يوحنا 11 - تفسير إنجيل يوحناإقامة لعازر من الأموات
واهب القيامة الجزء(3)للقمص تادرس يعقوب ملطي
سألها السيد المسيح: "أتؤمنين بهذا؟" وكأنه يطالبها بالإيمان الذي يتحدى الطبيعة والموت؛ وجاءت إجابتها في ثباتٍ وحزم بلا تردد، تحمل اليقين.
"قالت له: نعم يا سيد (رب)،
أنا قدآمنتأنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم". [27]
قدمت مرثا قانون إيمانها بكل إخلاص: "أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم" [27]. وهو ذات قانون الإيمان الذي نطق به بطرس الرسول وامتدحه السيد (مت ١٦: ١٦-١٧). جاء قانون إيمانها يحوي ثلاثة بنود رئيسية:
* يسوع هو المسيح، أو المسيا الذي انتظره الآباء والأنبياء. كان كثير من يهود القرن الأول يترقبون مجيئه بشوقٍ عظيم.
* أنه ابن الله بالطبيعة (مز ٢: ٧).
* جاء إلى العالم ليقيم منه كنيسته المقدسة، ليس من اليهود وحدهم بل من العالم.
إن كان هو المسيا مخلص العالم، ابن الله بالطبيعة وقد نزل إلى العالم ليقيمه فهو حتمًا الحياة والقيامة.
* لقد رفع بالفعل رأيها الهابط عنه، فلا تحسبه واحدًا بين كثيرين. فإنها ليست ببساطة دعته "يا رب" بل ردت له الكرامة. وتحدثت بتلك الكلمات لتكرمه، يظهر ذلك مما قلته بعد هذا. إنها لم تضحك ولا سخرت ولا شكت إلى لحظة[1194].
* يبدو لي أن المرأة لم تفهم القول، وإن كانت قد أدركت أنه أمر عظيم، لكنها لم تدركه بالكامل. لهذا السبب عندما سُئلت شيئًا أجابت بشيء آخر[1195].
* لم تقل له "أقم أخي"، لكنها قالت: "أنا قد آمنتأنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم".
القديس يوحنا الذهبي الفم
"ولما قالت هذا مضت ودعت مريمأختها سرًا قائلة:
المعلم قد حضر،
وهو يدعوكِ". [28]
لم تنتظر مرثا كلمة مديح من أجل إيمانها، لكنها أدركت خلال هذا اللقاء مفاهيم جديدة، وتمتعت بخبرات جديدة في فترة قصيرة، مضت ودعت أختها مريم لتتمتع هي أيضًا معها بما نالته. هذا وقد سأل السيد عن مريم لأنها لم تأتِ مع أختها. دعتها سرًا لأنه كان حولها كثيرون من المعزين، ولعل بعض المعزين- سواء كانوا رجالًا أو نساءً- ضد يسوع، لا يطيقونه. خشت مرثا لئلا تثير الدعوة اضطرابًا يعوق مريم عن الانطلاق سريعًا لتلتقي بيسوع وتتمتع بتعزياته.
نلاحظ في حديثها السري مع أختها عن مجيء السيد الآتي:
أولًا: دعته "المعلم Didaskalos"، لا تقوم تعزياته على عواطف مجردة، وإنما مع الحب والحنو يقدم حقائق إيمانية فريدة، قادر أن يجتذب تلاميذه المحبوبين لديه وأصدقاءه إلى التعزيات الإلهية.
ثانيا:"قد حضر" ذاك الذي طال انتظارنا لمجيئه، ونترجى الكثير من وجوده.
ثالثًا: "وهو يدعوك"، فقد سأل عنك بالاسم، لأنه يهتم بكِ، ويطلب سلامكِ وتعزية قلبكِ.
"أما تلك فلما سمعت قامت سريعًا،
وجاءت إليه". [29]
إذ سمعت دعوة السيد المسيح على فم أختها "قامت سريعًا، وجاءت إليه".وقد علق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا التصرف النبيل، حاسبًا إياها أنها سلكت بالفلسفة الحقيقية، أي بالحكمة التي لا تطلب الأمور التافهة غير النافعة بل ما هو بالحق لخيرها، وقد نالت بسبب حكمتها. من يتصور سيدة مات أخوها منذ أربعة أيام ومعزون كثيرون حولها يبكين وينحن معها، وإذ تسمع عن يسوع لا تنتظر حضوره إليها ليعزيها، بل تنطلق إليه إلى خارج قريتها والنساء حولها يحسبن إياها أنها ذاهبة إلى القبر تبكي!
