يوحنا 1 - تفسير إنجيل يوحنا الكلمة المتجسد الجزء(12) للقمص تادرس يعقوب ملطي
نعمة الفضيلة
* بحق يمكن للإنسان أن يصف نفس القديس بولس بكونها حاملة بذار الفضيلة وفردوسًا روحيًا. فقد ترعرعت في داخله النعمة بعمقٍ، كما كان دائمًا يهيئ أعماقه لتنمو النعمة فيها وتزدهر. وحين صار إناءً مختارًا دأب على تنقية نفسه فاستحق أن ينسكب عليه الروح القدس بفيض. هكذا صار لنا مصدر أنهارٍ كثيرة وعجيبة، ليست فقط الأنهار الأربعة التي نبعت في الفردوس، وإنما أنهار أخرى كثيرة تجرى كل يومٍ لكل واحدٍ منا لتروى ليس فقط الأرض، بل نفوس البشر فتجعلها تنبت الفضائل[301].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* ليعطنا الرب الإله نعمة التواضع التي تقتلع الإنسان من أمراض كثيرة وتحفظه من تجارب كثيرة[302].
الأب دورثيؤس من غزة
* بنعمة الله، منذ تركت العالم لم انطق بكلمة واحدة ندمت عليها فيما بعد[303].
الأب بامبو
* ليس شيء من هبات الله للبشرية قُدم على سبيل إيفاء دين بل الكل هو من خلال النعمة[304].
العلامة أوريجينوس
نعمة الآب والابن
تقديم النعمة الإلهية هو عمل إلهي واحد، عمل الثالوث القدوس محب البشر. فالآب يهب نعمته بفيض بالكلمة الإلهي، بكونه قوة الله وحكمته، يقدمها لنا بروحه القدوس بكونه روح القوة والحكمة. فالنعمة الإلهية هي نعمة الآب والابن والروح القدس، عمل واحد للثالوث القدوس.
* من المستحيل أن الآب عندما يعطى نعمة، ألا يعطيها بالابن، لأن الابن موجود في الآب، مثلما يوجد الشعاع في الضوء. وذلك ليس كأن الله معوز أو ضعيف، بل كأب "قد أسس الأرض بحكمته"(أم 3: 19)، وصنع كل الأشياء بالكلمة المولود منه، ويختم على الحميم المقدس (المعمودية) بالابن. وأوجد كل الأشياء بواسطة كلمته، اللوغوس الذاتي، وأكمل الحميم المقدس في الابن. وحيث يكون الآب فهناك يكون الابن أيضًا. كما أنه حيث يكون النور هناك يكون الشعاع أيضًا.
ولهذا أيضًا عندما وعد الابن القديسين تكلم هكذا: "إليه نأتي، أنا والآب، وعنده نصنع منزلاَ"(يو 14: 23).وأيضًا "لكي يكونوا هم أيضًا واحدًا فينا... كما إننا نحن واحد" (يو 17: 21، 22). وهذا يعنيأن النعمة هي واحدة، وهي معطاة من الآب بالابن، كما يكتب بولس في كل رسائله، "نعمة لكم وسلام أبينا والرب يسوع المسيح". (رو 1: 7، 1 كو 1: 3، أف 1: 2)[305].
* لأن هناك نعمة واحدة من الآب في الابن، كمايوجد نور واحد للشمس وشعاعها. وكما تشرق الشمس من خلال الشعاع، هكذا أيضًا وبذات الأسلوب فإن القديس بولس يبعث بتمنياته لأهل تسالونيكي قائلًا: "والله نفسه أبونا والرب يسوع المسيح يهدى طريقنا إليكم"(1تس3: 11). ومن ثم يحفظ وحدانية الآب والابن. فلم يقل بولس (إن الله أبانا والرب يسوع المسيح) "يهديان" وكأن النعمة مزدوجة المصدر يعطيها اثنان، أي بواسطة هذا وذاك، بل يقول "يهدي Katavtheinai" لكي يوضح أن الآب يُعطي هذه النعمة بالابن.
