اعمال الرسل 7 - تفسير سفر أعمال الرسل
خطاب استفانوس الجزء(5)للقمص تادرس يعقوب ملطي
10. استشهاد استفانوس
"فصاحوا بصوت عظيم،
وسدوا آذانهم،
وهجموا عليه بنفسٍ واحدةٍ". [57]
صاحوا بصوتٍ عظيم لكي يطغوا على صوته، وسدّوا آذانهم لئلاّ تتنجّس بتجاديفه.
ظهرت علامات الغضب على أعضاء المجمع، فأثاروا الشعب ليصرخوا ويتحركوا للقتل دون إصدار قرار من مجمع السنهدرين، فقد أخذ الشعب النور الأخضر للتحرك. فما فعله الشعب، إنما هو تحقيق لما في قلوب أعضاء المجمع.
لقد اتهمه المجمع بالتجديف، وأشاروا بطريق أو آخر أن ما ينطق به استفانوس هو تأكيد وشهادة حية لصدق الاتهام.
"سدوا آذانهم": كمن لا يريدون أن يسمعوا تجديفًا أكثر حتى لا تتدنس آذانهم.
"وأخرجوه خارج المدينة ورجموه،
والشهود خلعوا ثيابهم عند رجليّ شاب يقال له شاول". [58]
تحول المجمع إلى حالة هياجٍ شديدٍ وصياحٍ، وحسبوا ما نطق به القديس استفانوس تجديفًا لن يسمحوا له بالدخول إلى آذانهم لئلا تتنجس. تحوّل المجمع من محكمة عليا للعدالة تصدر الحكم بعد المداولة إلى هيئة تنفيذية للرجم دون صدور حكم رسمي به.
كان الرجم هو عقوبة التجديف (لا 24: 16). بحسب الشريعة يقوم الشهود بالبدء في الرجم. أما سحْبِه خارج المدينة فهو أمر طبيعي، إذ جاء في لاويين 24: 14، أن يسحب من كان تحت اللعنة خارج المحلة.
كان شاول يتطلع إلى رجم استفانوس بكونه حلم حياته، فهو يود الخلاص من ذاك الذي كان يجادله ويفحمه، حاسبًا في هذا العمل خدمة لله، وتطهيرًا للشعب من روح التجديف على الله وعلى الشريعة وموسى والهيكل!
لكن كيف رجموه دون الالتجاء إلى الحاكم الروماني، إذ قالوا لبيلاطس أثناء محاكمة يسوع المسيح: "لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا" (يو 8: 31)؟قيل أن رجم استفانوس تم في غيبة بيلاطس عن البلاد.
خلع الشهود ثيابهم، ووضعوها عند رجلي شاول الطرسوسى لكي يلقوا بأول حجرٍ على الشخص إثباتا أنهم مسئولون عن صدق شهادتهم. وقد تم ذلك عند رجلي شاول الذي دخل في حوار مع القديس استفانوس مرات ومرات بكونه أحد أعضاء مجمع الكيليكيين (أع 6: 9).
ولعله كانت شهوة قلب شاول أن يختفي استفانوس عن الوجود، لأنه أفحم الكثيرين في المجامع. ويرى البعض أن قرار شاول كان له اليد الأولى لرجم استفانوس، لهذا سمع الصوت الإلهي: " لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 6) وقد بقيت صورة وجه استفانوس الملائكي لا تفارق عيني شاول الطرسوسى أو بولس الرسول، وصارت أحاديثه منهجًا لاهوتيًا له. إنه يعترف "وحين سُفك دم استفانوس شهيدك كنت أنا واقفًا وراضيًا بقتله، وحافظًا ثياب الذين قتلوه" (أع 22: 20)، أي كان مشتركًا في الحكم عليه ومسرورًا بقتله.
"فكانوا يرجمون إستفانوس وهو يدعو ويقول:
أيها الرب يسوع اقبل روحي". [59]
القديس استفانوس الممتلئ بالروح القدس حياته صلاة دائمة، فإنه وإن كان لم يخدم لسنوات، وإنما لأشهر قليلة أو أسابيع معدودة، لكنه عاش رجل صلاة حتى في لحظات رجمه، فجاء ثمر الروح فيه متكاثرا، ويكفي انه باستشهاده سحب قلب شاول الطرسوسى للبحث عن الحق.
* لقد سمعتم كيف كان استفانوس قاسيًا [51-52]، الآن اسمعوا كيف قد أحب! لقد قاوم الذين كان ينتهرهم ورُجم بواسطتهم... كان آخر صلاته هي من أجل أعدائه. علّموا هنا أن يكون لكم ثوب العرس (الحب حتى للأعداء)[353].