ما أحوجنا في وسط دموعنا وتجاربنا ألا نركز أنظارنا على المرارة، ولا نعطي اعتبارًا للمعزين المتعبين العاجزين عن تقديم السلام الحقيقي، بل تنطلق أعماقنا نحو ذاك الذي هو قادم إلينا ليفيض بتعزياته السماوية فينا! لنخرج بالحق من كل شكليات وليرتفع قلبنا بروح الله القدوس إلى السيد المسيح فهو وحده طبيب النفوس والأجساد، وواهب الحياة والقيامة، الإله القدير وحده الذي يبادر دومًا بالحب.
ما أحوج النفس وسط وادي الدموع هذا أن تترك كل ما يحطمها من متاعب، وتتجاهل كل تعليق بشري، لتنسحب بالرجاء نحو ذاك الذي وحده قادر أن يشكلها بروحه القدوس ويشبعها ويقيمها معه في مجده أبديًا!
الانشغال المستمر بأحزاننا يسبب لنا كآبة أكثر مرارة من الأحزان نفسها، أما اللقاء مع السيد المسيح، فيهب بهجة الحياة المقامة وتهليلها الدائم.
* انظروا كمثالٍ كيف نالت هذه المرأة مكافئتها بممارستها الحكمة الحقيقية. فإذ كان الكل جالسًا بجوارها إذ كانت تبكي وهي حزينة، لم تنتظر سيدها أنه يجب أن يأتي إليها، ولا طالبت بما يبدو أنه بحقها (فإن النساء الحزينات بجانب بؤسهن لديهن هذا البلاء وهو أنهن يهولن من وضعهن)، أما هي فلم تفعل شيئًا من هذا، فما سمعت حتى أسرعت إليه[1196]
القديس يوحنا الذهبي الفم
"ولم يكن يسوع قد جاء إلى القرية،
بل كان في المكان الذي لاقته فيه مرثا". [30]
بحكمة إلهية كان السيد يتحرك ببطءٍ شديدٍ حتى يعطي مرثا الفرصة لتسرع بدعوة أختها، ويهب مريم فرصة الإسراع نحوه، فينطلق معهما إلى القبر، ويحول أحزانهما إلى أفراح فائقة. هكذا كثيرًا ما يبدو الرب متباطئًا في حلّ مشاكلنا مع أنه يطلب سعادتنا، حتى يهبنا فرصة الالتجاء إليه، والتعبير عما في داخلنا من إيمان حي ورجاء ثابت، فنسرع إليه لندرك خطته الإلهية الخفية والفائقة من نحونا.
* قال عن السيد المسيح:"ولم يكن يسوع قد جاء إلى القرية، بل كان في المكان الذي لاقته فيه مرثا". لأنه مشى ببطءٍ، لئلا يُظن أنه يطرح ذاته في عمل الآية، لكنه انتظر حتى يسأله أولئك من أجلها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"ثم أن اليهود الذين كانوا معها في البيت يعزونها،
لما رأوا مريم قامت عاجلًا وخرجت،
تبعوها قائلين:
إنها تذهب إلى القبر لتبكي هناك". [31]
بينما دعت مرثا أختها سرًا، وقدمت لها دعوة السيد لها [٢٨]، فسحبتها من وسط بكائها ومن وسط المعزين لتجري نحوه، إذا مريم بتحركها الصامت سحبت كل من كان معها في بيتها وهم لا يدرون إلى أين يذهبون. حبها العملي للمخلص جذب الكثيرين ليروا ويلمسوا ذاك الذي يقيم من الأموات.
* لم تأتِ وحدها، بل سحبت معها اليهود الذين كانوا معها في البيت. بحكمة عظيمة دعتها أختها سرًا حتى لا تربك الحاضرين الذين جاءوا معًا، ولم تشر إلى سبب حديثها، فإنه بالتأكيد لو سمعوا لرجعوا إلى بيوتهم. أما الآن إذ خرجت تبكي تبعوها. ربما أكد هذا موت لعازر[1197]
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فمريم لما أتت إلى حيث كان يسوع ورأته،
خرت عند رجليه، قائلة له:
يا سيد لو كنت ههنا لم يمتأخي". [32]
لم يدخل السيد المسيح القرية ولا بيت لعازر وأختيه، وإنما التقى بالأختين ثم ذهب ومعه الجمع إلى القبر. إنه محب لعمله، قد جاء لينطلق إلى القبر، ويتمم عمله بلا تأخير.
