كتاب الأربعون شهيدًا من شبان سبسطية | القديس بقطر الشهيد
المقدس يوسف حبيب الجزء(2)
سيرة شهداء سبسطية
وصف (ميتافراست) Metaphraste شهادة هؤلاء الأربعين جنديًا. ومن قبله صنف القديس اغريغوريوس من نيصص St. Gregoire de Nysse مقالين يمتدحهم فيهما وكذلك كتب القديس باسيليوس يمدحهم مديحًا رائعًا.
وكان استشهادهم في 9 مارس سنة 320م. كان "ليكينيوس" الإمبراطور الروماني عديل قسطنطين من جهة قسطنسة زوجته، من أقسى مضطهدي الكنيسة. وإذ يشارك قسطنطين الإمبراطورية، أظهر في البداية ضربًا من اللطف نحو المسيحيين حتى يكتسب رضاه. لكنه عندما قطع علاقته به، رفع قناع التمويه، ولعب دورًا ايجابيا هامًا في المآسي الدموية.
كان ليكينيوس رجلًا بخيلًا قاسيًا، وبلغ من الجهل أنه كان بالجهد يستطيع أن يكتب اسمه. كان سريع الغضب، فلا هو يضبط نفسه في حركات الغضب المتطرفة، ولا هو يستمع إلى النصح، بل كان يعلن أن الذين دَرَّبوا نفوسهم في الفضيلة والأعمال الصالحة هم أعداء الإمبراطورية.
قام هذا الرجل العنيف في كبادوكية، إحدى مقاطعات ارمنيا، وكان معه جيش قوى. واصدر منشورًا يأمر فيه كل المسيحيين بترك ديانتهم وإنكار الإيمان بالمسيح يسوع، وإلا يعرضون أنفسهم للقتل.
وكان "أجريقولا" Agricola حاكم كبادوكية وأرمنيا، الصغرى، ينفذ هذه الأوامر القاسية بمنتهى الشدة. كانت سبسطية مقره، فيها قيادة الجيش، حيث توجد الفرقة (النارية) التي عُرِفَت بالمطر الإعجازي الذي نالته من السماء في أيام "مارك أوريل" Marc-Aurele وكان ليسياس Lysisas قائدها.
ورفض أربعون جنديًا من هذه الفرقة أن يذبحوا للأوثان. وكانوا من بلاد مختلفة وكلهم من الشباب الأقوياء الشجعان الذين عرفوا بخدماتهم الممتازة. وعندما حضر "ليسياس" ودعا الجيش تنفيذ أوامر الإمبراطور، تقدم هؤلاء الشجعان نحو المحكمة واعترفوا بالمسيح الواحد بعد الآخر: "أنا مسيحي".
ويقول القديس باسيليوس أنهم كانوا مثل أبطال الرياضة الذين يتقدمون لقيد أسمائهم في يوم الاحتفال في قائمة اللاعبين، ولكن مع الفارق، فلم يكونوا يتعصبون لأسماء عائلاتهم فلا يقولون: أنا فلان أو فلان. أنهم جميعًا أسرة واحدة، أخوة الرب يسوع المسيح ويدعون بذات الاسم: "أنا مسيحي".
وحاول "اجريكولا" Agricola اكتسابهم أولا باللطف. فقال لهم أن لديه الدلائل على رفعة مقامهم وأنه يعرف الوحدة القائمة بينهم، ويعرف الإعمال الجليلة التي أتوها أثناء الحرب، ويعرف اتجاه الإمبراطور في الاعتراف بخدماتهم، وسيتولى مكافأتهم بما يليق بعظمته. فلو رغبوا في الاحتفاظ برضاء الإمبراطور، عليهم إطاعة ما جاء بمشورة وإلا يفقدون العطايا التي يُرجى نيلها وتقصُر أعمارهم فيقضى عليهم وهم في زهرة العمر.
فرد عليه القديسون قائلين: "إذا كنا قد حاربنا بهذه الشجاعة كما تقول، من أجل إمبراطور أرضي، فماذا تظن أنا فاعلون الآن والمسألة مسألة خدمة إله السماء؟ تيقن أننا سوف نتصرف كشجعان ولن نترك أبدًا النصيب الصالح، وأننا سوف ننتصر".
