إذ حدثنا الإنجيلي عن أساسيات الصداقة الإلهيَّة الآن يحدثنا عن صديقنا العجيب الذي يطلب الخطاة ويبحث عن المفقودين ويفتح أحضانه لكل ضال يرتد إليه، يقدَّم لنا خلال الأمثلة أبوته الحانية وشوقه الإلهي نحو الإنسان وبحثه عن كل نفس.
1. مثل الخروف الضال
1-7.
2. مثل الدرهم المفقود
8-10.
3. مثل الابن الضال
11-32
1. مثل الخروف الضال
يكشف معلمنا لوقا البشير عن مدى شوق الله وسعيه نحو الإنسان وفرح السمائيين بخلاصه وعودته إلى الشركة معهم خلال هذا المثل، إذ يقول:
"وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه.
فتذمر الفرِّسيُون والكتبة، قائلين: هذا يقبل خطاة ويأكل معهم.
فكلمهم بهذا المثل، قائلًا:
أي إنسان منكم له مئة خروف،
وأضاع واحدًا منها ألا يترك التسعة والتسعين في البريَّة
ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟!
وإذا وجده يضعه علي منكبيه فرحًا.
ويَّاتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران،
قائلًا لهم: افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال.
أقول لكم أنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب
أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة" [1-7].
يربط القديس أمبروسيوس بين هذه الأمثال الثلاثة التي ضربها رب المجد يسوع بخصوص الاهتمام بخلاص الخطاة، قائلًا:
[يشير علينا الطبيب الصالح بأدويَّة لشفاء الضلال، إذ لا يرفض الديان الرحوم الرجاء في إعطاء المغفرة. وقد قصد القدِّيس لوقا أن يذكر ثلاثة أمثال متتاليَّة: الخروف الضال الذي وُجد، والدرهم المفقود الذي وُجد، والابن الضال الذي كان ميتًا فعاش، لكي يدفعك بهذا الدواء الثلاثي لنوال الشفاء من جراحاتك، إذ الخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا (جا 4: 12).
من هم هؤلاء: الأب والراعي والمرأة؟ الأب هو الله الآب، والراعي هو المسيح، والمرأة هي الكنيسة.
المسيح (الراعي) يحملك في جسده، إذ يحمل خطاياك في جسده، والكنيسة تبحث عنك، والآب يقبلك...
الفادي يعين، والكنيسة تهتم، والآب يتصالح. يا لرحمة العمل الإلهي...!
الخروف المُتعب يرجعه الراعي، والدرهم المفقود تجده الكنيسة، والابن يرجع إلى طريق الآب، قادمًا بملء التوبة عن الضلال الذي يدينه[607].]
يكمل القديس أمبروسيوس حديثه معلقًا علي مثل الخروف الضال، قائلًا:
[لنتهلل إذن من أجل هذا الخروف الذي ضل في آدم وقام في المسيح.
منكبا المسيح هما ذراعا الصليب، حيث وُضعت خطاياي علي هذه الخشبة المحيية فاسترحت…
ابن الإنسان جاء ليخلص ما قد هلك (19: 10)، يخلصنا جميعًا، "لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (1 كو 15: 22).
الراعي غني، فنحن جميعًا نمثل واحدًا من مئة من ميراثه؛ له رعيَّة عظيمة من الملائكة ورؤساء الملائكة والسلاطين والسيادات (كو 1: 16)؛ له رعيَّة في الأعالي. ولأنهم حكماء يتهللون بفداء البشر، الأمر الذي يدفعنا بالأكثر إلى الصلاح.
لنعرف أن تجديدنا يبهج جمهور الملائكة، فنطلب شفاعتهم وعونهم ولا نغضبهم. لتكن مفرحًا للملائكة، إذ يبتهجوا برجوعك[608].]
جذب هذا المثل قلب الكنيسة منذ العصر الرسولي الأول، إذ ترى فيه الراعي الصالح الذي يبدو كمن ترك التسعة والتسعين خروفًا - أي السمائيين - ليبحث عن الإنسان بكونه خروفه الضال، جاء كلمة الله متجسدًا، حاملًا كل المتاعب حتى الصليب، ليدخل إلى القبر ويختطف الإنسان الساقط من أعماق الجحيم، محطمًا كل قوى الظلمة، ليردنا إلى بهجة خلاصه. هذا وقد أبرز هذا المثال علاقتنا أيضًا بالسمائيين الذين يفرحون برجوعنا، ويتهللون بشركتنا معهم في التسابيح السمائية والتمتع بالأمجاد الأبديَّة...