* مريم هذه أحر شوقًا من أختها مرثا، لأنها لم تخجل من الجمع، ولا من الظنون التي امتلكها أولئك من أجله، فقد كان فيهم كثيرون من أعدائه، الذين قالوا: "ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضًا لا يموت؟" [٣٧].لكن عند حضور المعلم أبعدت عنها الأوهام الميتة كلها، وتمكنت في عزمٍ واحدٍ من تكريمها المعلم[1198].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. إقامة لعازر من الأموات
"فلما رآها يسوع تبكي،
واليهود الذين جاءوا معها يبكون،
انزعج بالروح واضطرب". [33]
هنا يظهر السيد المسيح أنه قد صار بالحقيقة إنسانًا يحمل مشاعر إنسانية، يشارك المتألمين، ويبكي مع الباكين. إنه رجل أحزان (إش ٥٣: ٣). لم يوجد قط ضاحكًا، لكنه في أكثر من موضع وًجد باكيًا.
* لم يقل السيد المسيح لها شيئًا، ولا نطق بالأقوال التي قالها لأختها مرثا.، لأن جمعًا كثيرًا كان حاضرًا، ولم يكن وقت لتك الأقوال، لكنه تنازل إذ كشف عن طبيعته الإنسانية، ولم يرد أن يتخيلوا فيه شيئًا أكثر.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* أنتم تنزعجون بغير إرادتكم، أما المسيح فانزعج لأنه أراد ذلك.
يسوع جاع، هذا حقيقي، إنما لأنه أراد.
كان حزينًا، هذه حقيقة، لكن لأنه أراد. في سلطانه أن يكون هكذا أو كذلك، يتأثر أو لا يتأثر. لأن الكلمة أخذ نفسًا وجسدًا حاملًا فيه نفس الطبيعة البشرية واحدًا مع الكلمة، المسيح الواحد. بهذا الكلمة الذي له سلطان فائق يستخدم الضعف رهن إشارة إرادته، وبهذا فقد "انزعج"[1199].
القديس أغسطينوس
"وقال: أين وضعتموه؟
قالوا له: يا سيد تعال وانظر". [34]
* إن سألت: لِم سأل هذا السؤال؟ أجبتك: إنه لم يرد أن يبادر هو، لكنه شاء أن يعرف من أولئك كل ما جرى، وأن يسألوه أن يعمل الآية حتى يستخلص الآية من كل تهمة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* سيأتي المسيح إلى قبرك، وإذ يجد مرثا المرأة التي تقدم خدمة صالحة، ومريم التي تهتم بقلبها بكلمة اللَّه مثل الكنيسة المقدسة التي اختارت النصيب الصالح تبكيان، يحنو عند موتك يرى دموع الكثيرين فيقول: "أين وضعتموه؟" بمعنى في أية حال من الجريمة هو؟
في أية رتبة بين النادمين؟
أريد أن أرى من تبكون عليه، لكي ما يحركني بدموعه. سأرى إن كان قد مات فعلًا بالخطية فأعالجه بالمغفرة.
يقول له الشعب: "تعال وأنظر".
ما معنى "تعال"؟ لتأتِ مغفرة الخطايا، ولتأتِ الحياة إلى من رحل، والقيامة من الأموات، ليأتِ ملكوتك لهذا الخاطئ أيضًا[1200].
القديس أمبروسيوس
* يا للعجب الذي جاء ليقيمه من الأموات يبدو كمن لا يعرف موضع القبر، إذ "قال: أين وضعتموه؟" [34]. وكما يقول كثير من الآباء أن الله العالم بكل شيء يبدو كمن لا يعرف موضع الظلمة، ولا يعرف الشر ولا الأشرار. لهذا إذ أخطأ آدم في الجنة، سأل الرب: "أين أنت؟" (تك ٣: ٩). وفي يوم الدينونة يقول للأشرار: "لست أعرفكم" (مت ٧: ٢٣)، وهنا يتساءل: "أين وضعتموه؟"
* لست أراكم في نوري، في البرّ الذي أعرفه[1201]
* ماذا تعني "أنظر"؟ ترفق، فإن الرب ينظر حين يتحنن. لذلك قيل له: "أنظر إلى تواضعي وألمي، واغفر لي كل خطاياي" (مت ٩: ١٣)[1202].