إذن فتلك "العطية الواحدة" تكشف عن وحدانية الآب والابن. وأن كل ما يُعطى يُعطى بالابن، وما من شيء يعمله الآب من دون الابن، لأنه بهذه الطريقة تكون النعمة مضمونة لمن يتقبلها[306].
القديس أثناسيوس الرسولي
نعمة ميراث الملكوت
غاية خلقتنا هي تمتعنا بالخلود مع الله أبينا، يكون لنا نصيب في أحضانه الإلهية. هذا ما شغل قلب ربنا يسوع المسيح وفكره، محتملًا عار الصليب عوضًا عنا لننعم بنعمة الملكوت أبديًا. ولا يزال مسيحنا في السماء يعد لكل واحدٍ منا موضعًا، فهو مشغول بميراثنا الأبدي.
* كيف حصلنا على النعمة "قبل الأزمنة الأزلية" بينما لم نكن قد خلقنا بعد، بل خلقنا في الزمن، لو أن النعمة التي وصلت إلينا لم تكن مودعة في المسيح؟لهذا ففي الدينونة، عندما ينال كل واحد بحسب عمله يقول: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم"(مت 25: 34). كيف إذا أو بواسطة من أعد الملكوت قبل أن يخلقنا؟ إن لم يكن بواسطة الرب الذي به تأسيس قبل الدهور لأجل هذا الغرض، لكي ببنياننا عليه كحجارة ملتئمة نشترك في الحياة والنعمة الممنوحتين[307].
القديس أثناسيوس الرسولي
إذ يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن نعمة ميراث الملكوت يوضح لنا أننا في هذا الملكوت الأبدي نتمتع بنعمة عدم الفساد، فلا نُحرم من الجسد الذي اشترك في الجهاد مع النفس وتقدس معها بعمل روح الله القدوس، إنما يُنزع كل أثر للفساد فيه، حاملًا طبيعة عدم الفساد اللائقة بالحياة الأبدية.
* يريد أن يقول: إني أخلع ما هو غريب عني، والغريب ليس هو الجسد، ولكن الفساد. ولهذا يقول: لسنا نريد أن نخلعها (أي خيمة الجسد) ولكن أن نلبس فوقها، أي نلبس عدم الفساد. إذن نخلع الفساد ونلبس عدم الفساد. فهو يريد أن ينبذ ما جاء نتيجة الخطية، وفي الوقت نفسه يكتسب كل ما أعطته النعمة الإلهية.
ولكي نعلم أن الخلع لا يقوله من جهة الجسد بل يقوله من جهة الفساد والموت، اسمع ما يقوله بعد ذلك مباشرة: "إذ لسنا نريد أن نخلعها بل نلبس فوقها"، ولم يقل: لكي يُبتلع الجسدي من اللاجسدي، لكن ماذا يقول؟ "لكي يُبتلع المائت من الحياة". لهذا فهو لا يتحدث عن خلع الجسد بل عن خلع الموت والفساد. فالحياة التي تأتي إلى الجسد (بالقيامة) لن تبيد الجسد، بل الفساد والموت اللذين في الجسد.
إذن فالأنين ليس بسبب الجسد، بل بسبب الفساد الموجود في الجسد. فالجسد هو عبء ثقيل لا بسبب طبيعته، بل بسبب الفساد الذي دخله فيما بعد. والجسد بحد ذاته لم يُجعل للفساد بل لعدم الفساد. وهو يحمل تلك الخاصية حتى حين صار قابلًا للفساد. ولذلك فإن ظل الرسل كان يطرد القوات غير الجسدية، والملابس التي كانت تستر أجسادهم كانت تشفي المرضى وتعيدهم أصحاء. لا تحدثوني عن أمراض الجسد والأمور الأخرى التي يذكرها الذين يتكلمون ضد الجسد، لأن كل هذه الأمور لم تكن من طبيعة الجسد، بل هي بسبب الفساد الذي دخل الجسد فيما بعد.