القديس أغسطينوس
* يا لسعادة ذاك الذي يواجه عنف الشيطان بالاجتهاد بكل أنواع أطايب الاحتمال![354]
العلامة ترتليان
"ثم جثا على ركبتيه،
وصرخ بصوت عظيم:
يا رب لا تُقم لهم هذه الخطية.
وإذ قال هذا رقد". [60]
ختم القديس استفانوس حياته بصلاة وداعية فائقة، إذ قدم شفاعة لدي الله من أجل مضطهديه.
إذ واجه القديس استفانوس الموت شهد للسيد المسيح أنه واحد مع الآب في يديه، يستودعه روحه. لقد تشَّبه بسيده في لحظات صلبه. "ونادي يسوع بصوتٍ عظيمٍ وقال: يا أبتاه في يديك استودع روحي" (لو 23: 46). لقد سبق فصرخ المرتل: "أخرجني من الشبكة التي خبأوها لي، لأنك أنت حصني، في يدك استودع روحي" (مز 31: 5)
تحت قيادة الروح القدس جثا بركبتيه لكي يستشهد وهو في حالة صلاة. وقد وهبه الروح قوة ليصرخ بصوت عظيم، بينما كان الجسد ضعيفًا للغاية تحت ضربات الحجارة القاسية. كما كشف الروح عن قلبه المتسع بالحب، فتشَّبه بسيده على الصليب: "لا تقم لهم هذه الخطية".
أخيرًا: "لما قال هذا رقد"، إنه لم يمت، لكنه رقد في ليل هذا العالم ليستيقظ على نور نهار الله الذي يمسح كل دمعةٍ، ويدخل به إلى فرح سيده ويشارك السمائيين تهليلهم وبهجتهم!
* إذ قال هذا رقد في موته. ياله من نومٍ طوباوي، وراحة حقيقية! انظروا ماذا يعني أنه يستريح سعيدًا: أن يصلي من أجل أعدائه[355].
* بحبك لإنسان هو عدوك تصير صديقًا لله؛ في الحقيقة ليس صديقه فقط بل وابنه، كما يقول الرب نفسه: "أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، هذا يبرهن أنكم أبناء أبيكم السماوي" (راجع مت 5: 44-45) [356].
* لنجاهد أن نعمل كأطباء نحو كل الأشرار. لنكره أعمالهم الشريرة، لا الناس أنفسهم. لنصلي من أجل كل الصالحين لكي ما يرتفعون دومًا إلى حياة أفضل، ومن أجل الأشرار لكي ما يتمتعون سريعًا بحياة صالحة خلال أدوية التوبة. عندما نصلي من أجل هذا، فإنه يهبنا نحن ذلك[357].
* حزن (استفانوس) بالأكثر على خطاياهم أكثر من حزنه على جراحاته. حزن على شرورهم أكثر من حزنه على موته. تصرف بحقٍ؛ بالتأكيد يوجد في تصرفهم الشرير ما يلزم النوح عليه، بينما لم يوجد شيء في موته ليحزن عليه. الموت الأبدي تبع شرهم بينما الحياة التي بلا نهاية تبعت موته... ليتنا نحب اخوتنا في الكنيسة بذات الروح التي بها أحب استفانوس أعداءه[358].
* إن كان القديس استفانوس قد سيم شماسًا بواسطة الرسل، فقد سبق الرسل أنفسهم بموته المنتصر المبارك. الذي كان أقل في الرتبة صار الأول في الألم؛ والذي كان تلميذًا صار معلمًا باستشهاده متممًا ما قاله النبي الطوباوي في المزمور: "ماذا أرد للرب من أجل كل إحساناته عليَّ؟" (مز 116: 2) [359].
الأب قيصريوس أسقف آرل
* كان سلوك المسيح نفسه فوق كل الآخرين، وذلك كمثالٍ لنا. لأنّه بينما كان لايزال معلّقًا على الصليب الثمين، وجموع اليهود يهزأون به، قدّم للَّه الآب صلوات لحسابهم، قائلًا: "اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو23: 34). وأيضًا الطوباوي استفانوس بينما كان يُرجم بالحجارة، جثا على ركبتيه، قائلًا: "يا رب لا تقم لهم هذه الخطية". وبولس الطوباوي أيضًا يقول: "نُشتم فنبارك، يُفترى علينا فنعظ" (1 كو 4: 12)[360].