القديس أغسطينوس
"بكى يسوع". [35]
جاء الفعل "بكي" هنا في اليونانية مختلفًا عما ورد عن بكاء مريم وجمهور المحيطين بها [٣٣]، إذ لا يحمل العويل المرتفع مثلهم، بل انسياب الدموع من عينيه. إنها مجرد شهادة عملية لمشاعره العميقة ومشاركته للمتألمين أمام الجموع التي لم تدرك بعد كيف تواجه الموت. وقد وجدت الجموع في هذه الدموع شهادة حية عن محبته للعازر [٣٦].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن كل ما صنعه السيد المسيح كان بحكمته الإلهية لكي تنتفع الجموع بصنع المعجزة، فمن جانب لم يتحدث مع مريم أمام الجموع بما قاله لمرثا حين التقت به منفردة. فقد تحدث عن إقامة لعازر. فلو سمعت الجموع ذلك حيث يحمل كثيرون له عداوة، لتركوه ورجعوا إلى أورشليم، ولم يروا إقامة لعازر. من جانب آخر أكد ناسوته في تلك اللحظات، حتى لا تنفر الجموع إن تحدث عما يخص لاهوته.
بكى في صمت، واضطرب ثم تنهد كمن يكبح اضطرابه، وسأل عن موضع القبر... كل هذا أثار تساؤلات في أذهان اليهود، ورغبة في معرفة ما سيفعله دون نفورٍ من جانبهم.
* ماذا فعل المسيح؟ لم يدخل معها في حوارٍ في ذلك الوقت، ولا قال لها ما قاله لأختها (لأنه لم يوجد جمع عظيم، وكان ذلك غير مناسب في ذلك الحين). كل ما فعله كان بقياسٍ (معين) وتنازلٍ منه، ليؤكد طبيعته البشرية، إذ بكى في صمت، وأجَّل صنع الآية في ذلك الوقت (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). فإذ كانت الآية عظيمة، وإذ كان يمارس أمرًا خطيرًا حتى يؤمن كثيرون بها، وحتى لا يتممها في غير حضورهم، فتوجد عثرة للجمهور، ولا ينتفعون بعظمتها، وحتى لا يفقد الفريسة قدم شهادات كثيرة لتنازله وأظهر تأكيدًا لناسوته. وقد بكى واضطرب. فعادة يثير الحزن المشاعر، وإذ تنهد بالروح أي ضبط اضطرابه سأل: "أين وضعتموه؟" [٣٤][1203].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بكى الرب نفسه أيضًا من أجل لعازر نفسه الذي سيقيمه إلى الحياة، بلا شك لكي يسمح لنا بمثاله أن نبكي على موتانا، وإن كان لم يعطنا وصيته بذلك، هذا مع إيماننا بأنهم يقومون إلى الحياة الحقيقية. ليس اعتباطًا جاء في سفر الحكمة: "اسكب دموعًا على الميت، وأبدأ بالحزن كمن أصابه ضرر عظيم"، لكنه يكمل بعد قليل قائلًا: "ولتتعزى في حزنك، لأن بالحزن يحل الموت، وأسى القلب يبتلع القوة" (جا 17:38، 19)[1204].
القديس أغسطينوس
* لكي يُظهر المخلص نفسه أن لديه مشاعر بشرية حقيقية حزن من أجل ذاك الذي سيُقيمه من الأموات[1205].
القديس جيروم
"فقال اليهود:
أنظروا كيف كان يحبه". [36]
إذ رأى اليهود دموع السيد قالوا: "انظروا كيف كان يحبه" [36]، ونحن إذ نرى دمه يتساقط من جسمه على الصليب نسبحه قائلين: "انظروا كيف يحبنا!"