لو أردتم أن تعرفوا حقيقة الجسد وقيمته، دققوا النظر في خلق أعضاء الجسد وشكل هذه الأعضاء ودقائق أعمالها بتوافق وتناسق وانسجام، فإنك عندئذ ستتأكد أن أداء هذه الأعضاء والتوافق فيما بينها هو أمر أكثر مثالية وأمل من مدينة تحترم قوانينها ومواطنيها جميعًا من الحكماء[308].
القديس يوحنا الذهبي الفم
نعمة الخلود فيه
* لكن الآن قد صار الكلمة إنسانًا، وأخذ ما يخص الجسد، فلم تعد تلك الأشياء تمس الجسد بسبب اللوغوس الذي سكن فيهم، والتي أُبيدت بواسطته. فلم يعد البشر خطاة وأمواتًا بعد بحسب الأهواء الخاصة بهم، بل إذ قاموا بحسب قوة اللوغوس ظلوا عديمي الموت، وعديمي الفساد إلى الأبد.
وإذ قد أخذ الرب جسدًا من مريم والدة الإله، فإن الذي أعطى الآخرين أصل حياتهم، قيل عنه هو نفسه أنه قد وُلد، ليصبح هو ذاته أصلنا، فلا نعود نرجع إلى الأرض بعد باعتبارنا مجرد تراب من الأرض، لكن إذ اتحدنا باللوغوس نقل هو إلى ذاته ضعفات الجسد الأخرى أيضًا، حتى تكون لنا شركة في الحياة الأبدية، لا كبشر، بل كمن ينتمي إلى اللوغوس.
لأننا لا نموت بعد في آدم بحسب نشأتنا الأولي، بل إذ قد تحول أصلنا وضعف جسدنا إلى اللوغوس، نقوم من التراب، إذ زالت عنا لعنة الخطية بسبب ذاك الذي هو فينا والذي صار لعنة من أجلنا.
فإننا نحن جميعًا الذين من الأرض نموت في آدم، وإذ قد تجددنا من فوق، حيث أُعيد أصل نشأتنا من الماء والروح، فقد أحيينا في المسيح، ولم يعد الجسد ترابيًا بعد، بل إنه تأله (إذ صارت له خاصية اللوغوس)، بسبب حكمة الله، الذي لأجلنا صار جسدًا[309].
القديس أثناسيوس الرسولي
* لأنك إن عارضت أمر خلاصي من الفساد بالطبيعة، فأنظر لئلا تعارض كلمة الله الذي رفع عني صورة العبودية، لأنه الرب الذي أخذ جسدًا، وصار إنسانًا. فإننا نحن البشر بالمقابل، وقد تألهنا باللوغوس إذ أُخذنا فيه بواسطة جسده، وهكذا من الآن فصاعدًا سنرث الحياة الأبدية[310].
القديس أثناسيوس الرسولي
نعمة التمتع بمعرفة الحق الإلهي
خلق الله في الإنسان حنينًا نحو التعرف على الحقيقة غير المتغيرة، فقدم السيد المسيح نفسه بكونه "الحق". من يقتنيه يتمتع بمعرفة الحق كنعمة إلهية مجانية.
* نحن نعلم أن الابن قد جاء، وأعطانا بصيرة لنعرف (الله) الحق، ونحن في الحق، في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية (1 يو 5: 20). ونحن قد صرنا أبناء في الابن بالتبني والنعمة، لأننا نشارك في روحه، إذ أن "كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" ( يو 1: 12). ولهذا أيضًا فالابن هو الحق إذ يقول "أنا هو الحق" وفي حديثه إلى الآب يقول: "قدسهم في حقك، كلمتك هو حق" (يو 14: 6؛ 17: 17)، ونحن بالمحاكاة نصير خيرين وأبناء[311].
