اعمال الرسل 7 - تفسير سفر أعمال الرسل
خطاب استفانوس الجزء(4)للقمص تادرس يعقوب ملطي
أزال القديس استفانوس الاتهام الموجه ضده أنه يتحدث ضد الهيكل، فقد أظهر أن هذا الهيكل كان موضوع شهوة قلب الملك البار داود، وأنه بُني بأمرٍ إلهيٍ. وفي نفس الوقت يؤكد أن الله لا يحد نفسه بهذا الهيكل المصنوع بالأيادي. إنه ليس في حاجة إليه، فعرشه هو السماء، فمع تقدير القديس استفانوس للهيكل في أورشليم، لكن ما يشغل قلب الله أن يقبل جميع الأمم الإيمان الحي، فلا يحد العبادة بمدينة أورشليم وبهيكل سليمان.
* [بمناسبة الاحتفال بعيد لتدشين كنيسة:]
كلنا أيها الأحباء كنا هياكل للشيطان قبل العماد، وتأهلنا بعد العماد أن نصير هياكل المسيح. إن تأملنا إلى حدٍ ما بدقة في خلاص نفوسنا، ندرك أننا هيكل الله الحي. الله ليس فقط يسكن في مبانٍ مصنوعة بأيدٍ بشرية، أو منشأة من خشب وحجارة، وإنما فوق الكل يسكن في النفس التي خُلقت على صورة الله، وتشكّلت بيد الخالق نفسه. لذلك يقول الرسول الطوباوي بولس: "هيكل الله مقدس، الذي أنتم هو" (كو 3: 17).
* هذه الهياكل مصنوعة من خشب وحجارة لكي ما تجتمع هياكل الله الحية فيه، وتصير معًا هيكل الله. المسيحي المنفرد هو هيكل الله، والمسيحيون الكثيرون هم هياكل الله.
لاحظوا أيضًا أيها الإخوة، يا لجمال الهيكل الذي تتشكل من الهياكل؛ وذلك مثل أعضاء كثيرة تكَّون جسدًا واحدًا، هكذا هياكل كثيرة تكَّون هيكلًا واحدًا.
الآن تلك الهياكل التي للمسيح، نفوس المسيحيين التقية مبعثرة في العالم، ولكن إذ يحل يوم الدينونة، يجتمعون معًا، ويكَّونون هيكلًا واحدًا في حياة أبدية...
لنفرح أننا تأهلنا أن نكون هيكل الله، لكن لنخشى لئلا نفسد هيكل الله بأعمال شريرة. لنخشى ما يقوله الرسول: "إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسده الله" (1 كو 3: 17).
الله الذي استطاع دون صعوبة أن يشَّكل السماء والأرض بقوة كلمته، رسم أن يسكن فيكم، لذا وجب أن تعملوا بطريقة بها لا تضادون مثل هذا الساكن.
ليت الله لا يجد فيكم، أي في هيكله، شيئًا دنسًا أو مظلمًا أو متشامخًا. فإن عانى هناك من مضايقة ينسحب سريعًا، وإذ يفارقه المخلص للحال يقترب الشيطان، كم تكون حالة النفس التعيسة حينما يفارقها الله ويمتلكها الشيطان؟ مثل هذه النفس تُحرم من النور، وتمتلئ ظلمة، تفقد العذوبة، وتمتلئ مرارة. إنها تحطم الحياة، وتجد الموت. إنها تنال عقوبة، وتفقد الفردوس[335].
الأب قيصريوس أسقف آرل
"السماء كرسي لي،
والأرض موطئ لقدمي،
أي بيت تبنون لي؟ يقول الرب،
وأي هو مكان راحتي؟" [49]
"أليست يدي صنعت هذه الأشياء كلها؟" [50]
إن كان الله في تنازله سمح بإقامة خيمة الاجتماع، ثم ببناء الهيكل، فإن راحته ليس في موضع معين، بل في حضوره وسط شعبه، الذي يحمل شعبه إلى العلى، ويرتفع بهم إلى ما فوق الحرف والمادة ليتمتعوا بالروح والسماء!