* ألا ترون أنه لم يُظهر بعد أية علامة على إقامته له، وذهب لا كمن يقيم لعازر بل كمن يبكيه؟ هكذا بدا لليهود أنه ذاهب لينتحبه لا ليقيمه، وذلك من قولهم: "انظروا كيف كان يحبه" [٣٦][1206].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وقال بعض منهم:
ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضًا لا يموت؟" [37]
في جهالة ظنوا دموع السيد المسيح علامة عجز وعدم قدرة على العمل، ولم يدركوا أنها دموع الحب والحنو، وأنه ليس فقط كان قادرًا أن يشفيه وإنما لا يزال قادرًا أن يقيمه حتى بعد أنأنتن جسمه.
* لقد اعترف اليهود هنا أن السيد المسيح فتح عيني الأعمى، ولكنهم استكثروا عليه أن يجعل لعازر لا يموت.
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فانزعج يسوع أيضًا في نفسه،
وجاء إلى القبر،
وكان مغارة،
وقد وُضع عليه حجر". [38]
لا يفهم من انزعاج يسوع في نفسه فقدان سلامه الداخلي، لكنه كما أخلى ذاته ليحل بيننا كإنسانٍ حقيقيٍ كاملٍ، سمح بإرادته أن يدخل الانزعاج إلى نفسه حتى يشارك المنزعجين، فيحملهم إلى سلامه الإلهي.
"قال يسوع:
ارفعوا الحجر.
قالت له مرثاأخت الميت:
يا سيد قد أنتن،
لأن له أربعة أيام". [39]
أمر برفع الحجر حتى يرى كل الواقفين أن الجسد ملقى في القبر ميتًا، كما يشتمون الرائحة، فيتأكدون أنه أنتن، وعند خروجه من القبر لا يظنوا أنه خيال بل هو جسد حقيقي.
جاء اعتراض مرثا غالبًا بعد أن بدأوا يحركون الحجر فاشتمت الرائحة.
* لماذا لم يدعُ لعازر وهو على بُعد من القبر ويأتي به أمام أعينهم؟ أو بالأحرى لماذا لم يجعله يقوم والحجر مُلقى على القبر؟ فإن ذاك القادر بصوته أن يحرك الجثمان ويظهره متمتعًا بالحياة مرة أخرى هل كان كثير عليه أن يدحرج الحجر بصوته؟
ذاك الذي له القوة بصوته أن يجعل من هو مربوط وملفوف بالأكفان يمشي هل كثير عليه أن يجعل الحجر يتحرك؟
فلماذا لم يفعل ذلك؟
لكي يجعل منهم شهودًا للمعجزة، فلا يقولون كما قالوا في معجزة الأعمى: "إنه هو"، "إنه ليس هو". فإن أياديهم ومجيئهم إلى القبر تشهد بالحق أنه هو.
لو لم يأتوا لبدا لهم أنهم نظروا رؤية أو أنه شخص عوض آخر.
الآن مجيئهم إلى الموضع ورفع الحجر والأمر بحل الميت الذي في الأكفان المربوطة، فإن الأحباء الذين حملوه إلى القبر يعرفون من الأكفان من هو. لم تترك أختاه خلفًا (من الجموع) إذ قالت إحداهما: "قد أنتن لأن له أربعة أيام" [٣٩]. أقول أن كل هذه كانت كافية لتبكم أصحاب الميول الشريرة، إذ صاروا شهودًا للمعجزة[1207].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* سيأتي ويأمر برفع الحجر هذا الذي سقط على كتفي الخاطئ.
كان يمكنه أن يحرك الحجر بكلمة أمره، لأنه حتى الطبيعة الجامدة تود أن تطيع أمر المسيح.
كان يمكنه بقوة عمله الصامت أن يحرك حجر القبر. هذا الذي أثناء آلامه تحركت حجارة كثيرة من قبور الأموات وانفتحت فجأة.
لكنه أمر الرجال أن يرفعوا الحجر بالحق حتى يؤمن غير المؤمنين بما يرونه، وينظرون الميت يقوم.
لكن هذا يحمل رمزًا ليهبنا قوة تخفيف ثقل الخطايا، الضغط الثقيل الذي على المجرم. من جانبنا نحرك الأثقال، ومن جانبه يقيم ويخرج من القبور أولئك الذين يتحررون من أربطتهم[1208].
القديس أمبروسيوس
* الآن قيل: "لقد مات منذ أربعة أيام". فإنه بالحقيقة تبلغ النفس إلى هذه العادة التي أتحدث عنها بنوع من التقدم أربع مرات.