* لهذا كان واضحًا للكل أن البشر حقًا جاهلون، لكن اللوغوس ذاته باعتباره الله الكلمة، يعرف كل شيء حتى قبل حدوثه. لأنه حينما صار إنسانًا لم يكف عن أن يكون هو الله، ولم يستنكف من أمور الإنسان بكونه هو الله، بئس هذا الفكر. بل بالأحرى، إذا هو الله، قد أخذ لذاته الجسد، وإذا هو في الجسد فإنه يؤله هذا الجسد. لأنه كما سأل أسئلة هكذا أيضًا أقام الميت، وأظهر للكل أن الذي يحيي الميت ويستدعي روحه، يعرف بالأكثر أسرار الجميع. إنه يعرف حقًا أين يرقد لعازر، ومع هذا يسأل، لأن لوغوس الله الكُلى القداسة، الذي احتمل كل شيء لأجلنا، إنما قد فعل ذلك، حتى بأخذه جهلنا، يهبنا نعمة المعرفة، معرفة أبيه الحقيقي وحده، ومعرفته أنه هو الابن المرسل لأجل خلاصنا جميعًا. فأية نعمة أعظم من هذه النعمة؟[312]
القديس أثناسيوس الرسولي
* "لأنه ابتهج قلبي، واسترخت حقواي، وصرت كلا شيٍء، ولا أعرف وصرتُ كبهيمٍ عندك، ولكني دائمًا معك" (مز21:73-23)... هكذا يبدو الإنسان بهيمًا أعجمًا بالمقارنة لا أقول بالمسيح، بل حتى بالملائكة، لكن حتى إن كان الأمر كذلك، لا نيأس، لأن الربَ يحفظ البشرَ والبهائم كليهما معًا. (مز 6:36). ومن ثم فلأنني لم أتعلم من ذاتي بل منك، فإنني ألتصق بك دومًا حتى أكف عن أكون بهيمًا، وحينئذ تقول لي: "وأما أنت فقفْ هنا معي"! (تث 31:5) فالإنسان الذي بجهله انحدر إلى الحماقة ونقص المعرفة، الذي يوزن بميزان البهيمة، يبدأ من جديد فيصير إنسانًا، حينما تشمله نعمة الله، فهو حقًا إن اقتدر بالعقل والنعمة، لأثبت أنه إنسانًا بتلك الحقيقة عينها. ومن ثم يتهلل أنه انفصل عن الحيوانات العجماوات، ودخل في شركة البشر الذين يفتقدهم الله ويحميهم. لأنه ما هو الإنسان إلا الذي يفكر الرب فيه ويفتقده؟ (قابل مز 4:8)[313].
القديس أمبروسيوس
* سريعًا ما تنحل رباطات الجهل خلال الإيمان البشري والنعمة الإلهية، وتُمحى خطايانا بدواء الله الكلمة.فنُغتسل من كل خطايانا، ولا نعود بعد فنكون مرتبكين في الإثم. لا تعود شخصياتنا تبقى كما كانت كسابق عهدها قبل الغسل. فإن المعرفة تبرز للوجود جنبًا إلى جنب مع الاستنارة، ففي لحظة نسمع نحن غير المتعلمين أننا صرنا تلاميذ المسيح. فإن الإرشادات تؤدي إلى الإيمان، ونتعلم الإيمان مع العماد بالروح القدس. هذا الإيمان هو الخلاص الجامع الواحد للبشرية.
القديس إكليمنضس السكندري
نعمة الثبوت في الآب والابن
* "بهذا نعرف أننا نثبت في الله وهو فينا إنه قد أعطانا من روحه" (1 يو 4: 13)، لهذا فإنه بسبب نعمة الروح القدس التي أعطيت لنا، نصبح نحن في الله وهو فينا، حيث أن المقصود هنا هو روح الله الذي من خلال مجيئه ليصير فينا، نُعتبر نحن أيضًا في الله والله فينا إذ لنا الروح.
