبة العالم الذي يُرمز له برقم 7 إشارة إلى أيام الأسبوع السبعة. فإنه لا يستطيع أن ينجب ثمر الروح ويحيا ما لم يتخطى الرجال السبعة ويقبل الثامن الذي يشير إلى "الأبدية"، أو ما فوق الزمن بالمعمودية نقبل الختان الروحي الذي كان يُمارس جسديًا في اليوم الثامن. فنُدفن مع المسيح ونقوم معه في جدة الحياة (رو 6: 4). هذا هو الرجل الثامن: الارتباط بالمسيّا القائم من الأموات في أول الأسبوع أو اليوم الثامن من الأسبوع السابق، بحياته ننعم بالحياة المقامة ونحمل ثمار روحه القدوس فينا فلا يحطمنا الموت ولا يمسك بنا القبر، بل بقوة ننشد مع الرسول بولس: "ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هاوية؟! أما شوكة الموت فهي الخطية" (1 كو 15: 54-56). ثالثًا:يقارن رب المجد بين أبناء هذا الدهر وبين الحياة في الدهر الآتي، معلنًا أنه في هذا الدهر نرتبط بأعمال جسدية مؤقتة مثل الزواج، أما في الدهر الآتي فتبطل هذه الأعمال الجسدية لتمارس حياة علي مستوى ملائكي. هذه المقارنة ألهبت قلوب الكثيرين للتدريب علي عربون الحياة الأبدية بالروح القدس وهم بعد في الجسد مثل العفة والنسك بفكرٍ روحيٍ سليمٍ؛ ففي رفضهم للزواج مثلًا أو نسكهم في الطعام لا ينظرون إلى هذه الأمور كأشياء دنسة أو محرمة، وإنما كأمورٍ زمنية تنتهي يليق بنا ضبطها ما استطعنا. * ليته لا يعجب غير المؤمنين من أن الله سينزع أعمال أعضائنا الجسدية في الدهر الآتي، فإنها تبطل حتى في هذا الدهر[827]. الشهيد يوستين * (في حديثه للعذارى المتبتلات) لقد بدأتن فعلًا فيما ستكونون عليه! لقد ملكتن فعلًا في هذا العالم مجد القيامة! لقد عبرتن هذا العالم... إذ استمررتن طاهرات وعذارى، وصرتن علي قدم المساواة مع ملائكة الله[828]. الشهيد كبريانوس * آمن أنك وإن مت فستحيا، فإن لم تؤمن بذلك فإنك وإن عشت تموت[829]. القديس أغسطينوس رابعًا: إننا إذ نفكر في القيامة يلزمنا أن نترجى حياة سماوية فائقة، خلالها ننعم بصحبة السمائيين وننعم برؤية الله وجها لوجه مثلهم. * عندما نصير مساويين لملائكة الله سنراه وجهًا لوجه كما يرون هم، ويكون لنا سلام عظيم نحوهم كما هم نحونا، فسنحبهم كما هم يحبوننا. * إننا نتطلع إلي ما وعد به برجاء، أننا نصير مساوين لملائكة الله، ونجتمع معهم، وننعم برؤية الثالوث القدوس أما الآن فنحن نسير بالإيمان[830]. القديس أغسطينوس * ]في تعزيته لأوستخيوم لنياحة والدتها باولا Paula يقول:[ لا نحزن لأننا خسرناها، بل بالحري نشكر الله أنها كانت لنا ولا تزال لنا، لأن الكل أحياء لله، والذين يرجعون إلى الرب لا يزالوا يُحسبون أعضاء عائلته. لقد خسرناهم، هذا حق، لكن المساكن السماوية قد ربحتها. فإنها إذ كانت في الجسد كانت متغربة عن الرب (2 كو 5: 6)، كانت تشكو بدموع: "ويل لغربتي في ماشك، لسكني في خيام قيدار، طال على نفسي رحلتها" (راجع مز 120: 5-6)[831]. القديس جيروم يرى العلامة ترتليان[832] في حديث الرب هنا عن عدم الزواج في الدهر الآتي لا يعني أن الإنسان يفقد كيانه كإنسان أو يخسر جسده، فكما يُسمح للملائكة أن تظهر على شكل بشر دون أن يفقدوا طبيعتهم الملائكية هكذا نصير نحن كملائكة الله دون فقدان لجسدنا البشري، وإنما لا تكون له متطلبات زمنية، بل يحمل طبيعة جديدة تليق بالحياة السماوية. هذا أيضًا ما أكده القديس أغسطينوس بقوله: [كل المؤمنين الذين تعينوا أن يملكوا مع المسيح سيقومون بنفس الجسد بطريقة بها يُحسبون أهلًا أن يتغيروا إلي عدم الفساد الملائكي. إذ يصيرون مساوين لملائكة الله كما وعد الرب نفسه، ولكي يسبحونه بلا أي تراخٍ أو قلق. إنهم يعيشون في الرب ومعه أبديًا، ويتمتعون بفرح وطوباوية لا يمكن لإِنسان أن يعبر عنها أو يدركها[833].