8. اضطهد آباؤهم الأنبياء ولم يحفظوا الناموس
"يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان،
أنتم دائمًا تقاومون الروح القدس،
كما كان آباؤكم كذلك أنتم". [51]
إن كان الهيكل كمبنى ليس موضوع سرور الله، ولا كل المتعبدين فيه هم أبرار في عيني الله، فإن القديس استفانوس من هذا المنطلق يتهم المتعبدين في الهيكل في حرفيةٍ بغير روحٍ أنهم قساة الرقاب وغير مختوني القلوب والآذان؛ إذ يقاومون الروح القدس، ويضطهدون القدوس، متشبهين بآبائهم المتمردين.
اتهموا القديس استفانوس بأنه يجدف على ناموس موسى. وقد جاءت إجابته أنه ليس هو المرتكب هذه الخطية، بل اليهود الذين لم يؤمنوا بما هيأ لهم الناموس، هؤلاء الذين منذ أيام موسى وهم يعصون كلمة الله. أُتهم بالتجديف على الله بتجاهله للهيكل، وجاءت إجابته أن تاريخ إسرائيل نفسه يؤكد أن الهيكل مؤسسة وقتية ليست جوهرية في العبادة الصادقة لله.
"يا قساة الرقاب"، اتسم هذا الشعب بهذا اللقب منذ البداية، وقد وجهه الله نفسه لهم خلال موسى النبي مرارًا وتكرارًا (خر 32: 9؛ 33: 3، 5؛ 34: 9؛ تث 9: 6، 13)، أُستخدم عن الشعب اليهودي في تمردهم على الله، وعدم رغبتهم في الالتزام بحدود الوصية الإلهية، وهو تعبير رمزي يشير إلى الثيران التي تقاوم ولا تريد الانصياع للنير الموضوع على أعناقها.
"وغير المختونين بالقلوب والآذان"، كان الختان هو العلامة التي تميز اليهودي الذي يخضع لسلطان الناموس من أجل تمتعه بالوعد الإلهي. كان إشارة إلى النقاوة الداخلية ورفض كل دنس أو رجاسة. عدم ختان القلب يشير إلى رفض الإنسان الخضوع الداخلي للناموس وعدم اكتراثه بالتمتع بالوعود الإلهية. طالبهم الرب بختان القلب والأذن (تث 10: 16؛ إر 4: 4؛ 9: 26). فأغلف القلب أو الأذنين هو ذاك الذي لا يتمتع بالعهد مع الله، فيكون كمن ينتسب للأمم، ولم يصر إسرائيليًا بالروح.
"غير المختونين بالآذان" يعني عدم رغبة الإنسان إلى الاستماع لصوت الله (لا 26: 41؛ إر 9: 26).
"وأنتم دائما تقاومون الروح القدس": يقابلون حب الله ومراحمه بالمقاومة. "في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم"، بمحبته ورأفته هو حلهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة، ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم كأنه عدو يحاربهم (إش 63: 9-10).
إنّهم كآبائهم يهتمّون بختان الجسد، ولا يهتمّون بختان القلب والأذن الروحي، لهذا تمتلئ قلوبهم كراهيّة وبغضة للروح القدس، تتحوّل إلى سلوك خطير، حيث قتل آباؤهم الأنبياء العامل فيهم الروح، وها هم يكملون مكيال آبائهم فيقاومون الروح القدس العامل في رسل المسيح وخدّامه. لا، بل ازدادوا شرًا عن آبائهم إذ خانوا البار وقتلوه! هنا يقدّم ضدّهم أخطر جريمة وأبشع ما فعله الإنسان منذ خلقته إلى انقضاء الدهر، وهي جريمة ثابتة لا يستطيعون إنكارها.