* هكذا إذن لا نكون في الآب مثل الابن الذي هو كائن في الآب، لأن الابن ليس شريكًا للروح حتى يصبح نتيجة لذلك في الآب، ولا هو متقبل للروح القدس مثلنا، بل أن الابن بالأحرى يعطى الروح القدس للجميع.
وليس الروح هو الذي يربط كيان اللوغوس بالآب، بل أن الروح القدس بالأحرى هو الذي يأخذ من اللوغوس. لأن الابن كائن في الآب بصفته كلمته الذاتي وإشعاعه، بينما نحن بدون الروح القدس غرباء عن الله، بعيدون عنه وبشركتنا في الروح نتحد بالله.لهذا فإننا نصير في الآب ليس من أنفسنا، بل من الروح القدس الذي فينا، والذي نحفظه ثابتًا فينا من خلال الاعتراف، كما يقول يوحنا أيضًا: "من يعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه، وهو في الله" (1يو 4: 15)[314].
القديس أثناسيوس الرسولي
نعمة الشبع والفرح
* "صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا، إذ قيل لي كلَ يوم: أين إلهك؟" (مز 42 :3)، وبحق دُعيتْ الدموعُ هنا خبزًا، حيثُ الجوع إلى البرّ. "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنه يُشبعون" (مت 5: 6)، لهذا توجد دموع بمثابة خبزٍ، تقَّوى وتسند قلبَ الإنسان (قابل مز 104 :15)، ومقولة الجامعة المأثورة تناسب المقامَ هنا أيضًا "الِق خبزك على وجه المياه" (جا 11 :1LXX)، لأن خبزَ السماء هناك، حيث مياه النعمة. حقا أن أولئك الذين تتدفق من بطونهم أنهار ماء حَّية (قابل يو 7: 38؛ 4:10)، سوف ينالون عون الكلمة (الإلهي) وتعضيده، وقوتًا من نوعٍ سري (باطني). أيضا يوجد هذا الخبز الحي، (قابل يو 6: 51)، حيث هنا مياه الدموع والبكاء، بكاء التوبة. لأنه لهذا كُتب: "بالبكاء يأتون وبالعزاء أعيدهم" (إر 31: 9LXX). لهذا طوباهم الذين خبزهم الدموع؛ لأنهم يستحقون أن يضحكوا؛ لأنه "طوبى للباكين!" (لو 6: 21)[315].
* "لأني سأدخل موضعَ الخيمة العجيبة، إلى بيت الله، بصوت الفرح والحمد، بصوت جمعٍ معيَّد واحد." (مز 42:4). بكى بحق لأنه يسكن الأرض، بينما تنتظره المظال السماوية، حيث يدخل في الوقت المناسب إلى قدس القدير. (قابل مز 84:2، 3،10). بالحقيقة فضل وآثر ذلك الموضوع على كل ثروةِ مملكته، كما شهد هو قائلًا في نصٍ آخر: "واحدةً سألتُ من الرب، وإياها التمس أن أسكن في بيت الرب كلَ أيام حياتي، لكي أنظر إلى فرحِ الرب" (مز 27: 4)، فرحُ الربِ في الكنيسة.
الكنيسة أيقونة السماويات، بعد أن يزول الظل حقًا تظهر الأيقونة جلَّيةً. (قابل عب 10 :1، كو 2: 17). والظل هو المجمع اليهودي. وفي الظل الناموس، لكن في الإنجيل الحق. لهذا فإن أيقونةَ الحق تسطع في نور الإنجيل، لهذا بكى المرتل بسبب تأجيل الخيرات التي امتلأت حتى الحافة كاملةً بالنعمة والفرح[316].
القديس أمبروسيوس
نعمة النور
* تعبر النفس من الخطأ إلى الحق، وتتبدل صورة حياتها المظلمة إلى نعمة فائقة. انتقل بولس الرسول عروس المسيح من الظلمة إلى النور، إذ يقول لتلميذه تيموثاوس، كما العروس لوصيفاتها، إنه قد صار مستحقًا إن يكون جميلًا، لأنه كان قبلًا مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا ومظلمًا (1 تي 13:1). ويقول بولس الرسول أيضًا أن المسيح جاء إلى العالم لينير للذين في الظلمة. لم يدعُ المسيح أبرارًا بل خطاة إلى التوبة، الذي جعلهم يضيئون كأنوار في العالم (في 15:2)، بحميم الميلاد الثاني الذي غسلهم من صورتهم السوداء الأولى[317].