فهددهم أغريكولا من جديد وقال: إن لم تخضعوا فسوف يحطمهم تحطيمًا، ويحرمهم من شرف حَمْل السلاح، على أن يعطيهم مهلة للتفكير. ثم أرسلهم إلى السجن. فصلى هؤلاء الجنود الكرماء قائلين:
"كما أخذنا منك يا رب نعمة النجاة من المخاطر، والنصر في المعارك التي خضناها من أجل الأمور الزائلة في ذلك الزمان، هكذا الآن أيضا إذ ندخل في المعركة من أجل مجدك، لا ترفض أن تهبنا المعونة التي نحتاج إليها".
وقضوا الليل وهم يرتلون المزمور: "الساكن في عون العلى يستريح في ظل إله السماء"، وفي تراتيل ومديح للرب.
وظهر لهم الرب يسوع المسيح وقال لهم: "لقد بدأتم، فحاولوا أن تكملوا حسنًا؛ استمروا حتى النهاية، فان الإكليل لا يُعْطَى إلا للذين يثابرون".
وفى الصباح استدعاهم الحاكم أمام محكمته في حضور أصدقائهم من الجنود. وبعد أن امتدح أعمالهم الحسنة ورفعة مقامهم، حَثّهم على النزول إلى طلبه حتى يكون ذلك مدعاة لصنع الخير لهم فيختصهم ببعض الوظائف مع زيادة رواتبهم. ولما وجدهم لا يتزعزعون ولا يعبأون بوعوده أو بتهديداته، أعادهم إلى السجن. وكان أحدهم ويدعى "كيريون" Quirion يَعِظْهُم بهذه الكلمات:
"أيها الأخوة: لقد سُرَّ الله أن يجمعنا في شركة إيمان وجهاد واحدة؛ فلا نفترق أبدًا لا في حياتنا ولا في مماتنا. وكما خدمنا الإمبراطور المائت، مُعَرِّضين أنفسنا لآلاف الأخطار في معارك مختلفة، فلنخدم الآن ملك السماء ونضحي بحياتنا من أجل محبته، وسوف يكافئنا بالحياة الأبدية التي لا يستطيع "ليسينيوس" أن يهبها لنا. كَمْ من مرة في جهادنا ضد الأعداء طلبنا معونة الله وأعطاها لنا؟ أتظنون إنه يرفض أن يعطينا معونته في هذه الحرب المجيدة؟ لنلجأ إلى الصلاة ولنتوسل إلى السماء؛ إن الله أمين، إنه سند المتألمين من أجل مجده".
وبعد ستة أو سبعة أيام وصل القائد "ليسياس" واقتادهم أمامه؛ وكان "كيريون" يقول لهم وهم في الطريق:
"لنا ثلاثة أعداء، الشيطان، والحاكِم، وقائد فرقتنا؛ أو بالحري ليس لنا سوى عدو واحد لا يُرى يتخذ خدمة الآخرين لِيُقاتِلْنا بها. وهل يستطيع واحد فقط أن يغلب أربعين جنديًا من جنود يسوع المسيح؟ هذا مستحيل، فلن يهزمنا إلا إذا كنا جبناء".
وأضاع قائدهم وقتًا كثيرًا وتَكَلَّم كثيرًا لكي يحملهم على ترك إيمانهم وتغيير عقيدتهم؛ وكانوا ثابتين راسخين، فأمر أن يكسروا أسنانهم بالحجارة. وشرع الجلادون في التنفيذ. ولكن بإذن من الله، كانوا يجرحون أنفسهم بدلًا من أن يصيبوا الشهداء، حتى كان الدم ينزف من أفواههم، بينما جنود المسيح يسوع باقون تغمرهم تعزيات السماء.
وعزا ليسياس هذه المعجزة إلى السحر والشعوذة، فأخذ حجرًا ورماه بغيظ على أحد الشهداء؛ ولكن هذا الحجر كانت تقوده يد أقوى منه، فبدلًا من أن يصيب الشهيد، ضرب فم الحاكم فجرحه جرحًا خطيرًا.
فاقتادوا الشهداء الكرماء من جديد إلى السجن إلى أن يخترعوا لهم عذابًا جديدًا يعذبونهم به. فحوَّل القديسون هذا المكان المُفْزِع إلى هيكل مجيد بصلواتهم المتواصلة؛ وكانوا بالأخص يرتلون هذا المزمور: "إِلَيْكَ رَفَعْتُ عَيْنَيَّ يَا سَاكِنًا فِي السَّمَاوَاتِ" (مز 122).