لقد وجد الرعاة في هذا المثال ينبوعًا حيًا للحب الرعوي الصادق، كما وجد فيه الخطاة رجاءً لا ينقطع بقبول كل نفس مهما كان فسادها. وإنني أكتفي بعرض القليل من تعليقات بعض الآباء على هذا المثال:
* لست أريد أن يخلص الكثيرون بل الكل، فإن بقى واحد في الهلاك أهلك أنا أيضًا. يبدو لي أنه يجب الإقتداء بالراعي الذي له التسعة والتسعون خروفًا لكنه أسرع وراء الخروف الضال[609].
* الخروف الذي انفصل عن التسعة والتسعين ثم عاد ثانية لا يمثل بالنسبة لنا إلا المؤمن الذي سقط ثم عاد، إذ هو منتمي للبقيَّة، وكان موضع رعاية نفس الراعي، وقد ضل عن الشركة، وصار تائهًا علي الجبال وفي الوديان في رحلة طويلة، مبتعدًا عن طريق الحق[610].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* رقم 100 عدد كامل؛ كان لله مائة خروف حين خلق الملائكة والبشر، ولكن خروفًا فُقد، إذ أخطأ الإنسان وترك مراعي الحياة. لكن راعيهم ترك التسعة والتسعين في البريَّة، ترك كل طغمات الملائكة العلويين في السماء.
كيف دُعيت السماء بريَّة [4]؛ إلا لأنها كما لو تُركت؟! لقد هجرها الإنسان عندما أخطأ، لكن بقى التسعة والتسعون في البريَّة بينما خرج الله يبحث عن الخروف الضال علي الأرض.
لقد نقص عدد الخليقة العاقلة- أي الملائكة والبشر- الذين خُلقوا لرؤية الله، إذ سقط الإنسان، وكان لابد أن يكمل العدد في السماء، لهذا نزل الله إلى الجنس البشري على الأرض.
ما يدعوه لوقا بالبريَّة يذكره متى في نفس الموضوع بالجبال (مت 18: 12) ليشير إلى أن التسعة والتسعين لم يضلوا بل بقوا في الأعالي في السموات.
وإذ وجده يضعه علي منكبيه (كتفيه) فرحًا. حمل الخروف علي كتفيه، إذ حمل طبيعتنا البشريَّة، وحمل خطإيَّانا.
إذ يرجع إلى بيته يدعو الأصدقاء والجيران، قائلًا لهم: افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال [6]. إذ يجد الخروف الضال يعود إلى البيت، إذ عاد راعينا إلى السماء عندما خلّص الإنسان. هناك وجد أصدقاءه وجيرانه، طغمات السمائيين الذين هم أصدقائه الحقيقيون، الذين لا يتأرجحون بل يحملون إرادته على الدوام. إنهم جيرانه، إذ ينعمون برؤية واضحة له خلال الاستماع له بلا انقطاع.
يليق بنا أن نلاحظ أنه لم يقل: "افرحوا مع الخروف الراجع" بل "افرحوا معي"، لأن فرحه هو حياتنا، وعندما نرجع إلى السماء يكمل فرحه.