* زارت ملكة أثيوبيا سليمان بعد ما سمعت عن حكمته، وقدمت له هدايا من الذهب والأحجار الكريمة والعطور (1 مل 1:10-3)، ويتضح سرّ هذه الزيارة من دراسة عجائب الإنجيل. لأنه من لا يعرف أن الكنيسة جاءت من مجتمع الظلمة من بين الأمم عابدي الأصنام، الذين عاشوا بعيدًا عن معرفة اللّه وكانوا منفصلين عنه بخليج الجهل العظيم. ولكن عندما أضاءت نعمة اللّه وحكمته، وأرسل النور الحقيقي أشعته إلى من كانوا في الظلمة وظلال الموت. أغمضت إسرائيل عيونها للنور، ورفضت أية مشاركة في الخير. لكن الأثيوبيين أسرعوا إلى الإيمان من بين الأمم، الذين كانوا بعيدون اقتربوا بعدما غسلوا أنفسهم من الظلمة بالمياه المقدسة. لقد اقتادهم الروح القدس إلى اللّه وقدموا هدايا للملك: بخور النسك والعبادة وذهب معرفة اللّه الملك وأحجارًا كريمة للوصايا وعمل الفضيلة[318].
القديس غريغوريوس النيسي
نعمة الكرازة والشهادة
* لماذا لم تُرسل الملائكة في مهمة الكرازة بالإنجيل؟ لكي لا يكون للإنسان عذر في كسله أو إهماله، فيُبَرر نفسه بحُجة اختلاف الطبيعة البشرية عن الطبيعة الملائكية، لأن الفرق عظيم.
من العجيب حقًا إن الكلمة المنطوقة من لسان ترابي لها القدرة على اقتلاع الموت، وغفران الخطايا، وإعادة النظر للعميان، وتحول الأرض سماءً، وهذا يجعلني أتعجب من قدرة الله ويزداد إعجابي وإكرامي لغيرة بولس لنواله تلك النعمة وتهيئة نفسه وإعدادها حتى يستحق نوالها.
إني أُحثٌك لا لتتعجَب، بل لتقتدي بالمثال الأعلى للفضيلة، وبهذه الطريقة تستحق أن تُشاركه في إكليله، ولا تُفاجأ بأنه يمكن لأي شخص أن يصير كبولس في خدمته لو تمثٌل واقتدى به، فيردد في قلبه كلمات بولس: "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وضع لي إكليل البرّ، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا" (2 تي 4: 7، 8).
رأيت كيف يدعو الجميع لمشاركته في إنجازاته، وبالتالي فالمكافأة أيضًا معروضة ومفتوحة للجميع.
فلنجتهد جميعنا لنثبت استحقاقنا للبركات الموعودة لنا، ولننظر ليس فقط لعظمة ومجد الحياة في الفضيلة، لكن نتأمل أيضًا في ثبات الهدف الذي من خلاله نحقق هذه النعمة. ولنعرف أن بولس لم يختلف عن طبيعتنا بأية حال من الأحوال، ولكنه كان مثلنا، وهذا يجعل ما يبدو صعبًا ومستحيلًا بالنسبة لنا قد صار سهلًا وخفيفًا، لأنه بعد هذا الوقت القصير من العمل والجهاد سنرتدي إكليل عدم الفساد الأبدي بواسطة نعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والكرامة الآن وكل أوانٍ وإلى أبد الآبدين. آمين[319].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الآن نراه يكشف الحديث عن دور كنسي، لأن أولئك الذين أرشدتهم النعمة وقد صاروا شهودًا للكلمة لا يكتموا الحق محتفظين به لأنفسهم، بل بالأحرى يبشرون به آخرين ممن لحقوهم. لذلك تقول العذارى للعروس التي تمتعت أولًا بالصلاح إذ التقت بالكلمة وجهًا لوجه، واستحقت أن تتعرف على الأسرار الخفية: "نبتهج ونفرح بك، نذكر حبك أكثر من الخمر" (نش 4:1)[320].