المرحلة الأولى: هي كما لو كانت إثارة اللذة التي في القلب.
والثانية: هي قبولها.
والثالثة: هي تحولها إلى عمل.
والرابعة: تحولها إلى عادة.
يوجد من يلقون عنهم الأمور الشريرة عن أفكارهم كأنهم لا يجدون فيها لذة.
ويوجد من يجدون فيها لذة، ولكنهم لا يوافقونها. هنا لا يكمل الموت لكن يحمل بداية معينة، فقد أضيف إلى الشعور باللذة موافقة. في الحال تحدث إدانة للشخص.
بعد الموافقة يحدث تقدم للموافقة إذ تتحول إلى عملٍ ظاهرٍ.
والعمل يتحول إلى عادة. فيحدث نوع من اليأس، حتى يُقال: "قد أنتن لأن له أربعةأيام ". لذلك جاء الرب هذا الذي كل الأمور بالنسبة له سهلة. ومع هذا فوجد في هذه الحالة كما لو كانت هناك صعوبة. لقد اضطرب بالروح، وأظهر الحاجة إلى احتجاج كثير وعال ليقيم الذين تقسوا بالعادة. ولكن عند صرخة الرب تفجرت أربطة الضرورة. ارتعبت قوات الجحيم، وعاد لعازر حيًا. فإن الرب ينقذ حتى من العادات الشريرة هذا الذي له أربعة أيام ميتًا فإنه بالنسبة للرب وحده يُحسب راقدًا هذا الذي يريد الرب أن يقيمه[1209]
القديس أغسطينوس
* حتى إن كنت راقدًا في قبرك، فالرب يُقيمك، وإن كان جسدك قد أنتن[1210].
القديس جيروم
يرى العلامة أوريجينوس أنه إذ أصدر السيد المسيح أمره "ارفعوا الحجر" أعاقت مرثا تنفيذ الأمر بكلماتها: "يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام"[٣٩]، بعد ذلك رفعوه.
هذه اللحظات ما بين الأمر وتأخير تنفيذ تحمل نوعًا من عدم الإيمان، فلم يتحقق القول: "إن آمنتِ ترين المجد الله" [٤٠]. لحظات التأخير هي لحظات عدم إيمان وعصيان.
* يليق بنا أن نؤمن أن فترة التأخير في تنفيذ الوصية هي وقت للعصيان بالنسبة لمن ينفذ الوصية بعد ذلك... لذلك وجب علينا أن نتذكر القول: "لا تتأخر في الرجوع إلى الرب، ولا تؤجله من يوم إلى يوم" (ابن سيراخ ٥: ٧)، والقول: "لا تقل لصاحبك اذهب وعد، فأعطيك غدًا، وموجود عندك" (أم ٣: ٢٨). يلزمنا أن نعتقد أنه دينونة على مرثا إن الكلمات: "فرفعوا الحجر"[٤١] قد كُتبت مؤخرًا، وكان يجب أن تُقال فورًا بعد الكلمات: "قال يسوع: ارفعوا الحجر".[1211]
العلامة أوريجينوس
* يقول: "ارفعوا الحجر" [٣٩]. ارفعوا ثقل الناموس، واكرزوا بالنعمة. "لأنه لو أُعطي ناموس قادر أن يُحيي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس. لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطية ليُعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون" (غلا ٣: ٢١ - ٢٢). لذلك "ارفعوا الحجر"[1212].
القديس أغسطينوس
"قال لها يسوع:
ألمأقل لكِ إن آمنت ترين مجد الله؟" [40]
* حقًا الإيمان هو بركة عظيمة، ويصنع أمورًا عظيمة للذين يتمسكون بالحق ويتمتعون ببركات كثيرة.
بالإيمان يستطيع الناس أن يمارسوا أعمال الله باسمه. حسنًا يقول المسيح: "لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك، فينتقل" (مت ١٧: ٢٠). مرة أخرى: "من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها" (يو ١٤: ١٢). ماذا يعني بالأعظم منها؟ تلك التي شوهد التلاميذ يعملونها. فإنه حتى ظل بطرس أقام ميتًا، وهكذا ظهرت بالأكثر قوة المسيح. فإنه ليس عجيبًا أنه وهو حي صنع عجائب مثلما بعد موته يستطيع آخرون أن يصنعوا باسمه أعمالًا أعظم مما فعل. هذا برهان عن القيامة لا يُقاوم، فإنه حتى وإن شاهد الكل القيامة كانوا يؤمنون بها هكذا. لأنه يمكن للناس أن يقولوا إنها ظهور، أما من يرى حدوث عجائب بمجرد دعوة اسمه أعظم مما فعله حين كان بين البشر، فإنه لا يقدر أحد ألا يؤمن إلاَّ إذا كان عديم الحس.