"أقول لكم: أنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة" [7]. يلزمنا أن نتأمَّل أيها الاخوة لماذا يقول ربَّنا أنه يكون فرح في السماء بالخطاة التائبين أكثر من مثابرة الأبرار. أليس بخبرتنا العامة نجد كثيرين ممن لم يتثقلوا في ضمائرهم بحمل الخطيَّة، الذين يسلكون طريق العدل، وهم غرباء عن المحرمات لا يشعرون برغبة شديدة لبلوغ البيت السماوي... نجدهم متراخين في ممارسة أعظم الفضائل الهامة إذ يشعرون أنهم لم يرتكبوا آثامًا خطيرة. من الجانب الآخر أحيانًا إذ يشعرون أنهم ارتكبوا الخطيَّة يتلامسون مع تبكيت الضمير ويلتهبون بمحبَّة الله، فيمارسون فضائل أعظم. يواجهون كل الصعوبات بشجاعة وبأكثر قداسة، تاركين كل الأمور الدنيويَّة، هاربين من الكرامات، مبتهجين بالإهانات الصادرة ضدهم من الغير، تلتهب فيهم الرغبات السماويَّة والشوق نحو بلوغ البيت الأبدي. إذ يتحقَّقون أنهم قد ضلوا بعيدًا عن الله تصير معاصيهم القديمة دافعًا للمكاسب الأخيرة. لهذا يكون فرح في السماء بخاطئ يتوب عن استمرار بار في بره. وذلك كما في المعركة يُسرّ القائد حين يرى الجندي الذي سبق فهرب قد عاد ليحارب العدو بأكثر شجاعة، من ذاك الذي لم يهرب لكنه يمارس عملًا غيورًا. وأيضًا كالعامل الذي يُقدر الأرض التي كانت تنتج شوكًا وحسكًا وصارت تنتج ثمرًا وفيرًا أكثر من تقديره للأرض التي لم يكن بها أشواك، لكنها لا تقدَّم محصولًا خصبًا.
ومع هذا كله لا نستطيع أن ننكر أنه يوجد في حياة بعض الأبرار من يسبّبون فرحًا، هكذا لا يُحسب أقل من الفرح بعودة الخاطئ...
لكنه يوجد أناس يمارسون حياة الإماتة كما لو كانوا قد ارتكبوا كل خطايا العالم، مع أنهم لم يرتكبوا جريمة معينة. هؤلاء يرفضون كل راحة حتى ما هو محلّل، مرحّبين بسخريَّة الغير لهم، ولا يسمحون لأنفسهم بأقل لذة، بل يزهدون حتى الملذّات التي يسمح لهم بها، يحتقرون الماديات وتلتهب اشتياقاتهم بغير المنظورات، يجدون لذتهم في الألم والتواضع في كل شيء، وإذ يبكي البعض علي أعمال خطاياهم ينتحب هؤلاء علي خطايا الفكر[611].
البابا غريغوريوس (الكبير)
* القطيع هو مئة، واحد منه قد ضلّ، الذي هو الأسرة التي على الأرض، هذا الذي يطلبه راعي الكل تاركًا التسعة والتسعين في البريَّة، هل لأنه لا يهتم بالكثيرين أظهر رحمته بالواحد؟ لا... بل لأن الكثيرين في آمان، محروسين بيده القادرة. لذلك بحق يجب إظهار الرحمة بذاك الذي فُقد، الأمر الذي تحتاج إليه الجموع الباقيَّة، فبعودة ذاك الواحد يعود الجمال للمئة. البحث وراء المفقود لا يعني استهانة بالذين لم يخطئوا، إنما يليق إظهار النعمة والرحمة والحب للبشريَّة، كأمر يناسب الطبيعة السامية العلويَّة، تمنحها للخليقة الساقطة[612]
القديس كيرلس الكبير
* إن لم يضعني الراعي الصالح على ذراعيه، ويردني إلى القطيع ثانية، تبقى خطواتي تترنح، وكلما أقوم مجاهدًا أجد قدَّميّ تهويان أكثر[613].
القديس جيروم
* الذي وضع حياته من أجل خرافه بحث عن الضال على الجبال والتلال... وإذ وجده حمله على كتفيه اللذين حملا خشبة الصليب[614]
القديس غريغوريوس النزينزي
* أظهر السيِّد غيرته العظيمة (على الضعيف والصغير) بتركه الذين خلصوا مهتمًا بالواحد ليفرح به[615]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* عندما وجد الراعي الخروف لم يعاقبه، ولا سحبه إلى القطيع (كما بالعنف)، بل وضعه على كتفه، حمله برفق وضمه للقطيع[616]
القديس غريغوريوس النيسي
2. الدرهم المفقود
يكشف المثال السابق عن حب الراعي، الذي أخلى ذاته ونزل إلى أرضنا باحثًا عن الإنسان المتكبر، لا ليعنفه، ولا ليجرح مشاعره، بل بالحب يضمه إلى صدره، ويحمله على كتفيه ويرده إلى جمهور السمائيين. وفي المثل التالي يقدَّم لنا صورة لما يجب أن تكون عليه الكنيسة عروس الراعي، والحاملة ذات سماته الخاصة تجاه الساقطين، تبحث بالحب عنهم وتترفق بهم وتبتهج برجوعهم، إذ يقول:
"أو أية امرأة لها عشرة دراهم أن أضاعت درهمًا واحدًا
ألا توقد سراجًا، وتكنس البيت، وتفتش باجتهاد حتى تجده؟!
وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات، قائلة:
"افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته".
هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب" [8-10].
* بالمثل السابق أشار الخروف الضال إلى العائلة التي على الأرض، إذ نعرف أننا ملك الله إله الكل الذي يخلق الموجودات من العدم، وكما كتب: "هو خلقنا وليس نحن" (مز 100: 3)، وأيضًا: "هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده" (مز 95: 7). وبهذا المثل الثاني الذي فيه يقارن المفقود بدرهم، وأنه واحد من عشرة، أي من رقم كامل... واضح أننا نحمل الشبه الملوكي والصورة الملوكيَّة التي لإله الكل، لأن الدرهم كما أظن مختوم عليه الشبه الملوكي. فإن كنا قد سقطنا وصرنا مفقودين، وجدنا المسيح وشكلّنا بالقداسة والبّر على صورته، الأمر الذي لا يشك فيه أحد إذ كتب الطوباوي بولس هكذا: "ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18). وبعث إلى أهل غلاطيَّة هذه الكلمات: "يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غل 4: 19).
لقد تم البحث عما قد سقط، فأضاءت المرأة السراج، وكما قلت لقد وُجدنا نحن بواسطة حكمة الله الآب، الذي هو الابن، عندما أشرق بنوره الإلهي العقلي علينا، وأشرقت الشمس، وانفجر النهار وطلع كوكب الصبح (2 بط 1: 19) كقول الكتاب. فقد قال الله أيضًا في موضع آخر بواسطة أحد الأنبياء القدِّيسين عن المسيح مخلِّصنا نحن جميعًا: "يقترب برّي سريعًا، وتعلن رحمتي، ويتقد خلاصي كمصباح" (إش 62: 1 الترجمة السبعينيَّة). كما قال السيِّد عن نفسه: "أنا نور العالم" (يو 8: 12)، كما قال : "أنا قد جئت نوراُ إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة" (يو 12: 46). إذن بالنور قد خلص ما قد هلك، فصار فرح للقوات العلويَّة[617]
القديس كيرلس الكبير
* فرح هذه المرأة التي وجدت الدرهم المفقود ليس بقليل الأهمية، لأن الدرهم عليه صورة الملك. هذه الصورة نملكها في الكنيسة.... أقول ليتنا كخراف نتضرع لله كي يقودنا إلى مياه الراحة (مز 22: 2) ونطلب المراعي، وكدراهم فلنحتفظ بقيمتنا (نحمل صورة الملك فينا) وكأبناء نرجع إلى أبينا[618]
القديس أمبروسيوس
* المرأة هنا والراعي يحملان ذات المعنى، إذ يمثلان الله وحكمة الله.
لما كان الدرهم عملة تحمل صورة، هكذا المرأة التي تفقد الدرهم تعني عندما يشرد الإنسان المخلوق على صورة الله، إذ يفقد تشبهه بخالقه بسبب الخطيَّة.
تضيء المرأة سراجها [8]، إذ ظهرت حكمة الله للبشر. فالسراج في بساطة هو نور يوضع على حامل، أما هنا فالنور هو اللاهوت اتَّخذ ناسوتًا (صار إنسانًا). ذاك الذي هو الحكمة يتحدَّث عن منارة جسده بكلمات المزمور: "يبست مثل شقفة قوتي" (مز 22: 15). كما أن الطين يتثقل بالنار، هكذا جفت قوَّته كذاك الطين، بمعنى أنه باحتماله آلامه تقوىّ الجسد الذي حمل مجد القيامة. أُوقد السراج مرة وفُتش البيت، فإنه ما أن ظهر لاهوته في الجسد حتى ارتعب ضمير الإنسان بحقيقة خطيته العظيمة (كأنه بالبيت الذي فُتش رأسًا على عقب).