إذ لمس القديس استفانوس عدم اكتراث الرؤساء بالحقائق الكتابية، وانحصار فكرهم في أمرٍ واحدٍ، وهو الخلاص من اسم يسوع، وتبرئة أنفسهم في قرارهم بصلب يسوع، تحول من الدفاع إلى الهجوم، فكشف لهم أن السنهدرين الذي حكم على السيد المسيح بالصلب يحمل نفس روح التمرد اذي كان في الشعب منذ خروجه من مصر.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنهم كآبائهم دائمًا يقاومون الروح. فعندما كان يًطلب منهم تقديم ذبائح حيوانية لم يقدموا، وحين يريدهم ألاَّ يقدموا ذبائح دموية لأن ذبيحة المسيح قد حققت الهدف يريدون أن يقدموا ذبائح. وحينما طالبهم بعبادته في الهيكل عبدوا الأوثان مع الأمم، وحين طالبهم ألاَّ ينشغلوا بالهيكل بل أن يعبدوا بالروح والحق انشغلوا بالهيكل[336].
* هكذا كانت جسارة إنسان حاملٍ للصليب في الحديث. ليتنا نحن أيضًا نتمثل به، فإنه وإن كان الوقت ليس زمن حرب (اضطهاد)، إلاَّ أنه دائمًا وقت للجسارة في الحديث (شهادة عن المسيح). يقول أحدهم: "أنطق بشهاداتك أمام الملوك ولا أخجل" (مز ١١٩: ٤٦). إن كانت لنا فرصة أن نكون بين وثنيين فلنُبكم أفواههم، لا بالسخط ولا بالعنف... فإن الجسارة هي نجاح، وأما الغضب فهو فشل. فإن كانت لنا جسارة يلزمنا أن نتطهر من الغضب. فلا ينسب أحد كلماتنا للغضب.
ليس من المهم الكلمات التي تنطقون بها عندما تغضبون، فإنكم بالغضب تحطمون كل شيء... انظروا إلى هذا الإنسان، كيف كان متحررًا من الأهواء وهو يخاطبهم. فإنه لم يتهمهم، إنما ذكَّرهم بكلمات الأنبياء.
ولكي أظهر لكم أنه لم يكن في غضبٍ في اللحظات التي فيها قاسي شرورًا على أيديهم، صلى لأجلهم: "لا تقم لهم هذه الخطية" [٦٠]. كان أبعد من أن ينطق هذه الكلمات بغضبٍ، لا بل كان يتكلم في حزنٍ وأسى عليهم[337].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لقد أظهر (بولس) أن اليهود أيضًا مذنبون. بينما يظهرون أنّهم يعيشون تحت ناموس اللَّه، ويدافعون عن امتيازهم الذي باستحقاق أسلافهم، بالحقيقة أساءوا سمعة نعمة اللَّه إذ استخفّوا بالوعد الذي قُدّم لأسلافهم[338]
أمبروسياستر
* إن كنّا جميعًا نخلص بالنعمة، قد يحتجّ البعض: لماذا لا يخلص كل أحدٍ؟ لأنّهم لا يريدون أن يتجاوبوا. فإن النعمة، مع أنّها نعمة لكنّها تخلّص الذين يريدونها وليس الذين يرفضونها ويهربون منها[339].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* تُعطى النعمة ليس لأنّنا نصنع أمورًا صالحة، وإنّما لكي ننال قوّة لصنعها، وليس لأنّنا نتمّم الناموس، وإنّما لكي تكون لنا القدرة على تحقيقه[340].
القديس أغسطينوس
"أيّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟
وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار،
الذي أنتم الآن صرتم مسلِّميه وقاتليه؟" [52]
جاء التعبير حازمًا وقاطعًا، أنه لم يوجد نبي واحد لم يضطهده اليهود، وكأن اضطهاد الأنبياء قد صار في طبيعة الشعب عبر الأجيال، يسري في دمهم.