القديس كيرلس الكبير
* إن كان ربّكم مثالًا عاليًا جدًا عليكم أن تحوّلوا أفكاركم نحو زميلكم الخادم. فقد كان القّديس استفانوس يُرجم، وإذ كانوا يرجمونه كان يصلّي بركبٍ منحنية لأجل أعدائه، قائلًا: "يا رب لا تقم لهم هذه الخطية" [60]. لقد كانوا يقذفونه بالحجارة ولم يكونوا طالبين العفو، ومع ذلك صلّى لأجلهم. أريد أن تكونوا مثله. فلتتقدّموا إلى الأمام بالنسبة لأعدائكم. إن لم تستطيعوا أن تحبّونهم أثناء قسوتهم، فلتحبّونهم على الأقل عندما يسألونكم العفو[361].
القديس أغسطينوس
* أنه لم يقف عند عدم قذف جالديه باللعنات، بل وصلى من أجلهم، وأنتم لا تكتفون بعدم الصلاة من أجل أعدائكم، بل تلعنوهم. بقدر ما كان استفانوس جديرًا بالإعجاب، بنفس القدر أنت بائس... أية عقوبة نحن لا نستحقها؟ قد تظنون أنكم تجرحون عدوكم، في الحقيقة أنتم تصوبون السلاح ضد أنفسكم. إذ لا تعطون فرصة للديان أن يكون رحيمًا من جهة خطاياكم، وذلك بإثارته ضد خطايا الغير. "لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يًكال لكم" (مت 7: 2). لنكن رحماء، فننال الرحمة من قبل الرب[362].
* لن يسكن الروح القدس حيث يوجد الغضب، بل ملعونون هم الغضبى. لا يمكن أن يحل الأمان قط حيث يوجد الغضب. إنما كعاصفة في البحر، اضطراب عظيم، صخب شديد، لا مجال قط لتعلم دروس الحكمة، هكذا عندما يوجد السخط[363].
* عندما صمت صوت استفانوس، صار صوت بولس المبوًق يدوي[364].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* هكذا كان سلوك المسيح نفسه فوق كل الآخرين، وذلك كمثالٍ لنا، لأنه بينما كان لا يزال معلقًا على الصليب الثمين، وبينما كان الشعب اليهودي يهزأون به، قدّم للَّه الآب صلوات من أجلهم، قائلًا: "اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34).
وأيضًا استفانوس الطوباوي بينما كان يُرجم بالحجارة، جثا على ركبتيه، قائلًا: "يا رب الذي تُقم لهم هذه الخطية" (أع 7: 60).
وبولس الطوباوي أيضًا يقول: "نُشتم فنبارِك، يُفترى علينا فنعظ" (1 كو 4: 12)...
لكن ربّما تعترضون قائلين في داخلكم: المسيح هو اللََّه، أمّا أنا فإنسان ضعيف، وليس لي إلا عقل ضعيف عاجز عن أن يُقاوم هجمات الشهوة والألم. إنك تتكلّم بالصواب، لأن عقل الإنسان ينزلق بسهولة إلى الخطأ، ومع ذلك أقول أن الرب لم يتركك محرومًا من رحمته، فأنت مقتنيه في داخلك بواسطة الروح القدس، لأننا نحن مسكنه، وهو يسكن في نفوس الذين يحبّونه. إنه يعطيك قوّة لكي تحتمل بنبلٍ كل ما يحلّ بك، وأن تقاوم برجولة هجمات التجارب. لذلك "لا يغلبنّك الشر، بل اغلب الشرّ بالخير" (رو 12: 21)[365].
القديس كيرلس الكبير
* إذ تمثل التلاميذ أيضًا بالسيد المسيح، عندما كانوا يسقطون تحت الآلام بنفس الطريقة، صلوا من أجل قاتليهم[366].
المعارف
* يليق بشهيد المسيح الأول أن يكون هكذا، هذا الذي هو سابق للشهداء يتبع المسيح في موته المجيد، لا يكرز فقط بآلام المسيح، بل ويقتدي أيضًا بصبره الفائق المملوء لطفًا[367].
الشهيد كبريانوس
* تفوق شريعة الرب ناموس الطبيعة والناموس الذي أعلنه موسى. لأن غير المستطاع عند البشر مُستطاع عند اللَّه (لو18: 27). لكن المسيح لم يشترع المستحيلات، فإن استفانوس أظهر ذلك في وقت آلامه، عندما أحنى ركبتيه وصلّى من أجل الذين كانوا يرجمونه. بنفس الطريقة، فإن بولس الذي عانى الكثير من أيدي اليهود صلّى أيضًا لأجلهم. فإن ندرة حدوث هذه الأمور لا يُظهر أنّها مستحيلة. لأن أغلب الشعب يظنّون أنّها أمور يصعب تنفيذها، وذلك بسبب عدم الرغبة في الصراع للبلوغ إلى قمّة الفضيلة[368].