جاءت الكلمة "Evertere" التي تعني انقلابًا للشيء (رأسًا على عقب) لا تختلف عما وردت في بعض المخطوطات "Emundre" التي تعني "كنس"، فإنه ما لم ينقلب العقل الذي انحط وذلك بالخوف لا يمكن أن يُنظف (يُكنس) من عاداته الرذيلة.
إذ فُتش البيت وُجد الدرهم، إنه إذ يرتبك ضمير الإنسان (على خطاياه) يكتشف صورة خالقه.
"وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات، قائلة: افرحن معي، لأني وجدت الدرهم الذي أضعته" [9]. من هن هؤلاء الصديقات والجارات إلا القوات السمائية الذين تحدَّثنا عنهم قبلًا؟! هؤلاء دائمًا بالقرب من الحكمة الإلهيَّة لأن النعمة تنيرهم بحضورها الدائم.
لكن، لنفكر في هذه الأمور، ولا ننسى السبب لماذا قيل عن هذه المرأة التي تمثل الحكمة الإلهيَّة عشرة دراهم، فقدت واحدًا ثم عادت فوجدته بعد البحث. لقد خلق الله الملائكة والبشر لكي يتعرفوا عليه، وإذ وهبهم الحياة الأبديَّة شكلهم بلا شك على صورته. كان للمرأة عشرة دراهم، لأن الملائكة تسع طغمات. وكان لابد أن يتم رقم المختارين بخلقه الإنسان، هذا الذي لم يُفقد حتى بعد العصيان إذ أضاء حكمة الله الأبديَّة على الكل لتظهر بالمعجزات التي تممها على الأرض مصلحًا مما أفدسته الخطيَّة بنور حضوره الجسدي كسراج على المنارة[619]
البابا غريغوريوس (الكبير)
* من هي المرأة ؟ إنها جسد المسيح. ما هو السراج؟ "هيأت سراجًا لمسيحي" (مز 132: 17)، لذلك كان يُبحث عنا حتى نوجد، وإذ نوجد ننطق. ليتنا لا نفتخر لأننا قبلًا لم نكن موجودين بل كنا نبقى هكذا مفقودين لو لم يُبحث عنا[620]
القديس أغسطينوس
* لقد أشعل السراج، أي جسده، وكنس البيت بتطهير العالم من الخطيَّة وطلب العملة والصورة الملوكيَّة التي طمستها الأهواء. أنه يدعو أصدقاءه، أي القوات الملائكيَّة عندما يجد عملته ليشاركوه فرحه، إذ سبق فجعلهم يشتركون (بالتسبيح) في سّر تجسده[621]
* هذا هو غاية الله فينا، إذ صار إنسانًا من أجلنا وافتقر (2 كو 8: 9) لكي يقيم جسدنا (رو 8: 11)، ويرد صورته فينا ( لو 15: 9؛ 1 كو 15: 49)، ويجدد الإنسان لنصير كلنا واحدًا فيه[622]
القديس غريغوريوس النزينزي
* يُقال أنه يكون فرح عظيم وعيد مبهج في السماوات عند الآب مع ملائكته عند عودة خاطئ واحد وتوبته[623]
القدِّيس إكليمنضس السكندري
* السماوات والملائكة الذين فيها يفرحون بتوبة الإنسان.
آه أيها الخاطئ كن في بهجة صالحة!
انظر كيف يكون فرح في الرجوع والتوبة؟![624]
العلامة ترتليان
3. مثل الابن الضال
يُدعى "مثل الابن الناصح" أو "مثل الأب المحب"، لأنه بقدر ما يكشف عن جفاف قلب الابن الهارب من وجه أبيه المحب يشتاق الأب إلى عودته، ليستقبله بالقبلات، دون عتاب أو جرح لمشاعره، بينما وقف أخوه خارجًا في تذمر من أجل محبَّة الأب له.
"وقال: إنسان كان له ابنان.
فقال أصغرهما لأبيه:
يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال،
فقسم لهما معيشته.
وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء
وسافر إلى كورة بعيدة،
وهناك بذر ماله بعيش مسرف" [11- 13].
في المثلين السابقين لم يكتفِ السيِّد المسيح بالكشف عن علاقة الله بالإنسان، إذ يبحث الله عنه كالراعي نحو خروفه الضال أو كالمرأة التي تضيء السراج وتنقب البيت وتفتشه من أجل الدرهم المفقود، وإنما كشف أيضًا عن علاقة السمائيين بنا. ففي المثل الأول ظهروا كتسعة وتسعين خروفًا لا يكمل عددهم إلا بعودتنا حيث تفرح السماء بخاطئ واحد يتوب، وكتسعة دراهم تكمل بنا نحن الدرهم المفقود. أما في المثل الذي بين أيدينا فيقدَّم صورة مُرّة لعلاقة الإنسان بأخيه، فيظهر الأخ الأكبر بالرغم مما يبدو عليه من تعقل وأمانة في العمل، لكنه لا يستطيع بسهولة أن يتقبل أخاه الراجع إلى بيت الآب، بل يقف موقف الناقد لأبيه على اتساع قلبه للابن الراجع إليه. على أي الأحوال ظهور ابنين في المثل يكشف عن أمور كثيرة نذكر منها:
أولًا: لا يمكن الحكم على أحد مادام لا يزال في طريق الجهاد. فقد ظهر الأصغر في بدء حياته إنسانًا محبًا للملذّات، عنيفًا في معاملاته، إذ يطالب أباه بالميراث وهو بعد حيّ، مبددًا للوزنات غير أمين فيما بين يديه... لكنه يرجع بالتوبة إلى الأحضان الأبويَّة ليظهر لابسًا الثوب الجديد وخاتم البنوة وحذاء في قدَّميه ومتمتعًا بالوليمة في بيت أبيه. أما الآخر فقد بدأ حياته إنسانًا لطيفًا في معاملاته، يخدم والده، ولا يطلب أجرة يبقى في بيت أبيه، لكنه يختم حياته بالوقوف خارجًا ينتقد أباه على حبه، ويغلق قلبه نحو أخيه، فيفقد سلامه الداخلي وفرحه ليعيش بقلب مناقض لقلب أبيه.
ثانيًا: يبدو أن البعض ظن أن الابنين يشيران إلى الطغمات الملائكيَّة والجنس البشري فالابن الأكبر يشير إلى الملائكة القدِّيسين الذين يعيشون بتعقل والأصغر يشير إلى الجنس البشري الذي ترك بيت أبيه بالعصيان وقد عاد مرة أخرى خلال التوبة. وقد رفض القديس يوحنا الذهبي الفم هذا الرأي، قائلًا: [إن الابن الأكبر قد ثار عند عودة أخيه وسلامه بينما يقول الرب: يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب[625].] ويقول القديس كيرلس الكبير: [إن أشرنا للابن المستقيم بكونه الملائكة القدِّيسين لا نجد الحديث مناسبًا، ولا يحمل مشاعرهم نحو الخطاة التائبين، الذين يتحولون من الحياة الدنسة إلى السلوك المستحق للإعجاب، إذ يقول الرب مخلِّص الجميع: "يكون فرح في السماء أمام الملائكة القدِّيسين بخاطئ واحد يتوب" (راجع لو 15: 7). وأما الابن (الأكبر) المذكور في المثل الذي أمامنا، وإن كان مقبولًا لدى أبيه، ويسلك في حياة بلا لوم لكنه يعود فيظهر غاضبًا ومتماديًا في عدم محبَّته والظهور بلا إحساس، حاسبًا أن أباه مخطئًا لإظهار مشاعر الحب الطبيعيَّة نحو ذاك الذي خلص... هذا مُغاير لمشاعر الملائكة القدِّيسين، الذين يفرحون ويمجدون الله عندما يرون سكان الأرض يخلصون. فعندما خضع الابن لكي يولد من امرأة حسب الجسد في بيت لحم حملوا الأخبار المفرحة للرعاة، قائلين: "لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب" (2: 11). وإذ توجوا بالمديح والحمد لذاك الذي ولد، قالوا: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبين الناس الإرادة الصالحة[626]"]