لقد قتل آباؤهم الأنبياء الذين كانت رسالتهم الرئيسية هي الإعلان عن مجيء المسيا مخلص العالم. لقد تفاقمت معاصيهم للغاية، إذ قتلوا رسل الله الذين تنبأوا عن أعظم البركات التي تتمتع بها الأمة، بل وتعم على العالم.
إن كان هذا ما فعله آباؤهم، فإن أبناءهم تعدوا جرائم آبائهم، إذ قتلوا المسيا نفسه.
تكلم هنا معهم بكلمات جريئة وصريحة، إذ يتهمهم بأنهم أبناء قتلة الأنبياء الذين سبقوا فتنبأوا عن يسوع البار، وها هم قد شاركوا آباءهم في سفك دم الأنبياء، بل وأكملوا الكيل، إذ سلموا ذاك الذي هو موضوع شهوة الأنبياء. لقد وجه إليهم ذات الاتهام الذي وجهه إليهم السيد المسيح نفسه (مت 23: 29-34).
لم يخشاهم القديس استفانوس، إذ حسب ذلك تكريمًا له أن يفعلوا به ما فعله آباؤهم بالأنبياء، وأن يشارك السيد المسيح البار آلامه.
* قتلوا الأنبياء القدّيسين، وهم مذنبون بدم كثير من الأبرار، لذلك قيل لهم بوضوح: "أي الأنبياء لم يقتله آباؤكم؟!" وأيضًا: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (لو 13: 34-35). لكن أعمالهم الشرّيرة لم تمتد فقط إلى الأنبياء القدّيسين، بل تصاعدت حتى إلى ذاك الذي هو رب الأنبياء، أي المسيح. وإذ هم متغطرسون، كما لو كانوا يتشامخون برقابهم المتعجرفة، لم يعطوا أي اهتمام للالتزام بالإيمان به، بل قاوموا تعليمه الجهاري بخبثٍ، ووبّخوا الذين أرادوا أن يكونوا معه على الدوام، الذين تعطّشوا لتعليمه...[341].
* لم تمتد أعمالهم الشرّيرة فقط إلى الأنبياء القدّيسين، بل تصاعدت حتى إلى ذاك الذي هو رب الأنبياء، أي المسيح... لذلك لم يُعطَ لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات، بل بالأحرى أُعطي لنا نحن الذين أكثر استعدادًا لقبول الإيمان[342].
القديس كيرلس الكبير
"الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه". [53]
تُستخدم كلمة diatages "ترتيب" في التنظيم العسكري في الجيش، يعرف كل شخصٍ رتبته بما لها من سلطة ومدى حدودها. وكأن الملائكة، كل في رتبته، وقفوا في دهشة أمام حب الله للإنسان وهو يسلمهم الشريعة التي هي كلمته الحية. إنهم شهود لهذا العمل الإلهي الممتع. يرى البعض أن الملائكة في خدمتهم لله محب البشر تسلموا الشريعة، وقدموها للإنسان ليشاركهم تسابيحهم، ويشاركونه عبادته الروحية.
ولما كانت كلمة "ملائكة" معناها "رسل"، لهذا يرى البعض أنه يعنى هنا الذين أرسلهم الله وعهد إليهم كلمته ليعلونها لشعبه عبر الأجيال. ويرى آخرون أن استلام الشريعة صاحبه بروق ورعود ودخان وزلازل... هذه كلها أرسلها الله لكي يتلامس الشعب مع مهابة الوصية. هذه تسمى ملائكة أو رسل لله.
أخيرًا إذ يملأون مكيال آبائهم بسفك الدماء البريئة، يكسرون الناموس الذي تسلموه بترتيب ملائكة. ولعل تسليم الناموس بترتيب ملائكة هو تقليد يهودي يعتمد على ما ورد في تث 33: 1-4 (الترجمة السبعينية). وقد أخذ القديس بولس بهذا التقليد (غل 3: 19؛ عب 2:2).