ووسط صلواتهم ظهر لهم الرب يسوع المسيح وسمعوا صوته يقول: "مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا. ثقوا ولا تخافوا من العذبات التي تبقى قليلًا، جاهدوا بشجاعة لكي تُكَلَّلوا".
وقد تقووا جدًا بظهور المخلص، حتى أنهم قضوا الليل كله في الصلاة في غِبطة فائقة. وفي الغد اقتادوهم أمام الحاكم بأن يطرحوهم عُراة في بحيرة قريبة من مدينة سبسطية - حتى يموتوا بفعل الثلج من شدة برودة الجو. وأعد بجانب هذه البحيرة حمام ماء ساخن حتى إذا أراد أحدهم أن ينكر المسيح مغلوبًا من الثلج كان له ذلك. وكان في تصرفه هذا إغراء كبير لهم، فأمام أعينهم وتحت تصرفهم ما يرفع أتعابهم. وأخيرًا وضعوا حراسًا حول البحيرة، طوال الليل، خشية تأخير القرار أو تعطيل تنفيذه.
وارتاح المعترفون الشجعان إلى سماع الحكم بإعدامهم؛ ولما وصلوا عند شاطئ البحيرة، وخلعوا ملابسهم بأنفسهم بسرعة، كانوا يشجعون بعضهم بعضًا قائلين: "لقد نزع العسكر الملابس عن الرب يسوع المسيح وألقوا قرعة عليها، وتحمل هذا العذاب من أجل خطايانا؛ فلنخلع الآن ملابسنا من أجل محبته ليغفر لنا خطايانا". وكانت عقولهم وقلوبهم متجهة نحو الله وهم يقدمون أنفسهم ضحايا لا تحترق من النار بل تجمد وسط الثلوج. ولم يَفْتُرُوا عن الصلاة إلى الرب يسوع المسيح يسألونه أن يخرجوا جميعًا منتصرين من المعركة كما دخلوا وعددهم أربعون، وألا ينقص أحد من هذا العدد المقدس.
ولكن احتمال الثلج بدا أمرًا صعبًا جدًا لأحدهم، فهزمه الألم، وخرج من البحيرة إلى إحدى هذه الخزانات المليئة بالماء الدافئ حتى يستدفئ فيها، فمات بعد قليل وترك التسعة والثلاثون الآخرين في حسرة بالغة إذ فقدوا زميلهم البائس. ولكنهم كانوا مصممين يفضلون الموت ألف مرة على أن ينكروا إيمانهم. وكانوا يحدثون بهذه المشاعر حتى كانت الساعة الثالثة من الليل، فأضاء بغتة نور عظيم في المكان، فذاب الثلج وتدفقت الماء ونزل الملائكة من السماء ومعهم التسعة والثلاثون معترفًا بالمسيح الباقين في البحيرة.
وكان أحد الحراس المنوط بهم حراسة الشهداء ساهرًا يستدفئ بجانب الحمام. فرأى الأعجوبة. وعندما أحصى عدد الأكاليل لاحظ أنها تسعة وثلاثون أكليلا وليست أربعين. فكان ذلك سببًا لفتح عينية واعتناق الإيمان بيسوع المسيح. فعزم على أخذ مكان هذا الجندي، فأيقظ زملاءه بسرعة، وخلع ملابسه، وألقى بنفسه في البحيرة بين الشهداء القديسين صارخًا "أنا مسيحي". وهكذا استجاب الله صلاة القديسين التي طلبوا فيها أن يظل عددهم أربعين في الجهاد وأربعين في النصر.
لنتأمل في أحكام الله العادلة التي تفوق العقل، فهوا يترك الذي سقط حتى يحذر كل واحد فلا يطمئن كثيرًا لمجرد أنه بدأ حسنًا. فان كل ثقتنا يجب أن نكون في صلاحه تعالى وفي رحمته الفائقة.
وفى الصباح إذ علم أغريكولا بما حدث، استشاط غيظًا؛ فأمر بإخراج الشهداء من البحيرة وكان منهم مَنْ تنيح ومنهم من كان يحتضر، وهؤلاء كانوا يكسرون سيقانهم بالعصى فيموتون. وأثناء ذلك كان هؤلاء المعترفون يرنمون كلمات المزمور: "نجت نفسنا مثل العصفور والفخ انكسر ونحن نجونا عوننا باسم الرب".