ثيؤدور أسقف هيراقليا
اختار القديس استفانوس حتى في لحظات رجمه أن يركع ليصلي. لذا جثا على ركبتيه غير متطلع إلى الحجارة التي تنهال عليه بل إلى خلاص مضطهديه.
رقد القديس استفانوس بقلبٍ مملوءٍ حبًا ونفسٍ مملوءةٍ سلامًا فائقًا. لم يشغله خروج نفسه من جسده، ولم يفكر فيما يعانيه جسده من الآم أثناء الرجم، لكن وقد اختبر الحياة السماوية، لم يكن ممكنًا للموت ولا لقوةٍ ما، أن تفقده سلامه حتى تسليم النفس الأخير.
شتان ما بين موت الأشرار ورقاد القديسين! فالأشرار يرتعبون في لحظات الموت لدخولهم إلى ما هو مجهول، أما القديسون فيتهللون عند رقادهم لأنهم طالما اشتاقت نفوسهم إلى تلك اللحظات السعيدة!
من وحي أعمال الرسل ٧
أينما حللت أراك في داخلي، تسكب بهاءك عليَّ!
* لقبك مفرح يا إله المجد.
أعلنت مجدك لأبي إبراهيم،
لا ليمجدك، بل لكي يتمتع ببهاء مجدك!
لم يرك في أورشليم، ولا في الهيكل،
لكنه تمتع بك في كور الكلدانيين الوثنيين!
* وعدته بأرض الموعد، لكنك لم تعطه وطأة قدم فيها.
لكي يطلب الأرض الجديدة والسماء الجديدة!
وعدته أن ينعم نسله بأرض الموعد،
لكنه لن يدخلها ما لم يُستعبد أبعمائة عام.
هل لي أن أحتمل كل ألم وتجربة،
فأدخل لا أرض الموعد، بل كنعان السماوية؟
* هب لي مع يوسف البار القلب المتسع لمبغضيَّ.
مؤمنًا أنهم وإن باعوني عبدًا،
فذلك لمجدي ولخلاصهم!
ليغلقوا أبواب قلوبهم،
أما قلبي فدومًا متسع لهم.
ليدبروا الشر،
فأنت تقيم من شرهم خيرًا لي ولهم.
لترسلني إلى مصر عبدًا،
هناك أراك يا خالق الكل، قد صرت عبدًا لأجلي!
* ما كان لوالديّ موسى أن يحتفظا به سوى ثلاثة شهور.
عجزت أياديهما البشرية، فامتدت يدك لخلاصه.
كنت ترعاه في قصر فرعون،
ولم تفارقه قوتك!
قدمت له لبن كنيستك المقدسة غير الغاش،
إذ رعته أمه وسط الجو الوثني.
تدرب على حكمة العالم وفلسفته،
لكنه استهان بكل مجدٍ وعلمٍ ملوكي،
من أجل عار صليبك.
* رفضه شعبه، فهرب إلى البرية،
هناك نسي العالم ومباهجه وحكمته،
هناك اختلى بك يا أيها القدوس،
هناك رعى حواسه ومشاعره وكل طاقاته كقطيعك المقدس.
في سكون برية نفسه،
رآك في العليقة الملتهبة نارًا.
ما لم يره نبي أو رئيس كهنة في الهيكل،
رآه نبيك في سكون البرية.
خلع حذائه لأنه صار واقفًا فيما هو أعظم من قدس الأقداس!
هب لي بروحك القدوس أن أخلع كل ما هو ميت فيّ،
فيؤهلني للتمتع بنور أسرارك.
* قاومه الشعب وحاولوا قتله،
حتى في لحظات إحساناته عليهم كقائدٍ يعمل بقوتك!
بقي قلبه مفتوحًا لمقاوميه حتى آخر نسمة في حياته!
أقام لك سليمان هيكلًا،
مع كل المجد الذي ناله، هل صار في مرتبة داود أبيه؟
بنى لك هيكلًا، أما قلب داود فكان على مثال قلبك!
* هب لي أن أراك في داخلي،
تسكب بهاء حبك ومجدك في أعماقي!
أتمتع بالأرض الجديدة مع أبي إبراهيم،
والقلب المتسع مع يوسف البار،
وإدراك أسرارك مع موسى النبي،
ونقاوة القلب مع داود الملك!