إذن الإيمان بركة عظيمة عندما يصدر عن مشاعر وهَّاجة وحب عظيم ونفس متقدة.
بالحق يجعلنا الإيمان حكماء، ويخفي انحطاطنا البشري، ويلقي بالحجج إلى أسفل ويفلسف (يعطي حكمة) بخصوص السماويات، أو بالأحرى الأمور التي لا تستطيع حكمة البشر أن تكشفها. إنها تدركها بفيضٍ وتنجح فيها.
لنلتصق إذن بالإيمان، ولا نعتمد على الحجج الصادرة عنا[1213].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعًا
ورفع يسوع عينيه إلى فوق، وقال:
أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي". [41]
إنها لحظات رهيبة حيث رُفع الحجر فظهر الجسد، وقد فاحت رائحة النتن العنيف، بينما وقف السيد المسيح يخاطب الآب، شاكرًا له أنه استمع له. إنه من جهة يؤكد علاقته بالآب حتى يطمئن الحاضرون أنه سماوي وليس كما ادعى بعض القادة أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. ومن جانب آخر لكي يكون قدوة لنا.
* ما أقوله دومًا، أقوله الآن، أن المسيح لم يتطلع كثيرًا نحو كرامته قدر ما كان يتطلع إلى خلاصنا، فلا يهتم بتقديم منطوقات سامية علوية، بل ما يمكن أن يجتذبنا إليه. لهذا فإن أقواله العلوية القديرة قليلة ومخفية، أما أقواله المتواضعة فكثيرة وفيَّاضة في مقالاته...
فلم يكن يتحدث بالأولى بطريقة عامة، لئلا تسبب دمارًا لمن يأتون بعده، ومن الجانب الآخر فلا يمتنع عنها تمامًا، لئلا يتعثر الذين كانوا في ذلك الوقت. فالذين يعبرون من الانحطاط إلى الكمال يستطيعون بتعليمٍ سامٍ منفرد أن يبلغوا إلى كل التعليم، وأما أصحاب الفكر الضعيف فإنهم ما لم يسمعوا دومًا أقوالًا في مستوى ضعيف لا يأتون إليه نهائيًا.
في الواقع بعد أقوال كثيرة مثل هذه (علوية) كانوا يريدون أن يرجمونه ويضطهدونه ويحاولون قتله ويعتبرونه مجدفًا... فعندما جعل نفسه مساويًا لله؛ قالوا: "هذا الإنسان يجدف" (مت ٩: ٣). وعندما قال: "مغفورة لك خطاياك" (يو ١٠: ٢٠) دعوه شيطانًا. وعندما قال أن من يسمع كلماته يصير أقوى من الموت، أو "أنا في الآب والآب فيَّ" (يو ٨: ٥١) تركوه. مرة أخرى قاوموه حين قال إنه نزل من السماء (يو ٦: ٣٣، ٦٠).
الآن إذ لم يستطيعوا أن يحتملوا مثل هذه المقولات، مع أنه نطق بها نادرًا جدًا وبالجهد فلو أن كل محادثاته كانت مشحونة دومًا بالأمور العلوية، من هذا النسيج، فهل كانوا يلتفتون إليه؟
لذلك كان يقول: "كما أوصاني الآب أتكلم" (يو ١٣: ٣١)؛ "لم آتِ من نفسي" (يو ٧: ٣٨)، عندئذ كانوا يؤمنون.
واضح أنهم آمنوا مما أشار إليه الإنجيلي قائلًا: "إذ قال هذه الكلمات آمن به كثيرون" (يو ٥: ٣٠). فإن كانت الأقوال التي تحمل تواضعًا تجتذب الناس إلى الإيمان، والكلمات العلوية تفزعهم، لذلك نطق بالكلمات المتواضعة من أجل السامعين[1214].
القديس يوحنا الذهبي الفم