* أعطي كل تدبير العهد القديم خلال ملائكة... يعملون أحيانًا شخصيًا، وأحيانًا بشخص اللَّه[343].
القديس أغسطينوس
* يقصد بالملائكة رسل اللَّه، أي موسى، وابن نون، وغيرهما من الأنبياء حتى يوحنا المعمدان. خلال هؤلاء أُقيم ورُتّب الناموس والأنبياء بواسطة اللَّه بيد المخلّص أي بقوّته. فإنّه هو الوسيط، ومصالح اللَّه مع البشريَّة، لكي يخلّص من يريد من الذين تسلّموا الناموس من الملائكة[344].
أمبروسياستر
* في كل موضع يقول إن كلمة الله أعطيت بواسطة ملائكة (عب 2: 2؛ غل 3: 19؛ أع 7: 53). حقًا يقول البعض أنه يعني هنا بهم موسى، لكن دون سبب مقبول. فإنه يذكر الملائكة بصيغة الجمع، والملائكة الذين يتحدث عنهم هنا هم الذين في السماء[345].
القديس يوحنا الذهبي الفم
9. السماء المفتوحة
"فلما سمعوا هذا حنقوا بقلوبهم،
وصروا بأسنانهم عليه". [54]
إذ أتهمهم القديس استفانوس بالتجديف لم يستطيعوا أن يجيبوه، لأن حديثه كله كتابي. لم يستطيعوا أن يضبطوا حقدهم وثورتهم، فأصروا بأسنانهم عليه، حملوا له كل مرارة.
جاءت الكلمة اليونانيّة المترجمة "حنقوا" deprionto هي بعينها المترجمة نشروا في عب11: 37. فإن الشرّ الذي فيهم ليس فقط بعث روح العداوة وألهب فيهم الغضب، إنّما مزّق قلوبهم وقتلها كما بمنشار. فعدم الإيمان مع الحسد يهلك القلب، بينما الإيمان العامل بالمحبّة يشفي القلب ويهبه سلامًا في الرب.
"وصرّوا بأسنانهم عليه" علامة عجزهم تمامًا عن الاستماع إليه. صاروا يصرّون بأسنانهم كوحوش مفترسة تود أن تفتك بمن هم أمامها، متعطّشة لسفك الدم.
لم يشغلهم وجهه المشرق كوجه ملاكٍ، لكنهم حسبوا خطابه هجومًا على الديانة اليهودية منذ بدء نشأتها، إذ حسب آباءهم قتلة الأنبياء، وتحدث عن الهيكل أن الله لا يسكن في بيت مصنوع بأيدٍ بشريةٍ، حسبوا هذا أقسى أنواع الإهانات، إذ يسيء إلى الهيكل أعظم فخر للأمة كلها، لذا سدوا آذانهم، وحنقوا بقلوبهم، وصروا بأسنانهم، حيث وجب رجمه قبل أن تصدر المحكمة بالحكم. فقد اندفع الكل في غيرة بشرية للتنفيذ، وانقضوا عليه، حاسبين أنه لا يوجد وقت لإصدار الحكم عليه.
"وأمّا هو فشخص إلى السماء،
وهو ممتلئ من الروح القدس،
فرأى مجد اللَّه،
ويسوع قائمًا عن يمين اللَّه". [55]
بينما كانت قلوبهم قد امتلأت بالبغضة ارتفع قلبه بالحب للناس وللبشرية حتى لمضطهديه. تطلع أيضًا بعينيه نحو السماء ليرى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين العظمة.
لماذا رفع عينيه نحو السماء؟ حتمًا إذ أصروا بأسنانهم، وظهرت عليهم نية القتل، سحب الرب قلبه كما نظره نحو المجد السماوي. الضيق هو المجال الخصب الذي فيه يطمئن الله على المؤمن ليعاين رؤى وأمجاد سماوية دون أن يسقط في كبرياء أو اعتداد بالذات.