وحملوا أجسادهم على عربة لكي يلقوها في النار، ماعدا أصغرهم سنًا، "ميليتون" Meliton إذ كان لا يزال حيًا. فتركه الجلادون على أمل أنه ربما يغير عزمه. ولكن والدته كانت حاضره؛ فأخذته بين ذراعيها ووضعته مع الآخرين في العربة وهي تقول له:
"يا ابني العزيز ثمرة بطني كَمْ أكون سعيدة لو ضحيت بالقليل الباقي في حياتك من أجل يسوع المسيح! كم يكون مباركًا حينئذ البطن الذي حملك تسعة أشهر والثديان اللذان رضعتهما! تشجع يا قرة عيني، وجاهد لتتمتع بالنور الأبدي الذي يُبَدِّد ظلمات حزني. إن الملاك الذي أحضر لك الإكليل السمائي ينتظرك لكي يدخلك إلى المجد. أتى بك الثلج إلى أبواب السماء، وسَتُدْخِلَك النار إلى معية ربك. فتألم يا أبنى اللحظة الباقية لك، لكي تفوز بإكليل الشهادة، وبذلك أكون اسعد كل الأمهات وأكثرهن رضًا؛ لأنه كما أعطاني الله إياك بنعمته، يحق لي أن أسلمك له من أجل محبته".
كانت النعمة التي أوتيت هذه المرأة وشجاعتها ترفعها فوق الطبيعة، فنطقت بهذه الكلمات دون أن تسكب العبرات (أي الدموع)، واصطحبت العربة حتى مكان المحرقة بوجه ملئ بالسرور.
ولم يكتف أغرقولا بحرق أجساد هؤلاء الجنود الأمجاد؛ لكن خوفًا من أن يكرمهم المسيحيون، ذر رمادهم في الهواء وألقى بعظامهم في النهر. وهكذا كما يقول باسيليوس في مديحة لهم: "بورِك هؤلاء الشهداء الأفذاذ على الأرض أولًا، ثم في الهواء، وبعد أن مرّوا في النار، أُغْرِقوهم في الماء، حتى تشترك العناصر الأربعة في مجد شهادتهم". ولكن الله حفظ عظامهم وسط الأمواج؛ فلم تنكسر ولم تتفرق بل بقيت كاملة ووجدوها المؤمنون.
ومنذ ذلك الحين وُزِّعَت هذه الرفات المقدسة في كل مكان، وبُنِيَت الكنائس العديدة تكريمًا لهم(1). ويروي القديس أغريغوريوس من نيصص أن بعض بلدان العالم المسيحي كان لديه بعض هذه الرفات المقدسة.
حَمَلَ باسيليوس واميل والدي القديس باسيليوس الكبير والقديس أغريغوريوس، وكانا أصلًا من مدينة سبسطية، رفات الأربعين شهيدًا إلى إحدى أراضيهم القريبة من "إيريس"؛ وبنت "اميلى" كنيسة هناك تكريمًا لهم، وعلى مسافة قريبة من هناك أقامت ديرًا للراهبات، وكانت القديسة "ماكرينا" Macrine ابنتهما أول راهبة فيه، وكذلك ديرًا للرهبان كان ابنهما بطرس رئيسًا له بعدما صار اسقفًا لسبسطية.
ودفن باسيليوس واميلى في الكنيسة التي أقاماها باسم الأربعين شهيدًا؛ واختارت ماكرينا أن تدفن فيها أيضًا. وصار تكريم هؤلاء الشهداء تقليدًا في هذه العائلة. فقد أعطى القديس باسيليوس من رفاتهم لاثنين من بنات أخوته اللتين كانتا رئيستين للراهبات في مدينة قيصرية.
وتوجد كنيسة على أسمائهم في مدينة بريشيا في ايطاليا. وتكرم كدن باريس وليون ورامس وبورج وفينا ومدن كثيرة أخرى في أوروبا رفات القديسين.
وتحتفل الكنيسة القبطية في 15 أمشير بتذكار تكريس كنيسة الأربعين شهيدًا التي كرسها القديس باسيليوس الكبير وهي أول كنيسة بنيت على اسمهم (السنكسار تحت يوم 15 أمشير).
ونُقِلَت أجزاء من رفاتهم المقدسة إلى القسطنطينية حيث بُنِيَت كنيسة (440-451م).