[ 5. ابن داود وربه إذ وقفت كل فئات اليهود القيادية تقاوم صداقة رب المجد يسوع بطريق أو آخر، وكان السيد يرد عليهم، لا رغبة في المجادلة، ولا دفاعًا عن نفسه، وإنما شوقًا في تصحيح مفاهيمهم لعله يوجد من بينهم من يقبل صداقته ويتجاوب مع محبته. الآن وقد دخل أورشليم واقترب وقت الآلام والصلب لذا صار إمكانية ارتباكهم في فهم المسيا المخلص أكبر. لأنهم إن كانوا قد تعثروا فيه وهو يصنع أعمالًا فائقة وبلا عدد فماذا يكون حالهم حينما يرونه تحت الآلام أو معلقًا علي الصليب؟! هذا كله دفعه لإعلان لاهوته من خلال كلمات المرتل، لعلهم يتداركون الأمر ويتفهمون سره. "وقال لهم: كيف يقولون أن المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير، قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟! فإذًا داود يدعوه ربًا، فكيف يكون ابنه"[41-44]. * لقد أعلن عن لاهوته في تواضع وليس في افتخار أو مباهاة، فقد قدم لهم السؤال وإذ صاروا في حيرة تركهم يبلغون النتيجة... لقد أبرز أنه ليس معارضًا للآب بل هو متفق معه، إذ يقاوم أعداء الابن الآب. الأب ثيؤفلاكتيوس * بالحق داود كان الأب والعبد بالنسبة للمسيح، فهو أبوه حسب الجسد، وعبده في الروح. القديس يوحنا الذهبي الفم * لا يُفهم الجلوس هنا بوضع معين لأعضاء جسدية كما لو كان الآب جالسًا عن اليسار والابن عن اليمين، إنما يُفسر "اليمين" بمعنى السلطان الذي يناله بالآب فيأتي ليدين بعد أن جاء ليُدان. القديس أغسطينوس * يوصي الرب بالإيمان به بكونه المسيح الرب إلهنا الذي يجلس عن يمين الله، فلا يُفهم الجلوس جسديًا، إذ هو حال في كل مكان، وهو في الآب... واحد معه في القوة والقدرة. * الجلوس عن يمينه لا يجعله أعلى منه، كما أن إرساله من الآب لا يحط من شأنه لأنه حيث ملء اللاهوت لا يوجد مجال للبحث عن درجات في الكرامة[834] القديس أمبروسيوس (راجع أيضًا أقوال الآباء في تفسير الإنجيل بحسب متى ص 473، وبحسب مرقس ص 220-222). 6. تحذير من الكتبة المرائين صديقنا السماوي في محبته الصادقة قدم للقادة تساؤلًا أربكهم لكي يردهم إلى النبوات التي بين أيديهم ويدركوا شخصه كرب داود الذي جاء ابنًا له حسب الجسد من أجلهم. الآن بذات الحب ولنفس الغاية يتكلم مع تلاميذه في حضرة الشعب البسيط بلغة البساطة العملية، محذرًا إياهم من رياء الكتبة، لا ليدينوا الكتبة، وإنما ليعيشوا في بساطة الإيمان. "وفيما كان جميع الشعب يسمعون قال لتلاميذه: احذروا من الكتبة الذين يرغبون المشي بالطيالسة، ويحبون التحيات في الأسواق والمجالس الأولى في المجامع والمتكآت الأولى في الولائم. الذين يأكلون بيوت الأرامل ولعلة يطيلون الصلوات، هؤلاء يأخذون دينونة أعظم" [45-47]. * إذ هو يرسلهم ليعلموا العالم بحق حذرهم من الإقتداء بكبرياء الفريسيين. * هذا (المشي بالطيالسة وحب التحيات...) هو طريق الذين يقتنصون الشهرة من أجل جمع المال. * إنهم ليس فقط يمارسون الشر وإنما يتظاهرون بالصلوات والفضيلة ليُبرروا خطيتهم. الأب ثيوفلاكتيوس (راجع أقوال الآباء في تفسير مت 23، مر 12: 38).