"يمين الآب": لا يعنى أن للآب يمين أو يسار، إنما يشير تعبير "اليمين" إلى القوة والمجد، لهذا يُصور السيد المسيح أنه عن يمين الآب (مز110: 1؛ عب1: 13).
إذ كان القديس استفانوس ممتلئًا من الروح القدس تركزت أنظاره لا على مقاومة الرؤساء له، ولا على ملامحهم المملوءة شراسة، ولا على الحجارة التي حملوها ليرجموه بها، وإنما على السماء المفتوحة، ليرى مجد الله وقد أشرق عليه، ويسوع قائمًا عن يمين الله، كمن يقدم قوته الإلهية للشهيد حتى يعبر به إلى الفردوس.
في دراستنا لسير الشهداء ندرك حقيقة هامة وهي أنه في عصور الاستشهاد، خاصة في الليالي السابقة لتنفيذ الأحكام كثيرًا ما يشرق نور الله علانية في السجون، ويتمتع المُقدمون للاستشهاد برؤى وأحلام إلهية، ويظهر أحيانًا السيد المسيح نفسه لهم. لهذا يقال إنه يُوهب للشهيد أن يرى السيد المسيح قادمًا إليه عند انتقاله، ولهذا يُدعى شهيدًا، فهو يشهد للحق، ويشاهد المسيح الحق، كما يشهد له المسيح أمام الآب، وأمام كل السمائيين.
* باقتفاء الشهيد استفانوس أثر معلمه في أفعاله وأقواله لم ينقصه شيء، فقد أبان تسليم أمره لله ونضوج صبره أهّله للمعاينة الإلهية. لقد كتب: "شخص إلى السماء، فرأى مجد الله، ويسوع قائمًا عن يمين الله" (أع 7 :55).
هذا هو المجد الذي قدمه المخلص للشهيد: أنه يُكرم فوق الملائكة أنفسهم... فإنه رأى "موضوع" حبه عينه، حيث تخشى الملائكة أن تطلع عليه (1 بط 1: 12). فقد شخص الشهيد إلى حيث "يستر الشاروبيم وجوههم" (إش 6 :2). إنه يعاين ما لا يجسر السيرافيم على التطلع إليه. لقد ارتقى بعينيه إلى علو لا حد له. وبدا هكذا أعلى من الملائكة، وأسمى من الرئاسات، متخطيًا العروش. لأن صوت المعلم هو الذي استماله، بوعده إياه: "حيث أكون، هناك أيضًا يكون خادمي" (يو 12 : 26 ).
لقد كان أول خادم... لذا هتف قبل بولس: "كونوا متمثلين بي، كما أنا أيضًا بالمسيح" (1 كو 11 : 1 )... أنا أول من جاهد مع المعلم، وأول من رأى الخفيات في السماء. لأني رأيت، نعم رأيت الابن قائمًا عن يمين الآب. عاينت حقيقة ما قيل: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني، حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك" (مز 109 : ؛ مت 22 : 44، مر 12 : 36؛ لو 20 : 42-44؛ أع 2 : 34 - 35؛عب 1 : 13)[346].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* على ما أظن أن القيام والجلوس يدلان على الثبات في الطبيعة والاستمرار المطلق كما قال باروخ، دالًا على عدم الحركة (التغيير) والتنقل في تصرف الله: "إنك أنت تجلس إلى الأبد، أما نحن فنهلك إلى الأبد" (باروخ 3: 3). فمن الواضح إذن أن الجهة "اليمنى" تعني أن الرتبة متساوية في الكرامة[347].
القديس باسيليوس الكبير
عادة كان الأنبياء متى رأوا مجد الرب ارتبط المنظر برؤية ملائكة أو إحدى الطغمات السماويّة مثل الشاروبيم أو السيرافيم، أمّا هنا فلم يرَ القدّيس استفانوس الملائكة ولا أيّة طغمة سماويّة، ربّما لأن تطلّعه إلى بهاء السيّد المسيح ونوره الفائق جعل كل كيانه منشغلًا به دون المحيطين به. أو لأن ربّنا يسوع المسيح أراد أن يؤكّد لاستفانوس أن لحظات رجمه هي لحظات مجدٍ عظيمٍ، شغلت السيّد المسيح الذي قام لمساندته والترحيب به دون أن ينشغل بخدّامه السمائيّين.