القديس غريغوريوس النيسي
نعمة ديناميكية
من أجلنا قيل عن السيد المسيح: "وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة، وكانت نعمة الله عليه" (لو 2: 40)، وأيضًا: "وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والنعمة عند الله والناس" (لو 2: 52). وكما يقول العلامة أوريجينوس: [لقد أخلي ذاته وأخذ شكل العبد (في 7:2)... وبالقدرة التي بها أخلي ذاته نما أيضًا.] هكذا يدخل بنا إلى طريق النمو الدائم في النعمة. فالنعمة فينا هي عمل الله المستمر الديناميكي غير المتوقف.
* المقصود بالنمو إذن هو نمو الجسد، لأنه بنمو جسد المخلص يُستعلن الله أكثر فأكثر (من خلال بشرية المخلص) لمن يرونه. وإذا يُستعلن اللاهوت أكثر فأكثر، هكذا بالأحرى تزداد نعمة بشريته بالأكثر كإنسان أمام جميع الناس. لأنه كطفلٍ حُمل إلى الهيكل، ولكن حينما صار صبيًا بقى في الهيكل وناقش الكهنة حول الناموس "حتى بهتوا من فهمه وأجابته"(لو 2: 47) [321].
القديس أثناسيوس الرسولي
* ينمو الطفل يسوع المولود بداخلنا بمختلف الطرق في الحكمة والقامة والنعمة في قلب من يستقبله ليسكن فيه (لو 52:2).
يسكن المسيح في كل قلب نقي، ولكن بصورة مختلفة حسب قامة الإنسان الذي يسكن بداخله. يظهر ذاته حسب طاقة كل إنسان. فإنه يأتي كطفلٍ أو كصبيٍ أو كإنسانٍ ناضجٍ على مثال العناقيد.
لا يظهر المسيح بنفس الصورة على الكرمة، لكنه يغير هيئته مع مرور الوقت الآن تبرعم، لقد نبت، ثم نضج، وصار يانعًا، وأخيرًا صار خمرًا.
إذ يحمل الكرم ثمرته يحمل معها وعدًا، حقًا إنه لم ينضج بعد ليعطي خمرًا، ولكنه ينتظر مرحلة النضوج. وفي الوقت ذاته لا يحرمنا من السرور، لأنه يفرح حاسة الشم بدلًا من التذوق باعتبار ما سيكون؛ خلال عطر الرجاء يعطى عذوبة لحواس النفس.
إن الإيمان الثابت بالرجاء في النعمة يصير بهجة لنا، نحن الذين ننتظر في صبر. وهكذا فإن الطاقة الفاغية تحمل وعدًا بالخمر. إنها ليست بعد خمرًا، لكنها تنبت نبته الرجاء. إنها تنتظر نعمة لم تأتِ بعد[322].
* وبالرغم من أن المرحلة التي بلغ إليها الشخص الآن أعلى في الحقيقة مما كان عليه سابقًا، إلا أن هذه المرحلة لا تحد من تقدمه، لكنها تصبح بداية لاكتشاف نعمة أعلى.
فالشخص الذي يرتفع لا يقف أبدًا ساكنًا. إنه يتحرك من إحدى البدايات إلى التي تليها، وبدايات النعمة الأعلى ليست محدودة. لذلك فرغبة النفس التي ترتفع تزداد في المعرفة وفي الرغبة في الارتفاع إلى مستويات أعلى، وتستمر في النمو محققة التقدم إلى الغير محدود[323].
القديس غريغوريوس النيسي