"فقال: ها أنا انظر السماوات مفتوحة،
وابن الإنسان قائمًا عن يمين اللَّه". [56]
رفع استفانوس عينيه إلى السماء لينظر السموات مفتوحة، وابن الإنسان قائمًًا عن يمين الله. فمن يفتح قلبه بالحب العملي الباذل من أجل إيمانه بمسيحه المحبوب، يجد أبواب السماء مفتوحة له، وابن الإنسان مشغولًا به.
من أخبر الإنجيلي لوقا بما رآه الشهيد استفانوس في لحظاته الأخيرة؟ بلاشك أن صوته الهادئ الوديع اخترق قلوب كثير من الواقفين، خاصة شاول الطرسوسي الذي كان راضيًا بقتله. ولعل بعض الحاضرين الأتقياء قد هالهم منظر وجه استفانوس الملائكي، واشتركوا معه في الرؤيا، فشاهدوا ما شاهده. وكأن القديس استفانوس شهد لقيامة السيد المسيح حتى اللحظات الأخيرة من عبوره من العالم إلى الفردوس.
ما رآه دانيال النبي في القرن السادس ق.م (دا 7: 13-14) شاهده استفانوس في النصف الأول من القرن الأول الميلادي. فالقرون الطويلة لن تفصل قديسي الله، ولا تغير الحق الإلهي العجيب.
كما وهب الروح القدس القديس استفانوس قوة للشهادة بالكلمة، واستنارة للحديث عما تنبأ به الأنبياء، قدم له البصيرة المفتوحة ليرى الحق السماوي بعينيه، ليشهد أمام راجميه أن المسيح المرفوض هو قائم في السماء، موضوع تهليل الأنبياء والسمائيين!
اتهمه الرؤساء بأنه مستحق للرجم، لأنه أهان الهيكل، وإذا بهم يسمعونوه أنه يرى الله إله آبائهم قد فتح له هيكل السماء ليرى المسيا واقفًا عن يمين العظمة، ينتظر اللقاء معه وجهًا لوجه. إنها شهادة سماوية حية وجرئية بأن مجد الله قد فارق الهيكل، وها هو يملأ نفوس المؤمنين ببهائه، ويقيم بروحه القدوس هيكله داخلهم.
* يجلس (السيد المسيح) كديان للأحياء والأموات، ويقوم كمحامٍ عن شعبه. لقد وقف إذن ككاهن بينما كان يقدم لأبيه ذبيحة شماس صالح. لقد وقف كمن يفصل في الأمر لكي يهب جائزة. كما لو كان للمصارع الصالح جائزة على صراعه القدير[348].
* ليته يقوم في وسطكم لكي ما تعلن السماوات مجد الله (مز 19: 1)، تُفتح لكم فتتممون إرادته، وتمارسون عمله[349].
* كان يسوع قائمًا كمدافعٍ عنه. كان وافقًا كمن هو متحفز، لكي يعين مصارعه استفانوس في جهاده. كان قائمًا كمن يستعد ليكلل شهيده[350].
* ليكن قائمًا من أجلكم، كي لا تخافوا من جلوسه، إذ يجلس لكي يدين كقول دانيال (دا 7: 9-11)[351].
القديس أمبروسيوس
* [في تعزية أوستوخيوم لنياحة والدتها]
إذ صوب الألم سهمه إليها فاحتملته بصبرٍ عجيبٍ، هكذا كمن قد رأت السماوات مفتوحة وهى تقول: "آه يا ليت لي جناحين كحمامة فأطير، وأصير في راحة" (مز 55: 6)[352].
القديس جيروم